السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} الآية:26 إلى قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا} الآية:45
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 6359
مرات الإستماع: 8337

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ۝ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ۝ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ۝ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ۝ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۝ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ۝ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ۝ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:26-35].

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ۝ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان وهي "لا إله إلا الله" أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم -عليه السلام، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: إليها.

وقال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها، ورُوي نحوه عن ابن عباس.

وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ نحن ذكرنا مرارًا أن مثل هذا اللفظ: وَإِذْ قَالَ تقديره: واذكر إذ قال إبراهيم.

وقوله: إِنَّنِي بَرَاءٌ براء مصدر، ومعنى البراء معروف، وأصل ذلك يرجع إلى مفارقة الشيء ومزايلته، تقول: برء من المرض، من العلة، لِيَهْنِكَ البُرء، فلان بريء من كذا ونحو ذلك إذا فارق الشيء وزايله، فهنا فارق قومه في الله ولله، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فهذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً، ويحتمل أن يكون منفصلاً بأي اعتبار؟

إذا نظرت إلى أن هؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره فهم مشركون، فيقول: إنه بريء من معبوداتهم، ولكن من معبوداتهم الله -تبارك وتعالى، فهو يقول: أنا بريء مما تعبدون إلا الذي فطرني، فاستثنى من هذه المعبودات المعبود الحق ، وبهذا الاعتبار يكون الاستثناء متصلاً.

عرفنا أن الاستثناء المتصل ما كان المستثنى من جنس المستثنى منه، وإذا قيل: إنهم لا يعبدون الله أصلاً، وإنما يعبدون غيره -وهي هنا الأصنام، أو أولئك الذين مثلاً يعبدون الكواكب- فيكون الاستثناء منقطعًا، إنني براء مما تعبدون لكن الذي فطرني أعبده وأوحده، ففيها القولان بهذا الاعتبار، وهذا كقوله -تبارك وتعالى- عن قول إبراهيم ﷺ: أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ۝ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:75-77] فهذا كهذه الآية تمامًا، والخلاف في الاستثناء هناك كما هنا سواء.

وقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ما هذا الذي أشار إليه؟ الضمير في "جعلها" يرجع إلى ماذا؟ جعلها كلمة، قلنا: إن الضمير يرجع إلى شيء مذكور قبله، فماذا قال لهم؟ قال لهم: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ جعلها يعني جعل هذه الكلمة، ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: أي: هذه الكلمة بهذا الاعتبار، ثم قال: وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي لا إله إلا الله، وهذا من أحسن ما يكون في التفسير جمع فيه عبارات السلف، أو المعاني، أو الأقوال التي ذكرها السلف.

والواقع أن ما ذكره السلف يرجع إلى شيء واحد، فتجد كثيرًا من الآثار يفسرون فيها هذه الكلمة بـ"لا إله إلا الله"، لكن "لا إله إلا الله" هل ذكرت قبله؟ "وجعلها" الضمير يرجع إلى شيء مذكور في الأصل، قد يرجع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه السياق لكن هنا لماذا قال كثير من السلف: هي "لا إله إلا الله"؟ هو باعتبار مضمون ما قاله لهم، قال: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ هذا "لا إله" إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فهذا "إلا الله".

إذًا الذي قاله لهم هو مضمون الشهادتين، هو معنى لا إله إلا الله، ومن هنا كثير من السلف فسره بمعناه، يعني ليس بتفسير على اللفظ كما يقال، وإنما هو تفسير على المعنى، التفسير تارة يكون على اللفظ وتارة يكون على المعنى، فيكون هؤلاء فسروه بهذا الاعتبار على المعنى.

فابن كثير جاء بالعبارتين جاء بما قاله إبراهيم ﷺ وبمضمونه وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال: أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: إليها، هنا نقل عبارات السلف أو بعض العبارات كقول عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي: يعني: لا إله إلا الله في ذريته من يقولها، جعلها في ذريته، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ العقب هم الذرية، تقول: فلان ليس له عقب، فلان له عقب يعني له ذرية، جعل هذه الكلمة باقية فيهم، لم يزل فيهم من يوحد الله -تبارك وتعالى.

يقول: وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وكلمة الإسلام هي لا إله إلا الله، فهذا الذي يسمونه اختلاف التنوع، عبارات مختلفة والمعنى واحد، ولهذا قال: يرجع إلى ما قاله الجماعة، وهذا كله باعتبار أن الذي جعلها باقية في عقبه هو إبراهيم ﷺ، وهذا عليه كثير من السلف فمن بعدهم، ويكون ذلك مفسَّرًا بقوله -تبارك وتعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132].

كذلك أيضًا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] فدعا الله -تبارك وتعالى- وكان الأنبياء الذين جاءوا بعده -عليه الصلاة والسلام- كلهم من ذريته، فلما ذكر الله نوحًا وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قال: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة الحديد:26]، فكل نبي جاء بعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان من ذريته، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني يرجعون إليها، يعني لم يزل يوجد فيهم من يوحد الله -تبارك وتعالى، فالزائغون يرجعون ويهتدون إلى الإيمان والتوحيد بوجود من يدعوهم إليه، مَن يوحد الله فيهم من الأنبياء وأتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني لعل هؤلاء الذين ينحرفون عنها من ذريته -من عقبه- يرجعون إليها لوجود من يدعو إليها ولم يزل يوحد الله -تبارك وتعالى- كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

هذه الأقوال كما رأيتم، ابن جرير -رحمه الله- عبارته أيضًا قريبة مما ذكروا، لكنه زاد قليلاً ما لا يخالف ما ذُكر، يعني أن قوله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني البراءة من المشركين، والتوحيد، قول: لا إله إلا الله؛ لأنه هنا الكلام ماذا قال لهم؟

قال: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ذكر البراءة من معبوداتهم، والله -تبارك وتعالى- ذكر عنه أنه تبرأ منهم ومن معبوداتهم -أيضًا- كقوله: إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ [سورة الممتحنة:4]، فذكر الكفر بمعبوداتهم، والكفر بهم، وهناك فسر "كفرنا بكم" قيل: بعملكم، بعبادتكم لغير الله .

