الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[2] من قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية:9 إلى قوله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} الآية:25
تاريخ النشر: ٢٠ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 6734
مرات الإستماع: 2420

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:

 قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۝ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ۝ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [سورة الزخرف:9-14].

يقول تعالى: ولئن سألت -يا محمد- هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي: ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد.

ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا أي: فراشًا قرارًا، ثابتة، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا أي: طرقًا بين الجبال والأودية، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم.

وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ أي: بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم، وقوله: فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا أي: أرضا ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج،

ثم نبه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.

ثم قال: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير، وغير ذلك أي: من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ أي: السفن وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ أي: ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها؛ ولهذا قال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ أي: لتستووا متمكنين مرتفقين عَلَى ظُهُورِهِ أي: على ظهور هذا الجنس، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ أي: فيما سخر لكم إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي: مقاومين، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه.

قال ابن عباس، وقتادة، والسدي وابن زيد: مُقْرِنِينَ أي: مطيقين.

وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا قال: أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير، قال: ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها، هنا فسر الأزواج بالأصناف.

ولفظ الأزواج يأتي لهذا المعنى وقد مضى في مناسبات متعددة، وكما قال الله في هذه الآية، وجاء -أيضًا- بمعنى النظراء والأشكال احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ يعني ونظراءهم، وقوله -تبارك وتعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [سورة الحجر:88]، يعنى أصنافًا.

ويأتي الزوج بالمعنى المعروف المشهور وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [سورة النساء:1]، فهذا يقال للرجل والمرأة، قال: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [سورة الأنبياء:90] يعني: زوجته وهذا هو الأفصح في اللغة وإن كان ورود الزوجة فصيحًا لكنه قليل في الاستعمال في لغة العرب -يعني من يُحتج بكلامهم- ولم يرد في القرآن، لكنه جاء في قول الفرزدق:

وإنّ الذي يسعى ليُفسد زوجتي كساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يَسْتبيلُها

فهنا عبر بالزوجة لكن في القرآن يقال: زوج للذكر والأنثى، فهنا ابن كثير -رحمه الله- فسر الأزواج بالأصناف، وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا يعني الأصناف كلها، من هنا قال الحسن -رحمه الله: يعني خلق الأصناف كلها الليل والنهار والشتاء والصيف والسماء والأرض والجنة والنار.

وهكذا قول من قال: إن ذلك بمعنى ما يتلقب فيه الإنسان من خير وشر، من نعمة وغيرها، من إيمان وكفر، وبعضهم خصه بأزواج الحيوان، وهنا الله -تبارك وتعالى- يذكر نزول المطر من السماء قال بعده: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ الآية، فخصه بعضهم بأزواج الحيوان، وبعضهم خصه بأزواج النبات.

وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ كما قال الله : وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [سورة ق:7] هذا في النبات فهذا تفسر به الآية لكن لا يُقصر ذلك على النبات، وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ يعني من كل صنف من أصناف النبات، فهذا مما يدخل في الآية، وكذا قوله: مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [سورة الشعراء:7] فهذه كلها من الأصناف الداخلة فيه، يعني الأزواج أصناف النبات والحيوان، وهذه الأقوال كلها هنا بمعنى الأصناف، وإن كان بعضهم خصه بنوع أو بجنس معين.

ابن جرير -رحمه الله- يرى أن ذلك بمعنى أن الله خلق كل شيء فزوَّجه، يعني خلقه وجعل زوجه منه، فخلق الرجل وجعل زوجه منه، يعني حواء من ضلع آدم، والرجل هو أيضًا منها؛ فالمرأة هي التي تلد الرجل، فابن جرير يرى أن الله -تبارك وتعالى- خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا يعني خلق للذكر زوجًا، وخلق للأنثى زوجًا، خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا فالذكر يقال له: زوج، والأنثى يقال لها: زوج، خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا.

وبعضهم كالشنقيطي -رحمه الله- فسره بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [سورة يس:36] لاحظ الآن ذكر ثلاثة أشياء: خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ فهذا يدخل في صنوف النبات، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ الإنسان، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ سائر الأصناف.

فهذه الآية تفسر آية الزخرف هذه، وتبين أن المعنى هو الذي ذكرناه أولاً، ومشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك، ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وصفاتها وزيادة.

يعني ابن كثير ذكر النوعين: الحيوان والنبات، والحيوان يدخل فيه الإنسان ليس بالمعنى المعهود للحيوان الذي هو البهيم، أو أن أصل الإنسان حيوان كما يقول الملاحدة، لا، المقصود حياة وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [سورة العنكبوت:64] فالعلماء إذا قالوا: حيوان يقصدون ما له روح، ما فيه حياة يقال له: حيوان بهذا الاعتبار، والله -تبارك وتعالى- هنا جاء بلفظ "كل" بعد "الأزواج" وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا فـ"كل" هذه أقوى صيغة من صيغ العموم، لكن هذا -يعني مجيء "كل" بعده- ليس بقاطع أن المراد به كل الأصناف؛ لأن ذلك يرجع إلى الأزواج فما المراد بالأزواج؟

وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ خلق الأزواج كلها، فتخصيصه بنوع من هذه الأصناف مبناه -والله تعالى أعلم- على الاقتصار على إحدى الآيات التي تذكر بعض أنواعه، فمثلاً من اعتمد على قوله تعالى: وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [سورة ق:17] قال: هي أصناف النبات، خصه بالنبات، لكن هذه الآية لا تخصصه.

والظاهر -والله تعالى أعلم- حمل الآية على العموم، وأن تفسر بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، والله يقول: وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الذاريات:49] فالعموم هنا في هذه الآية ظاهر بأنّ كل شيء جعل الله له زوجًا ومِن ثَمّ خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا، خلق النبات والحيوان وما لا نعلمه.

