بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- بعدما ذكر نعيم أهل الإيمان -على عادة القرآن في الجمع بين ما يحصل به الخوف والرجاء: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [سورة المطففين:29]، أهل الإجرام في الدنيا يسخرون ويستهزئون ويتندرون بأهل الإيمان، فهذا الضحك إنما منشؤه الاستخفاف والازدراء والسخرية لاحتقارهم إياهم، فهم لا يرونهم شيئًا، لا قيمة لهم، يرون أنهم لا يمثلون حقًّا.
وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [سورة المطففين:30] بأي لون من ألوان الإشارة بالعين أو بتعابير الوجه أو باليد أو غير ذلك، وهذا الغمز معروف، بمعنى أنه يشير إلى صاحبه، انظر إلى هذا، يفعل ذلك احتقارًا له وسخرية منه.
وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ [سورة المطففين:31] في القراءة الأخرى فاكهين يعني إذا رجع هؤلاء من أهل الإجرام إلى أهلهم رجعوا في حال مشابهة حيث يتندرون بهؤلاء المؤمنين، ويتضاحكون منهم، ويتفكهون في أعراضهم، وفي الوقت نفسه هم أيضًا في حال من الترهل في العيش والتوسع في الملاذ، فهم منغمسون في ملذاتهم وشهواتهم مع اشتغالهم بأهل الإيمان يسخرون منهم ويؤذونهم.
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ [سورة المطففين:32] يحكمون عليهم بالضلال وهم لم يعرفوا الحق أصلاً حتى يميزوا في ذلك، فيحكمون على الناس بجهل، يقولون: هذا ضال وهذا مهتدٍ بمعاييرهم ومقاييسهم الفاسدة التي لا تقوم على أصل صحيح.
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [سورة المطففين:33] هذا ليس من شأنهم وما كُلفوا بهذا، يحفظون عليهم أعمالهم ويحصون ما صدر منهم.
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [سورة المطففين:34] يوم القيامة في اليوم الآخر في الجنة أهل الإيمان يضحكون من الكفار الذين كانت أنظارهم لا تجاوز آنافهم، يعتقدون في أنفسهم بُعد النظر وحسن النظر في الأمور، ومعرفة المقاييس والمعايير الصحيحة للحق والباطل، ويوم القيامة يصيحون ويضجون ويدعون على أنفسهم بالويل والثبور في نار جهنم، وأهل الإيمان يتفرجون ويضحكون وينظرون، انظر إلى هذا، انظر إلى ذاك، الذين كانوا يسخرون منا ويؤذوننا في الدنيا، وشتان بين من سخر في هذه الدنيا الفانية القصيرة وبين من يسخر في اليوم الحق الذي يجزى الناس فيه بمثاقيل الذر، شتان بين من حصل له الفوز الأكبر وتلقى كتابه بيمينه، ودخل الجنة، ومن تلقى كتابه بشماله من وراء ظهره ثم سحب إلى النار.
قال: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [سورة المطففين:35] فهذا الضحك الذي يكون من أهل الإيمان يكون حينما يصيرون إلى الجنة ويجلسون على الأرائك، وعرفنا أنها السرر ذوات الحجال التي عليها ما يكون كالمظلة فوق السرير، فهذه هي الأرائك يَنظُرُونَ يتنعمون ينظرون إلى الله -تبارك وتعالى، ينظرون إلى أنواع النعيم، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المطففين:36] هل جوزوا؟ هل هذا جزاء لهم؟
الجواب: نعم، وأيّ جزاء، هذا جزاء لا شك أنه هائل، ومصير سيئ صاروا إليه بسبب سوء أعمالهم وكثرة إجرامهم، وكفرهم بالله .
ثم قال الله في هذه السورة "سورة الانشقاق" التي تتحدث أيضًا عن اليوم الآخر، وتتحدث عن سير الإنسان منذ مبدئه ونشأته إلى أن يصل ويصير إلى الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة: إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ [سورة الإنشقاق:1] يعني انفطرت وتصدعت.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [سورة الإنشقاق:2] استمعت أمرها فأجابت وحُق لها أن تستجيب، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [سورة الإنشقاق:3] بسطت ووسعت وأزيل ما عليها من جبال، وصارت مستوية تتسع للناس من الأولين والآخرين يحشرون في صعيد واحد، هذه الأرض استجابت لأمر الله حيث ألقت ما فيها وتخلت، ألقت ما فيها من الموتى، ألقت ما فيها من أساطين الذهب من الكنوز، أخرجت ما بأجوافها وتخلت عنهم.
