بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمه الله: وقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [سورة الليل:14] قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ تَوَهَّجُ.
روى الإمام أَحْمَدُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ يَقُولُ: أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي هَذَا، قَالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ[1].
روى الإمام أَحْمَدُ عن أبي إسحاق: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تُوضَعُ فِي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دِمَاغُهُ[2][رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَروى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدَّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لأهونُهم عذابًا[3].
وقوله تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15] أَيْ: لَا يَدْخُلُهَا دُخُولًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ إِلَّا الْأَشْقَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: الَّذِي كَذَّبَ أَيْ بِقَلْبِهِ: وَتَوَلَّى [سورة الليل:16] أَيْ عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ وَأَرْكَانِهِ.
روى الإمام أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى[4][ورَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [سورة الليل:17] أَيْ وَسَيُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الْأَتْقَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [سورة الليل:18] أَيْ يَصْرِفُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، لِيُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا.
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى [سورة الليل:19] أي ليس بذله ماله فِي مُكَافَأَةِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ مَعْرُوفًا، فَهُوَ يُعْطِي فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ: ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:20] أَيْ: طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [سورة الليل:21] أَيْ: وَلَسَوْفَ يَرْضَى مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى قال مجاهد: أي توهج، واختاره ابن جرير -رحمه الله.
وقوله -تبارك وتعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ذكرنا -من قبل- أن الصِلي -صلي النار- ينتظم معنيين:
الأول: الدخول.
والمعنى الثاني: الاحتراق فيها، يعني أن يقاسي حرها.
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى والأشقى أفعل تفضيل، والمراد به مطلق الاتصاف -والله تعالى أعلم، يعني: لا يصلاها إلا الشقي، وقد مضى نظائره في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، وقد بينا أن "أفعل" التفضيل قد يأتي مرادًا به التفضيل: الْأَشْقَى يعني الأكثر شقاءً، فإن "أفعل" التفضيل يكون بين مشتركين في صفة زاد أحدهما على الآخر فيها، فتقول: فلان أتقى من فلان، فلان أقوى من فلان، فلان أغنى من فلان، وقد اشتركا في هذه الصفة، وقد يراد به مطلق الاتصاف، وذكرنا شاهد ذلك، كقول الشاعر:
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أمُوتَ وإنْ أمتْ | فَتِلْكَ طَرِيقٌ لَسْتُ فِيها بأوْحَدِ |
يعني ليس فيها بواحد.
وهنا: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى يعني الشقي.
يقول: "أي لا يدخلها دخولاً يحيط به من جميع جوانبه إلَّا الْأَشْقَى قال: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى" إلى آخره، يعني قد يدخل أحد من أهل الإيمان والتوحيد، ولكنه يخرج، فلا يخلد فيها.
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ولو أن أحدًا من الناس حمله على ظاهره، يعني أن: الْأَشْقَى "أفعل" تفضيل، فهل يمكن أن يخرَّج هذا؟
الجواب: نعم، باعتبار أن "أفعل" التفضيل لا تمنع من التساوي، ولكنها تمنع من أن يزيد أحد على هذه الصفة، وهذا الجواب ذكرناه في الآيات التي قد يفهم منها أنها لربما يخالف بعضها بعضًا في الظاهر؛ كقوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] يعني: لا أحد أظلم.
"مَن" هنا استفهامية، مضمنة معنى النفي، لا أحد أظلم.
وفي موضع آخر: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [سورة السجدة:22] لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه، ثم أعرض عنها، إلى غير ذلك من الآيات.
وذكرنا جوابين أحدهما هو الذي يعنينا هنا، وهو: أن هؤلاء جميعًا قد اشتركوا في الصفة العليا من الظلم، كلهم قد بلغ في الظلم غايته، فإن "أفعل" التفضيل لا تمنع التساوي، ولكنها تمنع الزيادة، أن يزيد أحد منهم على هؤلاء بهذه الصفة.
كلهم بلغ في الظلم غايته، تقول في مناسبة: "فلان أظلم الناس"، وفي مناسبة أخرى تذكر آخر، وتقول: "فلان أظلم الناس" لا تعارض، كلهم قد بلغ الغاية في الظلم.
فهنا: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى فيمكن أن يقال: هؤلاء الذين قد بلغوا في الشقاء غايته، وهم الكفار.
ولكن الأول أقرب وأسهل، ولا يحتاج إلى هذا التخريج، يعني حينما نقول: إن ذلك المراد به مطلق الاتصاف، يعني الشقي.
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى كذب فلم يؤمن بما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
وَتَوَلَّى يعني أعرض، ولم يرفع بذلك رأسًا.
ثم قال الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى هنا نفس الكلام: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، ولا شك أن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- هو أولى من يدخل في هذه الآية بعد النبي ﷺ من هذه الأمة.
وتجد في كثير من الآثار المنقولة عن السلف ، وفي كتب التفسير: أن المراد بـالْأَتْقَى أبو بكر .
ولا شك في دخوله فيها، لكن كأنهم نظروا إلى أن: الْأَتْقَى "أفعل" تفضيل، يعني أكثر تقوى، والذين يجنبون النار هنا ليس أكثرهم تقوى، وإنما المقصود -والله أعلم- مطلق الاتصاف، يعني: سيجنبها التقي، يعني أن "أفعل" التفضيل غير مراد.
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى تأمل عبارة ابن كثير -رحمه الله- قال: "يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله، وما وهبه الله من دين ودنيا".
يعني تزكية النفس تزكية لدينه، وتزكية المال؛ لينمو ويتطهر، فابن كثير -رحمه الله- جمع بين المعنيين.
بمعنى: أن قوله: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن ذلك يرجع إلى المال، يعني: يؤتي ماله، وينفقه، ويخرجه في سبيل الله، ليتزكى هذا المال. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى يزكيه بذلك.
والمعنى الثاني: أن ذلك يرجع إليه، إلى المنفق، يخرج ماله، ويبذله؛ ليزكي نفسه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [سورة التوبة: 103].