قال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ الاستواء بمعنى العلو والظهور في كل استعمالاته وموارده، قال: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ هذا الذكر يشمل ذكر اللسان وذكر القلب، يعني استحضار النعمة، فالذكر يشمل هذا وهذا، وذَكَر هنا ما يقال: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فهذا ما يقال عند الاستواء على الدابة، ما يحصل به الانتقال من أنواع المراكب من الحيوان والمراكب الحديثة أيًّا كان نوعها، كل ما ينتقل به يعني حتى لو كان الإنسان على السير الكهربائي أو الدرج الكهربائي فإنه يقول مثل هذا؛ لأن ذلك كله من المراكب.

قال: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ هنا قال: أي: مقاومين، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وقتادة والسدي وابن زيد: مقرنين أي: مطيقين، مقرنين يعني مطيقين هذا المعنى مشهور ومعروف، يقال: أقرن هذا البعيرَ يعني إذا أطاقه، أقرنه يعني أطاقه، وهذا الذي فسره به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي-رحمه الله، وعبارات المفسرين في هذا متقاربة.

يعني أن بعضهم حاول أن يفسره بمعنى مطابق أو قريب من المطابق، وبعضهم فسره بمعنى مقارب كما يقول الأخفش وأبو عبيدة معمر بن المثنى ومن وافقهم من أصحاب المعاني -كتب معاني القرآن: ضابطين وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، يعني ضابطين، ضابطين قريبة من مقرنين، يعني لا تستطيعون ضبط هذه المراكب في البحر ولا في البر، فإن الإنسان أضعف، فهذه المراكب البحرية قد تأتيها الرياح ولا يستطيع أصحابها السيطرة عليها وتوجيهها إلى الوجهة التي يريدون، ولكن الله سخر لهم هذا، قال: وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ [سورة يس:43] فقد يغرقون، فما الذي جعلها تطفو على البحر وتسير وتنقلهم من مكان إلى مكان؟ ليس ذلك بإطاقتهم وقوتهم فهم أضعف من ذلك.

وهكذا هذه المراكب بأنواعها يعني هذه الدواب التي سخرها الله الجمل أقوى من الإنسان كما لا يخفى فما الذي جعله مذللاً للإنسان يركبه ويتنقل به ويتصرف فيه، وهكذا يركب سائر المراكب من الخيل والبغال والحمير ويقودها كيف شاء، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ضابطين يعني ما كان ليضبطها في سيرها والتمكن منها وتسخيرها وتذليلها لولا أن الله سخرها له، وإلا لما أطاق ذلك، الإنسان أضعف من هذا، والله المستعان.

ولهذا ابن جرير-رحمه الله- جمع المعنيين، وهما يرجعان إلى شيء واحد كما قلت: العبارة متقاربة، لكن ابن جرير عبر بالعبارتين، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي: مطيقين ولا ضابطين، لاحظ مطيقين ولا ضابطين وهذا يرجع إلى شيء واحد، فإذا كان لا طاقة له بها فمعنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضبطها، غير مطيقين، مطيق ماذا؟ مطيق لتسخيرها بمعنى لضبطها، هو لا يطيق ذلك ولا يستطيعه؛ لأنها أقوى منه.

وهكذا قول من قال: إن "مقرنين" يعني مماثلين لها في القوة، كأنهم نظروا إلى معنى القِرن، فلان قِرن لفلان أي نظير له، يضاهيه في قوته، فالإنسان أضعف من الجمل مثلاً، الإنسان ليس بقوة يستطيع فيها أن يتمكن من هذه الفلك ويديرها بقوته وشدته، فهو ليس بذاك في القوة

وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ...........

يعني ماذا؟

ابن اللبون: الجمل الصغير، إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ يعني: لو أنه ربط وشد بجمل، أو بين جملين قويين أو ربط بجمل كبير فإنه لا يطيق أن يصول صولة الجمل الكبير الضخم القوي، البيت المشهور.

قال: وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ لاحظ هذه اللفتة من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، لما أمر المتزود في أسفارهم نبه على الزاد الآخر إلى السفر الطويل إلى الآخرة فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وهكذا "وريشًا" في قوله: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] فذكر اللباسيْن.

وهذا له نظائر كثيرة يعني في الحج لما قال الله : فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203]، هم الآن في أيام التشريق، وسينفرون بعضهم في يومين، وبعضهم في ثلاثة أيام في اليوم الثالث من أيام التشريق، إذا تفرق هؤلاء الحجاج متى يلتقون؟

هل التقى الحجاج هم أنفسهم الذين حجوا في سنة في السنة الأخرى؟ هل هذا ممكن؟ لا يمكن، ما حصل هذا قط، إذا قلنا: حج في سنة من السنوات مثلاً ثلاثة ملايين تفرقوا في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث، أين يلتقي هؤلاء؟ يلتقون يوم القيامة، فذكر هذا وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ هو الذي يجمعكم بعد تفرقكم هذا في الآخرة، وهذا كثير، أي أن ينبه بأمر على أمر آخر.

يعني قوله مثلاً عن النار: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ [سورة الواقعة:73] يعني بعضهم فسره: للمسافرين، وهذا معنى صحيح، ولكن أصل المعنى للنازلين في الأرض القَواء، الأرض القَواء يعني القفر، فالمسافر ينزل في أرض برية وهي متاع للمسافرين وللمقيمين، ولكن لماذا خص المسافرين؟

بعضهم يقول: لأن المسافر أشد حاجة إلى النار من المقيم، وبعضهم كابن القيم يذكر المعنى الذي يتعلق بنا هنا يقول: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ذكر المسافرين مع أنها متاع للجميع وذلك لينبه بهذا، يعني هي متاع للمسافرين يستمتعون بها مذكِّرًا بالسفر إلى الآخرة؛ لأن الإنسان مسافر، يعني ابن القيم يقول: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ يعني المسافرين، لماذا ذكر المسافرين؟ قال: الإنسان أصله مسافر يذكِّره بأنه مسافر، هو في سفر إلى الآخرة بلا توقف.

