الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[13] تتمة تفسير قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الآية 19
تاريخ النشر: ٠٤ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3002
مرات الإستماع: 2005

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ثم قال تعالى مخبرًا عن تحريض موسى لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى فوجدوا فيها قومًا من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم، فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى، فقال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ [سورة المائدة:21] أي المطهرة.

وقوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل .

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: إنها كانت موطنًا لهم قبل خروجهم إلى مصر في زمان يوسف ﷺ والمعروف أن يعقوب -عليه الصلاة والسلام- كان في البادية -بادية الشام أو بادية فلسطين- ولهذا قال يوسف ﷺ: وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ [سورة يوسف:100]، ويمكن أن يراجع كلام أهل العلم في ذلك الموضع، وعلى كل حال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مؤرخ.

وقوله هنا: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ [سورة المائدة:21] قال: أي المطهرة، وبعضهم يقول: أي المباركة، وعلى كل حال كل ذلك يصدق عليها وإن كان المتبادر في معنى لفظة التقديس هو التطهير، يقال: يُقدِّس كذا بمعني يطهره وينزهه، وما أشبه ذلك، ومنه أُخذ معنى التعظيم؛ لأنك إذا قدست شخصًا بأن نزهته وطهرته، فمعنى ذلك أنك عظمته وذلك من باب الملازمة، والله تعالى أعلم.

وهذه الأرض بعضهم يقول: إنها الشام، وهو كقول من قال: إنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن، ومنهم من يخص ذلك بدمشق، ومنهم من يقول: أريحا، ومنهم من يقول: الطور وما حوله، ومنهم يقول: من العريش بمصر إلى الفرات في العراق، وهذا الذي يدَّعيه اليهود اليوم، فإن الخطوط التي في علمهم فيها خطان أزرقان بينهما النجمة، أحد الخطين يرمز إلى النيل والآخر يرمز إلى الفرات، ومن أناشيدهم في كل صباح التي ينشدها حتى الطلاب في المدارس: حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل، ولا أظنهم يصلون إلى هذا، بل لا أظنهم يتجاوزون ما هم فيه بشيء يذكر؛ لدلالة النصوص على ذلك وإن كانت ليست دلالة نصية صريحة، لكن كون النبي ﷺ يقول عن آخر الزمان: أنتم شرقي النهر يعني الأردن وهم غربيه[1] فهذه حدود كما هي الآن تقريبًا، والعلم عند الله على كل حال.

قوله تعالى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] فحينما كانوا على دين صحيح كتبها الله لهم، واستطاعوا أن يدخلوها بعد حين، وعامة أنبياء بني إسرائيل كانوا فيها -أعني في بلاد الشام، فالذين ينازعونهم ويجادلونهم من العرب ويقولون: نحن أحق بهذا ولنرجع إلى التاريخ، فهؤلاء مساكين، فالمسألة ليست بهذه الصورة؛ لأن المسألة لو كانت مسألة عرب فالعرب ذباب الصحراء كانوا في جزيرة العرب، وإنما الذي دخلها هو الإسلام وليس العرب، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

فلما كذّب هؤلاء اليهود الرسل وقتلوا من قتلوا منهم مقتهم الله  وسلط عليهم خلقه يسومونهم الخسف والذل وشُردوا في الأرض، فأورث الله الكتاب لهذه الأمة وأورثهم أيضًا الأرض فدخلها المسلمون فاتحين، فهم أحق بها وأولى وأجدر، وهكذا ينبغي أن ينظر إلى هذه القضايا، أي أنها بلاد لا تختص لا بالفلسطينيين ولا بالعرب وإنما الإسلام هو الذي دخلها وهو الذي رفع من شأن هؤلاء العرب فتحولوا إلى فاتحين، وإلا فلو جئنا نجادل في قضية العرب وما العرب فالعرب كانوا في الجزيرة ونواحي الجزيرة فكيف وصلوا إلى المغرب؟ وهكذا الشام كانت بيد الروم، وكلٌّ سيقول: نحن قبل، ونحن قبل، ونرجع إلى عهد آدم ﷺ وهذا غير صحيح.

وقوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] أي: التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم.

هذا تفسير للكَتْب، فقوله: كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعني وُعِد بها من آمن منكم، أو هو تفسير من فسر الكتب بمعنى أنه كتبها لكم: أي أمركم بدخولها، كما نقول: كتب الله علينا الصيام، وكتب علينا الصلاة، أي أمرنا بذلك، وليست هذه الكتابة كونية تقتضي وقوع المراد وإنما هو شيء أمرهم الله به فتلكئوا عن ذلك وهابوا الجبارين ولم يفعلوا، ولو كان كتبها الله لهم في الأزل كتابة قدرية كونية لتحقق ذلك لا محالة سواء دخلوا عليهم الباب، أو لم يدخلوا عليهم الباب، سواء كانوا قصدوهم أو لم يقصدوهم.

وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ أي: ولا تنكلوا عن الجهاد فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۝ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [سورة المائدة:21-22] أي: اعتذروا بأن في هذه البلدة -التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها- قومًا جبارين أي: ذوي خلَقٍ هائلة وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم.

هذا تفسير جيد للجبارين دون الاشتغال بتحديدهم، وإنما ذكر صفة هؤلاء بأنهم بهذه المثابة، وإن كان بعضهم يقول: هم بقية من قوم عاد، وبعضهم يقول: هم من ولد عيص بن إسحاق، وبعضهم يقول: هم من الروم، لكن ليس هناك دليل يحدد شيئًا من هذا.

ويذكر المفسرون وبعض المؤرخين في أخبارهم أشياء عجيبة جدًا هي من كلام بني إسرائيل، على تفسير الاثني عشر نقيبًا بأنهم الذين اختارهم الله من أسباط بني إسرائيل لينظروا في أمر الجبارين -على هذا القول وهذا كله مأخوذ من بني إسرائيل وقد مضى- يقولون: إنهم ذهبوا لينظروا فلما رأوهم بحالة من الخلق عجيبة، ويقولون: إنهم دخلوا في بستان رجل من الجبارين فدخل بستانه فرأى آثارهم فتتبعها فصار يلتقطهم الواحد بعد الواحد ويضعهم في سلة الفاكهة حتى أتى عليهم جميعًا، ثم ذهب بهم ونثرهم بين يدي الملك، فقال لهم الملك: قد رأيتم من أمرنا ما رأيتم فاذهبوا إلى صاحبكم فأبلغوه، فيقولون: إنهم جاءوا إلى موسى وأخبروه وأنه استكتمهم هذا؛ لئلا يفت في أعضاد بني إسرائيل، وأن الرجل منهم صار يكلم صاحبه ويكلم قريبه، يكلم خاصته بما رأى فخانوه إلا رجلان وهما من ذكر الله ، قال: رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا [سورة المائدة:23]

فبعضهم يقول: أي يخافون من الجبارين، وبعضهم يقول: يخافون الله، فالحاصل أنهم رجلان ممن شاهد الجبارين فلم يخبروا ولم يفشوا، وهذا الكلام كله مبني على الإسرائيليات. 

وكذلك يذكرون في أوصاف الجبارين أشياء عجيبة، وعلى كل حال الجبار هو كما وصف ابن كثير -رحمه الله- هنا، كما يقال الجبار للعاتي، أو من يجبر الناس على ما يريد، فهو بمعنى الإكراه على هذا، وبعضهم يرجعه إلى جبر العظم فهو المصلح لأمر نفسه بهذا الاعتبار، ولكن لما كان ذلك ولو على حساب الآخرين إذا كانت مصلحته تقتضي هذا فاستعمل بهذا الاعتبار إلى كل من يجر إلى نفسه نفعًا ولو أضر بغيره، وهذا فيه بعد.