فهذه الصدقات تُزكِّي، يحصل بها تزكية النفوس، ويحصل بها تزكية المال في آن واحد.
ولذلك فإن هذين المعنيين داخلان في هذه الآية -والله أعلم-يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىفإنه يزكي نفسه بذلك، وهو أيضًا يزكي هذا المال ويطهره.
فالزكاة والصدقة يحصل فيها التزكيتان، فهي تزكي النفوس، وتزكي الأموال.
تطهر النفوس من الشح والبخل، وكذلك أيضًا تطهر المال مما داخله من الشوائب والمكاسب التي قد يكون عليه فيها تبعة.
فابن كثير هنا جمع المعنيين، قال: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى"أي: ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفًا، فهو يعطي في مقابلة ذلك"، يعني هنا قوله: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى المشهور الذي عبر به أكثر المفسرين، وهو الذي مشى عليه ابن كثير: ما لأحد عنده من نعمة تجزى في الماضي، يعني ليس لأحد عليه يد فهو يكافئه بها حينما يعطي وينفق.
يعني هذا العطاء ليس بمكافأة على أيادٍ سابقة، وإفضال مِن قِبَل هؤلاء المُعطَيْن، وإنما كل ذلك طلبًا لما عند الله -تبارك وتعالى.
يعني ليس هو على سبيل المجازاة والمكافأة، هذا معنى.
والمعنى الثاني الذي ذكره بعض أهل العلم: أن ذلك في المستقبل: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، يعني هو حينما يعطي لا ينتظر عائدة من هذا المُعطَى في المستقبل أن يكافئه على هذا، أو يرجِّي منه نفعًا، أو أن يدفع عنه ضرًّا، وإنما يريد ما عند الله -تبارك وتعالى.
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى الكثيرون حملوه على الماضي، ما لأحد عنده شيء متحقق وحاصل، لكن من قال: إن ذلك في المستقبل فإن ظاهر اللفظ -والله تعالى أعلم- لا يمنع منه، ما لأحد عنده يعني في نفسه وقصده ونيته.
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى [سورة الليل:19] حينما يعطي هو لا ينتظر، ليس في نفسه أن يكافَأ على هذا الإحسان، والإفضال والعطاء.
والفرق واضح بين المعنيين.
لكن المشهور هو الأول: أن هذا العطاء ليس بمقابل نفع سابق، ويد سابقة يريد أن يكافِئ عليها، إنما هو لوجه الله.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه يحسن للإنسان أن يكون أمره لله من أوله إلى آخره، وهذا لا يتأتى إلا أن لا يكون لأحد عليه يد.
بمعنى أنه إن كان لأحد عليه يد هذا قدم له مساعدة، وهذا أحسن إليه، وهذا شفع له، وهذا كذا، وهذا.. فهو مأسور بهذه الأيادي.
فهو حينما يقدم الإحسان إلى الناس ويبذل فكأنه يكافئ هؤلاء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يقول قائل: إنه يعطي من ليس له يد عنده، يعطي هؤلاء الفقراء وليس لهم يد، فنظروا إلى ملحظ أدق من هذا، وهو النفي المطلق، قالوا: هذا الإنسان ليس لأحد عنده نعمة تجزى مطلقًا، فـ"أحد" هنا نكرة في سياق النفي، فتعم، ليس لأحد: أيّ أحد، عنده من نعمة تجزى: أيّ نعمة، سواء كانت حسية أو معنوية.
مِن نِّعْمَةٍ فإن "نعمة" هنا نكرة مسبوقة أيضًا بـ"من" وهذا نص صريح في العموم.
ليس لأحد: أيّ أحد، نعمة: أيّ نعمة دقت أو جلت، ليس عنده نعمة تجزى، قالوا: هنا قيدت بالإجزاء.
فكل نعمة يمكن أن تجزى إلا نعمة الإيمان والإسلام، يقولون: أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- أخبر النبيُّ ﷺ عنه بقوله: مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلا كَافَأْنَاهُ مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[5].
فإذا كان النبي ﷺ يقول في حقه هذا!، قالوا: وأما غيره كعليٍّ -رضي الله تعالى عنه- مثلاً فقد تربى في حجر النبي ﷺ، فالنبي ﷺ له نعمة عليه غير نعمة الإيمان والإسلام، وهداية الإرشاد، فالنبي ﷺ له نعمة.
فالشاهد هنا أنهم نظروا إلى القيد "ما لأحد عنده من نعمة تجزى"، ما هي النعمة التي تجزى؟
قال النبي ﷺ: إِلا كَافَأْنَاهُ مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ يعني: كل واحد له يد جوزي عليها، إلا الصديق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
فالنعمة الوحيدة التي لا يمكن أن يجازِي عليها نعمة الإيمان والإسلام، فهنا قيدت النعمة بأنها تجزى، "وما لأحد عنده من نعمة تجزى"، نظروا إليها بهذا القيد، وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:20].
قالوا: وهذا لا يتحقق إلا في أبي بكر -رضي الله تعالى عنه.
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:19، 20] فهذه النعمة التي لا تجزى هي نعمة الإيمان، فنفى أي: نعمة أخرى.
يعني الذين قالوا: هو أبو بكرقالوا: أبو بكر ليس لأحد عليه يد أو نعمة أسداها إليه يمكن أن يجزى عليها، إنما كان هو الذي يعطي، هو الذي كان ينفق، هو الذي كذا.
وهناك نعمة لا تجزى، لا يستطيع أن يجزِي عليها هي الإسلام والإيمان، فهذه من النبي ﷺ لأبي بكر ، هو الذي دعاه، وهو الذي أرشده، والله وفقه، فقالوا: والنعمة المنفية هنا هي النعمة التي تجزى.
كل هذا توجيه لقول من قال: إن المقصود به أبو بكر -رضي الله تعالى عنه.
