بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا، ولوالدينا، وللمستمعين، ولجميع المسلمين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا قول مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وقال قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك.
هذان قولان كما ترون وذلك أن هذه اللفظة "فتنة" هي مصدر، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل، وبمعنى المفعول، فقوله: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً يحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي: لا تجعلنا فاتنين، وعلى هذا يتخرج قول مجاهد، والضحاك، لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا.
لا تجعلنا فاتنين، يعني: لا تسلطهم علينا، فيكون ذلك فتنة لهم فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما صاروا بهذه المثابة من الضعف والمهانة، تحت قهرنا وسلطتنا، هذا معنى، وهو معنى صحيح، يعني: لا تجعلنا فاتنين لهم، واضح المعنى؟ هذا بمعنى فاعل، فاتن، كيف نكون فاتنين لهم؟ حينما نكون بحالة سيئة -تحت قهرهم وتسلطهم- من الضعف والمهانة والعجز، كما هو حال الأمة اليوم، فيقول هؤلاء: لو كان هؤلاء على الحق لما صاروا بهذه المثابة، من المحيط غربًا إلى حدود الصين هذه هي الأمة التي تسمى بالعالم الثالث، والعالم الصناعي عن يمينهم وشمالهم، بمجرد ما تتعدى هذا الحد يمينًا وشمالاً يأتيك العالم الذي يسمونه العالم الصناعي، والعالم الأول، والفقر والحروب والجهل والعلل والأمراض والتخلف كله في بحر هذا العالم الذي يسمونه بالعالم الإسلامي.
فهذا المعنى الأول، ويدخل فيه أيضًا كل ما يصدر عنا، مما يكون فتنة لغيرنا، ويحول ذلك بينهم وبين الدخول في الإسلام، بسوء الحال، وسوء العمل، وسوء التطبيق، وسوء الامتثال، بما يرونه من الفرقة والاختلاف، بما يرونه من الفجور الذي للأسف يكون من أبناء المسلمين، لاسيما أولئك الذين يأتون إلى بلادهم، فيرون منهم من الفجور ما لا يرونه في أنفسهم.
يقولون: أين الحق الذي معهم؟ وقل مثل ذلك فيما يفعله المسلمون من ألوان الحيل والكذب مما يُحتاج معه إلى سن قوانين جديدة في بلادهم، ويعللون بهذا أنهم ابتلوا بهؤلاء من المسلمين الذين يحتالون بشتى الحيل، فهذه حال بائسة.
المعنى الثاني: وهو الذي يتخرج عليه قول قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك، يعني لا تسلطهم علينا فنُفتن في ديننا، يفتنوننا في ديننا، يقهروننا، ويكون تسلطهم هذا سببًا لفتن المسلم في دينه، وهذا واضح، أنهم إذا تسلطوا على المسلمين نحَّوْا شرع الله، وعملوا على كل ما يؤدي إلى إبعاد المسلمين عن دينهم، فهذا هو الحال الواقع دائمًا إذا غلب الكفار على المسلمين.
القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً أي: فاتنين، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً، أي: مفتونين لهؤلاء الكفار، وإذا كان هذا مما يدعو به أهل الإيمان مما علمهم الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يتوجه أيضًا إلى حالهم مع أهل الإيمان، يعني: إذا كان رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا فكذلك للذين آمنوا، من باب أولى، لا تجعلنا فتنة للمؤمنين، ليس معناه لا تسلطهم علينا على هذا الاعتبار، وإن كانت الآية ليست في فتن المؤمنين لكن يقال من باب أولى.
يعني: لا تجعلنا فتنة لأهل الإيمان، بسوء حالنا، بسوء تصرفنا، بسوء فعالنا، لاسيما من يُنتظر منه الإحسان، أو من يكون بمنزلة يقتدي به الناس، كالعالم، والقاضي، والذي يعلم الناس، وما إلى ذلك، فهذا الذي يكون في محل القدوة، فيرون منه حالاً أخرى غير الحالة التي يتعلمونها ويقرؤونها، فيكون ذلك سببًا لفتنهم عن دينهم، ويقولون: انظروا هؤلاء الذين ينسبون إلى العلم، أو ينسبون إلى التعليم، أو نحو ذلك، يدرِّس العلوم الشرعية وهو حليق، ومسبل، ولربما يدخن، وحالة سيئة، هؤلاء التلاميذ، فما ظنكم بغيرهم؟! سيكون فتنة لهم.
وهكذا حينما يكون الناس -نسأل الله العافية- في حال من التنابذ، والتفرق، والاختلاف، وتبادل التهم فيما بينهم، ونحو ذلك، كما هو الحال في مشارق الأرض ومغاربها، فهؤلاء الذين يثق الناس بهم ويعطونهم أصواتًا في الانتخابات، وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك يفاجئون أنهم في غاية التناحر والاختلاف، وأنهم لربما يصل الأمر بهم إلى تحويل هذا الاختلاف ليكون على الملأ في القنوات الفضائية، ويشاهده الملايين، يراه العدو والصديق، فالناس سيفتنون، ويقولون: هؤلاء الذين كنا نثق بهم، ونحسن الظن بهم هذه حالهم.
فإذا رأوا أيضًا منهم تصرفات غير لائقة، من سوء التطبيق، وسوء العمل، وسوء الامتثال فهذا يزيدهم فتنة، الناس سيكرهون الدين، ويكرهون هؤلاء.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا، هذا ظاهره أنه من جملة كلامهم، من جملة دعائهم، ويحتمل أن يكون من تعليم الله لأهل الإيمان، كيف يقولون، أمرهم بالتأسي بإبراهيم ﷺ ومن معه، ونهاهم عن موالاة المشركين، وبين لهم خطر ذلك، وذكر لهم هذه الأسوة، قال: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا بحيث يقولون: انظروا هؤلاء لو كانوا يثقون بما عندهم من حق لما كاتبونا في حال كهذه، مما يعد من قبيل الخيانة العظمى، لو كان هؤلاء يثقون بما عندهم، وأنهم على حق، لما حصلت هذه المكاتبة سرًّا، وهذا يدل على أن القناعات ضعيفة.
مع أن الأمر ليس كذلك، فحاطب اعتذر بعذره، وقبله رسول الله ﷺ على كل حال، لكن هم سيقولون: لو كان هؤلاء على قناعة حقيقية لما صاروا يكاتبوننا سرًّا، والله المستعان.
