بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ [سورة الإنشقاق:10] فهذا الذي يؤتى كتابه بشماله فتُدار يده وتلوى من وراء ظهره فيأخذ كتابه، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [سورة الإنشقاق:11] فهذا يدعو بالثبور والهلاك حينئذ.
وَيَصْلَى سَعِيرًا [سورة الإنشقاق:12] يدخل النار التي تستعر، ويقاسي حرها، يصلى: يُشوى بها، ثم ذكر حاله وعلة مآله: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [سورة الإنشقاق:13] بمعنى أنه لم يكن يخاف ويشفق من هذا اليوم ومن لقاء الله -تبارك وتعالى، ومن الجزاء والحساب، فكان في حال من السرور والتفكه والفرح الذي يحمل صاحبه على الأشَر والبطَر والغفلة والترك.
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ [سورة الإنشقاق:14] أن لن يرجع إلى الله -تبارك وتعالى، ولن يبعث، ويعاد من جديد، بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [سورة الإنشقاق:15] فالله هو الذي خلقه، وأحصى عليه الأنفاس، ودُونت أعماله جميعًا، وبصر الله نافذ فيه في جميع حالاته، وسيجازيه على ما فرط منه، ثم قال: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [سورة الإنشقاق:16] "لا" هذه لتأكيد القسم كما سبق، "أقسم بالشفق"، قلنا: إن الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس.
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [سورة الإنشقاق:17] أقسم بالليل وبما حواه ولفه وغطاه، وجمعه بظلامه، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [سورة الإنشقاق:18] أقسم بالقمر حال اكتماله واستوائه واستدارته وتمامه، ثم ذكر جواب القسم لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ [سورة الإنشقاق:19] يعني أن الإنسان سينتقل من حال إلى حال سواء كان ذلك في نشأته والأطوار المتعاقبة التي يمر بها من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصور في صورة إنسان، ثم يولد فالطفولة فالصبا، ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة وهكذا، ثم الموت، والبرزخ، ثم المحشر، وعَرَصات القيامة وما يلاقيه من الأهوال والمواقف، والحساب والجزاء، ثم بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار.
كذلك يركب الناس طبقًا عن طبق فيتنقلون ويتحولون في هذه الحياة الدنيا من شدة إلى رخاء، ومن رخاء إلى شدة، ومن عافية إلى مرض، ومن غنى إلى فقر، وأضداد ذلك، هكذا ركبت هذه الحياة فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ما الذي يحول بينهم وبين الإيمان؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين، وللمسلمين أجمعين.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [سورة الإنشقاق:20، 21] أي: فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؟ ومالهم إذا قرئت عليهم آيات الله وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظامًا وإكرامًا واحترامًا؟
هذا السجود الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: لا يسجدون إعظامًا وإكرامًا واحترامًا، فظاهر كلامه أن المقصود بهذا السجود السجود الحقيقي، إعظامًا لهذا القرآن واحترامًا وإكرامًا يعني السجود على الأرض، وهذا أصل معناه في الشرع، وضع الجبهة على الأرض.
وقد يستعمل في معنى الركوع، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا [سورة الأعراف:161] يعني: رُكّعًا، أمرهم أن يدخلوا في حال الانحناء تعظيمًا وتواضعًا وإخباتًا لله -تبارك وتعالى، والسياق هو الذي يبين ذلك، فهؤلاء كفار يَنعَى عليهم ربنا -تبارك وتعالى- عدم الإيمان وترك السجود عند سماع القرآن، فهذا المعنى السجود الحقيقي هو الذي حمله عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
وبعض السلف كالحسن وعطاء ومقاتل حملوا ذلك على الصلاة، لا يسجدون يعني لا يصلون، والصلاة قد يعبر عنها بأحد أركانها، من ذلك قوله -تبارك وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78]، والمقصود به الصلاة صلاة الفجر، ولما كانت القراءة مقصودة في صلاة الفجر وأن يطول فيها ويجهر عبر عنها بذلك، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43] المعنى أنها تصلي وليس المقصود أنها تصلي مع الجماعة، إنما تكون في جملة المصلين، ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [سورة الحج:77] أمرٌ لهم بالصلاة التي هذه من أركانها، فحمله بعضهم هنا على الصلاة، لكن هذا -والله أعلم- لا يخلو من بعد؛ لأنه قرنه هنا بقراءة القرآن وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ، هل معنى ذلك أنهم لا يصلون؟ وهل إذا قرئ عليهم القرآن يكون ذلك مطالبة لهم بالصلاة؟
هم مطالبون بالإيمان قبل كل شيء، قبل الصلاة، ولهذا فسره بعضهم بالخضوع؛ لأن هؤلاء ليسوا بأهل صلاة ولا تقبل ولا تصح منهم إلا بالإيمان، ففُسر بالخضوع، والسجود قد يعبر به عن الخضوع، وطوائف من أهل العلم يفسرون سجود الظلال أو سجود الأشياء لله -تبارك وتعالى- يعني ما لا يعقل بعضهم يفسره بالخضوع، يقولون: الخضوع والاستكانة، وهذا الذي اختاره ابن جرير، لا يخضعون لبراهينه وحججه ودلائله الدالة على صدقه.