فابن جرير هنا راعى اللفظ فقال: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني البراءة من المشركين، والتوحيد، قول: لا إله إلا الله، فلم يزل ذلك في ذريته، ومثل هذا ذكره ابن القيم -أيضًا، يعني يقول: جعل الموالاة والمعاداة -الولاء والبراء- في كل ما يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يتوارثها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الأنبياء.

يقول: وهي كلمة لا إله إلا الله، فهذا كله يرجع إلى شيء واحد، أصلاً كلمة لا إله إلا الله الآن لو نظرت إلى الشق الأول "لا إله" يعني نحن نقول: إن الولاء والبراء هو من "لا إله إلا الله" باعتبار أن "لا إله" الشق الأول هو براءة من كل معبود من دون الله، وما يتصل بذلك، البراءة من المعبودين، ومن العابدين، و"إلا الله" هو إثبات عبادة الله وحده، وذلك يقتضي محبة هذه الكلمة، ومحبة من يوحد الله -تبارك وتعالى- إلى آخر ما هو معلوم مما تتضمنه هذه الكلمة، هذا كله يرجع إلى شيء واحد وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.

ثم قال تعالى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ يعني: المشركين، وَآبَاءهُمْ أي: فتطاول عليهم العمر في ضلالهم، حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي: بيّن الرسالة والنذارة.

وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ أي: كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والرَّاح كفرًا وحسدًا وبغيًا، قَالُوا أي: كالمعترضين على الذي أنزله -تعالى وتقدس: لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي: هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة والسدي، وابن زيد.

وقد ذكر غير واحد منهم: أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي.

والظاهر: أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان.

قوله -تبارك وتعالى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ "جاءهم الحق" يعني ماذا؟ ابن جرير يقول: يعني القرآن، "جاءهم الحق" القرآن، ورسول من الله أرسله إليهم، رسول مبين أي: بيّن الرسالة والنذارة، فإن مبين يأتي من بان كما تقول: بَانَ الصبح لذي عينين، بَانَ الحق يعني ظهر واتضح، وتأتي مبين بمعني أنه يبين الحق لطالبيه، يبين الحق للناس، رسول مبين، وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.

الروايات الواردة في هذا لا يصح منها شيء من جهة تعيين المقصود، من هو الذي قصدوه بذلك رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ والأسماء التي تذكر في تلك المرويات مختلفة ليست متفقة؛ ولهذا ابن كثير -رحمه الله- قال: والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان، فلا حاجة للتعيين؛ لأنه ليس عليه دليل، ولم تتفق فيه تلك الروايات على ما فيها من الضعف.

يعني هم كانوا يرون أن النبي ﷺ كما قال الله -تبارك وتعالى- عنهم: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [سورة الأنبياء:36]، يعني يحتقرونه ويزدرونه، والله المستعان، يقولون: ابن أبي كبشة، في سؤالات هرقل لما سأل أبا سفيان لمّا خرج من عنده ماذا قال؟ قال: لقد أَمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة، يعني أن يخافه ملك الروم.

قال الله تعالى رادًّا عليهم في هذا الاعتراض: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ أي: ليس الأمر مردودًا إليهم، بل إلى الله ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبًا ونفسًا، وأشرفهم بيتًا، وأطهرهم أصلا.

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ما المقصود هنا بالرحمة؟

بعض المفسرين فسره بمعنى الرحمة الأعم فيدخل فيه النبوة، وإنزال القرآن، والوحي والرزق والهداية، كل ذلك هو من رحمته -تبارك وتعالى، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ باعتبار العموم في اللفظ، ومن نظر إلى السياق والآيات التي تشهد لهذا الموضع فسره بالنبوة وإنزال الوحي؛ لأنهم هم يتحدثون عن هذه القضية، وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ۝ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ التي هي النبوة وإنزال الوحي، إنزال القرآن على النبي ﷺ، هم معترضون لماذا لم ينزل على فلان وفلان من العظماء في نظرهم؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟

 فالذين فسروه بمعنى خاص نظروا إلى السياق، والسياق يحدد المعنى ويبينه ويوضحه، وهذا الذي مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وفَسر هذا بنظائره كقوله -تبارك وتعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ۝ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة الدخان:5، 6]، وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة القصص:86] فإنزال الوحي على النبي ﷺ النبوة- هذا رحمة، بل هو من أعظم الرحمة.

ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.

وقوله: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا قيل: معناه ليسخِّر بعضهم بعضًا في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، قاله السدي وغيره.

طبعًا هذا هو المعنى الذي عليه الجمهور، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا يعني يُسخَّر بعضهم لبعض، باعتبار أن الله فاوت بينهم في الأرزاق والعطاء، فهذا غني وهذا فقير، هذا قوي وهذا ضعيف، فهذا يحتاج إلى المال، وهذا يحتاج إلى العمل، فهذا يعمل لهذا بالأجر فيسخر له، لو كان كلهم أغنياء لم يعتمل أحد، ولم يوجد من يحرث، ويصنع، ويقوم بالمهن ومزاولة الأعمال التي لربما تكون شاقة ونحو ذلك، لكنه بحاجة إلى المال فيعمل، وذاك بحاجة إلى العمل فيبذل المال، فتقوم مصالح الناس بهذه الطريقة.

لو كلهم أغنياء لم يجدوا من يعمل لهم، فهذا من حكمته -تبارك وتعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا يُسخَّر بعضهم لبعض، هناك من قال: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا يعني يُبتلى بعضهم ببعض، يَسْخر بعضهم من بعض، يعني لربما الغني يسخر من الفقير، لكنه معنى بعيد لا يدل عليه السياق، -والله أعلم.

وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ خير مما يجمعون من المال، رحمة ربك هنا ما المراد بها؟ قال: أي: رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا، هكذا العبارة فيها شيء من الإجمال، لكن هل هذه الرحمة في الدنيا أو في الآخرة؟ "ورحمة ربك" يعني يقول الله إنه جعلهم في هذا التفاوت، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهذا في الدنيا.

وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ فبعض المفسرين قال: أي: في الآخرة، رحمة ربك في الآخرة خير مما يجمعونه في هذه الحياة الدنيا التي يتفاخرون فيها، وبعضهم طرد ما سبق يعني من تفسير الرحمة بالنبوة أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ يعني النبوة، ثم وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ، يعني النبوة ونزول الوحي على النبي ﷺ، هكذا قال بعض المفسرين.

وبعضهم كالشنقيطي -رحمه الله- وسع المعنى قليلاً فقال: يعني النبوة والاهتداء بهدي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ يعني أن الأولين قابلوا هذا العطاء الدنيوي والتفاوت بين الناس فيه بالعطاء الأخروي، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ يعني في الآخرة.

وبعضهم نظر إلى أن الرحمة المذكورة هنا هي المذكورة سابقًا، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ يعني النبوة والوحي، هنا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ يعني النبوة، الشنقيطي زاد في هذا النبوة والاهتداء بهدى الأنبياء أنه أفضل من هذا، خير من هذا الحطام الذي يتنافس فيه الناس، ويجمعونه، والله -تبارك وتعالى- يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58] "ورحمة ربك" قد يقال: يدخل فيه النبوة والوحي وما يتصل بعمل الآخرة، وما يتصل بجزائها خير مما يجمعه هؤلاء ويتنافسون فيه.

ثم قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أي: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال -هذا معنى قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وغيرهم- لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ أي: سلالم ودرجًا من فضة -قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن زيد، وغيرهم- عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، أي: يصعدون.

وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ۝ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ[سورة الزخرف:34، 35]، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا أي: أغلاقا على أبوابهم وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، أي: جميع ذلك يكون فضة، وَزُخْرُفًا، أي: وذهبًا، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ يقول هنا: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطينا فيجتمعوا على الكفر لأجل المال..، ونقل هذا عمن قاله من السلف.

يعني الآن وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني على الكفر يجتمعون، أي لولا أن يكون الناس على الكفر بالله بسبب ما يرون من حال الكافرين أنهم في هذا النعيم والترف من البيوت التي من الذهب والفضة لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ الله لم يفعل ذلك، "لولا" حرف امتناع لوجود، امتنع هذا العطاء بهذه الصفة -يعني البيوت من الذهب والفضة- لوجود المانع، ما هو المانع؟ أن يكفر الناس جميعًا، لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا للكفار.

هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء[1]، فانظر الآن حال الكفار وما هم فيه من التمكين والقوة وما ذُلل لهم من أسباب العيش، هم أعداد كثيرة، وهم الأغنى، هم العالم الأول كما يقال، والأمطار تنزل عليهم صباح مساء، أجواء جميلة، بلاد جميلة، عمر لما بكى عندما رأى النبي ﷺ ينام على حصير قد أثر في جنبه، وتذكر كسرى وقيصر وما هم فيه ماذا قال له النبي ﷺ؟ قال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[2].

فليس هذا هو المعيار في كون الإنسان على هدى وحق أن ينظر إلى حاله في الدنيا، وما هو فيه من الترف والنعيم، بينما المعتبر في ذلك هو ما عليه من الدين والاعتقاد والعمل، وَلَوْلَا أَن يَكُونَ فيكون من رحمة الله بالناس أنه لم يعطِ الكفار هذا العطاء الذي وصف، يعني إذا كان الآن العطاء الذي عند الكفار ما وصل إلى هذا المستوى، ولا قريب منه، ومع ذلك الفتنة بهم عظيمة، فكيف لو كانوا بتلك المثابة؟ -والله المستعان.

وبعض المفسرين يقول: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني يجتمعون على طلب الدنيا ويزهدون في الآخرة لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ إلى آخره، وهذا المعنى لا يبعد عن المعنى الذي قبله، بل قد يرجع إليه، وذلك أنهم إذا أقبلوا على الدنيا وزهدوا في الآخرة فمعنى ذلك أنهم يكونون على الكفر.

وقوله هنا: لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ۝ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ أبوابًا يقول: أي: أغلاقًا على أبوابهم، يمكن أن يفسر بالأبواب، يعني نفس الأبواب تكون من الفضة وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وليس أغلاق الأبواب فقط، إذا كانت السقف من الفضة والدرج من الفضة فما المانع أن يكون الباب من الفضة؟ قال: وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ أي: جميع ذلك من فضة، وَزُخْرُفًا قال: أي: وذهبًا، ونقله عن هؤلاء من السلف ، وهذا هو الظاهر وإن كان بعض السلف كابن زيد فسره بما يتخذه الناس من الأثاث، يقول: الزخرف هو هذا الأثاث والأشياء التي يرتفقون بها في منازلهم، الأمتعة ونحو ذلك.

وفسره الحسن بالنقوش والزينة التي تكون، والأقرب -والله أعلم- هو ما ذكره ابن كثير أن المقصود بالزخرف الذهب، وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ۝ وَزُخْرُفًا الزخرف يحتمل أن يكون بعض ذلك بالذهب، وبعض ذلك بالفضة، يعني لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ أي من فضة، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ يعني من فضة، وَزُخْرُفًا، يعني وذهبًا، أي من الذهب والفضة، أن هذه الأشياء تكون من الذهب والفضة.