هذا يمكن أن يتخرج على أنه لا يخلو الإنسان من حال من التقصير، مهما بذل، ومهما اجتهد، وقد يجتهد ويخطئ، وقد يتأول، فيكون بعض تصرفه سببًا لفتنة، والناس قد لا يعرفون خلفيات هذه التصرفات، وما وراءها، فيكون فتنة للناس، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فانظر لمثل هذه التربية القرآنية، يعلمهم ويربيهم ويذكر لهم الأسوة والقدوة، بعدما ينهاهم عن موالاة المشركين، ويبين لهم مخاطر الإقدام على عمل كهذا، ثم بعد ذلك لا يخلو الإنسان مهما بذل ومهما اجتهد من تأول، أو تقصير، أو ذهول، أو تفريط، فيسأل ربه أن يغفر له.
ولاحظ هنا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين، يعني: لم يقل: واغفر لنا ربنا إنك أنت الغفور الرحيم، نحن عرفنا أنه في حال الدعاء يدعو بكل مقام بما يناسبه من الأسماء الحسنى، فقد يقول قائل: إن المتبادر هنا أن يقول: اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، يا غفور اغفر لي، وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [سورة الأعراف:180]، لكنه قال: إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مقتضى الدعاء ما هو؟
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا قلنا: بمعنى لا تسلطهم علينا فيُفْتَنوا، أو لا تسلطهم علينا فيَفْتِنوا أهل الإيمان، والذي بيده القوة والقدرة على أن يحول بين الكفار والتسلط على المسلمين من هو؟
هو العزيز الحكيم، فالعزة تكون من مجموع أوصاف من القوة القدرة، والقهر والغلبة، فيكون عزيزًا، والحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فهذان الاسمان في غاية المناسبة هنا بناء على مقتضى هذا الدعاء، فالذي يملك أن يحول بين الكفار والتسلط على المسلمين هو العزيز الحكيم.
إِنَّك أَنتَ الْعَزِيزُ أي: الذي لا يضام من لاذ بجانبك، الْحَكِيمُ في أقوالك، وأفعالك، وشرعك، وقدرك.
ثم قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ... [سورة الممتحنة:6]، وهذا تأكيد لما تقدم، ومستثنى منه ما تقدم أيضًا؛ لأن هذه الأسوة المثبتة هاهنا هي الأولى بعينها.
يعني: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقبل ذلك الله -تبارك وتعالى- يقول: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ... [سورة الممتحنة:4]، فهذا التكرار كما قال ابن كثير: كرره مبالغة في الاتساء، للتحريض على هذا الاتساء، ولتأكيده.
"لقد"، تدل على القسم، موطئة له، فهنا قسم مقدر محذوف، كأنه يقول: والله لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة، وعرفنا ما معنى الأسوة.
قوله: لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ...بعضهم يقول: هذا بدل اشتمال، وبعضهم يقول: هذا بدل بعض من كل، بدل من الكاف، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ...، يعني: البدل إما أن يكون بدل كل من كل، تقول: جاء أبو حفص عمر، فعمر هو أبو حفص، وإما أن يكون بدل بعض من كل، تقول: أعجبني زيدٌ وجهُه، فالوجه بعض، أو بدل اشتمال بمعنى: خَلّة، صفة، تقول: أعجبني زيد علمه، أعجبني زيد خُلقه، فهذا بدل اشتمال.
فهنا يحتمل، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ...، فهذه صفة، من كان يرجو الله، وهي صفة معنوية، فهي بهذا الاعتبار بدل اشتمال.
ويحتمل أن يكون بدل بعض من كل، باعتبار أن هذا يكون أسوة ليس للجميع، وإنما لمن كان متحققًا بهذه الصفة، فإذا قلت: إن كل المؤمنين يرجون الله واليوم الآخر فهي بدل اشتمال، وإذا قلت: لا؛ لأن بعض هؤلاء قد يكون يريد الدنيا -مثلاً- فتقول: هي بدل بعض من كل، أو قلت: إن هذا المجموع المخاطب يدخل فيهم أهل النفاق –مثلاً- فتكون بدل بعض من كل.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ... قيدت الأسوة بالحسنة، قلنا: لأن الأسوة تأتي بمعنى القدوة أيًّا كانت، حسنة أو سيئة، لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ... يعني: ليس لأصحاب ما يسمى بالعقل المعيشي، فإن أصحاب العقل المعيشي يسلكون الأحوال بحسب مقتضي تلك العقول التي هي من هذه الصفة، كما قال الله -تبارك وتعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [سورة المائدة:52].
يعني: في موالاتهم واتخاذ اليد عندهم، يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، فهذا لا يتصور من أهل الإيمان؛ ولهذا قال الله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ [سورة المائدة:53]، هذا يدل على أنهم ليسوا من أهل الإيمان، هؤلاء من المنافقين.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ المرض هنا هو مرض النفاق، وهو غير الذي في سورة الأحزاب، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ [سورة الأحزاب:32] وهو الميل المحرم إلى النساء.
فأصحاب العقل المعيشي بزعمهم أنهم يريدون أن يتخذوا خط رجعة، فتبقى الحبال بينهم وبين أعداء الله لا يقطعونها، لا يصرمونها؛ لأنهم قد يحتاجون في زعمهم إليهم في يوم من الدهر، نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ يخافون من هؤلاء الأعداء أن تكون الغلبة لهم، فتكون هناك علاقات، وروابط وأيدٍ سابقة، تكون سببًا لاستبقائهم، هذا اسمه عقل معيشي، هذا العقل المعيشي يوجد على صور عليا كهذه، وهو منبئ عن تعلق بالدنيا، وقلة ثقة بما عند الله وإعراض عن الآخرة، ويكون في مثل هذه الحالات في قضايا الأمة الكبرى، ويكون فيما دون ذلك، وكلٌّ بحسبه.
البلاد التي يضطهد فيها أهل الإيمان، ومن ظهر عليه الاستقامة، المرأة التي تتحجب، الشاب الذي يطلق لحيته، ففي مصر-مثلاً- قبل أن يزيل الله الغمة، ويهلك هؤلاء من المجرمين، كان الشاب إذا أطلق لحيته، أو المرأة إذا لبست الحجاب لا يؤذى هو فقط، بل يؤذى قراباته، فالأسرة إذا فيها امرأة تحجبت فمعنى ذلك أن إخوتها بل أبناء العم يؤذون، هذا الشاب مهما كان متفوقًا لا يكون معيدًا –مثلاً- في الجامعة، إذا كان أستاذًا متميزًا لا يكون رئيس قسم فضلاً عن أن يكون عميدًا؛ لأن ابنة عمه محجبة، ومن ثمّ إخوتها لا يمكن أن يدخل الواحد منهم في الشرطة -مثلاً- وإن كان يعمل فيها لا يمكن أن يترقى؛ لأن أخاه قد أطلق لحيته، فتجد بعض ضعاف النفوس يقول: لا حاجة للاستقامة على أمر الله، ولا طاعة الله، أهم شيء أكل العيش.