وبعضهم يقول: المقصود بذلك سجود التلاوة، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ، وابن كثير مشى على هذا، والآية -والله أعلم- يدور المعنى فيها بينهما، يعني القول بأن المراد يصلون فيه بُعد، فإما أن يكون المراد بالسجود الخضوع، وإما أن يكون المراد به السجود الذي يكون للتلاوة تعظيمًا لهذا القرآن، وهذا السجود الذي يكون للتلاوة يتضمن الخضوع؛ فإن هذا الذي يسجد يتواضع ويخضع لربه -تبارك وتعالى، وهم لا يفعلون هذا ولا هذا، لا يحصل منهم لا السجود ولا الخضوع، بل لا تزيدهم آيات القرآن المنزلة إلا رجسًا على رجسهم كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم.
يعني بدلاً من الإذعان والإيمان يقابلون ذلك بالكفر، هذا يمكن أن يكون قرينة تقوي قول من قال: إن المقصود بذلك الخضوع، فهم بدلاً من أن يخضعوا لهذا القرآن وينقادوا قابلوا ذلك بالتكذيب، يكذبون.
يعني ما تنطوي عليه صدورهم، ما تكون صدورهم أوعية له، ما الذي تحويه هذه الصدور.
هنا قال قتادة ومجاهد: يكتمون في صدورهم، مقاتل يقول: يكتمون من أفعالهم، وهذا الذي يكتمونه في صدورهم يدخل فيه ما يكتمون من أفعالهم، ويدخل فيه ما يكتمونه من المقاصد السيئة، ويدخل فيه الكفر، كل ذلك داخل فيه، وابن زيد وسع المعنى، وفسره بما يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة، "يوعون" يعني لم يقيد ذلك بالصدور، أو بما يُكتم فيها، وإنما بما يجمعون، مأخوذ من الوعاء.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: ما يوعون يعني ما تُوعيه صدورهم من التكذيب، وقريب من هذا ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- حيث فسره بما يضمرونه في صدورهم، ويكتمونه، وما يسرونه من أعمالهم إلا أنه زاد عليه المعنى الآخر وهو ما يجمعونه من الأعمال فيجازيهم عليه بعلمه وعدله، فإن الله -تبارك وتعالى- أطلق ذلك قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ بكل ما يجمعون، سواء كان ذلك في صدورهم، في نفوسهم ويكنونه، أو كان ذلك من الأعمال التي تصدر عنهم، فالله قد أحصى ذلك وعلمه.
هنا البشارة استعملت فيما يسوء، والمشهور في الاستعمال والغالب أنها تقال فيما يسر، وأن ذلك لظهور أثر البشارة على الأبشار على البشرة بحيث يظهر أثر ذلك من السرور مثلاً ونحو ذلك، فقيل لها: بشارة، فالمشهور أن البشارة هي الإخبار بما يسر خاصة، وهذا ليس محل اتفاق، لكن هذا الذي عليه الأكثر من أهل العلم، وبعضهم يقول: تستعمل في هذا وهذا، وبعضهم يقول: تستعمل فيما يسوء مجازًا، وبعضهم يقول: هذا على سبيل التهكم، يعني حينما يعبر بالبشارة عن الأمر الذي لا يسر، وجاء هذا في كلام العرب، وهو معروف استعمال البشارة فيما يسوء، كما قال الشاعر:
يُبشرني الغرابُ ببيْنِ أهلي | فقلتُ له ثكلتُك مِن بشيرِ |
ببين أهلي يعني بفراقهم، فهذا استعمله فيما يسوء، فيما يكره.