يعني رأيتم هذه الساعة لو وُضع عمر الإنسان، الآن نحن نضعها ساعة ونصف وتبدأ بالعد التنازلي إلى أن تنتهي الساعة والنصف، لو رُكبت ساعة وهذا أمر متاح وممكن، مثلاً لو قيل: عمر فلان ستون سنة، فركبت وبرمجت على ستين ودفعت إليه أو وضعت أمامه بالثواني تنقص إلى أن تنتهي اللحظات الأخيرة، هذه أعمار الناس، الإنسان مسافر أصلاً بلا توقف، هذه حقيقة الحياة، هذه حقيقة ما يجري.

فنحن كما تشاهدون اليوم الخميس تمشي بنا هذه الأيام والليالي تسير بنا إلى آجالنا فتأتي نهاية الأسبوع الجمعة، ثم يأتي يوم السبت، وتأتي الأيام الباقية، ثم يأتي الخميس، كم من مرة التقينا هنا عبر السنين، تَنقُلنا ثم ينتهي الفصل الدراسي الأول، ثم تأتي الاختبارات، ثم يأتي الفصل الثاني، أجازة بين الفصلين، ثم الأجازة في نصف الفصل، ثم تأتي الأجازة النهائية، وتنتهي، ويأتي رمضان، ثم يأتي العيد، ثم تبدأ الدراسة من جديد الفصل الأول ثم الأجازة، ثم الفصل الثاني، ثم..

وتمضي السنون، ويجد الإنسان أنه مضى عليه عشر سنوات كأنها أمس، وما هذه إلا محطات لو أغمض عينيه ونام ليله مع نهاره، فهو مسافر بلا توقف، تنقله الأيام وما مضى يكون كأنه حلم، كل ما مضى يستشعر أنه قريب جدًّا كالأمس سواء كان قبل أسبوع أو قبل سنوات، فهذا يرد في القرآن -أي التنبيه على هذا بهذا؛ لأن هذا القرآن ذكرى وموعظة، لذلك تجد في ثنايا الكلام على آيات المعاملات وقضايا الطلاق وغير ذلك: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة التغابن:8]، وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:233]، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الحشر:4] كل هذه الآيات التي تذكره من أجل أن يراقب الله وأن يمتثل.  

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ۝ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ۝ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ۝ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ۝ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ [سورة الزخرف:15-20 ].

يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله كما ذكر الله عنهم في سورة الأنعام، في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [سورة الأنعام:136].

وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين أخسَّهما وأردأهما وهو البنات، كما قال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [سورة النجم:21، 22]، وقال هاهنا: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ.

ثم قال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار، ثم ذكر تمام الإنكار فقال -جلت عظمته: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي: إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تعالى فكيف تأنفون أنتم من ذلك، وتنسبونه إلى الله ؟!

قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ما المراد بهذا الجزء؟ هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله كما ذكر الله عنهم في سورة الأنعام، في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.

نحن نعرف أنهم شرعوا من عند أنفسهم وشرعت لهم الشياطين فقالوا: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [سورة الأنعام:138]"حجر" يعني محصورة محجورة لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا مثل الحام وهو الفحل يَضْرب الضِّراب المعدود عندهم بتفاصيل معينة، يعني يضرِّب الإبل، ثم يقال: حَمى ظهرَه لا يتعرض له أحد لا يُنحر، ولا يُركب، ولا يُباع، يترك؛ ولهذا عندهم السائبة مسيَّبة للطواغيت، الوصيلة الناقة التي تصل أنثى بأنثى على اختلاف في تفسير هذا، كل هذه الأشياء فصَّلوا فيها، شرعت لهم الشياطين فجعلوا شيئًا لله ، وشيئًا لطواغيتهم وشركائهم.

فهنا وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا هذه الآية التي في سورة الزخرف هل تفسر بآية الأنعام كما فعل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مع أنه لم يقتصر على هذا، وإنما ذكر أيضًا المعنى الآخر وهو أنه قال: وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين.. يعني الأدنى، يعني جعلوا له البنات فذكر المعنيين.

لاحظ هنا في هذه الآية صحيح أن الجزء يدخل في آية الأنعام "من الحرث والأنعام نصيبًا"، يعني جعلوا له جزءًا لكن هل يفسر به -أي الذي في الأنعام- قوله في سورة الزخرف: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ جعلوا له من عباده فهل الحرث يقال له: عِباد؟ الزرع يقال له: عباد؟ الأنعام يقال لها: عباد؟ فيما جرى عليه عرف الاستعمال كل شيء هو مخلوق لله لكن هل يقال في الأنعام: إنها عباد؟ يقال في الإبل والغنم: هذه عباد لله؟ هي صحيح أنها عابدة لله إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [سورة مريم:93] لكن في عرف الاستعمال إذا قيل: العباد ما المقصود به؟ هل يدخل فيه النبات والحيوان؟

الجواب: لا، فهنا قال: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا فهذا يدل على أن ما ذكر في آية الأنعام ليس هو المراد في هذه الآية، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا تجد السلف منهم من يقول كقتادة: يعني عِدلاً، يعني ماذا؟ كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى، واضح؟ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا يعني هذه المعبودات التي عبدت من دون الله .

بينما آخرون نظروا إلى السياق في الآية فقالوا: البنات، كما يقوله الزجاج والمبرد من أصحاب المعاني، لاحظ السياق هنا وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا بعدها قال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ فدل على الذي فعلوه وهو أنهم قالوا: الملائكة بنات الله، والولد جزء من الوالد أو لا؟ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا الجزء أعم من هذا.