ثم قال: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها، كما ورد به الحديث الصحيح، وورد في حديث آخر: لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء)، أسنده البغوي.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هذه القراءة التي نقرأ بها قراءة عاصم قرأ بها أيضًا حمزة، وهي رواية عن ابن عامر، والقراءة الثانية قراءة الجمهور بالتخفيف في "لمّا"، وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا على قراءة التخفيف هذه تكون "إنْ" مخففة من الثقيلة، وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني ليست نافية، معروف أن "إنْ" قد تكون نافية

إنْ هو مستوليًا على أحدٍ إلا على أضعفِ المجانين

يعني ما هو مستولٍ على أحد إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ [سورة هود:54] يعني لا نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، وهذا كثير، تكون نافية، وقد تكون مخففة من الثقيلة، فإذا كانت هنا القراءة لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بالتخفيف تكون "إنْ" مخففة من الثقيلة، واللام تكون هي الفارقة بين "إن" المخففة والنافية، و"ما" يقولون: زائدة إعرابًا، يعني كأنه هكذا: وإنْ كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا.

والزيادة كما سبق مرارًا المقصود بها الزيادة إعرابًا، وإلا فلا يوجد في القرآن شيء زائد؛ لهذا يسمونها صلة، ويقولون: زائدة للتوكيد، وهذا معروف، وعلى قراءة التشديد وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تكون "إنْ" نافية، و"لمّا" تكون حرف إثبات بمعنى "إلا"، أي نَفَى وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ ما كل ذلك، فالاستثناء من النفي يكون إثباتًا، فتكون "لمّا" حرف إثبات، يعني إلا متاع الحياة الدنيا، وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، هذا على القراءة التي نقرأ بها، وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا يعني إلا متاع الحياة الدنيا، الآن "وإنْ كل ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين".

ثم قال: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم؛ ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله ﷺ حين صعد إليه في تلك المَشرُبة لما آلى من نسائه، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله، هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله ﷺ متكئًا فجلس وقال: أوَفِي شك أنت يا ابن الخطاب؟، ثم قال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا[3].

هذا هو الجواب، يعني الذين يقولون: الغرب، ولماذا عندهم أمطار؟ ولماذا نحن ما عندنا؟ ولماذا عندهم هذه الأجواء ونحن ما عندنا؟ لماذا عندهم هذه الأموال ونحن ما عندنا؟ لماذا عندهم وسائل الراحة وإلى آخره؟ يقال هذا الجواب: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا)، وانتهى، باختصار، يعني هو يتنعم كم؟ في بدنه يتنعم لكن كم يجلس؟ هل يُحسب بالمليارات في النار؟ ما في مليارات، إلى ما لا نهاية في النار، فما قيمة هذا المتاع الذي هو فيه؟

مع أن هذا متاع أجساد ولكن الألم الذي يعيشونه في نفوسهم والضيق والحسرة هذا لا يقادر، ولذلك المصحات النفسية في بلاد المسلمين أكثر أو في بلادهم؟ في بلادهم بطبيعة الحال، جيوشهم هذه التي تشرق وتغرب وتهدم البلاد على أهلها لما يرجع أصحابها يرجعون وهم بأي حال؟

اقرأ الإحصاءات والتقارير يرجعون مجانين، أمراض عقلية، وأحسن الأحوال أمراض نفسية، وكثير منهم ينتحر، والذين لم يذهبوا للقتال -عندهم للإجرام والإرهاب- هم أيضًا يعانون الأمرّين، ونسب الانتحار عندهم أعلى، إذًا هذا الحياة المذللة ماذا صنعت؟ هو التنعيم بالأجساد ولكن النفوس في غاية الوحشة، يعني الآن هذا الحال والنعيم والترف هل تحول أولئك إلى ناس سعداء، وفي غاية الانبساط؟ أبدًا هي وجوه كالحة إذا نظرت إليهم رأيت الشقاء في وجوههم -نسأل الله العافية، بؤس وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [سورة طـه:124] هذه نتيجة حتمية وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.

وفي رواية: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[4].

وفي الصحيحين أيضا وغيرهما: أن رسول الله ﷺ قال: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة[5]، وإنما خوَّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء أبدا[6]، قال الترمذي: حسن صحيح.

يعني الآن ما قال: بعوضة، البعوضة لا قيمة لها، ومع ذلك ما قال: لو كانت الدنيا تساوي عند الله بعوضة، لا، جناح بعوضة، وما قيمة جناح البعوضة، بل ما قيمة البعوضة، بل ما قيمة البعوض بأجمعه؟ لا قيمة له، جناح بعوضة واحد وليس بجناحين، وإنما جناح واحد ما سقى منها كافرًا شربة ماء، هذه المتع التي هم فيها، وما يأخذونه، وما يحصل من التهافت على ثروات الأمم المغلوبة المقهورة من قِبَل هؤلاء الأعداء، قد تذهب نفس الإنسان حسرات أحيانًا؛ لما يرى، ولكن إذا تذكر هذه: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، فيهون ذلك عليه، وإلا فهؤلاء كيف قامت دنياهم وحضارتهم؟ على حساب الأمم المنهكة المستعمرة.

هؤلاء خرجوا من حرب مدمرة واستعمروا بلادًا واسعة فاستحوذوا على ثرواتها وسخروا أهلها للعمل الشاق، جاءوا بهم، انظر مثلاً إلى الأعمال العملاقة في بلادهم من الذي قام بها؟ هم؟ أبدًا.

القطارات تحت الأرض من الذي حفرها في لندن وفي غيرها؟ الذين جاءوا بهم من المستعمرات من الهنود سخروهم في هذه الأعمال يسومونهم العذاب.