بعض أهل العلم قال في هذا الموضع: إنه ينبغي للإنسان أن لا يكون لأحد عنده نعمة تجزى، وإنما تكون اليد العليا خيرًا من اليد السفلى، بحيث يكون هذا الإنسان في إحسانه، وعطائه، وبذله، وفي كذا، لا يكون للناس أيادٍ تطوقه، وإفضال وإحسان يحتاج أن يرد ذلك، وإنما ينعتق من هذا كله، فيكون عطاؤه لله، ومنعه لله، ويكون أمره كله لله.
لكن الآخر تطوقه الأيادي، فهذا أحسنَ إليه بنوع من الإحسان، وهذا، والثالث، والرابع، والعاشر، وهكذا..
فهذه الأمور التي ذكروها يحتاج لربما استيعابها وفهمها إلى إعمال للذهن، وشيء من الجهد الذهني، ومثل هذا غير متبادر ولا ظاهر، لكن لو بقينا مع الظاهر: أن هذا الذي ينفق ويعطي إنما يعطي لوجه الله ، وليس في مقابل إحسان سابق يكافئ عليه، هذا القدر الذي دل عليه ظاهر الآية.
وقوله: إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:20] يعني إلا طلبًا لوجه ربه، هذا الاستثناء منقطع، والاستثناء المنقطع -كما هو معلوم- أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه.
فهنا: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:19، 20].
فهل المستثنى: ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى من جنس النعمة التي تجزى؟
الجواب: لا، ليس منه.
فإذًا هو استثناء منقطع بمعنى: "لكن".
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى لكن إنما يبتغي وجه الله بهذا الإنفاق والإحسان.
وأجاز الفراء النصب على التأويل، يعني كقولهم: ما أعطيتك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله تعالى.
إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى هنا "إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" قال: أي طمعًا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات.
إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى يعني: هنا فسر ابتغاء وجه الله بالنظر إلى وجهه.
وهذا يحتمل، لكن الذي يعبر به كثيرًا في مثل هذا أن يقال: إلا ابتغاء وجه الله، أن يكون المقصود إلا طلبًا لما عند الله -تبارك وتعالى- من الجزاء والثواب، ويدخل في هذا الجزاء والثواب وهو أعظمه: النظر إلى وجهه الكريم، قال الله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ [سورة البقرة:272]، يعني طلب ما عنده، يعني أنك لا تفعل ذلك لغرض آخر كأن تريد من هؤلاء الناس أن يردوا هذا الإحسان في يوم من الدهر، كما يفعله بعض الناس، ولهذا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن صاحب الإحسان، أو الهدية، أو الصدقة، أو الهبة إذا كان ينتظر من الناس الشكر فقط فإن هذا لا يكون عمله خالصًا، وإنما هو يبتغي أمرًا يعود عليه من هؤلاء الناس.
وذكرنا في بعض المناسبات: حديث عائشة -رضي الله عنها: أُهديتْ لرسول الله ﷺ شاة، فقال: اقسميها، فكانت عائشة إذا رجعت الخادم، تقول: ما قالوا؟ تقول الخادم: قالوا: بارك الله فيكم، فتقول عائشة: "وفيهم بارك الله، نرد عليهم مثل ما قالوا، ويبقى أجرنا لنا"[6].
بمعنى: أن هذا الذي قال لك: بارك الله فيك، أو جزاك الله خيرًا يكون قد أوفى في الجزاء والمكافأة: ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه[7].
فإذا عجزنا عن هذه المكافأة فمثل هذا الدعاء له بالجزاء بالخير، حتى نرى أننا قد كافأناه، فإن هذا يكون في مقابل هذا الإحسان، يُقابَل بهذا الرد الذي تحصل به المكافأة، فكانوا يتحرجون حتى من هذا؛ من أجل أن لا يكافَئوا على إحسانهم.
فهنا: إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى فالذي ينتظر من الناس أن يشكروه على الإحسان لا يكون كذلك: إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى.
فالذي ينتظر من الناس الذين يحسن إليهم ويعطيهم أن يلهجوا بالدعاء له، ويفرح بذلك ويسر، أو يقول لهم ذلك بلسان المقال: ادعوا لنا! نحن نحتاج إلى دعائكم! فإذا رآهم يرفعون أيديهم ويدعون فإنه يسر بذلك ويطرب، هذا ليس بمحرم أي مسألة الدعاء، أنهم يدعون له، الإنسان بحاجة إلى الدعاء.
لكن الأكمل أن لا يكافأ على هذه النعمة بأي وجه من الوجوه، فإن هذا الدعاء قد يكون مكافأة له، كما دل عليه الحديث.
ومن ثمّ فإنه ينبغي للإنسان أن لا ينتظر منهم لا دعاءً ولا ثناءً: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا [سورة الإنسان: 9].
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ هل المقصود نطعمكم من أجل أن نرى وجه الله؟
الجواب: لا، وإنما ذلك الإخلاص، يعني ابتغاء ما عند الله -تبارك وتعالى، وليس لعائدة تعود عليه من هؤلاء الناس، سواء كان ذلك من الأمور المادية، كما يفعل بعض الناس، قد يعطي وينتظر الرد، الهدية مثلاً، ولهذا النبي ﷺ همَّ أن لا يقبل من أحد هدية إلا من قرشي، لمّا أعطاه الأعرابي وتأذى النبي ﷺ بذلك، يعني هذا الرجل كان ينتظر أن ترد هذه الهدية بمثلها، كما يفعل بعضهم، فإنه قد يهب، قد يعطي في مناسبة، أو في غير مناسبة، بعض الناس يعطون في الزواجات، ولربما يشعر أنها من قبيل المغرم، فهو يأتي لهذا الإنسان الذي عنده هذا الزواج، فيعطيه شاة، أو شاتين، أو ثلاثا، أو أكثر، ثم يُقيَّد هذا بسجل: فلان جاء بكذا، فإذا صار عنده مناسبة يرد عليه بالمثل، وذاك ينتظر المثل، فلو لو يرد عليه هو يشعر أنها مغرم، وأن هذا لم يرد، وأنها كالدين، وهو لم يعطهم لإرادة ما عند الله، وللإحسان المجرد، وإنما هو ينتظر في مقابل ذلك، والله المستعان.
