بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين.
تفسير سورة البلد.
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:1-10].
هذا قسم من الله -تبارك وتعالى- بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حلالاً؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها، قال خُصيف عن مجاهد: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ "لا" رَدٌّ عليهم، أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني مكة، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِقال: أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به، وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وعطية والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد.
وقال الحسن البصري: أحلها الله لك ساعة من نهار، وهذا المعنى الذي قالوه قد ورد به الحديث المتفق على صحته: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شجره، ولا يُختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب[1]، وفي لفظ آخر: فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم[2].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه السورة سورة البلد من السور المكية، وهي تتحدث عن الإنسان، الإنسان في جنسه حيث خلقه الله -تبارك وتعالى- في كبد، وعن بعض هذا الجنس وهو الإنسان المكذب الكافر بالله -تبارك وتعالى- الذي يحارب ويحاد ربه ورسله -عليهم الصلاة والسلام، يظن أنه يستطيع أن يفلت من عذاب الله، وأن الله لا يقدر عليه، فالله -تبارك وتعالى- يذكر قدرته على هذا المخلوق، ويذكر حاله من أن الله بين له طريق الخير وطريق الشر وأحاط به إحاطة كاملة، وأنه لم يُقبل على الأعمال التي يحصل بها النجاة، وما يحصل به فكاك رقبته يوم القيامة من الإيمان والأعمال الصالحة كالعتق أو الإطعام وما إلى ذلك، هذا ما تدور عليه هذه السورة.
وقوله -تبارك وتعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ قد مضى نظائره في دخول "لا" هذه في القسم، فيقول هنا: هذا قسم من الله -تبارك وتعالى- بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها إلى آخره، ثم نقل عن مجاهد: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ "لا" ردٌّ عليهم، أقسم بهذا البلد، معنى ذلك أن "لا" هذه نافية على قول مجاهد، يعني أنها تتعلق بمقدر محذوف لا لما تزعمون، لا لما تقولون، ثم نقطة، أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ فتكون على بابها من النفي.
وبعضهم يقول: إنها على بابها من النفي، نفي القسم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، يعني ينفي القسم ومثل هذا إما لوضوح الأمر أنه لا يحتاج إلى قسم، أو لأمر آخر كما في هذه السورة على قول بعضهم، بحسب المعنى في الذي بعده، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ما هو البلد؟ سيأتي إيضاحه -إن شاء الله، فعلى القول بأنه مكة، وأن البلد الآخر وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني المدينة، وأن "حل" بمعنى حالّ نازل، يعني لا أقسم بمكة وأنت خارج عنها.
أو لا أقسم بهذا البلد وأنت حال فيه، يعني مكة، البلد الأول والثاني كله مكة، فأنت أعظم حرمة فالقسم بك أولى وأحق.
أو لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني مكة وأنت حل يعني يُستحل به عرضك، ويصل إليك الأذى من هؤلاء المشركين، يستحلون أذاك، فلا أقسم بهذا البلد وأنت مُستحَل فيه تُؤذى، كل هذا على أن "لا" نافية على بابها.
والقول الآخر: هو أن "لا" هذه تدخل على القسم؛ لتقويته، وأنها ليست على بابها في النفي، يعني يسمونها صلة، أي أنها تزاد في القسم لتقوية القسم مثل: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1] وقد مضى الكلام على نظائر ذلك، والواحدي نقل الإجماع على أنه قسم بالبلد الحرام، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- قال: هذا قسم من الله -تبارك وتعالى- بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالًّا لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
"حالًّا" في هذا التركيب في هذه الجملة قد لا يكون مقصودًا، يعني الذي يبدو -والله أعلم- أن اللائق بهذا السياق "حلالاً" لماذا؟ ابن كثير يقصد معنى دقيقًا، وهو ظاهر من السياق لا يتأتى معه لفظة "حالًّا" يعني يقول: هذا قسم من الله تعالى بمكة في حال كون الساكن فيها حلالاً لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها يعني إذا كان القسم فيها في حال كون الساكن حلالا يعني غير محرم، فكونه مُحرمًا يكون ذلك أعظم وأشد في تحريم مكة، يعني اجتمع عليه حرمة المكان البقعة، وحرمة أيضًا الإحرام، الحال التلبس بالإحرام، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ.
هذا كلام ابن كثير -رحمه الله، لكن لو قلنا: هذا قسم من الله بمكة في حال كون الساكن فيها حالًّا؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها سيكون الكلام الذي بعده ما له معنى، لكن يريد أن يقول: أقسم بها في حال كون هذا الساكن حلالاً، يعني غير محرم، فكيف بالساكن فيها إذا كان في حال الإحرام؟ فهذا أشد وأعظم في الحرمة.
وهنا نقل عن ابن عباس لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني مكة وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل فيه، هنا هذا يوافق ما ذكره ابن كثير من أنه فسر الحل بالحلال، يعني الذي هو ضد الحرمة؛ لأن هذه اللفظة يدور كلام المفسرين فيها على معنيين على اختلاف في تنزيلهم لهذين المعنيين، لكن كل الكلام يدور على معنيين:
المعنى الأول: حل بمعنى حلال الذي هو ضد الحَرم، تقول: الحل والحرم يعني المكان الذي هو حلال والمكان الذي هو حرام، تقول: عرفة حل ومزدلفة حرم.