لكن هنا في السياق في آية الزخرف ما بعده يدل على أن المراد البنات، بصرف النظر عما يذكره بعض أصحاب المعاني مثل الزجاج والفراء، ومن كتبوا في المعاني بعضهم فسر نفس كلمة جزء بالبنات، يقولون: أجزأت المرأة يعني ولدت البنت وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا هنا فسروا نفس كلمة "جزءًا" قالوا: جزء معناه بنت، ما هو فقط من السياق، نفس اللفظة.

وهذا لا يخلو من إشكال، وقد رده بعض أهل العلم حتى قالوا: إن ما استشهدوا به على ذلك من الشعر مصنوع كما يقول الزمخشري، لكن بصرف النظر عن هذا التفسير من كون الجزء في اللغة بمعنى البنت فإنه لا يختص به، وإنما يصدق على الذكر.

وقوله: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ هذه قرينة تدل على أن المراد بالجزء هنا الولد، ويمكن أن نقول بالتحديد -يعني بصورة أخص: في هذا السياق يعني البنات، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا قالوا: الملائكة بنات الله، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ، ولهذا فسر بعضهم الجزء بالملائكة بأي اعتبار؟

أولائك قالوا: البنات، فالجزء هم البنات، والذين قالوا: الملائكة باعتبار أنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، يعني المعاني هذه متلازمة ليست مختلفة، يعني لا تحتاج إلى ترجيح، من قال: إنه الإناث أو البنات، ومن قال: إن المراد بذلك الملائكة، وهذا التفسير أن الجزء يعني الملائكة منقول عن بعض السلف كمجاهد والحسن البصري.

وهكذا عبارة من يعبر يقول: يعني الأولاد وجعلوا له الأولاد، فالولد يصدق على الذكر والأنثى، وهم قالوا: الملائكة بنات الله، ما قالوا: إن الذكور هم أبناء لله ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ فالأزهري صاحب تهذيب اللغة يعبر بعبارة واسعة يقول: يعني الولدان، ولكنه يقصد بهذا البنات؛ لأنه معروف أنهم نسبوا إلى الله البنات تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وهنا قال: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أي ظاهر الكفران، مبالغ فيه، "كفور": كثير الكفران، "مبين": مُعرب عن كفره، مُظهِر له، ثم أنكر عليهم فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ "أم" هذه المنقطعة بمعنى بل والهمزة، بل أتَّخذَ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، يقول: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [سورة النحل:58].

هنا قال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا المثل ما المقصود به؟ ذكرنا أن المثل يأتي بمعنى الشبه، وأن من أهل العلم من يرجعه في أصله إلى الشبه مطلقًا كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وأن بعضهم يقول: قد يأتي بمعنى الصفة، مثلاً "مثل الجنة" يعني صفة الجنة.

وذكرنا في بعض المناسبات أنه في بعض المواضع -لربما قليلاً- يُحتاج إلى تفسيره بغير الشبه، لكن هنا وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا هنا عبر بالمثل يعني بأي اعتبار؟ قالوا: الملائكة بنات الله، وعلى قول من قال: جعلوا له الشركاء من هؤلاء المخلوقين يكون بأي اعتبار؟ باعتبار الشبه إن قلنا: البنات، أو الولد؛ فإن الولد يشبه الوالد، فيه شبه أو ما يوجد شبه؟ يوجد شبه بوجه ما، أليس كذلك؟ يشبهه على الأقل أنه من جنسه، أليس كذلك؟ والنبي ﷺ قال لما ذكر الشبه: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة...الخ[1]، وقال أيضًا: ففيم يشبهها الولد؟[2]

فكون الولد يشبه الوالد هذا أمر لا إشكال فيه، فهنا إذا فسر الجزء بالولد فمعنى ذلك أنه لوجود الشبه، وإذا فسر بالأنداد والمعبودين من دون الله فلأنهم جعلوهم نظراء لله ، أليس كذلك؟

قال هنا: أي: إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به، قال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا هنا قوله: بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا يُفسَّر بـ"إذا بشر أحدهم بالأنثى".

فهذا الذي ضرب للرحمن مثلاً هو الجزء الذي جعلوه لله -تبارك وتعالى- كما سبق، قال هنا: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يقول:تعلوه كآبة من سوء ما بشر به.

وهكذا قول من قال: شديد الحزن، كثير الكرب، مملوء من الكرب، هذا معنى كظيم مملوء من الكرب، يعني كأنه بمعنى كاظم؛ لأن فعيل تأتي بمعنى فاعل، وتأتي بمعنى مفعول مكظوم أو كاظم، كاظم يعني أنه يكظم غيظه، والله قال عن يعقوب ﷺ: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [سورة يوسف:84] يكظم الحزن الشديد الذي قد امتلأ صدره به، وهكذا قول من قال كقتادة: إنه بمعنى حزين، فهو كظيم أي حزين، هذه معانٍ متقاربة، قول عكرمة: مكروب، شدة الكرب يقال لها ذلك.

وهكذا بعضهم فسره بلازمه، بلازمه يعني قول من قال مثلاً: إنه ساكت؛ لأن الحزين يكون مُبلِسًا ساكتًا لا يتكلم، لا يضحك ولا يتكلم مع الناس إلى آخره، الذي امتلأ قلبه بالحزن وتعلوه الكآبة والسكون، فمن فسره بأنه ساكت فهو يرجع إلى ما سبق وهو تفسير له بلازمه، وليس بالمعنى المطابق؛ لأنه ليس معني كظيم أنه ساكت، لأن الإنسان قد يكون ساكتًا وليس بحزين، والله أعلم.

ثم قال: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي: المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عَيِيَّة، أوَمَنْ يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم؟! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه، ليجبر ما فيها من نقص.

وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت: "ما هي بنعم الولد: نصرها بالبكاء، وبِرها سرقة". 