فهذا عقل معيشي، يعني: يقدم الدنيا على الآخرة، وهكذا قد تجد الرجل لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا ينصح، ولا يقدم، ولا يبذل، ولا ينفع، ولا يكون به نفع إطلاقًا، وقد يكون عنده من العلم الشيء الكثير، هو بزعمه يقول لنفسه:
قد هيّئوكَ لأمرٍ لو فطنتَ لهُ | فاربأ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ |
يعني: يهيئ نفسه ليكون له ولاية، يكون له شيء، يكون له المستقبل، بحيث لا يكون في تاريخه أبدًا أنه أمر بمعروف أو نهى عن منكر، أو أزعج أحدًا، أو نصح أحدًا، مثل هذا صاحب عقل معيشي، ولو كان من المشتغلين بالعلم.
هذا كثير في القرآن فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ [سورةالتغابن:6]، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:97].
وهكذا وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورةالعنكبوت:6] يعني: ليس بحاجة إلى مجاهدته ولا إلى عمله ولا إلى طاعته ولا شيء من ذلك، وفي الحديث: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا[1].
فهو محمود في غناه، وكما سبق من أن هذه الأسماء الحسنى كل اسم متضمن لصفة، فإذا اقترن اسمان ظهر وصف ثالث، فالله غني والغِنى معروف، وحميد من الحمد، واقتران الاسمين أي: أنه محمود في غناه، بمعنى أن الغنى كثيرًا ما يحمل على الطغيان كما قال الله : كَلَّا إِنَّ الْإِنسَان َلَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورةالعلق: 6، 7] فإذا وجد الحمد مع الغنى فهذا هو الكمال من اجتماع الأمرين.
الْحَمِيدُ المستحمد إلى خلقه، أي: هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا رب سواه.
عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورةالممتحنة:7-9].
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين: عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً أي: محبة بعد البَغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة،وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي: على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة، والمتباينة، والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتنًّا على الأنصار: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا [سورة آل عمران:103] الآية.
هنا عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً عسى -كما هو معروف- من الله واجبة، يعني إذا كانت من قول الله وكلامه، هو الذي يعد بذلك، هو الذي يخاطب بذلك، وقال في كلامه عسى أن نفعل كذا، عسى أن يكون كذا، يقولون: هي من الله واجبة، واجبة يعني متحققة الوقوع، هذا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، وذلك يقولون مخرج على ما كانت تعهده العرب في كلامها ومخاطباتها، فإن العظيم منهم يخرج كلامه هذا بهذه الصفة، يعني حينما يريد أن يعد يقول: عسى أن نفعل لك ذلك، عسى أن يتحقق لك ما أردت، فيكون ذلك وعدًا جازمًا.
ومعلوم أن عسى بمعنى الترجي، لكن هذا لا يكون من الله -تبارك وتعالى؛ لأن الترجي إنما يكون ممن لا يعلم العواقب، تقول: عسى أن يقدم زيد، عسى أن ينزل المطر، أما الله فهو عالم بما كان وما يكون، ومن ثم قالوا: إن عسى من الله واجبة.
عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وهذا حصل، فأبو سفيان الذين كان يقود جيوش المشركين تحول إلى الإيمان، وصار يجاهد في سبيل الله، وهو أول من قاتل أهل الردة، فقد كان قافلاً من اليمن، وتوفي النبي ﷺ وهو في الطريق، فارتد بعض العرب فلقي ذا الخمار مرتدًا عن الإسلام فقاتله، فكان أول من قاتل أهل الردة هو أبو سفيان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً بمعنى أنهم يتحولون إلى الإيمان فتتحول العداوة إلى مودة؛ لأن هذه العداوة إنما هي بسبب الكفر، هذا هو الراجح من أقوال المفسرين.
والحافظ ابن كثير-رحمه الله- في الأصل نقل قول مقاتل من أن ذلك نزل في أبي سفيان عندما تزوج النبي ﷺ ابنته أم حبيبة فانكسرت حدة العداوة بهذه المصاهرة، ابن كثير عندما أورد هذا اعترضه بأن النبي ﷺ تزوجها قبل الفتح، وأبو سفيان أسلم ليلة الفتح، ثم ذكر ابن كثير -رحمه الله- ما يرى أنه أحسن من هذا، وهو ما جاء عن الزهري أن النبي ﷺ استعمل أبا سفيان على بعض اليمن، وحصل منه قتال أهل الردة.
وابن شهاب يقول: وهو ممن أنزل الله فيه عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ابن شهاب يعني يفسر الآية بهذا، لا يذكر سبب النزول، يقول: وهو ممن أنزل الله فيه، وهذه الرواية توضح أن هذه العبارة ليست صريحة في سبب النزول فهو يقول: فهو ممن أنزل الله فيه هذه الآية، وذكرت ذلك؛ لأنه يتكرر في كثير من كتب التفسير من أن ذلك بتزوج النبي ﷺ بأم حبيبة.
لكن يشكل على هذا أيضًا ما جاء عن ابن عباس في صحيح مسلم أن أبا سفيان عرض على النبي ﷺ بعدما أسلم بعد فتح مكة، قال: "يا رسول الله ثلاث أعْطِنيهنّ -يطلب من النبي ﷺ أن يعطيه ثلاثًا- قال: نعم، قال: تأمرني أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، والثالثة عندي أحسن العرب أم حبيبة"[2].
لاحظ هذا بعد إسلامه والنبي ﷺ تزوجها قبل الفتح، فالعلماء أجابوا عن هذا بإجابات متعددة، فبعضهم يقول: إنه لربما أراد أن يكون ذلك بيده هو؛ لأن النبي ﷺ لم يتزوجها عن طريقه كما هو معروف قبل إسلامه، فكأنه أراد أن يكون ذلك عن طريقه، لكن هذا فيه بُعد؛ كيف تكون عند النبي ﷺ وتحت عصمته، ويقول: عندي أجمل العرب أزوجك إياها، وأجيب عن هذا بأجوبة.
والحديث في صحيح مسلم تكلم عليه الإمام النووي كلاماً جيدًا على هذه القضية، ولكن من أحسن ما قيل: إن أم حبيبة التي قصدها أبو سفيان هي أخت أخرى لأم المؤمنين، أيضًا يقال لها: أم حبيبة، لكن يرد على هذا إشكال أنه لا يجوز الجمع بين المرأة وأختها، فكيف يعرض على النبي ﷺ؟
فأجابوا عنه أن الرجل حديث عهد بالإسلام، يعني بعدما دخل النبي ﷺ مكة عرض عليه أبو سفيان فلم يكن قد تفقه بهذه الأحكام وتعلم هذه المعاني، راجعوا شرح صحيح مسلم للنووي تكلم على هذا، وذكر وجه الجمع في ذلك.
عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً المودة هي كما قال ابن القيم-رحمه الله- في "المدارج": خالص المحبة، وسبق أنها من المحبة كالرأفة من الرحمة، الرأفة أرق الرحمة، والمودة خالص المحبة عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، والله يقول: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، فحوّل هذه القلوب المتعادية إلى قلوب متحابة، كما قال الله : وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِم ْوَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [سورةالأنفال:63]، والنبي ﷺ يقول: ألم أجدكم ضُلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي[3].
وقد يجمعُ اللهُ الشتيتيْن بعدما | يظنان كلَّ الظن أن لا تلاقيا. |
وكذا قال لهم النبي ﷺ: ألم أجدكم ضُلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورةالأنفال:62، 63]، وفي الحديث: أحبب حبيبك هونًا ما فعسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما فعسى أن يكون حبيبك يومًا ما[4].
وقوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي: يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورةالأحقاف:8] بكل من تاب إليه من أي ذنب كان.
وقوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أي: يعاونوا على إخراجكم، أي: لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم.
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ لا ينهاكم عن موالاتهم؟ لا، الكافر لا تجوز موالاته بحال من الأحوال سواء كان محاربًا أو لم يكن محاربًا، وإنما قال: أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ما قال: أن تتولوهم، فإن الموالاة لا تجوز، ولو نظرت في كلام أهل العلم من المفسرين في المراد بذلك من هم؟
فبعض أهل العلم يقول: هذه في مؤمنين كانوا بمكة، في من آمن بمكة ولم يهاجر، فهذا هو المراد بذلك كما يقوله مجاهد، يعني ليست في الكفار أصلاً، وإنما في المؤمنين.
وبعضهم يقول: إن هذه الآية في من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجهم من ديارهم من أهل مكة، ثم نُسخ بالأمر بقتالهم كما يقوله قتادة وابن زيد، والله -تبارك وتعالى- يقول: َوقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، وقال: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] ما خص ذلك بمن يحاربهم، فبعضهم يقول: إنها منسوخة، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، لكن حتى يتبين لك إلى أين ذهب المفسرون من السلف في تفسير هذه الآية.
وبعضهم يقول: هذه عامة في جميع من لم يقاتل المسلمين من الكفار على اختلاف مللهم وأديانهم، وأنها ليست بمنسوخة، هذا الذي عليه الجمهور، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: لا، هذه في النساء والصبيان ممن لا يقاتل، ليس من أهل القتال، وهذا ظاهر كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله، لاحظ هنا يقول: كالنساء والضعفة منهم، وبعضهم يقول: هذه فيمن كان بينه وبين النبي ﷺ عهد كخزاعة، المقصود أنهم تفرقت أقوالهم، لكن انظر إلى المحامل التي حملوها عليه، خلافًا لمن يقول اليوم: إن من لم يحارب المسلمين تجوز موالاته، إنما نُهينا عن موالاة الكفار المحاربين، وهذا غير صحيح.
والأقرب في تفسير الآية -والله تعالى أعلم- هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد كل من كان بهذه الصفة، ولا يختص بالنساء والصبيان، أو من لم يهاجر أو نحو ذلك، كل من كان بهذه الصفة ممن لم يحارب المسلمين، ولم يُعنْ على ذلك، أو على إخراجهم من ديارهم بأي نوع من أنواع الإعانة، فنقول: هؤلاء لا ينهاكم الله عنهم، عن ماذا؟ عن موالاتهم؟ لا، وإنما قال: أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ لاحظ هنا قال: أَن تَبَرُّوهُمْ أي: تحسنوا إليهم، الإحسان بكل كبد رطبة أجر، ودخلت امرأة من بني إسرائيل بغيٌّ الجنة أو غُفر لها بسبب شربة ماء سقتها كلبًا في خفها[5]، فالإحسان غير ممنوع عن هؤلاء الذين لم يحاربوا المسلمين، وما أعانوا على حربهم أو إخراجهم من ديارهم، والله المستعان.
يعني البر حسن المعاملة وما أشبه ذلك من إيصال الإحسان إليهم، أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ والإقساط هو العدل، لكن هنا معدى بـ"إلى"وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، لم يقل: تقسطوا معهم أو تقسطوا فيهم، قال: تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ والأصل أن هذا الفعل أقسط لا يتعدى بـ"إلى"، فدل على أنه مضمن معنى فعل آخر يصح أن يعدى بهذا الحرف، وقلنا لكم مرارًا: إنه قد يضمن الحرف معنى حرف تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: تقسطوا معهم أو فيهم كما يقول الكوفيون.
وأما على مذهب البصريين فيقولون بتضمين الفعل أو ما يقوم مقامه معنى فعل آخر يصح أن يعدى بهذا الحرف، وقلنا: إن هذا أبلغ؛ لأنه يكثِّر المعاني فيكون هنا الإقساط مضمنًا معنى الإفضاء، تفضوا إليهم، يعني يكون بينكم وبينهم مصالح متبادلة وعلاقات مشتركة، هذا الإفضاء، تفضوا إليهم فيكون بينكم مصالح وما أشبه ذلك، هذا لا إشكال فيه مع هؤلاء من غير المحاربين، ولم يقل مثلاً: تقسطوا لهم، تعدلوا لهم، فعدي بـ"إلى" تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ.
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: تعدلوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ روى الإمام أحمد عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "قدمتْ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك"[6]، أخرجاه.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: "قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضِباب وأقِط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي ﷺ فأنزل الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها"[7].
يعني هي جاءت بشيء تحف من البادية ضِباب يعني جمع ضب، وأقِط معروف لبن يجفف، وسمن، قال هنا: قدمت أمي وهي راغبة أفأصلها؟ راغبة يعني في الصلة أن أعطيها شيئًا.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ قد تقدم تفسير ذلك في سورة الحجرات، وأورد الحديث الصحيح: المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا[8].
وقوله تعالى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ أي: إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة فقاتلوكم وأخرجوكم، وأعانوا على إخراجكم، ينهاكم الله عن موالاتهم، ويأمركم بمعاداتهم، ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورةالمائدة:51].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورةالممتحنة:10، 11].
تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله ﷺ وبين كفار قريش فكان فيه: "على ألا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا"، وفي رواية: "على أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا"، وهذا قول عروة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد، والزهري، ومقاتل بن حيان، والسدي، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسُّنة، وهذا من أحسن أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن الله أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش من المسند الكبير، عن عبد الله بن أبي أحمد قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهجرة، فخرج أخواها عمارة، والوليد حتى قدما على رسول الله ﷺ فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، ومنعهن أن يُردَدْنَ إلى المشركين، وأنزل الله آية الامتحان.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله.