والمعنى الثاني: أن حل بمعنى حالّ أي: نازل، حل بالمكان إذا نزل فيه، أقام فيه، هذا حل، فكلام المفسرين يدور على هذا، فهنا ما ذكره عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل فيه، قال: وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وعطية والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد.
وقال الحسن: أحلها الله له ساعة من النهار، هذا بنفس المعنى، نفس قول هؤلاء، يعني قول الحسن: وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني أنت حلال، يعني أحلت لك ساعة من نهار، هذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير.
وابن كثير كما نرى مشى على هذا، هذه السورة مكية، وهذه الآية مكية، فهي تتحدث عن أمر لم يقع، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أُقسم بهذا البلد، هذا المعنى وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ هذه جملة ثانية، وليس هذا هو جواب القسم، سيأتي جواب القسم، لكن هنا يخبر عن هذا البلد لما ذكره وأقسم به لعظمه وحرمته أنه أحله لنبيه ﷺ ساعة من نهار، هذا الذي عليه الجمهور أن "حِل" من الحلال وليس من حَلَّ بمعنى أقام بالمكان، فتكون الآية تتحدث عن أمر مستقبلي، هذا الذي يسمونه ما نزل قبل وقوع حكمه، يعني آية تتحدث عن أمر لم يقع مثل: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45].
وقد مضى الكلام على بعض الأمثلة على فرض أنها مفسَّرة بما قيل مما يقتضى ذلك، مثل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:15] عند من قال أو على قول من قال: ذكر اسم ربه يعني بالتكبير ليلة العيد ويوم العيد قبل الصلاة، ذكر اسم ربه فصلى، صلى العيد، يعني وإن كان هذا القول ضعيفًا لكن على صحة فرضه ذكرنا أنه لا حاجة للقول بأن هذه الآية نازلة بالمدينة، وإنما يكون مما نزل قبل تقرير حكمه، مع أن الراجح أنه ليس في صلاة العيد أصلا، ولا في تكبير العيد، ومثل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [سورة الكوثر:2] كل هذا من المكي، وصلاة العيد والفطر والأضحى والنحر الذي هو الأضاحي كل هذا لم يتقرر ولم يشرع إلا في المدينة.
فعلى ذلك القول وعلى فرض صحته يكون مما نزل قبل تقرير حكمه، يعني هذا جواب على هذا الافتراض، فالرد على الذين يسارعون بالقول بأن الآية مستثناة من السورة المكية، وأنها نازلة في المدينة بما لاح لهم من معنى، وقلنا: إن هذه الطريقة غير صحيحة، وإن الحكم بأن هذا مكي أو مدني مبناه على النقل، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ لاحظ يقول: وهذا المعنى الذي قالوه قد ورد به الحديث يعني: وإنما أحلت لي ساعة من نهار إلى آخر ما ذكر.
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ هذا القول الذي ذكره ابن كثير واختاره ابن جرير هو المشهور، أُقسمُ بهذا البلد الذي هو مكة، وأنت حل به على عظمته، يعني أحل له ساعة من نهار، ولكن هذا ليس محل اتفاق، فبعضهم كما سبق يقول: إن ذلك لنفي القسم، كأنه يقول: مِن المكابد أن مثلك يُستحل بهذا البلد كما يستحل الصيد، يعني يستحل أذاه، إيصال الأذى له على حرمة هذا البلد، فيستحل أذى هذا النبي ﷺ كما يستحل الصيد في غير الحرم، لكن هذا وإن قال به بعض أهل العلم ليس المتبادر -والله تعالى أعلم.
فالحِل والحلال والمُحَل كل ذلك واحد هو ضد المُحرَّم، حِل بمعنى حلال، فالله -تبارك وتعالى- لما ذكر القسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها، والقاعدة أن القسم لا يكون إلا بمعظم، يعني عند المقسِم سواء كانت عظمته حقيقية أو غير حقيقية، فالله إذا أقسم بشيء فإن ذلك يدل على منزلته وعظمته حقيقة، لكن الحالف بغير الله -تبارك وتعالى- الذي يحلف باللات أو العزى أو بغير ذلك هو لا يحلف إلا بما هو معظم عنده، فالقسم لا يكون إلا بمعظم حقيقية أو حكمًا، يعني بحسب اعتقاده وإن لم يكن في الواقع كذلك.
والمقصود أنه على هذا المعنى المشهور يكون ذلك من قبيل العِدة من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ أنه يحل له هذا البلد في المستقبل، كما يقول مجاهد: ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل، بمعنى أنه ترتفع حرمة القتال فيه لنبيه ﷺ، يكون ذلك مباحًا إباحة مؤقتة، يعني لست بآثم، غير منتهك لحرمة هذا البلد.
وبعضهم فسر الحل بمعنى الحالّ، يعني المقيم، وهذا إذا قلنا أو على القول بأن "لا" هذه على حقيقتها في النفي، يعني يراد بها النفي، وأنها ليست زائدة، كما يقولون: يعبر عن الزيادة بالصلة، يعني تأدبًا، فعلى القول بأن ذلك على بابه في النفي لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ نفيٌ للإقسام به، وَأَنتَ حِلٌّ هنا تكون بمعنى حالّ بمعنى نازل، يعني يقول: أنت أولى بالقسم من هذا البلد طالما أنك فيه، يعني أن الساكن أعظم من البقعة، الساكن الذي هو النبي ﷺ، الحالّ النازل أولى بالقسم من هذه البقعة على حرمتها، فالنبي ﷺ أعظم حرمة، فأنت أحق بالإقسام طالما أنك نازل في هذا البلد، هذا قال به بعض المفسرين كما سبق.
