بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الانشقاق وهي مكية.
عن أبي سلمة "أن أبا هريرة قرأ بهم: إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا اِنْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ سَجَدَ فِيهَا"[1]، رَوَاهُ مُسْلِم، وَالنسَائِي مِنْ طَرِيق مَالِك، وروىَ الْبُخَارِي عَنْ أَبِي رَافِع قَالَ: "صَلَّيْت مَعَ أَبِي هُرَيْرَة الْعَتَمَة فَقَرَأَ: إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْت لَهُ، فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْف أَبِي الْقَاسِم ﷺ فَلَا أَزَالُ أَسْجُد بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ"[2].
سورة الانشقاق من السور المكية التي تتحدث عن يوم القيامة، كما تتحدث عن مسير الإنسان منذ نشأته، وما يمر به من أحوال وأطوار حتى يصير إلى ملاقاة ربه -تبارك وتعالى، وإلى منزله النهائي إما في الجنة وإما في النار، فهنا هذه الأطوار كما سيأتي يدخل فيها موقف القيامة والحساب والجزاء، وما يلاقيه الإنسان من الأهوال والشدائد، ثم بعد ذلك في آخرها يَنْعَى على هؤلاء الذين مازالوا يكذبون ويكفرون ولا تؤثر فيهم آيات القرآن، ولا يحصل منهم الإذعان والإيمان.
فنستطيع أن نقول: إن السورة في الجملة تتحدث عن اليوم الآخر، وتتحدث عن رحلة الإنسان كاملة من أولها إلى آخرها -كما سيتضح عند تفسير الآيات، وهذا قد يكون أولى من تجزئة الموضوعات فيقال: الآيات الأولى تتحدث عن القيامة مثلاً، والآيات التي بعدها تتحدث عن الإنسان، والآيات التي بعدها تتحدث عن الحساب والجزاء، وهكذا ختمت الآيات بالحديث عن الكفار وإعراضهم وما توعدهم الله به.
إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [سورة الإنشقاق:1-15].
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وذلك يوم القيامة، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا أي: اِسْتَمَعَتْ لِرَبِّهَا وَأَطَاعَتْ أَمْره فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنْ الِانْشِقَاق، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة وَحُقَّتْ أي: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيع أَمْره لِأَنَّهُ الْعَظِيم الَّذِي لَا يُمَانَع وَلَا يُغَالَب بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلّ شَيْء وَذَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْء.
قوله -تبارك وتعالى: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ مضى الكلام على هذا، وقلنا: انفطرت، كما جاء في الآية الأخرى، تصدعت، صارت أبوابًا، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يقول هنا: أي: استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، أذنت من الأَذَن وهو الاستماع، ما أذِن الله لشيء ما أذِن لنبي حسن الصوت يقرأ القرآن يتغنى به، فهذا بمعنى الاستماع، وبعضهم فسره بالإذن المعروف، وهنا يقول: وَحُقَّتْ أي: حق لها أن تطيع أمره؛ لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب .
وقوله: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا استمعت أي: سماع إجابة وانقياد، وحق لها ذلك، الله -تبارك وتعالى- قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11] فلا يسع هذه المخلوقات والأجرام العظيمة على قوتها وشدتها إلا الانقياد والسماع والطاعة، وحق لها ذلك فهو العظيم الأعظم.
وبعضهم يقول: إن معنى "حُقت" يعني حقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق، يعني جعلها حقيقة لذلك، "أذنت لربها وحقت" جعلها الله حقيقة بذلك، وبنحو هذا قال ابن جرير -رحمه الله، وكأن الأول هو المتبادر "حقت" أي حق لها أن تستجيب ولا تمانع؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يمانع ولا يغالب.