وقال مجاهد: فَامْتَحِنُوهُنَّ: فاسألوهن عما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ هنا ما ذكره الحافظ ابن كثير-رحمه الله- أنه جاء في الصلح: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، انتبهوا اللفظة الآن على هذه الرواية: على أن لا يأتيك منا رجل، قلنا: من هذه الآية من آية رقم عشرة هذه نازلة بعد صلح الحديبية عندما جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة فجاء أخواها يطلبانها بمقتضى الصلح -العهد- فالآن إذا كانت الصيغة على أن لا يأتيك منا رجل تكون النساء غير داخلات في ذلك، فالجواب بكل بساطة أن هذه ليست برجل هذه امرأة هي غير داخلة أصلاً في الموضوع إذًا لا تعاد.
لكن على الرواية الثانية: على أنه لا يأتيك منا أحد، فأحد هنا يشمل الرجل والمرأة فالنساء داخلات في ذلك، فهنا بعض أهل العلم قال: إن هذه منسوخة، هذا الذي حصل وهو ما كتب في العهد نسخ بعضه، النسخ أحيانًا يكون رفعًا لكل الحكم، وأحيانًا يكون لجزء منه، فهذا نسخ البعض دون الكل، نسخ جزئي، ما يتعلق بالنساء، العهد ثابت بالقرآن أو بالسنة؟
العهد في صلح الحديبية في السنة فتكون الآية ناسخة لما ثبت في السنة، يكون هذا مثالًا لنسخ القرآن للسنة.
أما مسألة نسخ السنة للقرآن ففيها خلاف بين الأصوليين هل السنة تنسخ القرآن أو لا؟
فبعضهم يمنع باعتبار أن السنة شارحة فكيف تكون ناسخة، السنة مبينة والنسخ رفع، فلا تكون ناسخة، والأقرب أنه لا مانع من أن تكون ناسخة؛ لأن أحوال السنة مع القرآن معروفة، فقد تأتي بأحكام زائدة، والرد على هذا معروف والإجابة عنه، وكون السنة مبينة لا يمنع أنها تكون رافعة؛ لأن التخصيص أصلاً هو رفع لبعض الواقع لبعض الأفراد الداخلة تحت العموم، والتخصيص يقولون: بيان، والتقييد يقولون: بيان، والنسخ رفع، والواقع أنهم يقولون: التخصيص رفع لبعض الأفراد، والنسخ رفع في الأزمان، فهذا رفع وهذا رفع، فلا مانع منه.
لكن هل عندنا وقائع أو أمثلة صحيحة سالمة عن معارضة قوية؟ ما عندنا، هذا مثال من أوضح الأمثلة التي يوردونها، وهذا المثال احتمال على أحد الروايتين إن كانت الرواية: لا يأتيك منا أحد، فبعضهم يقول: هذا مخصَّص بالسنة، وبعضهم يقول: هذا مخصِّص لما ثبت في السنة، وبعضهم يقول: هذا ناسخ لما ثبت في السنة، على أحد الاحتمالين في الرواية يكون على أحد الاحتمالين في التوجيه، أمّا وجود مثال لا إشكال فيه فلا أعلمه، يعني هذا من أوضح الأمثلة وأحسنها، ولكن فيه ما ترون، هذه البيعة التي يسمونها بيعة النساء.
فإن علمتموهن: يعني بحسب الظاهر، والباطن إلى الله -تبارك وتعالى، وهنا صفة الامتحان ذكرها الحافظ ابن كثير قال هنا عن العوفي عن ابن عباس: "كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"، قال مجاهد: فامتحنوهن: فاسألوهن عما جاء بهن، يعني: لماذا جاءت هل هو بسبب الغضب على زوج أو غير ذلك؟
هذه أقوال في الامتحان امتحنوهن تُمتحن بماذا؟ عائشة -رضي الله تعالى عنها- تذكر أن الامتحان إنما يكون بهذه بآية الامتحان، وهي التي بعدها يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ... [سورة الممتحنة:12].
فهذا الذي تمتحن به المرأة، وأنه لم يكن النبي ﷺ يمتحنهن إلا بما في الآية فقط، وهذا مخرَّج في البخاري، تمتحن بما في الآية، وهذا هو الأقرب-والله تعالى أعلم، والنبي ﷺ كان يأخذ هذه البيعة التي تسمى بيعة النساء على الرجال، كما في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: كنا عند النبي ﷺ في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم -وقرأ الآية، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
هذا تكلم العلماء على توجيهه بعضهم يقول: هذا خاص بها؛ لأنه إذا أسلمت الزوجة لا يجوز لها البقاء مع الزوج مطلقًا هكذا تبقى معه دائمًا، والعلماء اختلفوا في تحديد المدة، بعضهم يقول: مدة العدة، وبعضهم يقول: غير ذلك، لكنها لا تبقى معه دائمًا وهو مشرك، ولذلك العلماء لما رأوا هذه من بعد غزوة بدر إلى عام الفتح؛ الأن أبو العاص بن الربيع أسر في غزوة بدر فأطلقه النبي ﷺ ولم يأخذ الفدية؛ لأن زينب -رضي الله تعالى عنها- بعثت بالفداء بعقد كانت أعطتها إياه خديجة أمها، المعنيّة هنا زوجة أبي العاص التي هي زينب، بنتها هي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع التي كان يحملها النبي ﷺ، ما ردها بعد صلح الحديبية، وإنما ردها بعد سنتين أو نحو ذلك أو أقل من هذا، المهم أنها بقيت مدة.
وليست القضية في الرد إنما أسلم هو عام الفتح فردها إليه النبي ﷺ هذه سنوات فكيف ردها إليه النبي ﷺ بالنكاح الأول بالعقد الأول، كيف ردها إليه بعد هذه السنوات بالعقد الأول نفسه؟ فبعضهم يقول: هذا خاص وإلا فكلام الفقهاء في تحديد المدة كما سبق هم مختلفون فيها هل هي مدة العقد لكن ليست المدة مطلقة، البنت زينب بنت النبي ﷺ وابنتها أمامة.
وقوله تعالى: وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا يعني: أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصْدِقة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والزهري، وغير واحد.
وقوله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني: إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن، أي: تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة، والولي، وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ تحريم من الله على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن.
وفي الصحيح، عن المسور، ومروان بن الحكم: أن رسول الله ﷺ لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إلى قوله: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية[10].
وقال ابن ثور عن معمر عن الزهري: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى أزواجهن، وقال: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ.
وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ يعني بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال، وأبو جعفر بن جرير -رحمه الله- يقول: لا تمسكوا بحبال النساء الكوافر وأسبابهن، والعِصَم جمع عِصمة، وهي ما يستعصم به أو ما يعتصم به من العقد والسبب، فلما كان العقد سببًا لاستحلال النساء، فيقال: فلانة في عصمة زوج، في عصمة فلان، هذه العصمة تنحل بالطلاق، فإذا كانت المرأة على ذمته يعني في حباله فإنها تكون في عصمته.
وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وكما في الصحيح: أنها لما نزلت طلق عمر تلك الزوجتين تلك المرأتين، وفي رواية عند ابن إسحاق عن الزهري أن زوجات عمر إحداهن يقال لها: قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، وهذه يقولون تزوجها أبو سفيان، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، هذه أم عبيد الله بن عمر، عبيد الله وليست أمًّا لعبد الله، فهذه تزوجها أبو جهم بن حذيفة، وكذلك طلحة بن عبيد الله طلق أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فتزوجها خالد بن سعيد بن العاص.
وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ يعني فارقوهن، لا تبقى في ذمته، وهذا من أجلى صور البراءة من المشركين.
وقوله: وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا أي: وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار، إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
وقوله: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي: في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بما يصلح عباده، حكيم في ذلك.
ثم قال تعالى: وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا، قال مجاهد وقتادة: هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا، فإذا جاءت امرأةٌ لا يُدفع إلى زوجها شيء حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليه مثل نفقته عليها.
وروى ابن جرير عن الزهري قال: أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين فقال الله تعالى للمؤمنين: وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمنّ وهاجرن، ثم ردوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم، والعقب ما كان بقي من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن.
هنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ هل هذا من العقب أو من العقوبة؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم، وكذلك الكفار وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ من المقصود بهؤلاء الكفار؟ بعضهم يقول: من ليس بينهم وبين المسلمين عهد، قال به مجاهد وقتادة، وبعضهم يقول: يعني كفار قريش هؤلاء الذين بينكم وبينهم هدنة، كما يقوله الزهري، بمعنى أن "ال" هذه عهدية، إلى الكفار الذين كان الحديث عنهم وهم كفار قريش.
فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم عاقبتم هنا إذا قلنا: إنها من العقوبة فهذا يحتمل معاني، وإذا قلنا: إنها من العقب فهذا كما قال ابن كثير -رحمه الله، ولهذا اختلفت أقوال أهل العلم في ذلك: من أي الأموال يعطى هذا المشرك الذي يطالب بصداق امرأته التي ذهبت إلى المسلمين؟
فبعضهم يقول: يعطى من صداق من لحق بهم من نساء المشركين، كما يقوله الزهري، يعني هذه امرأة هاجرت إلى المسلمين لها زوج كافر يطالب بمهرها، وهذه امرأة كافرة ذهبت من المسلمين إلى المشركين، فهنا ماذا نعطي هذا المشرك؟
الزهري يقول: نعطيه صداق من لحق بهم من نساء المشركين، فيكون كأن ذلك على سبيل المقاصّة، يعني الآن هذه امرأة مسلمة ذهبت إلى المسلمين جاء الزوج يطالب يقول: أنا أعطيتها خمسين ألفًا مهرًا، أعطوني هذا المهر، وهذه امرأة ذهبت إلى المشركين من المسلمين ما كانت مسلمة فذهبت إلى مكة مثلاً فزوجها يقول للمشركين: أعطوني المهر خمسين ألفًا، فهذا المشرك الذي يطالب المسلمين يعطى من ماذا؟ فإذا امتنعوا عن إعطاء أحد من المسلمين المهر فإنه يكون هذه بتلك.
انتقل إلى المسلمين عشر من نساء المشركين مسلمات كل واحدة مهرها كان خمسين ألفًا، وانتقل إلى المشركين عشر مشركات كن عند المسلمين هؤلاء يطالبون وهؤلاء يطالبون، المشركون أعطوا مهور تسع مثلاً وبقيت واحدة ما دفعوا لها المهر، هذا زوجها الذي يطالِب يعطى مما بقي من مهور هؤلاء المشركات اللاتي يطالِب أزواجهن بإعطائه، يعني يكون على سبيل المقاصّة.
لاحظ عبارة ابن كثير يقول: فلو أنها ذهبت بعد هذا، يقول عن الزهري: أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين فقال الله تعالى للمؤمنين: وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ... فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن، ثم ردوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم، والعقب ما كان بقي من صداق نساء الكفار حين آمن وهاجرن.
ما في أيدي المسلمين يرد إليهم، فإذا امتنعوا من إعطاء أحد من المسلمين المهر فإن ذلك يرد إلى ذلك المسلم الذي ذهبت زوجته، وأيضًا هذا الرجل الذي يطالب المسلمين وقد ذهبت زوجته إلى المسلمين وهو مشرك فهذا الاستحقاق استحقاق المهر في الأصل ثابت له، فهذا يمكن أن يقال له: عقب، فهو في ذمّة المسلمين فيرد إلى هؤلاء المشركين.
بعضهم يقول: فَعَاقَبْتُمْ يعني يُعطَى من الغنيمة، ويعطى من الفيء فإذا حصل للمسلمين نصر على الكفار، وغلبة لأحد من طوائف الشرك فإن الأموال التي تحصل لهم من الغنيمة والفيء يمكن أن تعطى كمهور يطالب بها هؤلاء من المشركين كما يقوله مجاهد وقتادة ومسروق وإبراهيم النخعي والزهري أيضًا وهو رواية عنه، وبعضهم يقول: فَعَاقَبْتُمْ يكون هذا بتزويج من ذهبت زوجته امرأةً ممن قدمن من عند المشركين، يعوض، يعني هذا ذهبت عليه زوجته ورفض المشركون أن يردوا إليه المهر وجاءت امرأة من المشركين وهي مسلمة نزوجها لهذا، ويكون هذا في مقابل ذاك، هكذا قال بعضهم.
ابن جرير -رحمه الله- يحمل الآية على العموم أي يُعطَى من الغنيمة، يعطى مما بقي بأيدي المسلمين من مهور المشركين.
هذا توجيه جيد.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الممتحنة:12].
روى البخاري عن عروة أن عائشة زوج النبي ﷺ أخبرته أن رسول الله ﷺ كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ... إلى قوله: غَفُورٌ رَّحِيمٌ، قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: "قد بايعتك كلامًا، والله ما مست يده يد امرأة في مبايعة قط، وما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك"[11]، هذا لفظ البخاري.