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [سورة الإنشقاق:6] هذا مسير الإنسان في هذه الحياة حتى يصير إلى ذلك اليوم الذي تحصل فيه هذه الأهوال والأوجال.
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ خطاب لجنس الإنسان المؤمن والكافر إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ تعمل وتكدح بجد بعمل دءوب، هذا العمل يفضي في النهاية إلى حجز مقعد في الجنة أو حجز مقعد في النار، فهذا العمر هو الأنفاس، فهي صناديق للعمل فإما أن تملأ هذه الخزائن بالطاعات، وإما أن تملأ بالمعاصي، ثم يفضي الناس إلى القيامة والحساب فتفتح هذه الخزائن -صحف الأعمال، ثم بعد ذلك يحصل التغابن الكثير بين الناس، فهذا اشترى منزلاً في الجنة، وهذا اشترى منزلاً في النار، الكل يغدو، كل الناس يغدو، كلهم يعمل.
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فملاقٍ هذا الكدح حيث يعرض على الإنسان العمل، ويرى ما قدم وأخر، وكذلك هو سيلاقي ربه -تبارك وتعالى- فيحاسبه على أعماله، فالضمير يرجع إلى الله -إلى الرب، ويرجع أيضًا إلى العمل.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الإنشقاق:7] فهذا الذي يعطى الكتاب بيمينه هم أهل السعادة، وهذه أمارة الفلاح والنجاة والفوز الأكبر، أخْذُ الكتاب باليمين، فهنا "فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا" تعرض عليه أعماله عرضًا جُمْليًّا، يعني من غير استغراق في التفاصيل، ومحاسبة على الصغير والكبير، وإنما يعرض ذلك عليه مجرد عرض، فهذا هو الذي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [سورة الإنشقاق:8، 9] ينقلب يرجع إلى أهله ممن سبقه منهم في الجنة، يرجع إليهم مسرورًا يبشرهم يخبرهم، أو يرجع إلى ما أعد الله له في الجنة من أهلين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين، وللمسلمين أجمعين.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ [سورة الإنشقاق:10] أي: بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه، ويعطى كتابه بها كذلك.
يعني هنا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ هذا لا يخالف ما جاء من أخذ كتابه بشماله فإنه يأخذ الكتاب بشماله ويكون -والله تعالى أعلم- بهذه الصفة تلوى يده من وراء الظهر جزاء وفاقًا، كما أنه أعرض عن ربه -تبارك وتعالى- وجعل كلامه وراء ظهره، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19] الجزاء من جنس العمل، تركوا العمل بطاعته والإيمان به فأنساهم أنفسهم، صار شغلهم فيما يضرهم، أنساهم العمل بما ينفعهم، بما يرفعهم، صار اشتغالهم والتذاذهم بما يعود عليهم بالعطب والهلاك، وهنا جعلوا كتاب الله وراءهم ظِهريًا فأخذوا كتاب الأعمال من وراء ظهورهم، والله -تبارك وتعالى- حكَمٌ عدل، هؤلاء الفريق الذين يأخذون الكتاب بالشمال هم أهل الشمال -نسأل الله العافية، هذا حينما يأخذ كتابه بشماله انظروا ماذا يكون.
يَدْعُو ثُبُورًا يعني يصيح بأعلى صوته واثبوراه، يدعو بالثبور، يدعو بالويل، يدعو بالهلاك، واثبوراه، واويلاه، واويلتاه، لكن لو صاح حتى ينشق حلقه ما كان ذلك يغني عنه شيئًا، تجلَّدَ، صبَرَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [سورة الطور:16] لا ينفعكم ذلك، تجلدوا أو لا تتجلدوا، أظهِروا الجزع أو لا تظهروا الجزع كل هذا لا يغني، كما قالوا: سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [سورة إبراهيم:21].
هنا قوله: وَيَصْلَى سَعِيرًا كما سبق من أن صلْي النار يكون بدخولها وبمقاساة حرها، "ويصلى سعيرًا" نارًا تتسعر، والسعير من أسماء النار -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها.
وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا "إنّ" هذه تفيد التعليل، وهذا الذي يسمونه بدلالة الإيماء والتنبيه، وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ لماذا يصلى سعيرًا؟ "إنه.." فـ"إنه" هنا تفيد التوكيد، وتفيد التعليل كأنه يقول: لأنه كان في أهله مسرورًا، والسرور هل هو مذموم؟ سرور هؤلاء مذموم، السرور الذي يكون بالرضا بالحياة الدنيا والتنعم بها بعيدًا عن الله والدار الآخرة، وبعيدًا عن الإيمان هذا سرور مذموم؛ ولهذا أهل الجنة حينما يدخلون الجنة ماذا يقولون؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34].
ولهذا جاء عن بعض السلف كالحسن: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف ألا يكون من أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ معروف أن الحزَن يكون على أمر مضى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ هم في الدنيا في حزن؟ يحزنون على شيء مضى؟
الجواب: لا، الحزَن قد يعبر به عن الخوف، الخوف هو قلق من أمر مستقبل، والحزَن لأمر ماضٍ، هذا الأصل، لكن قد يستعمل الحُزْن والحَزَن في أمر مما يتخوفه الإنسان، فهو يرجع إلى قلق قد يكون في الماضي وقد يكون في المستقبل، والغالب في الاستعمال أنه يكون للماضي، هذا بالنسبة للحزن، فهم يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.
هذا الحزن مفسَّر، الذي قالوه مفسر بأنه الحزن للدار الآخرة الإشفاق، وإلا فالحزن في الدنيا غير مطلوب أيضًا كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: إن الحزن إذا تتابع على القلب أفسده وأعطبه وأضعفه، يضعف قوى القلب فلا ينتفع بعمل دنيا ولا عمل آخرة -نسأل الله العافية؛ ولهذا استعاذ النبي ﷺ من الحزن، فهو غير مراد إلا أن يكون ذلك من جراء الخوف من الله في الدار الآخرة.
إن المؤمن ليصبح حزينًا، ويمسي حزينًا، وما يسعه إلا الحزن، هذه عبارات بعض السلف، ماذا يقصدون به؟ الحزن من الآخرة، أما الحزن على الدنيا وعلى ما فعل إلى آخره فهذا غير مطلوب، ما فاته من لذات، ما فاته من تجارات، ما فاته من هذا غير مطلوب، ولهذا كان الله ينهى نبيه ﷺ عن الحزن على هؤلاء المكذبين الذين لا يؤمنون ولا يستجيبون، فنهاه عن ذلك، لا تحزن عليهم، فهؤلاء ممن وصف الله من أهل النار إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [سورة الإنشقاق:13].
ما كان يشفق من الآخرة، ولا كان يحسب لهذا حسابًا، وإذا صدرت منه الأعمال السيئة ما يندم، ولا يحرك ذلك فيه عرقًا؛ لموت قلبه، أما المؤمن فإنه يشعر أن ذنوبه كالجبل يكاد يسقط عليه، فهو خائف، ويتوب، ولهذا من شروط قبول التوبة وصحتها الندم، وهذا الندم هو حزن يستقر في القلب، أما هؤلاء فإنهم لا يعرفون الله فلا يحصل لهم هذا الندم إطلاقًا على أعمالهم السيئة القبيحة.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه، وأن ينظر هل قلبه يتحرك إذا عصى الله، هل هو مشفق من الدار الآخرة؟ أو أنه يضحك بملء فيه؟ تفوته الصلاة ويضحك بملء فيه، ويضيع حقوق الله، ويفعل المعاصي والجرائم، ويضحك بملء فيه، يخرج من المعصية ويضحك، هذا يكون القلب قد وصل إلى حالة من الضعف وربما الموت فلا يتأثر.
ولهذا النبي ﷺ استعاذ من الحَوْر بعد الكَوْر[1]، يعني الرجوع بعد أن يكون أمر الإنسان على حال سوية وينتظم، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [سورة النحل:92]، بعدما صار على حالة من الاتساق، صار على حال مرضية، صار على حالة طيبة من الإيمان والعمل الصالح، يتراجع، الحَوْر بعد الكَوْر، من كَوْر العمامة حينما تلف العمامة على الرأس، فالحوْر بمعنى الرجوع، تقول: حار الماء، يأتي الماء يأتي السيل إلى مكان لا يستطيع أن يعبر، يأتي ما يحجزه فيحُور أي يرجع.