لكن كلمة جبار أصلًا حينما نأتي إليها في اللغة، فهي تدل على عدة معان، ومن ذلك أنها تطلق على الطويل فيقال: نخلة جبارة، وتطلق على المصلح لغيره ومنه جبر العظم، فالله يجبر الضعيف ويجبر القلوب المنكسرة ويقويها، ويطلق كما هو المتبادر على شديد البطش والبأس والقوة والجبروت، وهذا معناه الأكثر استعمالًا والأشهر، وهؤلاء بهذه الصفة أصحاب خلق عظيم وقوة شديدة، لكن ما هم بهذه الصورة التي تذكر في الإسرائيليات، بأن يأخذ اثني عشر رجلًا في سلة فاكهة، فهذه مبالغات.

وقوله تعالى: قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا [سورة المائدة:23] أي: فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه، وقرأ بعضهم: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ) أي: من الذين لهم مهابة وموضع من الناس.

هذه القراءة ليست متواترة، وقد قرأ بها بعض التابعين مثل مجاهد وسعيد بن جبير، والمعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو المتبادر وهو الأقرب في تفسير الآية: قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ يعني ممن يخافون الله ويخشون عقابه، وبعضهم يقول: مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أي يخافون من الجبارين لكنهم غلّبوا جانب التوكل فقالوا لقومهم ما قالوا، وإلا فقد رأوا الجبارين بناء على ما ذكرت سابقًا، وبعضهم يقول: مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ إن الواو ترجع إلى بني إسرائيل، يعني من الذين يخافهم بنو إسرائيل، ويؤيده القراءة الآحادية التي ذكرها (مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ) يُخافون يعني أن الإسرائيليين يحسبون لهم حسابًا، والأقرب أنها مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أي يخافون الله.

وسبب هذا الاختلاف بين المفسرين هنا هو الحذف، إذ يوجد مقدر محذوف، فأحيانًا العلماء يترددون في تقديره فيقع الخلاف بينهم في التفسير بناء على هذا المقدر، وهذا أحد أسباب اختلاف المفسرين، فبحسب ما يقدر يكون المعنى.

قوله: أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا [سورة المائدة:23] هذه صفة أخرى لهم، فالصفة الأولى: أنهم يخافون الله، والصفة الثانية: أن الله أنعم عليهم بالإيمان واليقين والثبات فلم يتضعضعوا ويترددوا ويغلِّبوا خوف الجبارين على أمر موسى وطاعة الله .

ويقال: إنهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، قاله ابن عباس -ا- ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد من السلف والخلف -رحمهم الله- فقالا: ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة المائدة:23].

المراد بالباب باب المدينة.

أي: إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله نصركم الله على أعدائكم، وأيدكم وأظفركم بهم، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا.

كيف عرفوا أنهم بمجرد دخول الباب يَغلبون؟ يمكن أن يكونوا عرفوا ذلك من موسى ويمكن أن يكونوا قالوا ذلك بناء على ما عرفوا من صفة المعبود والله -تبارك وتعالى- أمرهم بدخولها، فهذا يحتاج منهم إلى عمل أمرهم الله به فإذا تحقق ما أمرهم به تحقق ما وعدهم الله به، فيكونوا عرفوا هذا بهذا الاعتبار، ويمكن أن يكونوا عرفوا ذلك بناء على أمور رأوها عند الجبارين، من أنهم لا يطيقون مجابهة أهل الإيمان مثلًا، أو لأي أمر آخر عرفوا فيه هذا.

فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] وهذا نكول منهم عن الجهاد، ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء، وما أحسن ما أجاب به الصحابة يوم بدر رسول الله ﷺ، حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان، فلما فات اقتناص العير واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين تسعمائة إلى الألف في العدة والبَيْض واليَلب.

البَيْض: هو ما يضعه المقاتل على رأسه مثل المغفر، واليَلب: يمكن أن يفسر بالفولاذ تقول: هذا مقنع بالحديد.

فتكلم أبو بكر فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله ﷺ يقول: أشيروا علي أيها المسلمون وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ -: كأنك تعرض بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه ذلك.

كانت المعاقدة بين النبي ﷺ وبين الأنصار في البيعة أنهم يمنعونه مما يمنعون منه أزواجهم، يعني أنهم لا يسلمونه لعدو، فقد يفهم من هذا أنهم يدفعون عنه من قصده في المدينة، لكن كون النبي ﷺ يخرج إلى أهل مكة في بدر فهل هذا داخل في هذه البيعة أو غير داخل؟ أي هل يلزمهم ذلك أو لا يلزمهم، فأراد النبي ﷺ أن يسمع منهم.