وروى الإمام أحمد عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله ﷺ في نساء نبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك به شيئًا الآية، وقال: وفيما استطعتنّ وأطقتنّ، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا، قال: (إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة[12]، هذا إسناده صحيح قد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
وروى البخاري عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله ﷺ فقرأ علينا: أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها قالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله ﷺ شيئًا، فانطلقت ورجعت فبايعها[13]، ورواه مسلم.
أسعدتني يعني ناحت في مناسبة سابقة في عزاء فتريد أن تكافئها، فعندهم وفاة فتقول: أريد أن أذهب وأنوح وأجيء وأبايع.
وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله ﷺ في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم -قرأ الآية التي أُخذت على النساء "إذا جاءك المؤمنات"، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه[14]، أخرجاه في الصحيحين.
فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ، أي: من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها وإن كان من غير علمه عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينا من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنيَّ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله ﷺ: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك[15] أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى: وَلَا يَزْنِينَ كقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [سورة الإسراء:32]، وفي حديث سمرة ذكر عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم.
روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله ﷺ فأخذ عليها أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ الآية، قال: فوضعت يدها على رأسها؛ حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرِّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: فنعم إذًَا، فبايعها بالآية[16].
يعني: هي مستكثرة، كيف يصدر هذا؟ كيف يتخيل؟ كيف يذكر؟ امرأة تبايع على أنها لا تزني؟ وهل يخطر في بال الحرة مثل هذا؟ فوضعت يدها على رأسها، يعني: كأنها تقول: يا لطيف، أي: مثل هذا أمر لا يتصور من الحرة، الله يصلح الحال.
تطرح نفسها، يعني: كأن تلقي نفسها من مكان مرتفع، أو نحو ذلك، تقفز، تقوم بأعمال فيها إرهاق شديد؛ من أجل أن يسقط الولد، فهنا ابن كثير يقول: يشمل الصورتين، قتله بعد الولادة، كما كانوا يفعلون في الوأد، وقتل الولد وهو جنين بممارسات، بأدوية وعقاقير تأخذها المرأة من أجل الإجهاض، إما لغرض فاسد، أو ما أشبهه، لا يريدون أولادًا كثيرين، يخافون من الفقر، أو لغير ذلك من العلل والأسباب الفاسدة، فقوله: وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ يشمل هذا وهذا، والله تعالى أعلم.
قوله: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ بعضهم يقول: الزنا، يفترينه بين أيديهن، لكن هذا فيه بعد -والله أعلم، وبعضهم يقول: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، يعني: الولد أنه منه، أي أنها تنسب إليه ولدًا ليس له، والذي بين يديها وبين رجليها بطنها، فهذا يكون لأغراض، فتارة يمكن أن يحمل على المعنى السابق، وهو الزنا، فتزني فيكون الحمل من غير زوجها، ثم تدعي أنه لزوجها.
وهذا قد يحصل أيضًا بغير المباشرة للزنا، كأن تكون المرأة ما يحصل لها حمل، فيمكن أن تأخذ من ماء رجل آخر، فالآن في بعض دول الكفر يوجد خزائن للحيوانات المنوية، بنوك تختار المرأة المواصفات التي تريد، هيئة الرجل وصفة الرجل، إلى آخره، من أجل أن يكون الولد بهذه الصفة، إما لأن زوجها لا ينجب، أو لأنها تريد صفات معينة، فتختار، فيكون تلقيح البويضة من غير مباشرة للزنا، فهذا من البهتان، فقد تذهب المرأة وتفعل هذا، وتوهم الزوج أنها قد حملت منه، وقد يكون بموافقته هو، هذا لا يجوز.
ويدخل في هذا من الصور يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أن تنسب إليه ولدًا ليس له، باعتبار أنه يحصل تبديل بعد الولادة، كأن تكون هذه المرأة تنجب بنات، أو يتوعدها زوجها أنها إن أنجبت بنتًا أنه يطلقها أو أنها تريد أن تحظى عنده وأن تنجب ولدًا، فتتفق مع القابلة مع كثرة هذه الولادات في المستشفيات اليوم أنه إن كانت المولودة بنتًا أن تبدلها، والقضية لا تحتاج أكثر من أن تضع سوارًا في يد هذا المولود، وتكتب عليه هذه القابلة، فإذا أعطتها مالاً فقد تفعل ذلك من لا ذمة لها، فتأتي هذه المرأة، وتقول لزوجها: هذا ولدي أنجبت ذكرًا، فهذا داخل في البهتان، وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.
وبعضهم يقول: الذي بين أيديهن وأرجلهن هي النفس، نفس الإنسان، يعني: تنسب ذلك إلى نفسها، والواقع أنه ليس كذلك، وقد ذكر العلماء في هذه الآية أقوالًا، من شاء فليطالع مثل تفسير القاسمي عند هذه الآية.
وقوله تعالى: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [سورة الممتحنة:12] يعني: فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عن منكر، روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء[17].
وقال ميمون بن مهران: لم يجعل الله طاعة لنبيه إلا في المعروف، والمعروف الطاعة، وقال ابن زيد: أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف.
وروى ابن جرير عن أم عطية الأنصارية قالت: كان فيما اشترط علينا رسول الله ﷺ من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان: إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهم، ثم جاءت فبايعت، قالت: فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنس بن مالك.
وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين عن أم عطية نسيبة الأنصارية -رضي الله عنها.
وروى ابن أبي حاتم عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله ﷺ أن لا نعصيه في معروف، أن لا نخمش وجهًا، ولا ننشر شعرًا، ولا نشق جيبًا ولا ندعو ويلاً.
يعني: أنه فسر بالنياحة، واللفظ عام وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فهذا يشمل كل ما يدخل تحته من المعاني، ومن ذلك: أنه نهاهن عن النياحة، فالنياحة داخلة في هذا المعنى، فحمله على العموم يكون من قبيل عطف العام على الخاص، يعني: أنه هنا ذكر أشياء محددة معينة، التوحيد، والنهي عن أشياء من الجرائم، كالسرقة، والزنا، ونحو ذلك، وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ مما أمر به النبي ﷺ مطلقًا سواء كان في هذه الأشياء المذكورة، أو في غيرها، فإن طاعته ﷺ واجبة.
والمعروف هنا يمكن أن يكون من قبيل الصفة الكاشفة؛ لأن النبي ﷺ لا يمكن أن يأمر إلا بمعروف، كما في قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] الطائر يطير بجناحيه، وقوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، وقوله: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، وقوله: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:112]، ولا يكون قتل الأنبياء بحق.
فالذين فسروه بالنياحة هنا جماعة من السلف ابن عباس-رضي الله عنهما- وابن زيد، وقتادة، وزيد بن أسلم، وأبو صالح، وأبو الجعد.