لا يخفى عليه منه خافية، فالله -تبارك وتعالى- بصير بعباده، وإن ظن العبد أن أعماله قد لا يجازَى عليها لكفره، أو لغلبة غفلته، أو لم يحسب لذلك حسابًا، لكن حينما تعرض عليه الصغار والكبار يدرك ذلك، فالله بصره نافذ بعبده يراه في كل أحواله وتقلباته، كما قال الله -تبارك وتعالى- على أحد المعاني في التفسير في أولائك الذين كانوا في الجاهلية على الشرك حيث الواحد منهم يتصرف تصرفًا بزعمه أنه يستحي من الله -تبارك وتعالى: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة هود:5]، بعدما قال: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ.
يثنون صدورهم ليستخفوا منه على أحد المعاني، يعني أن الواحد منهم إذا جلس لقضاء حاجته انحنى بظهره ليكون ظهره بين عورته والسماء حياء من الله على أحد المعاني، فالله يقول: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ الواحد منهم يلتحف بلحافه لينام الله يعلم ما يدور في نفسه، هذا المعنى أنه ظن أن لا يحور: أن لا يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- بنحوه أيضًا قال ابن جرير -رحم الله الجميع.
قبل هذا "إذا" في قوله: إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ أين جوابها؟ الآن بدأ بقسم جديد فأين الجواب؟
بعضهم كالفراء يقول: إن الجواب وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ هذا الجواب أذنت وألقت، طيب والواو؟ يعني الجواب لا تكون الواو داخلة عليه، يعني يكون هكذا إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يعني إذا السماء انشقت أذنت لربها وحقت، يقول: الواو زائدة، وذكرنا أن هذا التعبير لا يحسن، لكن هم يقصدون زائدة إعرابًا، وعليه فلا تكون عاطفة إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا يكون "ألقت" جوابًا لما قبله وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [سورة الإنشقاق:3].
وهذا ليس بظاهر -والله أعلم، فقد رده عليه بعض أهل العلم كابن الأنباري قال: غلط، وعللوا ذلك بتعليلات لا حاجة للتوسع في مثل هذا في هذا المقام.
وبعضهم يقول: الجواب هو قوله: فَمُلَاقِيهِ يعني فأنت ملاقيه، هذا قول الأخفش، وبعضهم يقول: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا خلاف الأصل أيضًا؛ لأنه مهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح من الترتيب الذي ذكره الله تعالى فهو مقدم على دعوى التقديم والتأخير؛ لأن الأصل أن الكلام على النسق المذكور في الآيات، فالمبرد يذكر هذا يقول: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ، متى تلاقيه؟ إذا السماء انشقت.
وهذا بعيد، والله -تبارك وتعالى- لا يخاطب الناس بخطابات تكون محاملها على معانٍ لا تخطر في بال السامع فضلاً عن أن تكون هي المتبادرة أو غير المتبادرة -والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن الجواب: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ يعني إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ فيحصل انقسام الناس، تفاوت الناس، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وهذا قول الكسائي، وهذا من حيث النظر -والله أعلم- لا يكون ذلك بعيدًا متكلفًا فهو محتمل، إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا.
وبعضهم يقول: إن الجواب هو "يا أيها الإنسان"، "إذا السماء انشقت يا أيها الإنسان" قالوا: مع إضمار الفاء أي فيا أيها الإنسان، وكأن قول الكسائي أقرب للسياق، والله أعلم.
رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَعُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي هُرَيْرَة وَشَدَّاد بن أَوْس وَابْن عُمَر وَمُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَمَكْحُول وَبَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيّ وَبُكَيْر بْن الْأَشَجّ وَمَالِك وَابْن أَبِي ذِئْب وَعَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة الْمَاجِشُون أَنَّهُمْ قَالُوا: الشَّفَق الْحُمْرَة، وَروى عَبْد الرَّزَّاق عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: الشَّفَق الْبَيَاض، فَالشَّفَق هُوَ حُمْرَة الْأُفُق، إِمّا قَبْل طُلُوع الشَّمْس كَمَا قَالَهُ مُجَاهِد، وَإِمّا بَعْد غُرُوبهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أَهْل اللُّغَة.
قَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: الشَّفَق الْحُمْرَة مِنْ غُرُوب الشَّمْس إِلَى وَقْت الْعِشَاء الْآخِرَة فَإِذَا ذَهَبَ قِيلَ: غَابَ الشَّفَق، وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: الشَّفَق بَقِيَّة ضَوْء الشَّمْس وَحُمْرَتهَا فِي أَوَّل اللَّيْل إِلَى قَرِيب مِنْ الْعَتَمَة، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَة: الشَّفَق الَّذِي يَكُون بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو -رضي الله عنهما- عَنْ رَسُول اللَّه ﷺ أَنَّهُ قَالَ: وَقْت الْمَغْرِب مَا لَمْ يَغِب الشَّفَق[2]، فَفِي هَذَا كُلّه دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّفَق هُوَ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ وَالْخَلِيل.
وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، والحديث يدل على هذا، وإليه يتوجه الذهن عند الإطلاق، إذا قيل: الشفق فالمقصود به الحمرة، والمقصود به أيضًا الشفق الذي يكون مع مغيب الشمس، بعد غياب الشمس إلى دخول وقت العشاء، فهذا كله وقت الشفق، فهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم من أهل اللغة، ومن المفسرين، ومن الفقهاء، وهو الذي أضافه الواحدي إلى المفسرين قال: هذا قول المفسرين: الشفق الذي يكون بعد غياب الشمس، بل الواحدي يقول: وهذا قول أهل اللغة جميعًا، مع أنك لو تتبعت كلام أهل اللغة تجد من يذكر أشياء لكن يمكن أن تُوجَّه، لكن هذا الذي يكاد يطبق عليه أهل العلم، وعامة أهل العلم، ولذلك حكاه القرطبي -رحمه الله- عن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء.
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فأقسمَ بالشفق ثم أقسمَ بالليل، فالشفق يكون مقدمة لليل، والذين عبروا عن ذلك بالنهار كأنهم قابلوا ذلك بالليل، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ولكن هذا بعيد، وهكذا من عبر عنه بالبياض كأنه نظر إلى هذا إلى ذكر الليل، ولكن الشفق هو مقدمة الليل، والله أقسم بالليل في حال إقباله كما سبق، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:2]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1] يعني أقبل، وكذلك في قوله: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ يحتمل هذا وهذا؛ لأنه من الأضداد أقبل وأدبر.
فهذه كلها مظاهر تدل على عظمة الله وقدرته الباهرة، فأقسم بالشفق وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فهذه كلها تكون في الليل، فالشفق مقدمته والقمر آيته فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:12]، يعني الشمس.
وفي قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:1-3] فالغاسق فسر بالقمر في أحد المعاني المشهورة في تفسيره، وأشهر الأقوال في قوله: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ أشهر الأقوال -على تعددها: أنه الليل أو القمر، وبين القولين ملازمة باعتبار أن القمر هو آية الليل، فهنا ذكر هذا جميعًا ذكر الليل وذكر القمر، وذكر الشفق، وعرفنا أن "لا" هذه لتأكيد القسم، وبعضهم يقول: نافية لأمر مقدر سابقًا أي لا لما تقولون مثلاً أقسم بالشفق، أو أنها نافية يراد بها نفي القسم، أي أن هذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم.
والأقرب أنها لتوكيد القسم.
هذا مفيد، يراجع الأصل
قوله -تبارك وتعالى: وَاللَّيْل وَمَا وَسَقَ أقسم بالليل وما وسق، وسق أصله ضم الشيء بعضه إلى بعض، يعني وَاللَّيْل وَمَا وَسَقَ أي: حوى وجمع ولف كما يعبر المفسرون، وهي عبارات متقاربة، اللهم إلا ما جاء عن عكرمة أنه فسر وسق قال: وما ساق، فسره بالسوق، ساق، يعني جعله من السوق لا من الجمع، ما ساق من ماذا؟
ما ساق من ظلمة، ما ساق من الذوات والمخلوقات التي تأوي إلى أماكنها ومحالها وبيوتها أو ما ساق من شرور شياطين وما إلى ذلك، فإن الليل يكون مظنة لانتشار الشياطين، شياطين الإنس والجن، ولهذا النبي ﷺ أمر بكف الصبيان عند إقبال الليل حتى تذهب فحمة العشاء؛ لأنهم ينتشرون -وقت الانتشار الآن- وتنتشر الهوام والسباع في الليل، ولهذا جاء في الاستعاذة في سورة الفلق، قال: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ قلنا: الليل، أو قلنا: القمر وهما متلازمان، لماذا الاستعاذة؟
لأنه في الليل تنتشر هذه الشرور في الظلام أكثر من النهار، عكرمة فسره بالسوق، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا أنه بمعنى الضم والجمع واللف، جمع ولف وضم كل ما جنه وستره، "وما وسق"، انظر إلى قول الشاعر البائس المسكين الذي يبحث عن أدنى سبب يربطه بمحبوبته فلم يجد شيئًا من قرابة ولا صلة ولا نسب فقال:
أليس الليلُ يجمع أمَّ عمرٍو | وإيّانا فذاك بنا تدانِي |
هذا قرْب، يعني هناك عامل مشترك شيء يجمع بيني وبينها، ما هذا الذي يجمع بينك وبينها؟ قال: الليل يجمع بيننا، هي عندها ليل وأنا عندي ليل.