قوله -تبارك وتعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ هذه القراءة التي نقرأ بها قراءة حفص، وبها قرأ أيضًا حمزة والكسائي، والقراءة الثانية قراءة الجمهور بالفتح أَوَمَنْ يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ هناك "يُنَشّأ" وهنا "يَنْشأ" والمعنيان متقاربان، يعني كون أنه يُنشّأ يُنشِّئه أهله بذلك، فهذا يعني أنه يَنْشأ في الحلية، أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ويُنَشّأ في الحلية هنا يعني هل هذا نقص أو ليس بنقص؟

الآن الحلية جمال وزينة، وغالية من الذهب والفضة والجواهر هذه تجمل المرأة وتزينها، وتبذل فيها الأموال الطائلة؛ لجبر النقص الجِبلي، لهذا قال الشاعر:

وما الحَلْي إلا زينةٌ مِن نقيصةٍ يُتمم من حسنٍ إذا الحسنُ قصّرًا
أمّا إذا كان الجمال موفَّرًا كحسنكِ لم يحتج إلى أن يُزوَّرا

إذا كان الجمال وافراً، وإذا أردت أن تتصور هذا المعنى المرأة إذا لبست الحلي صارت أجمل، فهذا الحلي يجملها سواء كان في الآناف أو في الآذان أو كان في جيدها أو في يديها أو في قدميها، أو في ساقيها، هذا جمال لها، ولكن إذا أردت أن تتصور هذا تصور لو أن رجلاً لبس قلادة، ووضع أسورة من ذهب في يديه، ووضع في أذنيه أقراطًا، وفي ساقيه حجلاً، ولبس الخلاخل، كيف يكون؟

يكون سمجًا، أليس كذلك؟ يكون في غاية القبح، لماذا كان في غاية القبح والحلي جمال؟

كان جميلاً في المرأة وقبيحًا في الرجل باعتبار أن الرجل فيه من كمال الخلقة ما لا يصلح معه هذا الحلي، فيكون نقصًا، أما المرأة فهي بحاجة إلى هذا.

الآن السيارة قد تكون في حال من الجودة في هيئتها التي صُنعت عليها ما تحتاج معها إلى زخارف وألوان وأصباغ وأشياء يعلقها ويلصقها بها وما إلى ذلك، فإذا وضع ذلك فيها شوهها، وأحيانًا تكون في حالة رديئة تحتاج معها إلى شيء من التزويق، وهنا إذا تبين هذا المعنى يقال: ليس ذلك من قبيل التنقص للمرأة، حتى ما ذكر الله قال: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ كما قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.

وكما قال الأعرابي الذي بُشر بالبنت: ما هي بنعم الولد، فذكر أن نصرها بكاء، فهذا الآن لو أن الرجل كان بهذه المثابة رجل إذا أراد أن يناقش بكى، هكذا عادته إذا جاء يناقش بكى، يقولون عنه: هذا بنت، يبكي لأدنى سبب، فالبنت من عادتها ذلك، وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ لكن مثل هذه الأمور يحتاج الإنسان أن يتبين معها معنى هو قضية التنشئة في الحلية، والضعف في الخصومة، الآن اسمعوا مثلاً قول الشاعر يتغزل بامرأة أو ببنت اجتمع أهلها يضربونها في تهمة وهي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها وإنما تبكي، تجاوبهم بالبكاء، فرآها فرقّ لها فقال:

بنفسي وأهلي مَن إذا عَرَضوا له ببعض الأذى لم يدرِ كيف يجيبُ

   يعني أفدي بنفسي وأهلي من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه.

فلم يعتذر عذرَ البريء ولم تزلْ به سكتةٌ حتى يقالَ مريبُ

يعني لم يدافع، يفصح، يبين موقفه وما جرى، وإنما لم يزل ساكتًا يجيبهم بالبكاء حتى يقال: مريب، الأمر فيه شيء، في شك فهم يضربونها وهي تبكي ولا تجيب، ساكتة لا تجيب، فهذا لما رآها انجذب لهذا الضعف الجِبلي فقال ما قال.

فهذا اعتبره الشاعر من قبيل الأمور الجاذبة، فكمال كل شيء بحسبه، انتبهوا لهذه، الآن الطفل الصغير تصور لو أنه يولد بعقل رجل، هذا الذي تضمه، وتريد أن تلاعبه، أنت تضم رجلا ونظراته وكلماته، حينما تلاعبه وتضاحكه يرد عليك رد الرجال، هذا الصغير عمره سنة، عمره سنتان، عمره ثلاث سنوات، رجل تنجذب إليه النفوس، ويُلعَّب ويُضحَّك ويُدلَّل ويُرقَّص

واللهِ لولا حَنَفٌ في رجلِه ما كان في فتيانكم مِن مثله

أم الأحنف بن قيس ترقصه، لو كان بنفسية رجل، وعقل رجل، وهو صغير عمره سنتان هل يصلح للتلعيب، ويستملح ويستلطف؟ لا، إذًًا ملاحته وكماله فيما يصلح له، لكن تصور لو أنه كبير ينطق كما ينطق هذا الصغير، ويفكر بنفس الطريقة فإنه يقال عنه: في عقله شيء، لكن هذا الطفل الصغير ليس في عقله شيء، الناس الذين عندهم ضعف في النمو، بطء في النمو العقلي، تجد الإنسان عمره قد بلغ ثلاثين سنة ويصلح أن يكون عمره تقريبًا ثماني سنوات أو اثنتي عشرة سنة، فإذا جلس مع الناس وبدأ يتكلم واهتماماته وألاعيبه ويميل إلى الصغار وإلى آخره، إذا تكلم كأنه طفل عمره ثماني سنوات، جلست تتحاور معه ما تقول: إنه مجنون، لكن التفكير والاهتمامات والمنطق منطق طفل، هذا موجود، فمثل هذا يعتبر من قبيل الكمال أو النقص بالنسبة للكبير؟ نقص، وبالنسبة للصغير هو نقص لكنه هو الذي يصلح لمثله فيكون كمالاً فيه.