والثروات اذهب شرِّقْ وغرب اذهب إلى إفريقية مثلاً، بلاد جنات وأنهار لمن هذه الجنات؟ لتلك الدول المستعمرة إلى الآن، فهم يصولون ويجولون ويتمتعون ويتقلبون فيها، وأهل البلد ككلب الزرع، تحت الأشجار ضعفاء مساكين فقراء لا يجدون قوامًا من عيش، وهذه المزرعة الواحدة أحيانًا مائتا كيلو متر بالطائرة يشرفون عليها للمستعمر، للرجل الأبيض.

قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ۝ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ۝ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ۝ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۝ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ۝ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ۝ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ۝ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:36-45].

يقول تعالى: وَمَنْ يَعْشُ أي: يتعامى ويتغافل ويعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ والعشا في العين: ضعف بصرها، والمراد هاهنا: عشا البصيرة.

هنا وَمَنْ يَعْشُ لاحظ عبارة ابن كثير -رحمه الله- دقيقة يقول: يتعامى ويتغافل ويعرض، والعشا في العين ضعف بصرها، والمقصود هنا عشا البصيرة، هنا وَمَنْ يَعْشُ العشا فسر بالإعراض، هذا قال به جمع من أصحاب كتب معاني القرآن أهل اللغة قالوا: يقال: عشوت عنه يعني أعرضت عنه، وعشوت إليه بمعنى سرت إليه أو قصدته أو نحو ذلك، يعني عكس المعنى السابق، عشوت عنه، وعشوت إليه، هذا قال به هؤلاء كالفراء والزجاج، وكذلك صاحب "تهذيب اللغة" الأزهري، قالوا: بمعنى الإعراض، يعشو عن ذكره يعني يعرض.

وبعضهم فسره بما أشار إليه الحافظ ابن كثير، وهو ضعف البصر المقصود به هنا البصيرة، النظر الضعيف يقال له ذلك، يقال: فلان فيه عشا بصري، هذا الإنسان الذي يرى مثلاً في النهار ولا يرى في الليل يقال له: أعشى، تعرفون أنه لُقب بهذا بعض الشعراء، ففسر بضعف البصر، هذا الذي اختاره ابن جرير، وقال به أيضًا الخليل بن أحمد الفراهيدي، لاحظ هؤلاء أئمة في اللغة، ابن كثير جمع في عبارته: يتعامى ويتغافل، يعشو هذا من ضعف البصيرة، ويعرض، يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ إن قلت: يتعامى فهذا صحيح، وإن قلت: يعرض فهذا الذي يعشو هو في الواقع يتعامى نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، نسأل الله العافية.

هذه الآيات فيها معانٍ كبيرة، انظر ما نحن فيه في قوله -تبارك وتعالى- عن إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إلى آخره، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وهكذا أيضًا: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً هذه معانٍ كبيرة، هدايات عظيمة هي جواب على سؤالات لربما تدور في نفوس الكثيرين الذين لم تنفتح بصائرهم، ويهتدوا بهذا الوحي.

وهكذا هنا: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، ونحن نعرف أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، على قدر إعراضه وعماه يُقيَّض له شيطان، هذا الشيطان يزين له الباطل فيحسب أنه على هدى فيكون سادرًا في غيه، بحسب إعراضه، يعني قد يكون إعراضًا كليًّا فيبقى هذا الإنسان على الكفر والضلالة إلى أن يلقى الله -تبارك وتعالى، ومهما يرى من الآيات فإنه لا يؤمن ولا يصدق، وتتحول المفاهيم عنده والتصورات والمعايير وما إلى ذلك، فهو يفكر بطريقة أخرى تمامًا، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ.

وهكذا أصحاب البدع والأهواء والضلالات، تجد هذا الإنسان صاحب البدعة الرافضي ونحو ذلك هو في غيه، فيرى أن عمله هذا وأن اعتقاده هو الصحيح فيموت دونه، ويبذل الأموال ويدفع الخمس، وأهل السنة جزء يسير بقدر اثنين ونصف في المائة، فالأموال والعروض لربما أكثر التجار لا يخرج عنها الزكاة، وهؤلاء يدفعون الخمس، يدفعونه طواعية لمن يأكلون أموال الناس بالباطل، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ.

وهكذا الذي يطلب الهدى من الفلسفات قديمة أو حديثة معرض عن القرآن لا يقرأ القرآن، ولا يتفهم معانيه، ولا يتدبره، القرآن عنده هو كتاب يقرأ للبركة ولطلب الأجر فقط، فيبحث عن المصحف في أحسن أحواله في رمضان، المصحف مغبر في بيته يبحث عنه يطلبه في رمضان؛ لأنه لا عهد له به أصلاً فيقرأ للأجر، للبركة، لكن من أين يأخذ المفاهيم؟ من أين يأخذ التصورات؟ هو يرى أن القرآن لا يوفي بهذا، وليس فيه إلا أمور قضت وانتهت وزالت وتلاشت، لكن المفاهيم التي تؤخذ في الحياة، في الاقتصاد، في السياسة، في الاجتماع وما إلى ذلك هذه تؤخذ من هذه الفلسفات والآراء وزبالة الأذهان.

فمثل هذا الذي يظن أنه على شيء نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فهذا لما تتحاور معه وتتناقش معه هو يفكر بطريقة أخرى تمامًا، عقله صيغ صياغة أخرى، ويرى أن هؤلاء دراويش، أو أنهم ما عندهم عمل فجلسوا في المساجد يقرءون القرآن، أو يشتغلون بتفسيره أو نحو ذلك، ما عندهم شيء، متفرغ فجالس على سارية في المسجد ويقرأ، وقت فراغ، الحسنة بعشر أمثالها، هو هكذا متصور، ما هو متصور أن هذا القرآن فيه كل الهدايات التي يحتاج إليها البشر، وأن كل هذه الفلسفات التي عنده الحق الذي فيها مضمن بعبارات قصيرة في هذا القرآن، شتان بين من ينظر للقرآن بهذه النظرة، وبين من ينظر إلى القرآن باعتبار أنه تحفة أثرية تقرأ لطلب البركة، أو الاستشفاء، يرقى به المرضى البسطاء، بل حتى الاستشفاء هذا إن كان طبيبًا أحيانًا يرى أن هؤلاءالذين يذهبون يقول: إذا كُسرت يدك يا حاج تروح تقرأ عليها؟!، يخاطب المريض بهذه الطريقة، يقول له: ما لك وللرقية، القرآن لا يعالج هذه الأشياء، إذا انكسرت يدك يا حاج تروح تقرأ عليها؟!