هنا قال: بسطت وفرشت ووسعت كما قال ابن جرير، يعني هذه أشبه ما تكون بعبارات ابن جرير، وهذه العبارة عند ابن جرير وابن كثير هي في الواقع جمعٌ بين قول من قال: مدت يعني بسطت، وقول من قال: مدت يعني زيد في سعتها من المدد، أمده بكذا أي زاده، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ [سورة آل عمران:125] هذا مدد على الثلاثة، زيادة على الثلاثة، فهنا وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال: بسطت وفرشت ووسعت، وسعت يعني هذه الزيادة، زيد فيها، فجمعوا بين هذه الأقوال وهذه العبارات؛ لأن لفظ "مدت" المد يعني البسط وفيه معنى الزيادة، بمعنى أنها توسع وتكون في حال من الانبساط؛ لتتسع لهؤلاء الخلائق.
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ يعني من الأموات، وبعضهم يقول: من الأموات وغير الأموات، الكنوز "أسطوانات الذهب" كما يعبر بعضهم، فهي تخرج ما في جوفها من الخزائن، من الكنوز كما تخرج الأموات، هذه باعتبار أن الله -تبارك وتعالى- أطلق ذلك، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا فهذه صيغة عموم.
وسعيد بن جبير -رحمه الله- يقول: ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء، وهنا: ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم، كأن هذا الأقرب للسياق -والله أعلم.
يقول: قاله مجاهد وسعيد، يعني سعيد بن جبير، لكن سعيد بن جبير يقول: تخلت عن الأحياء الذين على ظهرها، قَالَهُ مُجَاهِد وَسَعِيد وَقَتَادَة، وهذا القول الذي ذكره هنا ابن كثير هو الذي اختاره أيضًا ابن جرير، ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يقول: كما تقدم.
والجملة هنا أو الآية مكررة مرتان، والأصل أنه لا يوجد تكرار محض في القرآن، بناء على ذلك فكل جملة ترجع إلى ما قبلها، يعني في الأولى لما أمرها الله -تبارك وتعالى- بالانشقاق انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ حُق لها أن تستجيب وأن تنقاد وأن تنشق، وأن تطيع؛ لأن الله أمرها بذلك، وهنا الأرض تمد وتبسط وتوسع وتلقي ما فيها وتتخلى عنهم؛ لأن الله أمرها بذلك، وحق لها أن تستجيب، وأن تسمع، وأن تنقاد، فتلقي ما في جوفها، وتستجيب لأمر ربها، فتكون الأولى متعلقة بما قبلها، وهذه متعلقة بما قبلها.
وذكرنا في بعض المناسبات أمثلة لذلك أخرى مثل: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن] كل واحدة تتعلق بما ذكر قبلها، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات] كل واحدة تتعلق بالتي قبلها، لا يوجد تكرار محض.
بعض الناس قد يصعب عليه حفظ بعض السور كسورة الكافرون، وسورة الكافرون ليس فيها تكرار، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [سورة الكافرون:1، 2]، الآن لست مقيمًا على عبادتكم ودينكم، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:3]، لستم على ديني ولا تعبدون إلهي الذي أعبده، فأنتم تعبدون الأصنام ونحن نعبد الله الواحد القهار، وَلَا أَنَا في المستقبل، هو الآن ابتدأ بتقرير ما يعبد في البداية، لا أعبد الآن حاليًا ما تعبدون، ثم ذكر حالهم أيضًا فقال: وأنتم كذلك، أنتم تعبدون الأصنام وأنا أعبد الله، ولا أنتم عابدون ما أعبد الآن، الواقع يختلف، في المستقبل بدأ بنفسه قال: وَلَا أَنَا عَابِدٌ في المستقبل لن أتحول إلى عبادة آلهتكم الباطلة، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:4، 5] لن تتحولوا إلى عبادة إلهي الذي أعبده، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:6] فلا يوجد فيها تكرار، بعض الناس يظن هذه الأشياء مكررة، والواقع أن كل آية لها معنى آخر.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ كما تقدم.
وقوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا أي: إِنَّك سَاعٍ إِلَى رَبّك سَعْيًا وَعَامِل عَمَلًا، فَمُلَاقِيه ثُمَّ إِنَّك سَتَلْقَى مَا عَمِلْت مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ، وَيَشْهَد لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاود الطَّيَالِسِيّ عَنْ جَابِر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: قَالَ جِبْرِيل: يَا مُحَمَّد عِشْ مَا شِئْت فَإِنَّك مَيِّت، وَأَحْبِبْ مِنْ شِئْت فَإِنَّك مُفَارِقه، وَاعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّك مُلَاقِيه[3].