وروى أبو بكر بن مردويه عن أنس أن رسول الله ﷺ لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر ثم استشارهم، فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله ﷺ قالوا: إذًا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك" [ورواه الإمام أحمد والنسائي، ورواه ابن حبان].

برك الغماد هذه، بعضهم يقول: هي من وراء الساحل خلف مكة خمس ليالٍ، وبعضهم يقول غير هذا.

وروى البخاري في المغازي وفي التفسير من طرق عن عبد الله بن مسعود ولفظه في كتاب التفسير قال: قال المقداد يوم بدر: يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] ولكن امض ونحن معك، فكأنه سري عن رسول الله ﷺ.

يعني أن اليهود ابتلاهم الله بخوف وابتلاهم بطمع، وابتلى الله هذه الأمة بخوف وابتلاهم بطمع، اليهود قيل لهم: ادخلوا هذه المدينة فهابوا ونكلوا، وأصحاب النبي ﷺ لما فاتت العير وبقوا أمام النفير، سألهم النبي ﷺ فقالوا له: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى، فهم بهذا أفضل من بني إسرائيل.

وأما الطمع ففي قصة الحيتان التي كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فغلبهم الطمع والقرم وهو شهوة اللحم، فصاروا يحتالون فيلقون الشباك في الجمعة ويأخذونها يوم الأحد، فأخفقوا في هذا الامتحان، وأما هذه الأمة فالله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فقوله: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ أي أنه قريب جدًا منكم ابتلاء واختبارًا، والنبي ﷺ حينما كان في طريقه إلى مكة مرَّ ﷺ بظبي حاقف -والحاقف هو الذي أمال عنقه إلى بطنه ونام على صدره- فقال: لا يريبه أحد[2] أي: لا أحد يزعجه ولا ينفره، فتصور كم عدد الذين مع النبي ﷺ؟ إنهم أعداد هائلة، ومع ذلك لم يحركه ولم ينفره أحد بل كانوا في غاية الانضباط مع أن العرب يستفزهم الصيد بمجرد رؤيته، ومع ذلك ما حصل منهم هذا. 

والحاصل أنهم ما كانوا يعتدون، وما كانت تغلبهم شهوة الصيد فيفعلوا ما نهاهم الله عنه، فهم أفضل من بني إسرائيل حينما لاح لهم الطمع، وأفضل منهم حينما كانوا أمام الخوف.

وقوله: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:25] يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى وقال داعيًا عليهم رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي [سورة المائدة:25].

بعض أهل العلم يقول: إن في الآية مقدرًا محذوفًا، يعني رب إني لا أملك إلا نفسي، وأخي لا يملك إلا نفسه، لكن هذا فيه بعد، والأصل عدم التقدير، فالمعنى المتبادر إني لا أملك إلا نفسي وأخي أي: أمري لا ينفذ إلا على نفسي وعلى أخي وأما هؤلاء فيقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

وقولهم هذا في غاية القبح في الرد والتطاول على الله ، والعجيب أن بعض المفسرين يتلطف في حمل هذه الجملة على محامل بعيدة، فيقول: إن معنى قولهم: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا أي اقصد أنت وربك وليس معناه الذهاب الحقيقي لفتح المدينة، أي إذا أردتم فتحها وقصدتم ذلك فإنها تفتح بدون قتال.

وهذا القول بعيد غاية البعد، وكأن هؤلاء المفسرين يقولون: إنه لا يتصور أن يصل الأمر بهؤلاء القوم إلى هذا الحد فيقولون: اذهب أنت وربك -وهم أصحاب موسى-؛ لأن هذا في غاية الكفر. 

