السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ} الآية:46 إلى قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} الآية:56
تاريخ النشر: ٢٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 2573
مرات الإستماع: 4485

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ۝ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ۝ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [سورة الزخرف:46-50].

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة، والأتباع والرعايا من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه.

أي: قول الله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، هذا تكلمنا عليه، والمقصود بالآيات هنا هي ما أعطاه الله من براهين نبوته، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ [سورة الإسراء:101] الآية، فهذه الآيات البينات كما قال الله -تبارك وتعالى: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [سورة النازعات:20]، ومضى الكلام على ذلك كله، وأن الكثيرين من المفسرين يقولون: هي العصا، يعني الكبرى من هذه الآيات التسع، وهذه الآيات كما قال الله : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ [سورة الأعراف:133].

وهكذا في قوله: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [سورة القصص:31]، وفي قوله: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [سورة طه:20]، وكذلك أيضًا: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [سورة القصص:32]، يعني أنه يضم إليه جناحه إذا خاف -شعر بالخوف- بين يدي فرعون فيصيبه الطمأنينة والأمن، وتذهب عنه المخاوف، وتنقشع، وهكذا في اليد، فأخرج يده، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [سورة النمل:12]، يعني من غير برص، فهذه وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.

لاحظ عبارة ابن كثير -رحمه الله- أنه قال: أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة، والأتباع هذا الملأ من القادة والكبراء، وعرفنا أنه قيل لهم ملأ قيل: لأنهم يتمالئون على القرار، على الأمر، يعني هم أهل الحل والعقد، وقيل: لأنهم يملئون صدور المجالس؛ لأنهم يقدَّمون على غيرهم، ولكن هنا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، والأتباع من قوم فرعون كذلك.

وهكذا أيضًا الله -تبارك وتعالى- أرسله إلى بني إسرائيل، فموسى ﷺ مرسل إلى بني إسرائيل، ومرسل أيضًا إلى فرعون وقومه، كل هؤلاء، لكن الله -تبارك وتعالى- ذكر هنا أنه أرسل موسى إلى فرعون وملئه، عبارة ابن كثير قال: من الأمراء والوزراء والقادة، زاد والأتباع؛ لأنه مرسل إليهم أيضًا، قال: من القبط وبني إسرائيل وهذا كله قد دل عليه القرآن.

وبنو إسرائيل قالوا: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [سورة الأعراف:129]، قال: ينهاهم عن عبادة ما سواه، وأنه بعث معه آياتٍ عظامًا كيده وعصاه، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها، وكذبوها وسخروها منها، وضحكوا ممن جاءهم بها. 

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم. وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى ، ويتلطفون له في العبارة بقولهم: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ.

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا يعني موسى ﷺ كان أول ما أراهم من الآيات العصا وهي أكبر الآيات، وكذلك أدخل يده ثم أخرجها بيضاء، فهذه من أكبر الآيات التي أعطيها موسى ﷺ.

وقال هنا: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا يعني أن الطوفان والجراد والقمل إلى آخره جاءت بعد أن أراهم العصا حية تسعى، وبعدما أراهم يده بيضاء من غير سوء.

فذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بذلك وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا أن تتابع هذه الآيات يزيدها قوة، يعني لما تأتيهم الآية الأولى تأتي الآية الثانية تكون مؤيدة لها وزيادة، والثالثة مؤيدة لما قبلها من الآيتين وزيادة، والرابعة وهكذا، فيزداد البرهان وضوحًا وظهورًا، فهكذا قال بعضهم، بمعنى أنه ليس عين الآية أقوى من عين الآية، وإنما هي تدعم ما قبلها فيكون ذلك زيادة في قوة البرهان والدليل الذي جاء به على نبوته -عليه الصلاة والسلام.

وبعضهم يقول: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا يعني من الآية التي سبقتها، وأن هذا يقال لبيان عظم هذه الآيات، تقول: كل دليل أكبر من الذي قبله، كل دليل أعظم من الذي قبله، تقصد بذلك أن هذه الآيات كافية، كل واحدة منها تكفي لبيان صدق ما جاء به، فكيف بها إذا اجتمعت؟!، وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا، وقيل لها: أخت هنا باعتبار أنها نظيرة لها؛ فإن نظير الشيء وما يصاحبه أو يقارنه يقال له: أخ، وإذا كان مؤنثًا يقال: أخت، وهكذا.

ويتلطفون له في العبارة بقولهم: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ أي: العالم، قاله ابن جرير.

نعم وهكذا عامة المفسرين إن لم يكن جميع المفسرين، يعني هم الآن في مقام يحتاجون فيه إلى تلطف، هم الآن ليسوا في مقام سخرية وتكذيب، حينما تصيبهم الشدة يلجئون إلى موسى ﷺ فيقولون وهم يعنون ما يقولون بجد: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ فالساحر هنا ليس المقصود به تكذيب موسى ﷺ، وإنما يقصدون به -كما قال ذلك أهل العلم وكاد العلماء أن يطبقوا عليه: يا أيها العالم، فإنهم كانوا يطلقون لفظ الساحر على العالم، يقولون له ذلك، هذا مدح عندهم؛ لأن السحر لم يكن جريمة بنظرهم، بل كان كمالاً، كان السحر يفشو عندهم.