ننتقل للمرأة، المرأة الآن لو كانت مثل الرجل تمامًا في عقلها ومنطقها هل يستمتع بها الرجل ويقبل عليها؟

لا، إطلاقًا؛ ولذلك كفى ذمًّا بامرأة أن يقال: مترجلة، لو أن أحدًا أراد أن يخطب امرأة فسأل عنها فقيل: شخصيتها مثل الرجل، يقبل عليها يتزوجها أو لا يتزوجها؟

لا يتزوجها، فهذا الضعف الجبلي الذي فيها هو الذي يجعله ينجذب إليها وتأسره بضعفها، فهذه هي الأنوثة التي كلما ازدادت وتمكنت في المرأة كان ذلك كمالاً فيها، فكمالها في أنوثتها، كمال المرأة في أنوثتها، فالرجل يبحث عن امرأة كاملة الأنوثة، لكن إذا كان فيها نوع من الترجل، الميل إلى أخلاق الرجل، ما يسمى اليوم -أكرمكم الله- بـ"البويات" تجد البنت تقص قصتها مثل الولد، وتلبس ألبسة تشبه الولد، وتسمي نفسها باسم ولد، وتتعامل مع البنات على أنها ولد ذكر، وليست ببنت، فهذا نقص أو كمال؟

هذا نقص شديد، هذا انحراف عن الفطرة، فكل مقام له مقال، فإذا جاء الكلام في الرد على المشركين فقيل لهم: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ينبغي للنساء أن لا يغضبن، أن لا تغضب المرأة، فإن كمالها في أنوثتها، والأنوثة ضعف جبلي، فليس ذلك تعييرًا لها ولا سبة في حقها، بل ذلك كمالها الذي يصلح لها، فلو خرجت عنه لكان ذلك هو النقص.

الآن لو قالت واحدة: أنا أريد أن أنتفي من هذه الصفة -أي الأنوثة، تريد أن تكون مثل الرجل لكان ذلك شينًا في حقها، ونقصًا، ولذلك انظر إلى المرأة كثيرة الخروج الخرّاجة الولاجة، ولاسيما إذا كانت تخالط الرجال تكون امرأة صاحبة لسان في الغالب، وتصرفاتها وأفعالها وأخلاقها وطبيعتها تميل إلى طبيعة الرجال، فهذه قلما يتلاءم معها الرجل، فيكثر الطلاق في المجتمعات التي يكثر فيها خروج النساء، ويكثر فيها الاختلاط، المرأة ند للرجل.

وقد رأيت مرة أمام المسجد، وأنا لربما في المرحلة الابتدائية في الصف الخامس الابتدائي، ونحن نخرج من صلاة المغرب، رجل وامرأة وقفا في الطريق على أقدامهم، جيران لنا من بعض البلاد فتخاصما وتشاجرا، فالرجل يلطمها على وجهها وترد له اللطمة، وهو يلطمها، وهي ترد اللطمة، لطمة بلطمة، مثل الرجل تمامًا هي صنو له، بل هو ضئيل ونحيل وهي امرأة عظيمة الخلقة بدينة، الحمد لله أنها وقفت على اللطم، وإلا لو جلست عليه لقتلته.

فهذا مهم جدًّا، هذا مفصل يحتاج الإنسان أن يتبينه حينما يقال: ضعف، فالطفل كماله وملاحته فيما يصلح له، الرجل كماله في رجولته، ما يصلح أن يلبس الحلي، فيكون شينًا فيه، لمّا يتأنث بكلامه في مشيته في حركاته، الرجل لما يمشي ويقول بيديه هكذا ونحو ذلك، يعني هذا يكون نقصًا في حقه، المرأة إذا ترجلت يكون هذا نقصًا في حقها، إذًا كمالها في أنوثتها، وكمال الرجل في رجولته، فليس هذا من السب أو العيب أو الشين للنساء، فتأنف المرأة منه، وتقول: لماذا نحن هكذا؟ يقال: هذا جمالك -والله المستعان.

الإنسان إذا خرج عن الفطرة ضاع، قرأت مقابلات مع بعض النساء المتبرجات المخالطات للرجال في جامعات مختلطة طالبات في الجامعات، أذكر واحدة مثلاً في بلد من البلاد التي يختلط فيها الناس في المدارس، تقول: تعبنا، كل يوم أبدو بشخصية جديدة بحسب من أجالس من الرجال، فأحيانًا أبدو بلهاء، يعني هم ينجذبون لمن فيها بلاهة، وغفلة، فتقول: أبدو بلهاء، وأحيانًا أبدو حصيفة، وأحيانًا أبدو في صفة أخرى ثالثة ورابعة بحسب من تجالسهم، مرة ملسونة، مرة تبدو رقيقة، وهكذا، والله المستعان.

لكن لو بقيت على أنوثتها لكانت على الفطرة، تقل هذه الأوصاف إذا أكثرت المرأة من الخروج، فإذا خالطت الرجال بدأت تتلاشى الأنوثة عندها، وأظن أنه كما ذُكر في بعض الدراسات أنه يبدو حتى الهرمونات تتأثر بهذا الخروج ومزاولة أعمال الرجال، ومخالطة الرجال، والقيام بوظائف لا تصلح للمرأة، تبدأ المرأة تتغير في سلوكها، في أخلاقها، في طبيعتها، فلا تتلاءم مع الزوج، فسرعان ما تطلق، الذين يريدون للمرأة أن تخرج وتخالط الرجال هؤلاء يجنون عليها جناية بالغة.

وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أي: اعتقدوا فيهم ذلك، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك، فقال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي: شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا، سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ أي: بذلك، ويسألون عن ذلك يوم القيامة، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد.

قبل أن نجاوز أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ هنا المعنى الذي ذكرناه هو المعنى الذي عليه الجمهور، لكن يوجد من السلف من قال غير ذلك، يعني ابن زيد والضحاك مثلاً قالوا: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ يعني الأصنام التي يعبدونها يزينونها بالحلي، وهي لا تُبين عن نفسها، لا تتكلم، ولا تنطق، صماء، لكن هذا المعنى بعيد، ليس المقصود.