هذا أصل في هذا الباب كبير، وهو أن يكون الإحسان بجميع أنواعه، سواء كان هذا الإحسان ماديًّا في النفقة في الصدقة، وما إلى ذلك، أو كان هذا الإحسان معنويًّا، أرشدَ إنسانًا إلى الطريق، أو علمه، أو أنه دعاه إلى الله، فاهتدى، أو غير ذلك مما يصنعه من المعروف، فهو لا ينتظر من هؤلاء أن يعرفوا له قدره، وحرمته، ومنزلته، وفضله، وإحسانه السالف، وإلا فهم جاحدون في نظره، متنكرون للمعروف، سواء كانوا من قراباته، أو من غيرهم.
الشعار الكبير الذي ينبغي أن يكون عليه المرء: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا، اجعل هذه منهجًا لك في الحياة، تريح وتستريح، تريح الناس من مطالبات وكُلَف تطالبهم بها، وتكلفهم عنتًا أن يردوا لك هذه الجمايل، وكذلك أيضًا ترتاح أنت من التعب النفسي: فلان ما شكر، فلان ما قدر، فلان ما صنع كما صنعت له، فلان أحسنت إليه، ولم يكن منه إلا النكران، اليوم لا تحسن لأحد، وعبارات وجمل كل ذلك يدور حول هذا الأصل الفاسد في نفوس الكثيرين، وهو انتظار العائدة على هذا الإحسان، فعملهم هذا لا يكون خالصًا على الوجه المطلوب، فقد يذهب ثوابه بالكلية، وقد ينقص بحسب ما داخله، وهذا يغفل عنه الكثيرون.
وَلَسَوْفَ يَرْضَى هذه "اللام" موطئة للقسم وَلَسَوْفَ يَرْضَى من اتصف بهذه الصفات.
والرضا هنا يدخل فيه الرضا الأخروي، كما قال الله لنبيه ﷺ كما سيأتي في السورة التي بعدها: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [سورة الضحى:5] فعامة المفسرين يحملونه على الرضا الأخروي.
رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [سورة البينة:8] ويقول لهم: هل رضيتم؟ بعدما يدخلون الجنة[8].
فالله -تبارك وتعالى- يُرضي هؤلاء من أهل الإيمان والبر والإحسان بما يكون لهم من الجزاء في الآخرة.
وهكذا هذا الرضا أيضًا يلحقهم في الدنيا، فيحصل لهم من الرضا مما يتنزل عليهم من ألطاف الله -تبارك وتعالى، ولذلك تجد الذي يحسن إلى الناس وينفعهم، ويبذل لهم، يريد بذلك ما عند الله تجده من أكثر الناس رضا، ومن أكثر الناس راحة، ومن أكثر الناس انشراحًا وسعادة.
وكما ذكرت في بعض المناسبات: أن أسرع الأمور المسببة للانشراح، ودفع الضيق، الذي قد يعرض للإنسان فيجده في نفسه: الإحسان المتعدي، هذا علاج مباشر، أنا أقول: ليس كالذي يأكل المهدئات -البنادول أو نحو هذا- إذا أصابه صداع، بل هو أبلغ من هذا، لكنه علاج وقتي سريع، يعني أريد شيئًا الآن.
هناك علاج طويل المدى: الارتباط بالله ، كثرة ذكره، الإقبال على كلامه، التدبر، إلى آخره، تكون صلته بربه قوية: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة: 45] فيروض النفس على هذا.
لكن هناك علاجات سريعة، هذه العلاجات السريعة مثل: "كان النبي ﷺ إذا حزَبَه أمر صلى"[9] فزع إلى الصلاة.
الإحسان المتعدي للناس: خذ شيئًا واذهب إلى هذا الفقير بنفسك وأعطه، إما تعطيهم نقودًا، وإما توزع على العمال ماءً باردًا في الشمس في الحر، أو أنك تقف مع إنسان قد تعطل في الطريق، وتشتغل معه في سيارته، ونحو هذا، وتدفعها معه، هذا يسبب الانشراح المباشر، هذا في الضيق العارض، الذي يحصل للإنسان، وجد في نفسه انقباضًا، وجد في قلبه عصرة، أو نحو ذلك، يذهب ويحسن إلى الناس، ولا يدري به أحد، لا يشعر به أحد، يأخذ لهم شيئًا من الصدقة، أو نحو ذلك، ويذهب إلى بيوتهم، ويعطيهم، فإذا رأى هؤلاء الأطفال يتقافزون، ويفرحون، ويسرون، يعطيهم أشياء جيدة، ولو كانت رخيصة، يعني لا يعطيهم بقايا طعام، ويطلب الانشراح بسبب هذا، فمثل هذا هو بقدر ما ينفق بقدر ما يحصل له من اللذة والسعادة والسرور والانشراح.
وهنا تعليق لابن القيم يقول -رحمه الله: "ونبه سبحانه بقوله: إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:20] على أن مَن ليس لمخلوق عليه نعمة تجزى لا يفعل ما يفعله إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى بخلاف من تَطَوَّق نِعمَ المخلوقين ومننهم، فإنه مضطر إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم، ولهذا كان من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه منة لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاء وجه، وطلب مرضاته، فكما أن هذه الغاية أعلى الغايات، وهذا المطلوب أشرف المطالب، فهذا الطريق أقصر الطرق إليه، وأقربها وأقومها، وبالله التوفيق"[10].
يعني لاحظ أحيانًا الإنسان يفعل معروفًا لأحد من الناس، فإذا شكره ذلك الإنسان، قال له: لا، هذا رد لبعض جميلكم، لبعض معروفكم، لبعض إحسانكم، أليس كذلك؟
فهنا يكون فعله كأنه مكافأة، هذا حسن وجيد أن الإنسان يكافئ، لكن أين هذا من ذاك الذي لا يوجد لأحد عليه يد أصلاً؟ فليست المسألة مقايضة.