وهذه الروايات واضحة في هذا، لكن لا شك أنه داخل فيه، والمعنى بناء على ظاهر اللفظ أعم من ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13].
ينهى -تبارك وتعالى- عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْيعني: اليهود والنصارى، وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء؟ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله .
وقوله تعالى: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، فيه قولان:
أحدهما: كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثًا ولا نشورًا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
والقول الثاني: معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير، قال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ قال: كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه، وهذا قول ومجاهد، وعكرمة، ومقاتل، وابن زيد، والكلبي، ومنصور، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله.
آخر تفسير سورة الممتحنة، ولله الحمد والمنة.
قوله: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، هذه الجملة تحتمل المعنيين اللذيْن ذكرهما الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
المعنى الأول: يئسوا من الآخرة كيأس الكفار الأحياء من أصحاب القبور أن يلتقوا بهم، أو أن يرجعوا إليهم ثانية، أن من مات فهذا هو المثوى الأخير في اعتقادهم، فلا التقاء بعد ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، فالذين قالوا بهذا القول حملوه على هذا بهذا الاعتبار.
والمعنى الثاني: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ يئسوا من الآخرة يأسًا كيأس أولئك الذين ماتوا وهم كفار، فعاينوا الحقائق، فعرفوا أنهم لا نصيب لهم عند الله، ويئسوا من ثوابه؛ لأنهم يرون مقاعدهم من النار، ويقول: ربي لا تقم الساعة، فهؤلاء الأحياء الكفار اليائسون من ثواب الآخرة، ومن العطاء، والنعيم في الآخرة قد يئسوا من الآخرة كيأس أولئك الذين ماتوا وعاينوا الحقائق، وعرفوا أنهم لا نصيب لهم عند الله -تبارك وتعالى.
فهذان معنيان، الأول: قال به بعض السلف كقتادة والضحاك، والقول الثاني الذي رجحه ابن جرير قال به جماعة كمنصور، ومجاهد، وعكرمة، وابن زيد، يقولون: يئسوا من الآخرة كيأس المقبورين من ثواب الآخرة، يعني: أنه استوى اليائسان، كون الحي يصل به اليأس من ثواب الله من الآخرة، يعرف أنه لا نصيب له عند الله؛ لأنه يعرف الحق، فيكون بمنزلة ذاك الذي مات، وعاين الحقائق، ورأى مقعده من النار فهو يائس من ثواب الله في الآخرة، فهؤلاء الأحياء هم بهذه المثابة، وصل بهم الحال إلى أنهم قد تيقنوا أن لا نصيب لهم عند الله، توالونهم لماذا؟ بحيث كانوا بمنزلة من مات وشاهد الحقائق، هذا على القول الثاني الذي رجحه ابن جرير، ورَدّ القول الأول باعتبار أن جميع الناس المسلم والكافر قد يئسوا من رجوع الموتى إليهم، يقول: هذا لا يختص بالكافرين، قد يئسوا من الآخرة -يعني بناء على القول الأول- كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم.
ابن جرير يقول: هذا ليس فقط في الكفار، حتى المسلمين، لكن إذا قيدناه بهذا القيد أنهم قصدوا -أصحاب القول الأول- بذلك أنهم لا يلتقون بهم أبدًا، وليس المقصود لا يرجعون إليهم في الدنيا، أنه لا لقاء، لا لقيا بعد ذلك اليوم الذي تفارق فيه الروح الجسد، هذا نهاية المطاف، المثوى الأخير، إذا قيدناه بهذا القيد يكون اعتراض ابن جرير غير متجه، وكأن الأولين قصدوا هذا، إذًا يكون المعنى هكذا على القول الأول: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما صفتهم؟ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ من ثواب الله في الآخرة، كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الأحياء من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم ثانية، أو أن يلتقوا بهم في يوم من الدهر.
كمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ الكفار الأحياء -هذا القول الأول- يئسوا من أصحاب القبور أن يلقوهم ثانية، لكن لو فهم على أنه كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم فهنا يقال: هذا لا يختص بالكفار أنهم يئسوا من الموتى أن يرجعوا، وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء: 95]، فكل من مات لا يرجع، مسلم أو كافر، فالمسلمون يئسوا من الموتى المسلمين أن يرجعوا إلى الدنيا ثانية، لو كان أصحاب القول الأول يقصدون هذا فيتجه اعتراض ابن جرير، لكنهم -والله أعلم- لا يقصدون هذا، يقصدون أنه لا تلاقي.
المعنى الثاني: قد يئسوا من الآخرة، كيأس الكفار الموتى، لاحظ المعنى الأول: الكفار الأحياء، كيأس الأحياء هنا لا، يأس الكفار الموتى، فتكون مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ بيانية، كيأس موتى الكفار الذين في القبور من ثواب الله لما عاينوا من الحقائق.
القرآن يحتمل، حمّال، ذو وجوه، يعني: يحتمل هذا المعنى، ويحتمل هذا المعنى، لربما تقرأ هذه الآية، ولا يرد في بالك مثل هذه الأشياء، وبهذا تعرف لماذا يختلف العلماء.
أحيانًا اللفظ نفسه يحتمل هذه المعاني، فالعالم تكون أمامه معانٍ، فتجده يتوقف، ويتمهل، ويتريث، وعنده حسابات كثيرة واحتمالات، الجاهل يبادر إلى الجواب، ويغضب، لماذا يختلفون؟ والقرآن واحد، والسنة واحدة، لماذا هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا؟ لماذا هذا يفتي بكذا، وهذا يفتي بكذا؟ فهذا أحد الأسباب العائدة إلى النص.
بهذا نكون انتهينا من تفسير هذه السورة.
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي سفيان بن حرب ، برقم (2501).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم (4330)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، برقم (1061).
- رواه الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض، برقم (1997)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (178).
- رواه مسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2245).
- رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب الهدية للمشركين، برقم (2620)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، برقم (1003).
- رواه أحمد في المسند، برقم (16111)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف مصعب بن ثابت".
- رواه أحمد في المسند، برقم (6492)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، برقم (2692)، والحاكم في المستدرك، برقم (4306)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه"، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (5/ 43)، برقم (1216).
- انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 13).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [سورة الممتحنة:10]، برقم (4891).
- رواه النسائي، كتاب البيعة، باب بيعة النساء، برقم (4181)، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، برقم (2874)، وأحمد في المسند، برقم (27006)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (529).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ [سورة الممتحنة:12]، برقم (4892).
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، برقم (18)، ومسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، برقم (1709)، وأحمد في المسند، برقم (22678)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند، برقم (1714).
- رواه أحمد في المسند، برقم (25175)، وقال محققوه: "حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ [سورة الممتحنة: 12]، برقم (4893).