وَمِن النَّاس مَنْ يُعِيد الضَّمِير عَلَى قَوْله: رَبّك أي: فَمُلَاقٍ رَبّك، وَمَعْنَاهُ فَيُجَازِيك بِعَمَلِك وَيُكَافِئك عَلَى سَعْيك، وَعَلَى هَذَا فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَلَازِم، قَالَ الْعَوْفِيّ عَن اِبْن عَبَّاس: يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا" يَقُول: تَعْمَل عَمَلًا تَلْقَى اللَّه بِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا.
قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ما المقصود بالإنسان هنا؟ لاحظ السورة مكية، بعضهم يقول: جنس الإنسان، وما مضى من أن الغالب في السورة المكية أنه يراد بالإنسان الكافر هذا قبل أن يحكم به ينبغي النظر إلى السياق، فهنا السياق عام في جنس الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، ثم ينقسم الناس بعد ذلك إلى آخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، فلا يمكن هنا أن يقال: الإنسان الكافر.
يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا الكدح في اللغة: هو السعي في الشيء بجهد، بصرف النظر هل هذا الجهد في خير أو شر، أو مستوي الطرفين يعني لا خير ولا شر، هذا الكدح السعي بجهد، كمن يكدح في طلب العيش، والمعنى يا أيها الإنسان إنك ساعٍ إلى ربك في عملك.
وبعضهم يقول: ساع إلى لقائه، إلى لقاء ربك، وإن أريد بهذا المعنى -في لقاء ربك- أن هذا يتضمن العمل الذي يصدر من الإنسان فإن الإنسان حارث وهمام، فهو لا ينفك عن عمل ولا عن هم وإرادة، وإنما تصدر الأعمال ابتداء من الهم والإرادة.
وبعضهم كقتادة والضحاك يقول: "كادح إلى ربك" يقول: عامل لربك عملاً فملاقٍ عملك، ابن قتيبة يقول: عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك، أي: تلقى ربك بعملك، وابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: ساعٍ إلى ربك سعيًا وعامل عملاً، السعي في اللغة يأتي بمعنى العمل -أيضًا، كما يأتي بمعنى المشي أو ضرب من المشي، فالسعي هنا يمكن أن يفسر بالعمل، ساعٍ إلى ربك، ابن كثير يقول: ساع إلى ربك بمعنى عامل، هكذا قال بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم.
فهنا السعي هذا الذي بمعنى أن الإنسان منذ أن يولد يخرج من بطن أمه والساعة لا تتوقف فهو منطلق مثل الرصاصة حتى تبلغ مداها، يعني كل يوم العمر ينقص، فهو ليس في زيادة، هو يظن أنه يكبر وينمو، نعم هو يكبر في الصورة وينمو لكن الواقع أنه منذ أن ولد وعمره في نقص إلى أن يموت، فهذا الإنسان في هذه الحياة في هذا المسير في هذه الرحلة تصدر منه أعمال كثيرة، وأقوال وممارسات، فهو يعمل ولم يزل يعمل.
يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح أي: ساعٍ، يفسر السعي هنا بالسير إلى الله، هذا السير إلى الله ما هو؟ ما طبيعته؟ المشي على الأقدام؛ لأن السعي يأتي بمعنى الضرب من المشي، لا السعي بمعنى العمل، ساعٍ إلى ربك، فيكون الكدح هنا بمعنى العمل، فابن كثير يقول: ساعٍ إلى ربك سعيًا أي عامل يعمل فملاقيه.