هؤلاء اطردوا في قولهم وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا يعني الأنداد والشركاء والمعبودين والأصنام، طيب أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ هذه قرينة على أن المقصود البنات، قالوا: لا، "أومن ينشأ في الحلية" الأصنام نفسها تزين بالحلي ولا تبين عن نفسها، فصار قولهم مطردًا بهذا الاعتبار، يعني غير متناقض، القرينة التي تدل على القول الأول جعلوها بمعنى آخر فصارت تدل على قولهم، لكن القول الأول هو الذي عليه الجمهور، وهو الأرجح -والله أعلم.

قال: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا هذه قرينة واضحة أيضًا على أن المقصود بالجزء البنات، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء، وقد مضى في بعض المناسبات، فجعل تأتي بمعنى خلق، قلنا مثل: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [سورة فاطر:1] يعني خالق الملائكة، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] يعني خلق الظلمات والنور.

وتأتي بمعنى حكم أو اعتقد، ولهذا نقول في تعريف التوحيد: مصدر وحد يوحد توحيدًا، وهو من النسبة لا من الجعل، ومعنى من النسبة لا من الجعل أن الموحد ينسب الوحدانية لله لا أنه يجعله واحدًا، فالله واحد وإن لم يوحده أحد، واضح؟ من النسبة يعني التوحيد، أنت تنسب الوحدانية لله ولكن لست أنت الذي جعلته واحدًا بتوحيدك، فالله واحد، من النسبة لا من الجعل، فجعل تأتي بمعنى خلق، وتأتي بمعنى صيّر، وتأتي بمعنى حكم.

وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا هذه قراءة الكوفيين الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ، وقراءة الجمهور {الذين هم عند الرحمن إناثًا} والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة هم خلق آخر، طيب {الذين هم عند الرحمن إناثًا} يعني جعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن، إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [سورة الأعراف:206] يعني الملائكة، هذا معنى "عند الرحمن".

ليسوا عند الرحمن إناثًا، لا، جعلوا الملائكة إناثًا، الملائكة هؤلاء أين هم؟ عند الرحمن، جعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن، ليست "عند الرحمن" متعلقة بما بعدها الذي هو "إناثًا"، {جعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن} فـ"عند الرحمن" متعلقة بما قبلها، أي الملائكة الذين هم عند الرحمن، إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ فهذه أيضًا معناها لا يشكل.

قال: أي: اعتقدوا فيهم ذلك، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك، فقال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، قال هنا: أي: شاهدوه، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ شاهدوه وحضروه، من الشهود سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ هنا سماها شهادة وإن لم ينطقوا بلفظ الشهادة، وهذا تكلم عليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله، ومضى في بعض المناسبات.

فإن من حكم على شيء فإنه يكون قد شهد بذلك وإن لم ينطق بلفظ الشهادة، فلو أنه قال: إن فلانًا كذا قذفه يعني فيكون قد شهد عليه بالفجور بالزنا، أو لو قال: فلان تقي فيكون قد شهد عليه بكذا، يقال: فلان شهيد يكون قد شهد له بالشهادة، فهذه الشهادة لا يشترط فيها لفظ الشهادة، ولذلك ينبغي أن تكون مستوفية لما ينبغي من التحري والتحقق... إلخ، ومن الذي يستطيع أن يشهد على أحد بأمر لم يتبينه ولم يتحقق منه، وإن لم يأت بلفظ الشهادة لم يقل: فلان شهيد مثلاً كيف يجزم بهذا؟ لا يستطيع أن يشهد لأحد أنه شهيد، يعني في الجنة، لا يستطيع أن يشهد لأحد بجنة ولا بنار إلا لمن شهد الله له، وهكذا.

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ أي: لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:

أحدها: جَعْلُهم لله ولدًا، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًّا كبيرًا.

الثاني: دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا.

الثالث: عبادتهم لهم مع ذلك كله، بلا دليل ولا برهان، ولا إذن من الله ، بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء، والخبط في الجاهلية الجهلاء.

الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَرًا، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرًا، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سورة النحل:36]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:45].

وقال في هذه الآية -بعد أن ذكر حجتهم هذه: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به، إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ أي: يكذبون ويتقولون.

وقال مجاهد في قوله: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ أي: ما يعلمون قدرة الله على ذلك.

هنا قوله: الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدَرًا يعني أنهم قالوا: "لو شاء الرحمن ما عبدناهم" كونه لو شاء الرحمن ما عبدوهم هذا صحيح، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:107] لكن الإنكار عليهم من أي جهة؟ هو ما يقع شيء إلا بتقدير الله القدر الكوني، فالإنكار إلى أين يتوجه؟

يتوجه إلى كونهم احتجوا بالقدَر الذي جعلوه دليلاً على المحبة والرضا، يعني يقولون: الله يريد منا هذا، الله يرضى عنا بهذا؛ لأنه قدره علينا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ هذا الذي ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وهو معنى صحيح، فتُفهم عبارة ابن كثير -رحمه الله، هو لا يخالف بهذا لكن حتى يعرف المراد، يعني في الرابع هنا احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدرًا قد جهلوا في ذلك جهلاً كبيرًا إلى آخره، هو صحيح أن الله قدر عليهم، لكن الإنكار من هذه الحيثية أنهم جعلوا هذا القدر دليلاً على رضا الله، وأنه أحب ذلك منهم، وهذا غير صحيح.

والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية معروف، الإرادة الشرعية أن الله يحب المراد، وأما الإرادة الكونية فلا تقتضي المحبة، قال: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ بصحة ما قالوه واحتجوا به، مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍيعني هم احتجوا الآن بالقدر، وقالوا: إن الملائكة بنات الله، وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ قال: أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به، وهذا الذي قاله ابن جرير أيضًا قال: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني يقولون قولاً لم يتحققوا منه.