أبشرتَني يا عمرو أنّ أحبتي | جفوْني وقالوا الودُّ موعدُه القبرُ |
بشره بأمر يسوءه فهذا معروف، لكن الغالب أنها تستعمل فيما يسر، وفي القرآن جاء استعمالها فيما يسوء، والبشارة فيما يسر وبما يسوء كل ذلك يظهر أثره على بشرة الإنسان.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة الإنشقاق:25] هذا استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا أي: بقلوبهم، وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي: بجوارحهم، لَهُمْ أَجْرٌ أي: في الدار الآخرة، غَيْرُ مَمْنُونٍ، قال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد والضحاك: غير محسوب، وحاصل قولهما أنه غير مقطوع، كما قال تعالى: عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108] وقال السدي: قال بعضهم: غير ممنون غير منقوص.
آخر تفسير سورة الانشقاق، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
قوله -تبارك وتعالى: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قال: استثناء منقطع، باعتبار أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات غير داخلين فيما وصف به هؤلاء الكفار الذين يكذبون، وأمر بتبشيرهم بالعذاب الأليم، فيكون إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بمعنى لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون، يعني غير منقوص أو مقطوع، كما قال الله : عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
وبعضهم فسره بالمحسوب، والمحسوب مظنة للانقطاع، ولهذا ابن جرير -رحمه الله- جمع بين المعنيين غَيْرُ مَمْنُونٍ فسره غير محسوب ولا منقوص، وبعضهم يفسر ذلك بالمنة يعني لا يحصل به منة عليهم يتأذون بها، فالعطاء إذا كان فيه نقص وهكذا الذي يحسب فإن الذي يحسب إنما يكون قليلاً.
ولهذا أخبر الله عن جزاء أهل الإيمان أنه بغير حساب، يعني حثوًا بلا كيل ولا ميزان، وإنما يعد ويحصى ويحسب الشيء القليل، والذي يحصل به منة يحصل به تأذٍّ، ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264] فهذه العطية إذا حصل معها منة فإن ذلك يؤذي، لكن الله -تبارك وتعالى- يمتن على عباده بما أعطاهم وأنعم عليهم، ومنته ليست من ذلك في شيء، يعني ليس ذلك مما يحصل به التأذي، لكن المقصود أنه عطاء لا تنغيص فيه، ولا كدر معه، فهو كثير لا ينقطع، ولا يحصل معه تأذٍّ بحال من الأحوال.
قال في الأصل: وهذا القول الآخر عن بعضهم قد أنكره غير واحد، فإن الله له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، ويُلهمون تحميده كما يلهمون النَّفَس، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
القول الآخر يقصد به المنة، فالمنة يحصل بها التأذي، لكن يرِد على هذا أن الله يمتن على عباده بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [سورة الحجرات:17] فهذه لا يحصل بها التأذي، فمن فسره بالمنة في العطاء أو نحو ذلك هو لا يقصد بذلك أنه يخلو من منة الله على عباده، هذا لا ينفك العبد منه، وإنما المقصود بذلك -والله أعلم- أنه لا يحصل به المنة التي يحصل بها التأذي كما في الدنيا -عطية الناس، وإلا فالله يمن على عباده فيما حباهم وأعطاهم أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، فالفضل له وحده ، والحافظ ابن القيم له تعليقات على بعض المواضع في هذه السورة في قوله مثلاً: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى: "ولهذا يقسم سبحانه بهذين الوقتين كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [سورة المدثر:33، 34] وهو يقابل إقسامه بالشفق ونظيره إقسامه بـ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [سورة التكوير:17، 18]"[1].
الآن يقول: إن الشفق هو الذي يكون في إقبال الليل بعد غروب الشمس، يعني ليس الحمرة التي تكون عند طلوع الشمس.
ثم قال -رحمه الله: "ولما كان الرب -تبارك وتعالى- يُحْدِث عن كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما شاء، فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيُحدث هذا الانتشار في العالم أثره، شرع سبحانه في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين مع ما في ذلك من ذكره عند هاتين الآيتين المتعاقبتين، وعند انصرام إحداهما واتصال الأخرى بها مع ما بينهما من التضاد والاختلاف، وانتقال الحيوان عند ذلك من حال إلى حال، ومن حكم إلى حكم، وذلك مبدأٌ ومعادٌ يوميٌّ مشهود للخليقة كل يوم وليلة، فالحيوان والنبات في مبدأ ومعاد، وزمان العالم في مبدأ ومعاد، أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة العنكبوت:19]"[2].