لكن هذا يحتاج إلى إثبات، أن حل بمعنى حالّ؛ لأن هذه المسألة ليست محل تسليم من قبل أهل العلم من أهل اللغة والمفسرين، بعضهم يقول: إن هذه المادة "حِل" معناها حلال الذي هو ضد الحرمة، وليس معناها "حالّ" إطلاقًا ولا تأتي بهذا المعنى فتلك مادة أخرى، لاحظ فيردون عليهم من هذه الحيثية يقولون: من ناحية اللغة لا تأتي حِل بمعنى الحلال الذي هو بمعنى الإقامة حَلّ بالموقع، حَلّ بالموضع، حل بالبلد، حل بالمكان، حل بالبقعة وإنما هو ضد الحرام، فهذه مسألة فيها كلام لأهل العلم، لذلك ذهب عامتهم إلى ما ذكر هنا من أن ذلك بمعنى الحل الذي هو ضد الحرمة، فيبقى عندنا على هذا معنيان من خلال ما سبق: المعنى الأول الذي عليه الجمهور وهو اختيار ابن كثير وابن جرير أُقسمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وعد من الله أن يجعلها حلالاً له، يعني عند فتحها، "أحلت لي ساعة من نهار"، الحل ضد الحرمة.
المعنى الثاني: أن تكون "لا" نافية -هنا "لا" على المعنى الأول لتقوية القسم، ليست نافية- على بابها، لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل يُستحل به أذاك، يستحل به عرضك، كما يستحل الصيد خارج الحرم، كل هذا يرجع إلى معنى حل الذي هو يقابل الحرمة، والله أعلم.
لكن البون بين القولين شاسع، فهذا القول الأخير ليس هو المتبادر، -والله تعالى أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ فيه قولان:
أحدهما: أنه من الإحلال وهو ضد الإحرام.
والثاني: أنه من الحلول وهو ضد الظغن، فإن أريد به المعنى الأول فهو حلال ساكن البلد، بخلاف المُحرم الذي يحج ويعتمر ويرجع؛ ولأن أمنه إنما تظهر به النعمة عند الحل من الإحرام، وإلا ففي حال الإحرام فهو في أمان، والحرمة هناك للفعل لا للمكان، والمقصود هو ذكر حرمة المكان وهي إنما تظهر بحال الحلال الذي لم يتلبس بما يقتضي أمنه، ولكن على هذا ففيه تنبيه، فإنه إذا أقسم به وفيه الحلال فإذا كان فيه الحرام فهو أولى بالتعظيم والأمن"[3].
لاحظ هذا يمشي على كلام ابن كثير: هذا قسم من الله تعالى بمكةفي حال كون الساكن فيها حلالاً لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها، يعني أَقسمَ بها في حال الحرمة، أو أَقسمَ بها في حال الحل، أُقسمُ بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد باعتبار أن هذه جملة ثانية، وأنت حل بهذا البلد مرتبطة بالقسم، أُقسمُ به حال كونك حلالاً فيه، فإذا كان القسم يدل على التعظيم حال كونه حلالاً، فكيف به إذا كان محرمًا؟! فيكون اجتمع فيه أمران: التحريم المتعلق بالبقعة، والتحريم المتعلق بالحال وهي الإحرام، يعني هذا مثل كلام ابن كثير.
وقال -رحمه الله: "وكذلك إذا أريد المعنى الثاني وهو الحلول فهو متضمن لهذا التعظيم مع تضمنه أمرًا آخر وهو الإقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده، فهو خير البقاع، وقد اشتمل على خير العباد، فجعل بيته هدى للناس، ونبيه إمامًا، وهاديًا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه، كما هو من أعظم آياته ودلائل وحدانيته وربوبيته، فمن اعتبر حال بيته وحال نبيه وجد ذلك من أظهر أدلة التوحيد والربوبية.
وفي الآية قول ثالث: وهو أن المعنى وأنت مُستحَلٌّ قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين، الذي يأمن فيه الطير والوحش والجان، وقد استحل قومك فيه حرمتك، وهم لا يعضدون بها شجرة، ولا ينفرون به صيدًا، وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد، وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم، موقعها من أحسن موقع وألطفه، فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله"[4].
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ هؤلاء الذين ذكرهم من السلف فسروا الوالد بآدم، وَمَا وَلَدَ يعني وولد آدم، وَمَا وَلَدَ "ما" هذه بمعنى "مَن"، ومعلوم أن "ما" تستعمل لغير العاقل، أو لغير من يوصف بالعلم، و"من" تستعمل للعاقل أو لمن يوصف بالعلم، يعني أحيانًا ما يعبرون بالعاقل يتحرزون يقولون مثلاً: الملائكة يوصفون بالعلم، ولا يقال: عقلاء، لأنه لم يرد هذا الوصف، فالغيبيات إنما يوقف في أوصافها على ما ورد من النقل، فهنا استعملت "ما" بمعنى "مَن" "وما ولد"، وعلى التفسير بأنه آدم مثلاً أو غير ذلك ممن يوصف بالعقل -يعني من العقلاء- فيكون ذلك دليلاً على جواز استعمال "ما" للعاقل وله نظائر في القرآن، وسيأتي -إن شاء الله: وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا "السماء وما بناها": ومَن بناها، يعني الله على أحد القولين المشهورين، بل هو الأشهر كما سيأتي -إن شاء الله، ومَن بناها يعني الله، "والأرض وما طحاها" يعني ومن طحاها أي الله، "ونفس وما سواها": ومن سواها.