أقول: أقرأ عليها، وأقرأ عليك أنت بعدُ معها حتى تذهب هذه الوساوس التي في رأسك، فهؤلاء عندهم القرآن هو كتاب أخبار، قوم مضوا وقضوا، انتهوا، ما بقي إلا أن تقرأ للأجر فقط، أما الحياة فلها شأن آخر، فهذا مفاهيمه مختلفة تمامًا، هو في عالم آخر، هو يفكر بطريقة أخرى، الماكينة تختلف تمامًا عملت له صياغة جديدة -فرمتة، أنت في وادٍ وهو في وادٍ، أنت عندك نظارة وهو عنده نظارة أخرى تمامًا، وترى الحياة بلون، وهو يراها بلون آخر، والله المستعان.

نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ هو يظن أنه على هدى، وإذا سمعت كلامه أحيانًا لربما يقع عندك وهم أن هذا الإنسان يعلم أنه على باطل ولكنه مكابر، لكن أحيانًا تسمع للكلام العفوي الذي يصدر منه تقول: الرجل صادق، يعني هو يتكلم عن قناعات حقيقية عنده، تستغرب كيف يصل الإنسان إلى هذا المستوى، ينحرف هذا الانحراف، ويعتقد أنه على حق، كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] كل أمة، فهذا الرافضي زُين له عمله، والملحد زين له عمله، والنصراني زين له عمله، وإلا فكيف بقيت هذه الفرق، والطوائف، والنحل، والملل على وجه الأرض يتوارثها الأحفاد عن الأجداد؟

نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ كقوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [سورة النساء:115] الآية، وكقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، وكقوله: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ الآية؛ ولهذا قال هاهنا: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ۝ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا أي: هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به، قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وقرأ بعضهم: حتى إذا جاءانا يعني: القرين والمقارن.

هنا قوله: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الضمير يرجع إلى من؟ يحتمل أن يرجع إلى الشياطين، يعني نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ يعني يحسب الإنس الذين ضلوا وأضلوا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم يعني يحسبون أن الشياطين على هدى فيما يملون عليهم فيتلقونه، هذا معنى.

والمعنى الثاني: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني الشياطين تصدهم عن السبيل، وَيَحْسَبُونَ يعني الكفار، أَنَّهُم يعني يحسبون أنفسهم أنهم على هدى، وهذا هو الأقرب.

والسبب في ذلك -والله أعلم- أن هذا الكافر هذا المشرك أو هذا الضال أو هذا الذي زينت له الشياطين هذا الضلال هو لا يرى الشياطين، ولا يسمع كلامهم، إنما هو يعتقد أن هذه قناعات عنده، وثقافات تلقاها، فهو لا يرى شيطانًا، ولا يسمع شيطانًا، ولو قيل له: هذا من إلقاء الشيطان في قلبك، وهذا من إضلال الشيطان لك لأنف من ذلك غاية الأنفة، فإذًا "ويحسبون أنهم مهتدون" يحسب نفسه هو أنه على شيء وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18]، ولهذا قال الله في الآيات الأخرى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء [سورة فصلت:25] يعني من الشياطين فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ زينوا لهم: هذا معنى "ويحسبون أنهم مهتدون"، يعني هو يرى أنه على صواب وحق وهدى لكنكم أنتم الذين لم تفهموا حقيقة الدين، أنتم فهمتم الدين فهمًا معوجًّا، وهذا المعنى الذي ذكرناه هو الذي عليه المحققون، واختاره ابن جرير، والحافظ ابن القيم، وآخرون.

يقول: حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ يقول للشيطان، حَتَّى إِذَا جَاءنَا هذا المُعرض، قال: وقرأ بعضهم: {حتى إذا جاءانا} بالتثنية يعني هذا الضال مع الشيطان، هذه قراءة الجمهور {حتى إذا جاءانا} بالتثنية، يعني القرين والمقارن، القراءة الأولى التي نقرأ بها وهي قراءة حفص، وقرأ بها أيضًا أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحتى على القراءة الأولى حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي يحتمل أيضًا، يعني بعضهم يقول: حَتَّى إِذَا جَاءنَا يعني هذا الشيطان وكذلك هذا، يعني كل واحد جاء على حدة، قال: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ.

والأقرب أن هذه القراءة بالإفراد "جاءنا" يعني هذا الضال، قال: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ولكن مخاطبته له تدل على أنهما جميعًا جاءا، واضح؟ لكن لما كان هو القائل أفرد الضمير بهذا الاعتبار، وإلا فبقية الكلام تدل على أن الآخر معه "جَاءانَا".

قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ كثير من المفسرين فسر بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ بمعني المشرق والمغرب، ما بين المشرق والمغرب هذا نهاية البعد، تقول: ما بين فلان وفلان كما بين المشرقين، شتان، بينهما كما بين المشرقين، يعني المشرق والمغرب، فذكر المشرقين من باب التغليب، تغليب المشرق على المغرب، وإلا فالمقصود المشرق والمغرب، كما تقول: العمران أي أبو بكر وعمر، وتقول: القمران يعني الشمس والقمر، هذا يسمى التغليب، تُغلب أحدهما على الآخر فتأتي بمثل هذا اللفظ، ما بين المشرقين، مع أن بعضهم كمقاتل قال: المقصود بذلك أبعد مدى ما بين المشرقين، يعني في الشتاء والصيف.