والضمير في قوله: فَمُلَاقِيهِ إذا تبين أن الكدح هو العمل بجهد فكل إنسان يعمل كما قال النبي ﷺ وهذا من أحسن ما يفسر به: كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها[4]، يعني كل الناس في كدح وعمل، فلم تزل خواطره وفؤاده كل ذلك يتوقد بالإرادات والأفكار والخواطر، وجوارحه لا تكاد تتوقف، فهو يعمل لكن هذا العمل إما أن يقربه، وإما أن يبعده، إما أن يوبقه، وإما أن يخلصه، كل الناس يغدو، فهذا معنى يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، الكدح هنا آخر ما ذُكر، "فملاقيه" الضمير يرجع إلى ماذا؟
كادح إلى ربك فملاقيه: ملاقٍ ربك، أو كادح إلى ربك كدحًا كما قال الله : فَمُلَاقِيهِ أي: ملاق الكدح باعتبار أنه آخر مذكور، فإلى أي شيء يرجع الضمير؟ إذا عملنا على قاعدة الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو "كدحًا" فيكون ملاق كدحك، ستلقى عملك، وهذا دل عليه القرآن، والله يقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف:49]، ويَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [سورة النبأ:40] فهو يلاقي عمله، فهذا المعنى صحيح.
فَمُلَاقِيهِ أي: فملاق عملك، ستجد نفس العمل الذي عملته، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الرب -تبارك وتعالى: كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فملاق ربك، وهذا المعنى صحيح، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:30]، فالله يحاسب عبده، والعبد يلقى ربه للحساب والجزاء، فهذه المعاني صحيحة، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة لاسيما إذا كان بين هذه المعاني ملازمة، فإذا كان العبد سيلقى ربه فإنه يجازيه على عمله، فهذا يقتضي أنه يلاقي عمله، فالعبد يلقى عمله ويلقى ربه، وهذا مما يمكن أن تجمع فيه الأقوال لاحتمال مرجع الضمير، وله نظائر كثيرة في القرآن، وذكرنا في مناسبات شتى أمثلة لذلك منها آية الكرسي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] علم ماذا؟ من علم الله، أو من علم ما بين أيديهم وما خلفهم؟
هنا أحد القولين يتضمن الآخر، فعلم الله من ضمنه علم ما بين أيديهم وما خلفهم، فهو بعض علم الله ، فمثل هذا لا إشكال في أن يقال: يرجع الضمير إلى هذا وهذا، والله أعلم.
يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك عامل إلى ربك فملاقيه، فملاق ربك وأنت أيضًا ستلاقي عملك، بعضهم يقول: ملاق كتاب عملك، الكتاب دونت فيه الأعمال، وبعضهم يقول: تلاقي ربك بعملك، يعني جمع بين القولين، هذه عبارة ابن قتيبة -رحمه الله، هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير قال: وعلى هذا فكلا القولين متلازم.
قال العوفي عن ابن عباس: يقول: تعمل عملاً تلقى الله به خيرًا كان أو شرًّا، لاحظ هذه العبارة لو ثبتت عن ابن عباس، لكن المعنى جيد، إذا تأملت العبارة فهي تتضمن القولين، تلقى الله بعملك، ورواية العوفي عن ابن عباس ضعيفة، لكن المعنى حسن، وهذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله، تلقى ربك بعملك، فيكون الضمير يرجع إلى الرب -تبارك وتعالى- وإلى العمل.
هذا تفسير ظاهر واضح ثابت عن رسول الله ﷺ بأن هذا الحساب هو العرض فقط، يعني أنه تعرض عليه أعماله عرضًا مجملاً دون أن يناقَش الحساب ويدقق معه في ذلك.
وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ أهله هنا يقول: يرجع إلى أهله في الجنة، قاله قتادة، إلى أهله في الجنة من هم؟
يحتمل أن يكون الأهل بمعنى الذين هم من عشيرته في الجنة، كما يقول بعض أهل العلم، ويحتمل أن يكون الزوجات والأولاد والذين سبقوه إلى الجنة ينقلب إليهم مسرورًا، ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما أعد له في الجنة من الحور والولدان ينقلب إليهم مسرورًا، أو أن المراد جميع ذلك، يرجع إلى أهله مسرورًا.