القول الآخر فيها: أن "ما" مصدرية، وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا، وهكذا في الألفاظ التي بعده.
فهنا وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ بمعنى ومَن ولد، يعني أقسم بالوالد وبولده أيضًا، فهنا هؤلاء من السلف قالوا: الوالد آدم، "وما ولد" يعني ومن ولد، يعني وأولاده، أقسم بآدم وولده.
وابن كثير قال: هذا حسن قوي وعلل ذلك بأنه أقسم بأم القرى وهي المساكن فأقسم بعده بالساكن وهم بنو آدم، وهذا مثلما أشار ابن القيم -رحمه الله، إلا أن ابن القيم هناك يتحدث عن النبي ﷺ لكنه لم يكن يتحدث عن هذا، على كل حال هذا قول وليس ذلك محل اتفاق، لكن الذين قالوا: إنه آدم ومن ولد قالوا: لأنه يعني ليس الحيوانات مثلا وإنما آدم وولده، أقسم الله بهم لأنهم أعجب ما خلق الله في الأرض، وهم الأشرف، لما فيهم من الأوصاف التي تميزوا بها من العقل والبيان خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [سورة الرحمن:3، 4] فميّزه بهذه الأمور عن جملة هذه المخلوقات، ميزه بالتدبير، هذه المخلوقات لا عقل لها، ولا بيان، فهي لا تبين عما في نفسها، وليس لها تدبير، وإنما يدبرها أربابها، والبشر فيهم الأنبياء، والعلماء، والصالحون، وهذا لا يوجد في غيرهم من هذه المخلوقات التي بثها الله في هذه الأرض إلا أنه يوجد في الجن من أهل الصلاح، لكن لا يوجد فيهم أنبياء، فهذا توجيه لتفسيره بآدم وأولاد آدم، والولد يشمل الذكر والأنثى كما هو معلوم، فالذكر يقال له: ابن، والأنثى يقال لها: بنت.
وبعضهم حمل قوله: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ على هذا النوع من المخلوقات -بني آدم- لكنه خصه بشيء أعلق بالبيت الحرام، قالوا: الوالد إبراهيم ، والولد إسماعيل ، وبعضهم يقول: الولد هو إسماعيل، ومحمد ﷺ؛ لأنهم الذين كانوا بمكة، فإسماعيل -عليه الصلاة والسلام- كان بمكة، ومحمد ﷺ أيضًا كان بها.
وبعضهم كعكرمة وسعيد بن جبير يقولون: وَوَالِدٍ يعني الذي يولد له، وَمَا وَلَدَيعني العاقر، جعلوا "ما" نافية، حملوا الآية على النوعين من يولد له، ومن هو عقيم وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لكن التركيب على هذا المعنى يكون قلقًا، هذا قسم فيكون أقسم بالوالد هل الوالد يعني من له ولد، "وما ولد" من لم يولد له؟ أقسم بمن يولد له ومن لا يولد له؟ هذا فيه بُعد، والله تعالى أعلم.
وأحسن من هذا كله ما قاله ابن جرير -رحمه الله- من أن ذلك يحمل على العموم، فإن الله -تبارك وتعالى- لم يقيد ذلك بمعنى خاص، لم يقيده بآدم، لم يقيده بفرد من الأفراد، ولم يقيده بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام، وإنما قال: وَوَالِدٍ فيشمل كل والد، وَمَا وَلَدَ يشمل كل من كان منه من الأولاد.
وعلى هذا الإطلاق فإن ذلك يشمل الآدميين وغير الآدميين، ومن هنا يمكن تخريج استعمال "ما" هنا في كونها جاءت واستعملت في موضع "مَن" يعني إذا كان آدم وإبراهيم والناس فهذا يستعمل معه في الأصل "مَن"، فاستعملت "ما"، فهنا يقال: هذه من الحالات الثلاث التي تستعمل فيها "ما" في موضع "مَن" أنه إذا اشترك العاقل وغير العاقل فعبر عن ذلك فقد تستعمل "ما" التي لغير العاقل لكون غير العاقل أكثر، يعني يسمونه التغليب، غلّب غير العاقل على العاقل؛ لكون غير العاقل أكثر يدخل فيه بهيمة الأنعام، يدخل فيه الوحوش، يدخل فيه الحشرات، يدخل فيه الأسماك، يدخل فيه خلائق لا يحصيها إلا الله ، أما العاقل فيدخل فيه الإنس والجن فقط، فيكون من باب التغليب استعملت "ما" في موضع "مَن".
نعم هذه المعاني التي ذكرت هي جميعًا ترجع إلى شيء واحد، يعني هذا الذي يسمى باختلاف التنوع الذي مضى الكلام عليه في شرح مقدمة أصول التفسير، اختلاف التنوع كل هذا يرجع إلى شيء واحد، فكل واحد عبر بعبارة هي في نفس المؤدى وتدور حول المعنى الذي عبر عنه الآخر، كل ذلك يرجع إلى معنى متحد.
فهنا قوله -تبارك وتعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ هذا جواب القسم، أُقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد، أقسم بالوالد وما ولد، على ماذا؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، هذا هو المُقسم عليه، فهنا هذه الأقاويل في شدة خلقه وذكر مولده ونبات أسنانه، هؤلاء الذين نقلوا هذا المعنى عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وهكذا أيضًا نطفة ثم علقة ثم مضغة يتكبد في الخلق، وحملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا وأرضعته كرهًا ومعيشته كره فهو يكابد ذلك، وفي شدة وطلب معيشة إلى آخر ما ذُكر.