ويقول -رحمه الله: وقوله لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ الظاهر أنه جواب القسم، ويجوز أن يكون من القسم المحذوف جوابه، و"لتركبن" وما بعده مستأنف، وقرئ: ولتركبن بضم الباء للجمع وبفتحها، فمن فتحها فالخطاب عنده للإنسان، أي: لتركبَن أيها الإنسان، وقيل: هو النبي خاصة، وقيل: ليست التاء للخطاب، ولكنها للغيبة، أي: لتركبَن السماءُ طبقاً عن طبق، ومن ضمها فالخطاب للجماعة ليس إلا، فمن جعل الكناية للسماء قال: المعنى لتركبَن السماءُ حالاً بعد حال من حالاتها التي وصفها الله تعالى من الانشقاق والانفطار والطي وكونها كالمُهل مرة وكالدهان مرة ومورانها وتفتُّحها وغير ذلك من حالاتها وهذا قول عبد الله بن مسعود ، ودل على السماء ذكر الشفق والقمر"[3].
هنا يرجع إلى غير مذكور لَتَرْكَبَنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ السماء ليس لها ذكر فكيف يرجع إليها؟ قال: دل عليها الشفق وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ؛ لأن ذلك يكون من السماء.
وقال -رحمه الله: "وعلى هذا فيكون قسماً على المعاد وتغيير العالم.
ومن قال الخطاب للنبي فله ثلاث معانٍ: لتركبَن سماء بعد سماء حتى تنتهي إلى حيث يُصعدك الله"[4].
هذا في المعراج.
وقال -رحمه الله: "هذا قول ابن عباس في رواية مجاهد، وقول مسروق والشعبي، قالوا: والسماء طبق، ولهذا يقال للسموات السبع: الطباق.
والمعنى الثاني: لتصعدن درجة بعد درجة، ومنزلة بعد منزلة، ورتبة بعد رتبة حتى تنتهي إلى محل القرب والزلفى من الله.
والمعنى الثالث: لتركبَن حالاً بعد حال من الأحوال المختلفة التي نقل الله فيها رسوله من الهجرة والجهاد ونصره على عدوه، وإدالة العدو عليه تارة، وغناه وفقره، وغير ذلك من حالاته التي تنقل فيها إلى أن بلغ ما بلغه إياه.
ومن قال: الخطاب للإنسان أو لجملة الناس فالمعنى واحد، وهو تنقل الإنسان حالا بعد حال من حين كونه نطفة إلى مستقره من الجنة أو النار، فكم بين هذين من الأطباق والأحوال للإنسان.
وأقوال المفسرين كلها تدور على هذا، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: لتصيرن الأمور حالاً بعد حال، وقيل: لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى كونه حيًّا، إلى خروجه إلى هذه الدار، ثم ركوبه طبق التمييز بين ما ينفعه ويضره، ثم ركوبه بعد ذلك طبقاً آخر وهو طبق البلوغ، ثم ركوبه طبق الأشُد، ثم طبق الشيخوخة، ثم طبق الهرم، ثم ركوبه طبق ما بعد الموت في البرزخ، وركوبه في أثناء هذه الأحوال أطباقاً عديدة لا يزال ينتقل فيها حالاً بعد حال إلى دار القرار، فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد، ثم يفعل الله سبحانه بعد ذلك ما يشاء.
واختار أبو عبيدة قراءة الضم، وقال: المعنى بالناس أشبه منه بالنبي ﷺ؛ فإنه ذكر قبل الآية من يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه بشماله"[5].
أيضًا في قوله: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول -رحمه الله: "وأنت إذا تأملت هذا المقسم به والمقسم عليه وجدته من أعظم الآيات الدالة على الربوبية"[6].
الآن يربط بين هذه الأشياء المقسم بها إلى أن قال: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
وقال -رحمه الله: وتغيير الله سبحانه للعالم وتصريفه له كيف أراد، ونقله إياه من حال إلى حال، وهذا محال أن يكون بنفسه من غير فاعل مدبر له، ومحال أن يكون فاعله غير قادر ولا حي ولا مريد ولا حكيم ولا عليم، وكلاهما في الامتناع سواء، فالمقسم به وعليه من أعظم الأدلة على ربوبيته وتوحيده وصفات كماله وصدقه، وصدق رسله، وعلى المعاد؛ ولهذا عقب ذلك بقوله: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إنكاراً على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزمة لمدلولها أتم استلزام، وأنكر عليهم عدم خصوعهم وسجودهم للقرآن المشتمل على ذلك بأفصح عبارة وأبينها وأجزلها وأوجزها، فالمعنى أشرف معنى، والعبارة أشرف عبارة، غاية الحق بغاية البيان والفصاحة"[7].
هذا آخر ما في هذه السورة.
- التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص:110).
- المصدر السابق (ص:110، 111).
- المصدر السابق (ص:111، 112).
- المصدر السابق (ص:112).
- المصدر السابق (ص:112، 113).
- المصدر السابق (ص:113).
- المصدر السابق (ص:113، 114).