وتَرى الهلالَ كما أراه | ويعلوها النهارُ كما علانِي |
هو يبحث عن أي شيء، أي وجه من الاشتراك والجمع بينه وبين محبوبته، فما وجد إلا الليل، وأنها ترى الهلال، وأن النهار يعلوهما معًا فهذا نوع اشتراك وارتباط مع أن الليل -الظلام- يجمع الشياطين ويجمع الأشرار، ويعلو الجميع.
فهنا وما وسق فُسر بما جنّ وستر، أو ما حمل، كل هذه معانٍ متقاربة، كل شيء حملتَه فقد وسقتَه، فهذا الليل ينتشر بظلامه فيغطي ناحية المعمورة، في الوقت نفسه الذي يحمل فيه الظلمة أو يحمل ما يحمل من كواكب تخرج في الليل وما إلى ذلك، كما يقول طائفة من السلف كقتادة والضحاك ومقاتل: تسكن فيه الأرواح، ويرجع الناس إلى بيوتهم، والطير وما إلى ذلك، الكل يأوي إلى ناحيته.
نحن قد لا نشاهد الآن الحياة على طبيعتها التي فطرها الله عليها؛ لأن الناس تحول ليلهم إلى نهار، لكن إلى عهد قريب إلى وقت قريب كان الناس يشاهدون ذلك فإذا جاء الغروب بدأ كل شيء يرجع، رجع أهل الزراعة والفلاحة والصناعة وأقفرت المتاجر والأسواق حتى الدواب والبهائم ترجع من نفسها، يعني لا تحتاج إلى سائق، إذا جاء وقت الغروب رجعت هذه الدواب مستقبلة دور أهلها كل واحدة تعرف.
حتى إنه إلى عهد قريب في القرى والنواحي والأرياف ونحو هذا تجد القرية لها راعٍ واحد، فهؤلاء عندهم شاة، وهؤلاء عندهم ثلاث، وهؤلاء عندهم خمس، فإذا جاء وقت ما بعد الفجر سرّحوها، فتذهب ترتع مسرعة تستقبل تلك الناحية التي تنطلق منها مع الراعي، ثم تذهب سائر اليوم فإذا جاء وقت الغروب أقبلت وقد امتدت خواصرها وامتلأت ضروعها مسرعة لا تلوي على شيء، كل واحدة من هذه البهائم تستقبل دار أهلها فتلج، هذا شيء مشاهد معروف يعرفه الناس.
ولهذا يقول ابن جرير: "والليل وما وسق" وما جمع مما سكن فيه من ذي روح، الناس يرجعون إلى بيوتهم، الطيور ترجع، البهائم ترجع فتهدأ، هذا الذي يطير يذهب إلى وكره، وما يدب يرجع إلى موضعه، فهذا معنى وسق -والله تعالى أعلم، فيحمل على هذه المعاني كلها، وما وسق: ما حمل من ظلمة، وما جمع.
يعني هنا الليل وما حوى بظلمته وما حمل فيها، وكذلك أقسم بالقمر في أكمل حالاته، وذلك إذا استدار معناه إذا استتم، المعنى واحد لكن هذا عبر باستدار وهذا قال: استتم.
فإنه لا يكون مستديرًا ولا تتم استدارته إلا إذا كان بحال الاكتمال؛ ولهذا يعبرون يقولون: امتلأ، اجتمع، لا يمتلئ ويجتمع إلا في حال الاكتمال، وذلك في ليلة الرابع عشر، وليلة الخامس عشر، هذه الليالي تجد بعض أهل العلم يقول: ليلة الثالث عشر، وليلة الرابع عشر، وليلة الخامس عشر يكون القمر في أكمل حالاته إلى السادس عشر، الليلة السادسة عشرة يكون القمر مكتملاً، فيكون ذلك معنى الوسق الذي هو الاكتمال أو الجمع، واتسق له هذا الأمر يعني اكتمل، أمر فلان متسق أي منتظم مكتمل مستقيم، اتسقت له الأمور يعني استتمت، فالقمر إذا اتسق معنى ذلك أنه اكتمل، فأقسم به في هذه الحال؛ لأن ذلك أحسن أحوال القمر، وأكمل أحوال القمر، وأجمل ما يكون عليه القمر، ولهذا يشبَّه به في الجمال، وجهه كالقمر في الحسن.
وقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ روى الْبُخَارِيّ عَنْ مُجَاهِد قَالَ: قَالَ اِبْن عَبَّاس: "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق حَالًا بَعْد حَال، قَالَ هَذَا نَبِيّكُمْ ﷺ"[3]، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ.
وَقَالَ عِكْرِمَة: طَبَقًا عَنْ طَبَق حَالًا بَعْد حَال، فَطِيمًا بَعْدَمَا كَانَ رَضِيعًا، وَشَيْخًا بَعْدَمَا كَانَ شَابًّا، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: طَبَقًا عَنْ طَبَق يَقُول: حَالًا بَعْد حَال، رَخَاء بَعْد شِدَّة، وَشِدَّة بَعْد رَخَاء، وَغِنًى بَعْد فَقْر، وَفَقْرًا بَعْد غِنًى، وَصِحَّة بَعْد سَقَم، وَسَقَمًا بَعْد صِحَّة.
قوله -تبارك وتعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ هذا جواب القسم، الآن فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ قلنا: هذا قسم، يعني أقسم بالشفق، وبالليل وما وسق، وبالقمر إذا اتسق، ثلاثة أقسام أو أكثر؛ لأن القسم هنا بالشفق وبالليل وبما وسق -يعني جمع- وبالقمر صارت أربعة، هذه الأقسام الأربعة على ماذا؟ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ هذا جواب القسم.
ما معنى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ؟
الآن عندنا القراءة بالفتح لتركبَنَّ وهي قراءة متواترة لحمزة والكسائي وابن كثير وأبي عمرو، هذا الآن "لتركبَنَّ" خطاب للواحد في ظاهره، وهو يحتمل أن يكون المراد به واحدًا وهو النبي ﷺ، يعني حالاً بعد حال من الشدة والرخاء، والضعف والقوة حتى التمكين، ومضى قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، لكن ابن جرير -رحمه الله- حمل ذلك على شدائد القيامة، يعني هنا ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- ما قيده، ماذا قال؟
قال: حالاً بعد حال، ابن جرير يقول: حالاً بعد حال من شدائد القيامة، والآية أطلق الله فيها ذلك فلم يقيده بالقيامة، والأصل بقاء ما أطلقه الله على إطلاقه، كما يبقى العام على عمومه حتى يرد المخصِّص أو المقيِّد، ولا يوجد عندنا ما يقيد ذلك، فهنا على هذه القراءة المتواترة "لتركبَنَّ" بعضهم قال: أي: النبي ﷺ، حالاً بعد حال، هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ مقتضى الإطلاق أن يبقى عامًّا.
وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى السماء، يعني السماء ستمر بأطوار وأحوال من الانفطار والانشقاق حتى تصير وردة كالدهان، ولكن هذا بعيد، والله أعلم.
وبعض أهل العلم يقول: إن هذه القراءة "لتركبَنَّ طبقًا عن طبق" خوطب بها واحد غير معين، فتكون بمعنى العموم، يصلح الخطاب لكل مخاطب، يعني يا أيها الإنسان، أو أن الله أقسم بهذه الأمور -أربعة أقسام- على هذه القضية "لتركبَنَّ طبقًا عن طبق" حالاً بعد حال، القراءة الثانية لَتَرْكَبُنَّ هذه واضح أنها للجمع وهو الناس.
والذين حملوا ذلك على النبي ﷺ بعضهم خصه بأمر حصل له في الدنيا وذلك ليلة المعراج، طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ يعني في عروجه في السماوات ﷺ كما جاء عن الشعبي ومجاهد، لتركبَنَّ يا محمد طبقًا عن طبق، يعني يعرج الله به فيصعد من سماء إلى سماء، وبعضهم يقول: درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة من رتب العبودية، والقرب من الله -تبارك وتعالى، ورفعة المنزلة، وبعضهم يقول: هذا في الشدائد، وابن جرير يحمله على الشدائد كما سبق لكنه حمله على شدائد الآخرة، وبعضهم أطلق الشدائد باعتبار أن مثل هذا التعبير عادة يقال في الشدائد، يقولون: أصابته بنات طبق، وقع في بنات طبق، يعني في مصائب، في شدائد.