هنا كلام الحسن أعم وأوسع يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة، وجاء عنه: يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء، هذا عن الحسن أيضًا، ابن جرير فسره بمعنى عام كعادته.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ حذف المقتضى ما قال: في كبد في كذا في خلقه ونشأته وولادته مثلاً، فِي كَبَدٍ في طلب معيشته، وإنما ذلك على العموم "في كبد" يعني في شدة يكابد الأمور ويعالجها، خُلق الإنسان فكان ذلك سمة له حينما خُلق فهو يكابد، خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [سورة طه:117].
الجنة لا كبد فيها ولا شقاء ولا معاناة ولا تعب، أما هذه الحياة الدنيا فهي معاناة منذ أن يكون الإنسان حملاً في بطن أمه، فأمه تكابد، والله أعلم بحاله حينما ينتقل في هذه الأطوار، فيثقل حملها ثم تعاني من الولادة، فيخرج إلى الدنيا باكيًا، يستقبلها باكيًا، فيخرج إلى عالم جديد لم يألفه، ثم بعد ذلك يبدأ في مكابدة من أجل أن يتعرف على ما حوله، يكابد في طعامه وشرابه، يكابد في مزاولاته كلها، في مراحله المختلفة منذ نشأته وطفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته وهو في كبد، يطلب الرزق في كبد، يعاني من الآلام والأمراض في كبد، يعاني من الهموم في كبد، يعاني من المشكلات في كبد، يعاني من الحر والبرد هو في كبد، يعاني من أذى الناس فهو في كبد، يكابد مع النفس في مجاهدتها فهي تدعوه إلى الشهوات وهو يحجزها فهو في كبد، في كل أحواله يكابد، في كبد مع الشيطان، وما يدعوه إليه وما يوسوس به، كل هذا كبد.
فهذا دل على أن السمة البارزة التي خلق عليها هذا الإنسان هي المكابدة، هذا هو الأصل وما يعرض له من الراحة فإن ذلك أيضًا لا يخلو من مكابدة، وهو لا ينفي هذا الوصف المستمر الثابت الراسخ فيه، وهذا أمر في غاية الأهمية إذا عرفه الإنسان، ووطن نفسه عليه فإنه يخف عليه هذا الكبد، يعني يعرف أن هذه هي طبيعة الحياة، وأن هذا هو الأصل فيها، وأن الراحة إنما هي في الجنة، وليست في الدنيا، وأن الدنيا محل مكابدة.
معاناة مستمرة يعاني مع الأولاد، والذي ليس عنده أولاد يعاني، الأولاد يعانون، الفقير يعاني، والغني يعاني، والصحيح يعاني، والمريض يعاني، والطبيب يعاني، والمطبَّب يعاني، الكل يعاني، الكل في معاناة، فإذا لقي الشدائد وحصل له ما يكرهه في هذه الحياة الدنيا تذكر أن هذه جبلتها وطبيعتها، وأنها خلقت على هذا وهكذا ركبت، وركب هذا الإنسان، فعلاقته معها مبنية على هذا الأصل والأساس، فلا يحصل له تعجب واستغراب ويستنكف أو يستنكر ما يعرض له من الشدائد في هذه الحياة الدنيا، الأصل فيها المكابدة، والله قال: لَتُبْلَوُنَّ [سورة آل عمران:186] فهذا لابدّ منه.
ولهذا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ [سورة الأحزاب:22] مباشرة قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هم ماذا رأوا؟ رأوا الابتلاء، رأوا الأعداء يحيطون بهم قد نزلوا بساحتهم، رأوا الخوف وموجبات الخوف الذي بلغت منه القلوب الحناجر، ومع ذلك كان الجواب هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
تذكروا أن الله وعدهم بالابتلاء لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ [سورة التوبة:16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:214] تذكروا هذا المعنى وأنه أمر لابدّ منه، فلما لاح لهم البلاء قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فكان ذلك سببًا للثبات.
فإذا تذكر الإنسان هذا الأصل كان ذلك من أعظم ما يعينه على الثبات وملاقاة الشدائد والأهوال بالصبر واليقين، فلا ينكسر، أو يسوء ظنه بربه -تبارك وتعالى، أو يتسخط على القدر كما قال المنافقون: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12] يعني وعودًا لا حقيقة لها، أين النصر وهؤلاء الأعداء يحيطون بنا، والواحد لا يستطيع أن يقضي حاجته من شدة الخوف لا يأمن، فأين الوعد الذي وعدنا به من النصر والتمكين؟
الصحابة مباشرة قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كما قال ابن كثير -رحمه الله: الابتلاء الذي يعقبه النصر، جمع بين المعنيين؛ لأن المفسرين بعضهم قال: النصر، وبعضهم قال: الابتلاء، الابتلاء الذي يعقبه النصر، فإن النصر والتمكين لا يحصل إلا بعد الابتلاء، لا يحصل إلا بعد التمحيص، فإذا كان الناس يُمكَّنون من غير تمحيص ولا ابتلاء هرول معهم من يصبر ومن لا يصبر، هرول معهم صحيح الإيمان وسقيم الإيمان، المؤمن والمنافق، والله المستعان.