لكن يقال: إنه يتصور منهم أكثر من هذا، فهم الذين قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وعبدوا العجل وأرجلهم ما جفت من البحر، وحتى الذين دخلوها بعد عقوبة التيه قيل لهم: ادخلوا سجدًا فدخلوا يزحفون، أمروا بقول وأمروا بفعل، بالقول أمروا أن يقولوا حطة، يعني حط عنا خطايانا، وبالفعل أن يدخلوا في هيئة الراكع فدخلوا يزحفون استهزاءً ويقولون: حبة في شعرة، وفي بعض الروايات شعيرة أو حنطة، إنهم يستهزئون مع أن أسفه السفهاء ما يفعل هكذا، حتى إن فسقة أمة محمد وأردى الناس فيها لو ذهبوا لجهاد العدو ودخلوا منتصرين ما صدر منهم هذا الكلام، بل لا ترى منهم إلا الإيمان وما يرضي الله لكن هؤلاء كانوا بهذه المثابة.

رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي [سورة المائدة:25] أي: ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:25] قال العوفي عن ابن عباس -ا: يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق: افصل بيننا وبينهم.

هذه المعاني كلها تدور على شيء واحد، فَافْرُقْ بَيْنَنَا يعني افصل أو احكم، والحكم هو الذي يحصل به الفصل.

وقوله تعالى: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ الآية [سورة المائدة:26].

التيه: هو التحير أي يتحيرون في الأرض، والوقف هنا فيه تعانق، فإذا وقفت على الموضع الأول فلا تقف على الثاني، هكذا: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] أو قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] فيحتمل هذا وهذا، فمن وقف على الأول قال: إن التحديد بالأربعين سنة هي مدة التيه وأما الفتح، فقد يكون تأخر أكثر من هذا. 

وبعضهم يقول: بناء على الموضع الآخر في الوقف يكون مدة التحريم أربعين سنة، وكانوا في هذه الأربعين سنة يتيهون في الأرض، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: إن المعنى بأنها محرمة عليهم هذه المدة ويقضونها في التيه، يتيهون في الأرض، وهذا قول قريب كأنه هو المتبادر والله تعالى أعلم، وبهذا نعرف أن موضوع الوقف والابتداء يرتبط ارتباطًا كبيرًا بالمعنى، فإذا عرف المعنى بني عليه موضع الوقف، وهذا مثال من أمثلة كثيرة جدًا.

لما دعا عليهم موسى حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا ولا يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة، من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران وهنالك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد، ويقال لها: قبة الزمان.

هذه الأرض التي تاهوا فيها، بعضهم يقول: هي أرض صغيرة -ستة فراسخ في ستة فراسخ، ومع ذلك تاهوا، فكيف تاهوا بها وهم كثير ومعهم أنبياء مثل موسى -عليه الصلاة والسلام؟

بعضهم يقول: كانت الأمور تنقلب، يعني يمشون من أول النهار إلى الليل، فإذا ناموا وأصبحوا وجدوا أن الأرض قد انقلبت وصاروا في أولها، وهذا الكلام لا دليل عليه، ولكن غاية ما يمكن أن يقال هنا: إن الله على كل شيء قدير، وإذا أراد شيئًا لا بد من وقوعه، وهذه الآية فيها عبرة عظيمة في هذا المعنى، فهؤلاء معهم أنبياء ويمشون وهذه الأرض ما يمر ولا يجتاز بها أحد من الناس، وهم لو توجهوا من أي اتجاه فإنهم يصلون ولا يحتاجون إلى أربعين سنة، بل لو مشوا أربعين يومًا على أكثر تقدير فإنهم سينفذون إلى ناحية أخرى، ومع ذلك أربعين سنة وهم ضائعون يظللهم الغمام ويأكلون المن والسلوى، لا يوجد زرع ولا غيره، فقدر الله فوق كل شيء، وإذا أراد شيئًا كان، لذلك بهذا وبمثله يرد على الذين يقولون: أين المسيح الدجال، فالأقمار الصناعية تصور الأرض جميعًا فأين الجزيرة التي رآها تميم بن أوس الداري كما في صحيح مسلم وغيره؟ وأين الجساسة؟ وأين يأجوج ومأجوج؟