وجاء عن قتادة أنهم أهل أعدهم الله له في الجنة، ولكن هذا يحتمل، ومن سبقه من أهله في الجنة فإنه لا شك يصير إليهم ويلحق بهم، ويكون في غاية السرور، وهذا أيها الإخوان هو السرور الحقيقي، وهذه الغبطة الحقيقية، وهذا هو النجاح الحقيقي أن الإنسان في ذلك اليوم لمّا تعطى الصحف لأصحابها يأخذ كتابه بيمينه، فهذا هو الذي يطير فرحًا، ويقول بأعلى صوته أمام الخلائق: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [سورة الحاقة:19- 22] هذا هو الفوز الأعظم، الفوز الأكبر، هذا هو الفوز الكبير.
وأما من أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره -نسأل الله العافية- فهذا هو الذي يخسر الخسارة التي ليس بعدها خسارة، فهذا الذي يكون في حسرة يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ [سورة الحاقة:25، 26]، هذا الذي لا يستطيع أحد أن يتوسط، ولا يتدخل، ولا يشفع، ولا يدفع، ولا يعاوض، ولا يساوم، ولا بالقوة، إنما الهلاك المحقق هو مصيره -نسأل الله العافية، وهذا الفراق الذي ليس بعده لقاء، والعذاب الذي ليس بعده راحة، فما يحصله الإنسان في الدنيا من نجاح في دراسة أو نجاح في عمل أو وظيفة أو مال أو كسب في تجارة أو غير ذلك مما يفرح به الناس هذا فرح لا يذكر، ونجاح لا يذكر بالنسبة للنجاح الحقيقي، قد يتعثر الإنسان في الدنيا في مشروعات، في تجارة، يتعثر في عمل، يتعثر في دراسة، يتعثر ثم ماذا؟
يعيد الكرة ثانية وثالثة، وما مات هؤلاء الذين تعثروا من الجوع، بل لربما صرفهم ذلك إلى ما هو أجدى وأنفع، فترى الرجل الذي تعرفه ولم يفلح في دراسة إذا لقيته بعد سنين إذا هو في حال قد فتح الله عليه، لو أعطيته ما أعطيته من الأموال على أن يرجع إلى دراسته التي أخفق فيها لا يرجع، ورأينا هذا، لكن الإخفاق الحقيقي هناك إذا أخذ الكتاب بشماله.
النجاح الحقيقي هناك إذا أخذ الكتاب باليمين، فهذا الذي ينبغي أن تتوجه إليه الهمم والأعمال، وأن يشتغل الإنسان في تحقيقه، وتحقيق هذا المطلب هو العمل في هذه الحياة الدنيا، امتداد الحياة من أولها إلى آخرها، أن يسخر ذلك في طاعة الله والعبودية له من أجل أن يفوز هذا الفوز الحقيقي، وإلا فالدنيا قصيرة، لا شيء، والذين ماتوا هم أسرى في القبور ينتظرون البعث من أجل أن يأخذ الواحد كتابه في هذا أو في هذا، ليس هناك مجال للتوبة في القبر ولا أعمال صالحة، ولا استدراك، ولا مراجعة، هو ينتظر فقط، هذا يقول: ربي أقم الساعة، وهذا يقول: ربي لا تقم الساعة.
إذًا الواحد لا يدري متى يموت، ونحن كل يوم في كل فرض يُصلَّى على جنائز، فيحتاج الإنسان أن يفكر وأن ينظر ويطرد أسباب الغفلة ويجدّ ويجتهد؛ من أجل أن يفلح، ويأخذ كتابه بيمينه، هذا هو الفوز الحقيقي الذي ليس بعده كدر، ولا تنغيص، ولا مرض، ولا صداع، ولا ألم، ولا مشكلات، ولا إزعاج، ولا لغو، ولا تأثيم، الراحة الكاملة، والله المستعان.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة، برقم (578).
- رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الجهر في العشاء، برقم (732).
- رواه أبو داود الطيالسي، برقم (1862)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4355).
- رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، برقم (6171)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب، برقم (2876)، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب عيادة النساء، برقم (3093)، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2426).