فالحسن يقول: يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء، لا يخلو عن أحدهما، يعني هو في حال النعمة يكابد، في حال الضر يكابد، وابن جرير يقول: يكابد يعني في شدة يكابد الأمور ويعالجها، هذا هو المراد -والله تعالى أعلم، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، فهذا من أهم الأشياء التي تروض النفوس في سيرها في هذه الحياة الدنيا من أجل أن توطن على لون من الصبر لا يحصل معه انكسار وجزع وتراجع في مطالب الدنيا أو في مطالب الآخرة، قد تأتيه المصائب في دنياه في أمواله، يموت أحد، يموت الأولاد، يموت الأب ويبقى الأولاد صغارًا ما عندهم أحد إلى غير ذلك، وفي أمور الآخرة أيضًا يبتلى في دينه، في إيمانه.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "فذكر فيه جواب القسم، وهو قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، وفسر الكبد بالاستواء وانتصاب القامة، قال ابن عباس في رواية مُقسِم: منتصبًا على قدميه، وهذا قول أبي صالح والضحاك، وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بن شداد، قال المنذر: سمعت أبا طالب يقول: الكبد الاستواء والاستقامة.
وفُسر بالنصَب، وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ورواية عن علي وعن ابن عباس، قال الحسن: لم يخلق الله خلقًا يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال سعيد بن أبي الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة، وقال قتادة: يكابد أمر الدنيا والآخرة، فلا تلقاه إلا في مشقة، وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: يعني حمله وولادته، ورضاعه وفصاله، ونبت أسنانه وحياته ومعاشه ومماته وكل ذلك شدة، قال مجاهد: حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا ومعيشته في شدة فهو يكابد ذلك.
وعلى هذا فالكبد من مكابدة الأمر وهي معاناة شدته ومشقته، والرجل يكابد الليل إذا قاسى هوله وصعوبته، والكبد شدة الأمر، ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد، ومنه الكبِد؛ لأنه دم يغلظ ويشتد، وانتصاب القامة والاستواء من ذلك؛ لأنه إنما يكون عن قوة وشدة، فإن الإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم ثم في القِماط والرباط، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة العيش، والأمر والنهي، ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة له إلا في الجنة.
وفُسر الكبد بشدة الخلق، وإحكامه وقوته، ومنه قول لبيد:
يا عينُ هلّا بكيتِ أرْبدَ إذ | قمنا وقام الخصومُ في كبدِ؟ |
أي: في شدة وعناء، وهذا يشبه قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [سورة الإنسان:28]، قال ابن عباس: أي: خلقهم، وقال أبو عبيدة: الأسر شدة الخلق، يقال: فرس شديد الأسر، قال: وكل شيء شددته من قتب أو غيره فهو مأسور، وقال المبرد: الأسر القُوى كلها، وقال الليث: الأسر قوة المفاصل والأوصال.
وشد الله أسر فلان، أي: قوى خلقه، وكل شيء جُمع طرفاه فشد أحدهما بالآخر فقد أسر، وقال الحسن: شددنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب، وقال مجاهد: هو الشرج يعني موضع البول والغائط إذ خرج الأذى تقبُّرًا.
والمقصود أنه سبحانه أقسم في سورة البلد على حال الإنسان، وأقسم سبحانه بالبلد الأمين وهو مكة أم القرى، ثم أقسم بالوالد وما ولد وهو آدم وذريته في قول جمهور المفسرين، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان، وأصل السكن، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم"[5].
وقوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قال الحسن البصري: يعني أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يأخذ ماله؟
وقال قتادة: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قال: ابن آدم يظن أن لن يُسأل عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني الله يقول إنه خلق هذا الإنسان بهذه الصفة في كبد فكيف يتوهم ألا يقدر عليه أحد، الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلقه، وهو الذي جعله بهذه المثابة فكيف يتطاول ويتعاظم فيتوهم أنه ممتنع من ربه -تبارك وتعالى؟ وذلك كما قال الله : كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، وصاحب الجنة لما دخلها قال: مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [سورة الكهف:35، 36].
فهذه حال للإنسان الذي لم ترتضِ نفسه بالإيمان أنه إذا وجد من نفسه قوة وعافية أو غنى فإنه سرعان ما ينسى ما هو فيه من الضعف، وما جُبل عليه من الكبد والشدة وما إلى ذلك، وإذا لاقى هذه الشدة سرعان ما ينكسر ويجزع كما قال الله : إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19-22] وذكر أوصاف هؤلاء الذين يثبتون في هذه الأحوال في حال الرخاء والنعمة، وفي حال الشدة، وإلا فأكثر الخلق هم بمنأى عن ذلك، إذا أصابته النعم صارت حاله إلى الطغيان، وشمخ بأنفه، وتعاظم وظن أنه لا يقدر عليه أحد، وإذا أصابته شدة حصل له الضعف والخور واليأس وظن أنها هي النهاية.
والحافظ ابن القيم هنا له تعليق، وأنا أقول: أرى أنه من المفيد جدًّا الوقوف على بعض النقولات والاطلاع عليها، نحن لا ننقل كل شيء من كلام ابن القيم ولا من غيره من المفسرين، يعني للمفسرين كلام كثير، ولكن في كلام ابن القيم ما لا يوجد في غيره، فيقول -رحمه الله تعالى: "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور، فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق، فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادراً في نفسه؟! فهذا برهان مستقل بنفسه مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم، فنبه على ذلك بقوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وبقوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيحصي عليه ما عمل من خير وشر، ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه؟
ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أُمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكا له بل تقربًا به إلى الله، وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه، وذلك ليس بإهلاك له، فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه فيها إهلاك له.