فمن هنا حمله ابن جرير -رحمه الله- على الشدائد، ولكنْ كثير من أهل العلم حملوه على ما هو أعم من هذا طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ قالوا: حالاً بعد حال، يبدأ نطفة ثم علقة ثم يتخلق ثم تنفخ فيه الروح ثم يخرج طفلاً، ثم يكون يافعًا يشب، ثم بعد ذلك يصير كهلاً، ثم يصير شيخًا، ثم يموت ويصير إلى البرزخ، ثم يصير إلى القيامة، أو إلى الحشر، ثم بعد ذلك يصير إلى الجنة، طبعًا مع ما يجري في القيامة من حساب ووزن الأعمال، ونصب الموازين للناس، ثم الاجتياز على الصراط، والجنة أو النار.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حالاً بعد حال فهذا يكون الخطاب للإنسان يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ كما أشرت في أول السورة فيكون هذا بيانًا لحال هذا الإنسان وما يصير إليه، ولابدّ من أنه سينتقل من حال إلى حال، وأنه سيلقى من الشدة والأحوال والأطوار والرخاء أحوالاً متنوعة، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فهذه حقيقة أقسم الله عليها أربعة أقسام، وبناء على هذا المعنى يكون الإنسان قد وطن نفسه لتحمل الشدائد والصبر عليها؛ لأن هذا أمر لا مفر منه، والله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فمن ظن أن الدنيا هي محل الراحة فهو مخطئ، وإنما الراحة حينما يضع أول قدم له في الجنة، فتجد الإنسان اليوم مرتاحًا، وغدًا مشوش الذهن، يصبح الإنسان في حال من الانشراح والسرور والنشاط، نفسه متألقة، وفي يوم آخر يصبح في حال من الضيق والفتور، تمر به اليوم أمور تنشط قلبه وتقويه، ويفرح ويسر، ثم بعد ذلك تمر به أحوال يضيق بها الصدر.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فهذه طبيعة الحياة، مثل هذه الأجواء التي نراها: اليوم هواء، غدًا غبار، بعد غد رطوبة، بعد ذلك يأتي شتاء، بعده يأتي ربيع، صيف، خريف، كما تتقلب هذه الأجواء التي نشاهدها كذلك الحياة، هكذا طبيعتها لا تصفو لأحد لا كبير ولا صغير ولا قوي ولا ضعيف ولا غني، ولكن الإنسان في حال الابتلاء في حال الشدة في حال ما يكدر عليه صفو العيش يظن أنه هو الوحيد بمصيبته، فتضيق به الدنيا؛ ولذلك يتعزى في الدنيا بما يجري للآخرين، فإذا قيل له: فلان حصل له كذا، فلان حصل له مثلك، فلان حصل له كذا يتسلى، لذلك الخنساء تقول:
ولولا كثرةُ الباكين حولي | على إخوانهم لقتلتُ نفسي |
فإذا كثر المصاب وعم خف أثره على الناس، لكن حينما ينفرد الإنسان ببلية في مصيبة يظن أنه الوحيد، فيتعاظم ذلك في نفسه، فيغلب عليه الغم والحزن والهم، ولكن من عرف أن هذه هي طبيعة الحياة، وأن الله أقسم على هذا، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حالاً بعد حال فإنه لا يعجب، والحياة لا تدوم على حال واحدة ، وإنما تتغير وتتقلب بأهلها، وتجد هذا الإنسان الذي في غاية العافية صار مريضًا، وتجد هذا الإنسان الذي كان في نضارة الشباب بعد مدة تراه قد أصابه الشَّمَط وشاخ وذبل وضعف، ومثل هذا تجد هذا الغني صار فقيرًا، وبعدما كان هؤلاء بحال اجتماعهم واكتمال أمرهم وأحوالهم تفرقوا -والله المستعان، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ.
ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يلطف بهم، وأن يجعل العاقبة لهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم، وأن يحقن دماءهم ويحفظ أعراضهم، والله المستعان.
- رواه النسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الحور بعد الكور، برقم (5498)، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول إذا خرج مسافرا، برقم (3439)، وأحمد في المسند، برقم (20781)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ، برقم (4940).