بعضهم يقول: إن المراد بهم أهل الصين، وأن سد الصين هو السد الذي عندهم، لكن يقال: الصينيون مفتوحون على العالم، والناس يسافرون لهم وهم يخرجون ويسافرون، والسد ما منعهم الخروج، ولا سألوا عنه وإنما هو تحفة تراثية، فأين يأجوج ومأجوج الذين هم بهذه الكثرة بحيث يشربون بحيرة طبرية، وقسيهم يوقد عليها سبع سنين في أيام عيسى -عليه الصلاة والسلام، أين هؤلاء -بعددهم الهائل- الذين لا قبل لأحد بهم حتى تنتن الأرض من زهمهم في آخر الزمان حتى يبعث الله طيرًا كأعناق البخت تأخذهم وتلقيهم حيث شاء الله ويحتاج إلى مطر يغسل الأرض حتى تطهر؟!

نقول: إن الله أعمى عنهم الناس فلا يصلون إليهم لا بأقمارهم الصناعية ولا بغيرها، كما أعمى الناس عن الدجال فلا يقفون على محله حتى يأذن الله ، بخروجه.

وهذه عبرة عظيمة في بني إسرائيل أن يبقوا أربعين سنة ضائعين؛ إذ لا أحد يضيع أربعين سنة إلا إذا أراد الله له أن يضيع، والعجيب أنهم تاهوا بأكملهم وهم قوم معهم أنبياء ومعهم من يدلهم الطريق، وهذا معروف إلى عهد قريب حين كان الناس يتنقلون على الجمال، فأول شيء يبحثون عنه هو الدليل، ومن أمثلة ذلك أن النبي ﷺ لما هاجر اتخذ له من يدله على الطريق.

وقوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً منصوب بقوله: يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها.

المشهور أنه يوشع، والمفسرون اختلفوا هل كان موسى وهارون معهم في التيه أم لا؟ والمشهور أنهم كانوا معهم في التيه، وأن موسى -عليه الصلاة والسلام- توفي بالتيه، وأن هارون توفي بالتيه، فكان الجيل الثاني هم الذين دخلوها بعد أن ذهب الجيل الأول، وبعض أهل العلم يقول: الذي فتحها هو موسى -عليه الصلاة والسلام- وهذا هو اختيار ابن جرير، لكن المشهور خلاف ذلك.

فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم، قال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي، فحبسها الله تعالى حتى فتحها.

وأمر الله يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجدًا، وهم يقولون: حطة، أي حط عنا ذنوبنًا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.

يعني: بدلوا القول وبدلوا الفعل، وهذا شكر نعمة النصر منهم، أمروا أن يدخلوها ركعًا فدخلوها يزحفون، وهكذا لا أجد لهؤلاء شبهًا إلا الفأرة، فكما أن الفأرة لا يمكن أن تحوّل إلى شيء جيد نظيف نزيه له سلوك حسن، كذلك هؤلاء مثل الفأرة ليس لهم شأن إلا الإفساد، فما يرجى من هؤلاء ولا يمكن أن يُركن إليهم أو يُقبل منهم عهد أو ميثاق أو يصدقون في شيء، بل لا يمكن أن تعيش معهم في سلام حتى الحيوانات.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى وهارون -عليهما السلام- في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له: اليوم يوم الجمعة، فهموا بافتتاحها ودنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس: إني مأمور وإنك مأمورة، فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم يُر مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأته، فقال: فيكم الغلول، فدعا رءوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلًا فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان، فأتت النار فأكلته، وهذا السياق له شاهد في الصحيح[3].
  1. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (21191) (ج 10 / ص 286) وابن سعد في الطبقات (ج 7 / ص 422) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4656).
  2. أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج - ما يجوز للمحرم أكله من الصيد (2818) (ج 5 / ص 182) وصحح إسناده العلامة الألباني في صحيح النسائي برقم (2818).
  3. صحيح البخاري في كتاب الخمس - باب قول النبي ﷺ أحلت لكم الغنائم (2956) (ج 3 / ص 1136) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (1747) (ج 3 / ص 1366).

مواد ذات صلة