ثم وبخه بقوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ وأتى ههنا بلم الدالة على المضي في مقابلة قوله: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه؟
ثم ذكر برهانا مقدرًا أنه سبحانه أحق بالرؤية، وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما، فكيف يعطيه البصر من لم يره؟ وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين واللسان فينطق ويبين عما في نفسه، ويأمر وينهى من لا يتكلم ولا يُكلَّم، ولا يخاطب ولا يأمر ولا ينهى؟ وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟
ومن جعل غيره عالمًا بنجدي الخير والشر -وهما طريقهما- أليس هو أولى وأحق بالعلم منه؟ ومن هداه إلى هذين الطريقين كيف يليق به أن يتركه سدى لا يُعرفه ما يضره وما ينفعه في معاشه ومعاده؟ وهل النبوة والرسالة إلا لتكميل هداية النجدين؟ فدل هذا كله على إثبات الخالق وصفات كماله وصدق رسله ووعده.
وهذه أصول الإيمان التي اتفقت عليها جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، إذا تأمل الإنسان حاله وخلقه وجده من أعظم الأدلة على صحتها وثبوتها، فتكفي الإنسان فكرته في نفسه وخلقه، والرسل بعثوا مذكرين بما في الفطر والعقول مكملين له؛ لتقوم على العبد حجة الله بفطرته ورسالته، ومع هذا فقامت عليه حجته، ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق؛ ليخلصه الله من رق نفسه ورق عدوه.
وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه عليه، وهو تصديق خبره، وطاعة أمره، وابتغاء وجهه، وبنصيحة غيره أن يوصيه بالبر والرحمة، ويقبل وصية من أوصاه بها فيكون صابراً رحيمًا في نفسه معينًا لغيره على الصبر والرحمة.
فمن لم يقتحم هذه العقبة وهلك دونها هلك منقطعاً عن ربه غير واصل إليه بل محجوباً عنه، والناس قسمان: ناجٍ وهو من قطع العقبة وصار وراءها، وهالك وهو من دون العقبة وهم أكثر الخلق، ولا يقتحم هذه العقبة إلا المُضَمَّرون، فإنها عقبة كئود شاقة لا يقطعها إلا خفيف الظهر، وهم أصحاب الميمنة، والهالكون دون العقبة الذين لم يصدقوا الخبر ولم يطيعوا الأمر فهم أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ قد أطبقت عليهم فلا يستطيعون الخروج منها، كما أطبقت عليهم أعمال الغي والاعتقادات الباطلة المنافية لما أخبرت به رسله، فلم تخرج قلوبهم منها، كذلك أطبقت عليهم هذه النار فلم تستطع أجسامهم الخروج منها.
فتأمل هذه السورة على اختصارها وما اشتملت عليه من مطالب العلم والإيمان، وبالله التوفيق"[6].
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا كما ذكر هنا، وكما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- "لبدًا" أي: كثيرًا مجتمعًا، يعني أن بعضه على بعض مثلما يقال: هذه أشياء ملبَّدة، يقال: تلبد الأمر أو الشيء الفلاني تلبد، يعني صار بعضه على بعض، فهذا الإنسان يكون مخبرًا عن نفسه بأنه أهلك هذا المال الكثير، الليث يقول: مَالًا لُّبَدًا أي: كثيرًا، لا يخاف فناءه، يقول: أهلكت مالاً كثيرًا، لا يخاف فناءه لكثرته، وابن جرير -رحمه الله- يقول: أهلكت مالاً كثيرًا في عداوة محمد ﷺ، يعني المعنى الذي ذكره هؤلاء من المفسرين غير ابن جرير وهو الذي مشى عليه ابن القيم أن هذا الإنسان يقول: أهلكت مالاً كثيرًا، يقوله على سبيل التبجح والافتخار، أنفق ذلك في شهواته ولذاته، والكلام كما سبق في الإنسان المعرض عن ربه -تبارك وتعالى.
وهو يقول: أهلكت مالاً كثيرًا، فهو يتحدث عن سالف أيامه، وعما صدر منه، فيقول: إنه قد أنفق أموالاً طائلة في هذه الشهوات، ونسي أن الله -تبارك وتعالى- سيحاسبه عليها.
المعنى الذي ذكره ابن جرير أخص من هذا، يقول: أهلكت مالاً لبدًا أي في عداوة محمد ﷺ، وفي حرب الإسلام وفي الكيد لهذا الدين وأهله، أنفق الأموال الطائلة لكن هذه النفقات هو سيحاسب عليها، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟! فحينما أنفق هذه النفقات في حرب الإسلام، لحرب الدين، في عداوة أولياء الله كيف يغفل أو كيف غفل عن مراقبة الله له؟! وهنا يقول: أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ابن جرير يقول: أن لم يره أحد في حال إنفاقه، يزعم أنه أنفقه، يعني حينما يخبر عن هذا أيحسب أن لم يره أحد في حال إنفاقه؟
وهكذا ما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فيما بعده من قوله: أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ أي: يبصر بهما، وَلِسَانًا أي: ينطق به فيعبر عما في ضميره، وَشَفَتَيْنِ يستعين بهما على الكلام، وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه، بمعنى أن الذي أعطاه ذلك قد أحاط به علمًا فهو يراه ويطلع على كل حالاته، وحينما أنفق هذه الأموال فيما أنفقها به من مساخط الله فالله كان على إطلاع تام عليه، والله أخبر عن مآل تلك الأموال التي ينفقها هؤلاء من أهل الإجرام في حرب دينه وأوليائه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36] ثم حكم حكمًا مبرمًا فهذا أصل كلي لا يتبدل ولا يتحول ولا يتغير، قاعدة مستمرة فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ فالله حكم على هذه الأموال التي تنفق للصد عن سبيل الله دائمًا بأن هذا هو مصيرها ومآلها فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.