لاحظ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [سورة الليل:17] أين العموم؟
إذا قلنا: إن هذا "أفعل" تفضيل يتوهم كثيرون -كما سبق- أنه أتقى واحد، الأكثر تقوى من هو؟ أبو بكر ، ولكن -كما سبق- أن "أفعل" التفضيل لا تمنع التساوي.
وإذا قلنا: المقصود مطلق الاتصاف، فهذا أوضح: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فالتقي هنا عام، يدخل فيه أبو بكر دخولاً أوليًّا.
أي قال عروة بن مسعود للنبي ﷺ: "ما أرى حولك إلا أوباشًا" يقصد الصحابة، يعني يقول: اقبل بما نملي عليك، فما أرى حولك إلا أوباشًا، يعني أناسًا ليسوا بشيء، يعني إذا جاء الجد فروا وتركوك، فقال له أبو بكر : "امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟!"[11].
قال -رحمه الله: فإن كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ القبائل فكيف بمن عداهم؟!
ولهذا قال تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [سورة الليل:19، 20].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ -من أنفق زوجين يعني صنفين من الصدقة- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْهَا ضَرُورَةٌ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ[12].
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اللَّيْلِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
إن أبا بكر جمع من خصال الخير والبر والإيمان ما لم يجمعه غيره بعد رسول الله ﷺ، فقد وُزن بالأمة، فوَزَنها ﷺ، فرجح، ومن أراد أن يعرف شيئًا أو طرفًا من فضائل أبي بكر فلينظر في جزئية واحدة مثلاً، انظر في العشرة المبشرين بالجنة، كم منهم من دخل في الإسلام على يد أبي بكر حتى تعرف قدر هذا الخليفة الراشد -رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقط انظر في ترجمته من الذين أسلموا على يده، وانظر في العشرة المبشرين بالجنة من الذين دخلوا على يده في الإسلام منهم.
هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
تعليق لابن القيم على قوله: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5- 10].
قال ابن القيم: "فتضمنت الآيتان ذكر شرعه وذكر الأعمال وجزائها وحكمة القدر في تيسير هذا لليسرى، وهذا للعسرى، وأن العبد ميسر بأعماله لغاياتها وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].
وذكر للتيسير لليسرى ثلاثة أسباب:
-هذا كلام مهم في القدر- أحدها: إعطاء العبد، وحذف مفعول الفعل إرادةً للإطلاق والتعميم، أي أعطى ما أمر به وسمحت به طبيعته، وطاوعته نفسه، وذلك يتناول إعطاءه من نفسه الإيمان والطاعة والإخلاص والتوبة والشكر.."[13].
لاحظ، تعميم المعنى وتوسيعه أَعْطَى فهنا حذف المقتضى، أعطى ماذا؟
أعطى المال، الصدقة، هذا الذي يذكره أكثر المفسرين، لكن هنا يقول: أعطى الإيمان، أعطى العمل الصالح، أعطى الصدقة -المال يعني، أعطى من نفسه، من وقته، من بدنه، من جهده، كل هذا داخل في الإعطاء فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى [سورة الليل:5].
وكذلك: "اتقى" هنا محمول على هذا الإطلاق، أو العموم، بمعنى: ما قال: اتقى الكبائر مثلاً.
اتقى كل ما يُتقى.
قال -رحمه الله: "وإعطاءه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته وقصده، فتكون نفسه نفسًا مطيعة باذلة، لا لئيمة مانعة، فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعُها الإحسان، وإعطاء الخير اللازم والمتعدي، فتعطي خيرها لنفسها ولغيرها"[14].
اللازم: العائد إليها مثل الإيمان، والخير المتعدي: الصدقة مثلاً.
قال: "فهي بمنزلة العين التي ينتفع الناس بشربهم منها، وسقي دوابهم وأنعامهم وزرعهم، فهم ينتفعون بها كيف شاءوا، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الرجل المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى، كما كانت نفسه ميسرة للعطاء.
السبب الثاني: التقوى، وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، وضده من أسباب التعسير، فالمتقي ميسَّرةٌ عليه أمور دنياه وآخرته، وتارك التقوى وإن يُسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى"[15].
لاحظ هنا حملها على هذا، وهذا يعني ليس فقط تيسير اليسرى في الآخرة، وإنما أيضًا في الدنيا: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2، 3].
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [سورة الطلاق:4] وقال -رحمه الله: "وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم، ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقى.
فإن طيب العيش ونعيم القلب، ولذة الروح، وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجلّ من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًاالطلاق: 4، فأخبر أنه ييسر على المتقي مالا ييسر على غيره.
وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وهذا أيضًا ييسر عليه بتقواه.
وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [سورة الطلاق:5]، وهذا يتيسر عليه بإزالة ما يخشاه وإعطائه ما يحبه ويرضاه.
وقال: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الأنفال:29].
وهذا يتيسر بالفرقان المتضمن النجاة والنصر والعلم والنور الفارق بين الحق والباطل، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وذلك غاية التيسير.
وقال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200]، والفلاح غاية اليسر، كما أن الشقاء غاية العسر.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الحديد:28].
فضمن لهم سبحانه بالتقوى ثلاثة أمور:
أحدها: أعطاهم نصيبين من رحمته، نصيبًا في الدنيا، ونصيبًا في الآخرة، وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة، فيصير نصيبين.
الثاني: أعطاهم نورًا يمشون به في الظلمات.
الثالث: مغفرة ذنوبهم، وهذا غاية التيسير، فقد جعل سبحانه التقوى سببًا لكل يسر، وترك التقوى سببًا لكل عسر.
السبب الثالث: التصديق بالحسنى، وفسرت بـ"لا إله إلا الله"، وفسرت بـ"الجنة"، وفسرت بـ"الخَلف"، وهي أقوال السلف.