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ۝ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ۝ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ۝ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سورة الزخرف:21-25].

يقول تعالى منكرًا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل شركهم، فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي: فيما هم فيه، أي: ليس الأمر كذلك، كقوله: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [سورة الروم:35] أي: لم يكن ذلك.

ثم قال: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ أي: ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا.

قوله -تبارك وتعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ يعني حجة، السلطان يأتي بمعنى الحجة فلو فسر بالكتاب وما إلى ذلك فهذا كله لا إشكال فيه، "أم أنزلنا عليهم سلطانًا" كقوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ [سورة فاطر:40].

وهكذا في نظرائه في كتاب الله -تبارك وتعالى- كما سيأتي في سورة الأحقاف قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الأحقاف:4].

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ "أم" هذه هي المنقطعة بمعنى بل والهمزة، أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ من قبل ماذا؟ كثير من السلف فسروه فقالوا: "من قبله" يعني من قبل شركهم، يقرر لهم هذا "فهم به مستمسكون"، يعني هم حينما يشركون بالله ويجعلون له البنات إلى آخره ما حجتهم ما متمسكهم في ذلك؟ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ [سورة فاطر:40] يعني قبل إشراكهم، هذا قال به كثير من السلف، وبعضهم يقول: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ يعني من قبل القرآن، كما يقوله ابن جرير -رحمه الله.

وفي قوله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة الأنبياء:92]، وقولهم: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ أي: وراءهم مُهْتَدُونَ، دعوى منهم بلا دليل.

 ثم بين تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم، فقالوا مثل مقالتهم، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ۝ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [سورة الذاريات:52، 53]، وهكذا قال هاهنا: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.

وهذا كثير كقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا [سورة البقرة:170] وهكذا في نظائره وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا [سورة المائدة:104]، فهذا مثل: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، والله يقول: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ ۝ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [سورة الصافات:69، 70]، وفي إبراهيم ﷺ لما حاور قومه ورد عليهم واحتجوا بما كان عليه الآباء ماذا قال لهم، بماذا أجابهم؟ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة الأنبياء:54] دائمًا هؤلاء يحتجون بما كان عليه الآباء من غير حجة ولا برهان.

ثم قال تعالى: قل أي: يا محمد لهؤلاء المشركين: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ أي: ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك بسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.

هنا الله يقول: قل هنا يقول: أي: يا محمد لهؤلاء المشركين: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ هذه قراءة الجمهور، وفي قراءة ابن عامر وحفص: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ، من الذي قال؟ يحتمل "قل" يعني يا محمد، و"قال" أي الرسول ﷺ. 

وبعضهم يقول: إن قوله: قَالَ يعني كل نبي لأمته لما ذكر أن هذا ديدن الأمم مع أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام: إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، قال: أي: كل منذر، كل رسول لأمته.

وبعضهم يقول: إن القراءتين كلتيهما في المرسلين مع أممهم، يعني "قال" أي: كل رسول، "قل" يعني أن الله أمر كل رسول أن يقول ذلك، وبعضهم يقول: ذلك في الرسول ﷺ، قَالَ أي الرسول ﷺ، قل أي: يا محمد -عليه الصلاة والسلام: أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ، إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا من المقصود بالمترفين؟ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [سورة المزمل:11] هؤلاء هم الكبراء وهم أعداء الرسل عادة، وسؤالات هرقل لأبي سفيان لما سأله من يتبعه أكبراء الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هؤلاء هم أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فهؤلاء المترفون المقصود بهم الكبراء وهم يعادون الرسل عادة؛ لأسباب معلومة:

منها: الأنفة، هو ما تعود أنّ أحدًا يقول له شيئًا، أو يأمره أو ينهاه؛ ولهذا فرعون كان يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52]، وقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] يكون في حال من الأنفة والكبر فما اعتاد أن يقول له أحد: افعل، أو لا تفعل، أو ينقاد إليه، ويكون مطيعًا له، وإنما هو الذي يأمر وينهى.

ولربما عنده حاشية لو قال لهم: ما الوقت الآن؟ قالوا: الذي تراه، لا يستطيعون أن يقولوا له: نحن الآن في الصباح؛ لأنه لو غضب أو قال: لا، نحن بالليل لم يكن لأحد أن يعترض، فهم يقولون الجواب الصحيح، أن يقولوا: الذي تراه، الوقت هو الذي تراه إن رأيت أنه ليل فهو ليل، وإن رأيت أننا في الظهر الآن أو العصر فنحن في العصر، فما اعتاد أن يأتيه أحد ويقول له: أنا رسول، وينبغي أن تسمع وتطيع وتنقاد وتسلم وتذعن.

مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [سورة غافر:29]، فيرى أنه ما يراه هو يساوي سبيل الرشاد، هي كذا، ما يراه هو سبيل الرشاد، مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ فهنا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ فهم أنَفَة.

وأيضًا هؤلاء يعادون الرسل غالبًا لماذا؟ لأنه كما قال المعلمي -رحمه الله: منهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة، يكون له شهرة، يكون له معيشة، يكون له سلطة، فاتباعه للرسول يذهب عنه هذا؛ ولذلك مسيلمة عرض على النبي ﷺ أن يكون من بعده، أو أن يكون له الأمر من بعده، أو أن يكون له جزء وللنبي ﷺ جزء، يعني من الإمارة والولاية وما أشبه ذلك.

قال الله تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ أي: من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب، كما فصله تعالى في قصصهم، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي: كيف بادوا وهلكوا، وكيف نجّى الله المؤمنين.
  1. رواه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، برقم (314)، ولفظه: إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه.
  2. رواه النسائي، كتاب الطهارة، باب غسل المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، برقم (197)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، برقم (126).

مواد ذات صلة