فالعاقبة للمتقين، وهؤلاء مهما أنفقوا من الأموال فلا تكترث بكثرتها، ولا يحصل للإنسان شيء من الانكسار واليأس حينما يرى هذه الأرقام الهائلة تنفق في الصد عن سبيل الله ، وإنما نتيجتها محسومة من البداية كثرت أو قلت، لكن إذا كثرت زادت الحسرة على أصحابها، وكانت الغلبة في حقهم أعظم، "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة"، هذا حكم الله الذي بيده مقاليد الأمور، ونواصي الخلق بيده، وما الخلق بالنسبة إلى عظمته وجبروته -تبارك وتعالى؟ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً.
فإذا رأيت الإنفاق في الصد عن سبيل الله فلا يحصل لك أدنى شك في أن مصير هذه النفقات البوار والدمار والهلاك، ليس فيما أنفقت من أجله من الصد عن سبيل الله فيحصل مقصودهم بذلك، وإنما في ضده، وهو فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ لا يخرجون بطائل، فدين الله -تبارك وتعالى- منصور، والله متم نوره، وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة:32] لا يستطيع أحد أن يقف دون هذا، ولا أن يغير هذا الحكم، ولا أن يغير هذه السنة المستمرة، ولكن الله يبلو بعض الخلق ببعض، فيكون بعضهم من الأشرار من حزب الشيطان وأوليائه، ويكون بعضهم من أهل الإيمان فتحصل المدافعة، ويبلو ربنا -تبارك وتعالى- الناس بعضهم ببعض فيحصل التمحيص والرفعة لأهل الإيمان، ويحصل لأهل الشر والفساد الكبت، والله المستعان.
فهنا يقول: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ يقول مجاهد: أيحسب أن لم يره الله ؟ وكذا قال غيره من السلف.
يعني بأي شيء يترفع؟ بأي شيء يستكبر؟ بأي شيء يتبجح؟ وبأي شيء يحارب ربه -تبارك وتعالى، وهو الذي ركب له هذه الأشياء، جعل له ما يبصر به وما يبين به عما في نفسه من لسان وشفتين وما إلى ذلك،
فهو تحت قهره وتصرفه وتدبيره، فحينما يتكلم ويتفوه بالباطل فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق له هاتين الشفتين، وهو عالم بما يصدر عنه، وهكذا حينما يزاول مساخط الله -تبارك وتعالى.
إذا أطلق عبد الله فالمراد به ابن مسعود .
هذا الذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم أن النجدين يعني الطريقين الخير والشر.
يعني ومحمد بن كعب والضحاك وعطاء الخرساني في آخرين.
يعني إذًا وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ يعني طريقي الخير والشر، وهذه الهداية تحتمل أن يكون المراد بها هداية بمعنى الإرشاد بيّنا له طريق الخير وطريق الشر، وضحها وبينها بيانًا لا يلتبس، ويحتمل أن يكون ذلك بمعنى هداية التوفيق، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [سورة الشمس:8].
ولكن المعنى الأول -والله تعالى أعلم- كأنه أولى وأقرب، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ بيّنا له طريق الخير والشر؛ لأنه ذكرهما معًا "هديناه النجدين" فيكون ذلك بمعنى الإرشاد والدلالة.
وقريب من هذا في الاحتمال والمعنى ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2] هنا جاء بالفاء التي تدل على التعقيب المباشر، فيحتمل كما سبق: خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ يعني بين لكم طريق الخير والشر حتى شب الإنسان، واختار بعضهم طريق الخير، واختار بعضهم طريق الشر، وهذا الذي قال به الجمهور.
وتكون الفاء هنا مع أنها للتعقيب المباشر لكن القاعدة: "أن المباشرة في كل شيء بحسبه" مثل: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [سورة المؤمنون:14]، مع أن بينهما مدة، أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [سورة الرعد:17] فالأودية لا تسيل إلا بعد مدة من نزول المطر واجتماع الماء، فالمباشرة في كل شيء بحسبه.
فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحج:63] إذا نزل المطر من السماء تصبح الأرض مخضرة بعد مدة، فهناك فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ لما شب الإنسان وأدرك وصار يميز اختار بعضهم طريق الخير، وبعضهم طريق الشر.
والمعنى الآخر: خلقكم هكذا، خلق خلقًا للجنة، وخلقًا للنار، فهذا معنى صحيح، مع ملاحظة ما يقوله الجبرية في تفسير هذه الآية، لكن أهل السنة يقولون في القدر بخلاف قولهم، فالإنسان له قدرة ومشيئة واختيار، ولكن ذلك لا يخرج عن قدرة الله ومشيئته، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الإنسان:30].
هنا وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ هذا المعنى الذي ذكره يعني الخير والشر، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [سورة الإنسان:3] هذا أيضًا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
- رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب لا يعضد شجر الحرم، برقم (1832)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، برقم (1354).
- رواه البخاري، كتاب العلم، باب ليبلِّغ العلمَ الشاهدُ الغائبَ، برقم (104)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، برقم (1354).
- التبيان في أقسام القرآن (ص:36).
- المصدر السابق (ص:36، 37).
- المصدر السابق (ص:24).
- المصدر السابق.