واليسرى صفة لموصوف محذوف، أي الحالة والخَلّة اليسرى، وهي فُعْلى من اليسرى.
والأقوال الثلاثة ترجع إلى أفضل الأعمال وأفضل الجزاء، فمن فسرها بـ"لا إله إلا الله" فقد فسرها بمفرد يأتي بكل جمع، فإن التصديق الحقيقي بـ"لا إله إلا الله" يستلزم التصديق بشعبها وفروعها كلها، وجميع أصول الدين وفروعه من شعب هذه الكلمة، فلا يكون العبد مصدقًا بها حقيقة التصديق حتى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، ولا يكون مؤمنًا بالله إله العالمين حتى يؤمن بصفات جلاله، ونعوت كماله"[16].
لاحظ يجمع الأقوال: مَن قال: إن وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [سورة الليل:6] يعني: "لا إله إلا الله"، ومن قال: الجنة، ومن قال: العوض والخلف والثواب، هنا يقول: هذه يمكن أن تلتئم في المعنى، فمن صدق بـ"لا إله إلا الله" فإن ذلك يقتضي أنه صدق بالجنة، وبأسماء الله وصفاته -فهذه وحدانيته وربوبيته، وبالجزاء والعوض، كل هذا داخل فيه.
قال -رحمه الله: "ولا يكون مؤمنًا بأن الله لا إله إلا هو حتى يسلب خصائص الإلهية عن كل موجود سواه،
ويسلبها عن اعتقاده وإرادته، كما هي منفية في الحقيقة والخارج.
ولا يكون مصدقا بها من نفى الصفات العليا، ولا من نفى كلامه وتكليمه، ولا من نفى استواءه على عرشه، وأنه يُرفع إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، وأنه رفع المسيح إليه، وأسرى برسوله ﷺ، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، إلى سائر ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ.
ولا يكون مؤمنًا بهذه الكلمة مصدقًا بها على الحقيقة من نفى عموم خلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، وعلمه بكل شيء، وبعثه الأجساد من القبور ليوم النشور.
ولا يكون مصدقًا بها من زعم أنه يترك خلقه سدى لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله.
وكذلك التصديق بها يقتضي: الإذعان، والإقرار بحقوقها، وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة بالتصديق بجميع أخباره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ هو تفصيل "لا إله إلا الله"، فالمصدق بها على الحقيقة الذي يأتي بذلك كله.
وكذلك لم تحصل عصمة المال والدم على الإطلاق إلا بها، وبالقيام بحقها.
وكذلك لا تحصل النجاة من العذاب على الإطلاق إلا بها وبحقها، فالعقوبة في الدنيا والآخرة على تركها، أو ترك حقها.
ومن فسر الحسنى بـ"الجنة" فسرها بأعلى أنواع الجزاء وكماله".
-لاحظ كيف يوجه الأقوال- ومن فسرها بالخَلف ذكر نوعًا من الجزاء، فهذا جزاء دنيوي، والجنة الجزاء في الآخرة، فرجع التصديق بالحسنى إلى التصديق بالإيمان وجزائه.
والتحقيق: أنها تتناول الأمرين.
وتأمل ما اشتملت عليه هذه الكلمات الثلاث -وهي: الإعطاء، والتقوى، والتصديق بالحسنى- من العلم والعمل، وتضمنته من الهدى ودين الحق، فإن النفس لها ثلاث قوى: قوة البذل والإعطاء، وقوة الكف والامتناع، وقوة الإدراك والفهم، ففيها قوة العلم والشعور، ويتبعها قوة الحب والإرادة، وقوة البغض والنفرة، فهذه القوى الثلاث عليها مدار صلاحها وسعادتها، وبفسادها يكون فسادها وشقاوتها، ففساد قوة العلم والشعور يوجب له التكذيب بالحسنى، وفساد قوة الحب والإرادة يوجب له ترك الإعطاء، وفساد قوة البغض والنفرة يوجب له ترك الاتقاء، فإذا كملت قوة حبه وإرادته بإعطائه ما أمر به، وقوة بغضه ونفرته باتقائه ما نهى عنه، وقوة علمه وشعوره بتصديقه بكلمة الإسلام وحقوقها وجزائها فقد زكى نفسه، وأعدها لكل حالة يسرى، فصارت النفس بذلك ميسرة لليسرى.
ولما كان الدين يدور على ثلاث قواعد: فعل المأمور، وترك المحظور، وتصديق الخبر.
وإن شئت قلت: الدين طلب وخبر، والطلب نوعان: طلب فعل، وطلب ترك.
فقد تضمنت هذه الكلمات الثلاث مراتب الدين أجمعها: فالإعطاء فعل المأمور، والتقوى ترك المحظور، والتصديق بالحسنى تصديق الخبر، فانتظم ذلك الدين كله، وأكمل الناس من كملت له هذه التقوى الثلاث، ودخول النقص بحسب نقصانها أو بعضها، فمن الناس من يكون قوة إعطائه وبذله أتم من قوة انكفافه وتركه، فقوة الترك فيه أضعف من قوة الاعطاء، ومن الناس من يكون قوة الترك والانكفاف فيه أتم من قوة الإعطاء والمنع، ومن الناس من يكون فيه قوة التصديق أتم من قوة الإعطاء والمنع، فقوته العلمية والشعورية أتم من قوته الإرادية، وبالعكس، فيدخل النقص بحسب ما نقص من قوة هذه القوى الثلاث، ويفوته من التيسير لليسرى بحسب ما فاته منها.
ومن كملت له هذه القوى يُسر لكل يسرى، قال ابن عباس: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [سورة الليل:7] أي نهيئه لعمل الخير، نيسر عليه أعمال الخير، وقال مقاتل والكلبي والفراء: نيسره للعود إلى العمل الصالح.