ذكرنا في بعض المناسبات كما عند قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [سورة الرحمن:17]، وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [سورة الصافات:5] جمعها، وثناها، وأفرد الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [سورة المزمل:9]، ذكرنا هناك المعاني التي تحتملها الآيات، وعرفنا من قبل بالنسبة للمشرق والمغرب أن الشمس لا تخرج من نقطة واحدة طول السنة، وتغيب أيضًا بنفس الدرجة، وإنما تتحول صيفًا وشتاء، فهي في الشتاء يكون خروجها في أقصى جهة الشرق إلى الشمال، هذا في الشتاء، ويكون غروبها إلى أقصى درجة في الغرب إلى ناحية الجنوب، والصيف بالعكس.

يعني هي كل يوم يكون لها مشرق غير اليوم الذي قبله، درجات، يعني تكون أقصى درجة إلى جهة الشمال، وأقصى درجة إلى جهة الجنوب، فهي تتنقل طول السنة؛ لذلك تجد الظل يتحول في الشتاء والصيف، يعني ظل المسجد مثلاً هذا بعد الظهر من ناحية الشمال في الشتاء تجد الظل في مكان في الصيف لا تجد الظل فيه بعد الزوال، يتحول إلى الجهة الأخرى، فهي كل يوم في المشرق لها انتقال حتى تصل إلى أبعد مدى، وهكذا في غروبها.

فبعضهم يقول: ما بين المشرقين -بعد المشرقين- يعني أقصى مدى لها في المشرق شتاء وصيفًا، أبعد نقطتين، لكن المعنى الأول هو الأشهر، والذي عليه عامة أهل العلم أن هذا من باب التغليب، بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ يعني: المشرق والمغرب.

ثم قال تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أي: لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم.

باعتبار أن الناس يتسلون في الشدائد والمصائب، أما هؤلاء في النار فلا ينفعهم اجتماعهم فيها، يعني لا يخفف عنهم، الناس في الدنيا إذا انفرد الإنسان بالمصيبة عظمت عليه، هذا إنسان مات له ولد أو نحو ذلك، أصابه مرض شديد خطير تعظم مصيبته، فإذا قيل له: فلان أصابه نفس المرض وفلان وفلان ممن يعرفهم، أو إذا مات له أحد فقيل له: فلان مات له كذا، وفلان مات له كذا، وفلان حصل له كذا، وفلان غرق خف عليه ذلك الأمر؛ لهذا تقول الخنساء:

ولولا كثرةُ الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي

فتخفف مثل هذه الوقائع المتكاثرة وقع المصيبة، لذلك الناس إذا وقع لهم بلاء من وباء أو حرب وكثر القتل فيهم فما يكون هذا القتل مثل لو قُتل واحد في البلد، بلد لا يوجد فيها قتل وقُتل واحد هي حديث المجتمع، حديث الناس، لكن إذا كان القتل -نسأل الله العافية- كثيرًا كالحروب فمثل هذا يخف، فيقتل العشرات فما يكون وقعه مثل لو قُتل واحد فقط.

وقوله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: ليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكم العدل في ذلك.

ثم قال: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي: لابد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي: نحن قادرون على هذا وعلى هذا، ولم يقبض الله رسوله حتى أقر عينه من أعدائه، وحكّمه في نواصيهم، وملّكه ما تضمنته صياصيهم، هذا معنى قول السدي، واختاره ابن جرير.

يعني أن قوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ يعني هؤلاء الكفار الذين كذبوك، أي ليس لك من الأمر شيء، وهنا قال قبله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۝ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ۝ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ الكلام في الكفار، وهذا اختيار ابن جرير.

وبعضهم قال: لا، هذا في أمته -عليه الصلاة والسلام- لكن هذا فيه بُعد، كيف يقال: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ۝ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ؟ السياق كله في الكفار، في المكذبين، والله أعلم.

ثم قال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: خذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم.

ثم قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قيل: معناه لشرفٌ لك ولقومك، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد، و معناه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم، فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخُلَّص من المهاجرين السابقين الأولين، ومن شابههم وتابعهم.

وقيل: معناه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أي: لتذكير لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم، كقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء:10]، وكقوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [سورة الشعراء:214].

وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ أي: عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له.

قوله -تبارك وتعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ بعدما قال: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [سورة آل عمران:128]، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ۝ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فماذا عليك؟

قال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ فهكذا يكون المؤمن ليس عليه هدى الناس، ولا تذهب نفسه عليهم حسرات، وليس له عقابهم، والعذاب الذي ينزل بهم والنقمة هذا إلى الله -تبارك وتعالى، هو الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فما عليك إلا أن تتمسك بهذا الهدى والوحي، فتلك هي مهمتك.

أما إنزال العذاب فليس ذلك إليك، اهتداء هؤلاء الناس هذا ليس إليك، هذه من الجمل، والكليات الكبرى، والحقائق التي ينبغي أن يتذكرها الإنسان دائمًا؛ من أجل ألا تتآكل نفسه وتذهب حسرات على هؤلاء الكافرين، والمكذبين والمحاربين لله ولرسله -عليهم الصلاة والسلام، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فكفر هؤلاء لا يورثك ترددًا أو شكًّا أو ريبًا مهما أوتوا من القُدر والإمكانات، ومهما تسلطوا على المؤمنين، فإنك على حق إذا تمسكت بهذا الوحي، فهذه الغلبة المؤقتة التي تكون لهؤلاء المجرمين ليست هي نهاية المطاف، والأمر إلى الله أولاً وآخرًا، فهو الذي ينتقم منهم وليست هذه من مهامك، إذًا عليك أن تستقيم كما أمرت.