وحقيقة اليسرى: أنها الخَلّة والحالة السهلة النافعة الواقعة له، وهي ضد العسرى، وذلك يتضمن تيسيره للخير وأسبابه، فيدري الخير، وييسر على قلبه ويديه ولسانه وجوارحه، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، مذللة له منقادة، ولا تستعصي عليه، ولا تستصعب؛ لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها، يسلك سبلها ذللا، وتقاد له علمًا وعملًا، فإذا خاللتَه قلت: هو الذي قيل فيه:
مباركُ الطلعةِ ميمونُها | يَصلح للدنيا وللدين |
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى فعطل قوة الإرادة والإعطاء عن فعل ما أمر به واسْتَغْنَى بترك التقوى عن ربه، فعطل قوة الانكفاف والترك عن فعل ما نهى عنه، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [سورة الليل:9] فعطل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:10].
قال عطاء: سوف أحول بين قلبه وبين الإيمان بي وبرسولي.
وقال مقاتل: يعسر عليه أن يعطى خيرًا.
وقال عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما: نيسره للشر.
قال الواحدي: وهذا هو القول؛ لأن الشر يؤدي إلى العذاب، فهو الخَلة العسرى، والخير يؤدي إلى اليسر والراحة في الجنة، فهو الخَلة اليسرى، يقول: سنهيئه للشر بأن يجريه على يديه.
قال الفراء:العرب تقول: قد يسّرت غنم فلان إذا تهيأت للولادة، وكذلك إذا ولدت وغزرت ألبانها، أي يسرت ذلك على أصحابها. انتهى كلامه.
والتيسير للعسرى يكون بأمرين:
أحدهما: أن يحول بينه وبين أسباب الخير فيجري الشر على قلبه ونيته ولسانه وجوارحه.
والثاني: أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر، كما حال بينه وبين أسبابه، فإن قيل: كيف قابل: َاتَّقَى بـاسْتَغْنَى؟ وهل يمكن العبد أن يستغني عن ربه طرفة عين؟
قيل: هذا من أحسن المقابلة، فإن المتقي لما استشعر فقره وفاقته، وشدة حاجته إلى ربه اتقاه، ولم يتعرض لسخطه وغضبه ومقته بارتكاب ما نهاه عنه، فإن من كان شديد الحاجة والضرورة إلى شخص فإنه يتقي غضبه وسخطه عليه غاية الاتقاء، ويجانب ما يكرهه غاية المجانبة، ويعتمد فعل ما يحبه ويؤثره، فقابل التقوى بالاستغناء تبشيعًا لحال تارك التقوى، ومبالغة في ذمه، بأنْ فَعل فِعل المستغني عن ربه، لا فعل الفقير المضطر إليه الذي لا ملجأ له إلا إليه، ولا غنى له عن فضله وجوده وبره طرفة عين.
فلله ما أحلى هذه المقابلة! وما أجمع هاتين الآيتين للخيرات كلها وأسبابها، والشرور كلها وأسبابها، فسبحان من تعرّف إلى خصائص عباده بكلامه، وتجلى لهم فيه، فهم لا يطلبون أثرًا بعد عين، ولا يستبدلون الحق بالباطل، والصدق باليمين.
وقد تضمنت هاتان الآيتان فصل الخطاب في مسألة القدر، وإزالة كل لبس وإشكال فيها، وذلك بيّن بحمد الله لمن وفق لفهمه، ولهذا أجاب بها النبي ﷺ من أورد عليه السؤال الذي لا يزال الناس يلهجون به في القدر، فأجاب بفصل الخطاب، وأزال الإشكال، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب ، عن النبي ﷺ أنه قال: ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار قيل: يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[17] [سورة الليل:5- 7].
فقد تضمن هذا الحديث الرد على القدرية والجبرية، وإثبات القدر والشرع، وإثبات الكتاب الأول المتضمن لعلم الله سبحانه الأشياء قبل كونها، وإثبات خلق الفعل الجزائي، وهو يبطل أصول القدرية الذين يمنعون خلق الفعل مطلقًا، ومن أقر منهم بخلق فعل الجزاء دون الابتداء هدم أصله، ونقض قاعدته.
والنبي ﷺ أخبر بمثل ما أخبر به الرب تعالى- أن العبد ميسر لما خلق له، لا مجبور، فالجبر لفظ بدعي، والتيسير لفظ القرآن والسنة.
وفي الحديث دلالة على أن الصحابة كانوا أعلم الناس بأصول الدين، فإنهم تلقوها عن أعلم الخلق بالله على الإطلاق، وكانوا إذا استشكلوا شيئًا سألوه عنه، وكان يجيبهم بما يزيل الإشكال، ويبين الصواب، فهم العارفون بأصول الدين حقًّا، لا أهل البدع والأهواء من المتكلمين، ومن سلك سبيلهم.
وفي الحديث: استدلال النبي ﷺ على مسائل أصول الدين بالقرآن وإرشاده الصحابة لاستنباطها منه، خلافًا لمن زعم أن كلام الله ورسوله لا يفيد العلم بشيء من أصول الدين، ولا يجوز أن تستفاد معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله منه، وعبر عن ذلك بقوله: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.
وفي الحديث: بيان أن من الناس من خلق للسعادة، ومنهم من خلق للشقاوة، خلافًا لمن زعم أنهم كلهم خلقوا للسعادة ولكن اختاروا الشقاوة، ولم يخلقوا لها.
وفيه: إثبات الأسباب، وأن العبد ميسر للأسباب الموصلة له إلى ما خلق له.
وفيه: دليل على اشتقاق السنة من الكتاب، ومطابقتها له، فتأمل قوله ﷺ: اعملوا فكل ميسر لما خلق له[18]، ومطابقته لقوله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [سورة الليل:5- 7] كيف انتظم الشرع والقدر والسبب والمسبّب، وهذا الذي أرشد إليه النبي ﷺ هو الذي فطر الله عليه عباده، بل الحيوان البهيم، بل مصالح الدنيا وعمارتها بذلك، فلو قال كل أحد: إنْ قُدر لي كذا وكذا فلابد أن أناله، وإن لم يقدر فلا سبيل إلى نيله، فلا أسعى ولا أتحرك لعُدّ من السفهاء الجهال، ولم يمكنه طرد ذلك أبدًا، وإن أتى به في أمر معين فهل يمكنه أن يطرد ذلك في مصالحه جميعها من طعامه وشرابه، ولباسه ومسكنه وهروبه مما يضاد بقاءه، وينافي مصالحه أم يجد نفسه غير منفكةٍ ألبته عن قول النبي ﷺ: اعملوا فكل ميسر لما خلق له؟
فإذا كان هذا في مصالح الدنيا، وأسباب منافعها، فما الموجب لتعطيله في مصالح الآخرة، وأسباب السعادة والفلاح فيها، ورب الدنيا والآخرة واحد؟
فكيف يعطل ذلك في شرع الرب وأمره ونهيه، ويستعمل في إرادة العبد وأغراضه وشهواته؟!
وهل هذا إلا محض الظلم والجهل؟ والإنسان ظلوم جهول، ظلوم لنفسه، جهول بربه، فهذا الذي أرشد إليه النبي ﷺ، وتلا عنده هاتين الآيتين موافقًا لما جعله الله في عقول العقلاء، وركب عليه فطر الخلائق، حتى الحيوان البهيم، وأرسل به جميع رسله، وأنزل به جميع كتبه، ولو اتكل العبد على القدر ولم يعمل لتعطلت الشرائع، وتعطلت مصالح العالم، وفسد أمر الدنيا والدين.
وإنما يستروح إلى ذلك معطلو الشرائع، ومن خلع ربقة الأوامر والنواهي من عنقه، وذلك ميراث من إخوانهم المشركين الذين دفعوا أمر الله ونهيه، وعارضوا شرعه بقضائه وقدره، كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم في غير موضع من كتابه، فإن قيل: فالإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى هي من اليسرى، بل هي أصل اليسرى مَن يسّرها للعبد أولا، وكذلك أضدادها؟
قيل: الله سبحانه هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين: أهل سعادة، فيسّرهم لليسرى، وأهل شقاوة فيسرهم للعسرى، واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، وهؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما، ولا يليق بهما، بل حكمة آحاد خلقه تأبى ذلك، ومن جعل محل المسك والرجيع واحدًا فهو من أسفه السفهاء.
فإن قيل: فلم جعل هذا لا يليق به إلا الكرامة، وهذا لا يليق به إلا الإهانة؟
قيل: هذا سؤال جاهل لا يستحق الجواب، كأنه يقول:لم خلق الله كذا وكذا؟!
فإن قيل: وعلى هذا، فهل لهذا الجاهل من جواب لعله يشفى من جهله؟
قيل: نعم، شأن الربوبية خلق الأشياء وأضدادها، وخلق الملزومات ولوازمها، وذلك هو محض الكمال، فالعلو لازم وملزوم للسفل، والليل لازم وملزوم للنهار، وكمال هذا الوجود بالحر والبرد، والصحو والغيم، ومن لوازم الطبيعة الحيوانية الصحة والمرض، واختلاف الإرادات والمرادات، ووجود اللازم بدون ملزومه ممتنع، ولولا خلق المتضادات لما عرف كمال القدرة والمشيئة والحكمة، ولما ظهرت أحكام الأسماء والصفات، وظهور أحكامها وآثارها لابد منه، إذ هو مقتضى الكمال المقدس، والملك التام، وإذا أعطيت اسم الملِك حقه -ولن تستطيع- علمت أن الخلق والأمر والثواب والعقاب، والعطاء والحرمان أمر لازم لصفة المُلك، وأن صفة المُلك تقتضي ذلك ولابد"[19].
فهنا يقول: تتجلى معاني أسمائه وصفاته بهذه الأمور، يهدي قومًا، ويضل آخرين، يغني قومًا، ويفقر آخرين، يعذب أقوامًا، وينعِّم آخرين، وهكذا..
"وأن تعطيل هذه الصفة أمر ممتنع، فالمُلك الحق يقتضي إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأمر العباد، ونهيهم وثوابهم، وعقابهم وإكرام من يستحق الإكرام، وإهانة من يستحق الإهانة، كما تستلزم حياة الملِك علمه وإرادته وقدرته، وسمعه وبصره، وكلامه ورحمته، ورضاه وغضبه، واستواءه على سرير ملكه، يدبر أمر عباده، وهذه الإشارة تكفي اللبيب في مثل هذا الموضع، ويطلع منها على أرض مونِقة، وكنوز من المعرفة، وبالله التوفيق"[20].
- رواه أحمد، كتاب مسند الكوفيين، باب حديث النعمان بن بشير عن النبي ﷺ، رقم (18398)، والدارمي، كتاب وَمِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ، بَابُ فِي تَحْذِيرِ النَّارِ، رقم (2854)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (3659).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6562) ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، رقم (213).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، رقم (213).
- رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، رقم (7280)، وأحمد، كتاب المكثرين من الصحابة، باب مسند أبي هريرة ، رقم (8728).
- رواه الترمذي، كتاب أبواب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق ، رقم (3661) وصححه الألباني في تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، رقم (13).
- رواه النسائي في السنن الكبرى، كتاب عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، باب مَا يَقُولُ لِمَنْ أَهْدَى لَهُ، رقم (10062)، وصححه الألباني في تخريج الكلم الطيب، رقم (239).
- رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله، رقم (1672)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (1469).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6549)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا، رقم (2829).
- رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت قيام النبي ﷺ من الليل، رقم (1319)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4703).
- التبيان في أقسام القرآن، ص (72).
- رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، رقم (2731).
- رواه البخاري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، رقم (1897)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب من جمع الصدقة، وأعمال البر، رقم (1027).
- التبيان في أقسام القرآن، ص (56).
- المصدر السابق ص (56-75).
- المصدر السابق ص (75).
- المصدر السابق ص (57-59).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب: فَسَنيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [سورة الليل:10] رقم (4949)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم (2647).
- المصدر السابق.
- التبيان في أقسام القرآن، ص (57-68).
- المصدر السابق (68).