ثم قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ هذا القرآن هذا الذي أنزله عليكم لذكر لك.

وهنا نقل عن هؤلاء من السلف أنه شرف، فالذكر يأتي بمعنى الشرف، تقول: فلان له ذكر، فلان صار له ذكر أي شرف، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، إنه لشرف لك ولقومك، يعني أن الله شرفكم بهذا، القرآن نزل بلغة العرب، صارت الرسالة فيهم، وكان الكتاب في بني إسرائيل فقال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] هذه الأمة، ولذلك حسدهم بنو إسرائيل، وكان ذلك سببًا لكفرهم وتكذيبهم وإعراضهم عن هذا الرسول ﷺ، وعما أنزل إليه مع علمهم به، يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146] فهذا بمعنى الشرف، شرف لك، لكن هذا التشريف إنما يكون لمن تمسك به واهتدى بهداه، فيكون له من الشرف بقدر ما يكون له من هذا الاهتداء، وإلا فـتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [سورة المسد:1] ما نفعه قربه من النبي ﷺ، ولا كونه من العرب.

وكون هذا الكتاب يكون تشريفًا لا يعني إلقاء التبعة والمحاسبة وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ؛ ولهذا كما يقول القرطبي -رحمه الله- في موضع آخر في سورة الأحزاب عند قوله تعالى: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الأحزاب:30]: "على قدر المقام يكون الملام"، إذا كان الله -تبارك وتعالى- لعن بني إسرائيل بعد أن اصطفاهم واجتباهم، طردهم من رحمته، وفرقهم في الأرض وجعلهم أممًا، وسلط عليهم من يسومهم الخسف والذل مع أنهم كانوا أهل اصطفاء، لما كفروا به -تبارك وتعالى- عاقبهم بهذه العقوبة، وقال عنهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [سورة الجمعة:5] فهذه الأمة إذا أعرضت عن كتابها وهم أشرف من بني إسرائيل، فإذا كان بنو إسرائيل كمثل الحمار يحمل أسفارًا وهذه الأمة أشرف من بني إسرائيل، وكتابها أشرف، ونبيها أشرف -عليه الصلاة والسلام، فإن اللوم المتوجه إليهم، والذم الذي يستحقونه أعظم من الذم الذي يستحقه بنو إسرائيل؛ لأنه على قدر المقام يكون الملام، كما قيل:

كَفُوفَةِ الظُّفرِ تَخفى من حقارتها ومثلُها في سواد العين مشهورُ
  وخطأُ الجاهلِ المغمورِ مغمورُ وخطأُ ذي الشرفِ المشهورِ مشهورُ

القول الثاني الذي ذكره هنا: أن المقصود بالذكر يعني التذكير، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ تذكير، والقرآن كما قال الله : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [سورة ص:1] فهو مذكِّر، وهذان المعنيان يمكن الجمع بينهما -والله تعالى أعلم، فهو شرف وفي الوقت نفسه هو تذكير، فهذه المعاني كلها داخلة تحت الذكر، فالذكر مصدر، ذكر لك هو شرف وتذكير؛ لأنه لا يوجد دليل على تخصيص أحد المعنيين، وكل واحد منهما صحيح، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

وقوله: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36]، قال مجاهد: في قراءة عبد الله بن مسعود: واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي عن ابن مسعود، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة، -والله أعلم.

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ النبي ﷺ لم يعاصر أولئك الرسل فكيف يسألهم؟ فمن حمله على ظاهره قالوا: هذا كان ليلة المعراج لقي النبي ﷺ الأنبياء، فإن جبريل ﷺ قال للنبي ﷺ: اسأل هؤلاء الأنبياء أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ، يكون السؤال موجهًا في ليلة الإسراء إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وهذا قال به طائفة من السلف كسعيد بن جبير، وابن زيد، والزهري محمد بن شهاب، قالوا: المقصود سؤال هؤلاء ليلة الإسراء.

والقول الآخر الذي عليه عامة السلف أن المقصود سؤال أمم هؤلاء، هذا قال به كثيرون كمجاهد والسدي والضحاك وقتادة والحسن وعطاء والمبرد من أصحاب المعاني -كتب المعاني، والزجاج، كل هؤلاء قالوا: اسأل أمم من أرسلنا؛ لأن هؤلاء هم الذين أدركهم النبي ﷺ، فالله -تبارك وتعالى- أرسل إلى هذه الأمم الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فالسؤال لأتباع الرسل الذين على دين الرسل السابقين، وهذا الذي اختاره الفراء وابن قتيبة أيضًا، واختاره ابن القيم، وابن جرير خصه في أهل الكتاب، هو على نفس هذا القول، لكن لماذا خصه بأهل الكتاب؟

لأن النبي ﷺ ما أدرك قوم نوح ولا قوم هود ولا قوم صالح ولا قوم لوط، إنما مَن الذين أدركهم ويستطيع أن يوجه السؤال لهم؟ هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فقط، فابن جرير حينما يقول: أهل الكتابين قبله هو نفس القول حينما يقول هؤلاء من السلف ومن بعدهم: اسأل أمم هؤلاء، مَن مِن الذين سُيسألون؟ هم اليهود والنصارى، ولذلك انظر هنا قراءة ابن مسعود: {واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا} فتكون هذه تفسيرًا للقراءة المتواترة -والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [سورة الكهف:105] الآيةَ، برقم (4729)، ومسلم، في أول كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2785).
  2. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ، برقم (4913)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وإن تظاهرا عليه، برقم (1479).
  3. رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، برقم (2468)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وإن تظاهرا عليه، برقم (1479).
  4. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ، برقم (4913).
  5. رواه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض، برقم (5426).
  6. رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم (4110)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6-3).

مواد ذات صلة