وسبق الكلام على عدد السحرة الذين جاء بهم فرعون، وأن بعضهم قال: إنهم يصلون إلى اثني عشر ألفًا، وبعضهم أوصلهم إلى أكثر من ثمانين ألف ساحر، والله أعلم، وهذه روايات إسرائيلية، لكن المقصود أنهم عدد كبير، يدل على هذا أنه قال: يَأْتُوكَ بِكُلِّ [سورة الأعراف:112] فهم جاءوا بجميع السحرة، فالسحر كان يفشو في ذلك الوقت يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ فهنا لا يفهم منه أنهم لا زالوا يكذبون مع الشدة، لا، هم الآن في مقام تلطف ومحاولة استرضاء لموسى ﷺ، لكن هذا جهدهم، يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ يعني حتى في حال الافتقار والحاجة والشدة ما أحسنوا التعبير وإن لم يقصدوا الإساءة، الرجل الأعوج أعوج، ما ترى العِوج؟!، يعني هؤلاء حتى في مقام الشدة يقولون له: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ما عرفوا النبوة.

وكان علماء زمانهم هم السحرة، ولم يكن السحر في زمانهم مذمومًا عندهم، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما هو تعظيم في زعمهم، ففي كل مرة يَعِدُون موسى إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل، وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ۝ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [سورة الأعراف:133- 135].

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۝ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ۝ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ۝ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ۝ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [سورة الزخرف:51-56].

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده أنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحًا مفتخرًا بملك مصر وتصرفه فيها: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، قال قتادة: قد كانت لهم جنان وأنهار ماء.

يعني هذا هو المشهور من أقوال المفسرين: وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني يقصد من تحت قصور فرعون، وذلك كما هو معلوم في البلاد المصرية النيل فهو يقول: هذه تجري من تحتي، يعني من تحت قصوري، وهي لا تختص به، يعني هي تجري تحت كل من يسكن على ضفاف النيل، لكن لما كان هو الملك وجريانها تحت قصره ليس كجريانها تحت بيوت الناس، فهو يرى أن ذلك مزية له على موسى -عليه الصلاة والسلام.

 هذا المعنى الذي أشرت إليه آنفًا وهو أن هذه الأنهار لا تختص به، وإنما كل من كان في تلك الناحية فالأنهار تجري من تحت بيوتهم، ولهذا قال بعضهم: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: من بين يديّ، تجري من بين يديّ، وهذا أيضًا كالذي قبله، ولكن كأنهم يشيرون إلى ما قاله الحسن البصري -رحمه الله- تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: بأمري، يعني وصل الأمر عنده إلى أنه الذي يصرف هذه الأنهار ويجريها ويسيرها كما أراد، تجري بأمري.

وهكذا الطغيان حينما يبلغ بصاحبه مبلغه فإنه قد يتصور أنه هو الذي يسيّر هذا الكون برمته، وأنه طوع أمره، ولهذا لا يستغرب من مثل فرعون أن يقول ذلك؛ لأنه يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24].

لكن بعض أهل العلم كأنهم نظروا إلى المعنى الذي أشرت إليه -أن الأنهار لا تختص به- ففسروا الأنهار بتفسير آخر كما يقول الضحاك: إن المقصود بالأنهار قواد الجيوش والجبابرة والكبراء والرؤساء، أن هؤلاء يأتمرون بأمره، ويخضعون له جميعًا وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يمشون تحت لوائه، ويطيعونه، وينقادون له، لكن هذا بعيد؛ لأن الأصل في تفسير الأنهار أنها الأنهار المعروفة، ولا يصح أن تفسر بغير هذا من الناس، من الجبابرة، من الكبراء والقادة، لا يصح، هذا يعتبر من التأويل والخروج عن الظاهر من غير دليل، وإن قال به الضحاك -رحمه الله.

وكذلك أيضًا قول من قال: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني الأموال، هذا قاله بعض السلف، ولكن أيضًا لا دليل عليه، لكن ما الذي جعلهم يقولون هذا؟ الذي جعلهم يقولون هذا كأنهم لاحظوا المعنى المشار إليه أن جريان الأنهار لا يختص به، لكن هو يعني بذلك أنه لما كان هو الملك وقد تعاظم هذه التعاظم، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فيقول: أنا في أبهتي وملكي وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي فالأرض ومن على الأرض ومن تحت الأرض ومن فوق الأرض كل هؤلاء يرى أنهم ملكه وتحت تصرفه ورهن إشارته، فهو يفتخر بهذا الاعتبار، ومن ثَمّ فهو لا يرى أولئك شيئًا، يعني الذين يسكنون في ضفاف أو على ضفاف هذه الأنهار يراهم من جملة مماليكه وخدمه وعبيده -والله المستعان.

المعيار عنده هو هذه الأمور المادية، هذا هو المعيار بالتفضيل والتكريم، وكون الإنسان مُحقَّا أو مبطلاً: ما أُعطي من الدنيا، ولهذا سيأتي فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ

والناسُ أكثرهم فأهلُ ظواهرٍ تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ
  فهُمُ القشورُ وبالقشور قوامُهمْ واللُّبُّ حظُّ خلاصةِ الإنسانِ

كثير من الناس هذه معاييرهم، ما حال هذا الإنسان، ماذا يركب، أين يسكن، ما هيئته، ما صورته الظاهرة، ما ثيابه، ما لباسه؟، ولا ينظرون إلى الحقائق والمعاني، فهؤلاء أسوتهم في ذلك فرعون.

أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أي: أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟، يعني: وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء، وهذا كقوله تعالى: فَحَشَرَ فَنَادَى ۝ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ۝ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [سورة النازعات:23-25].

وقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ قال السدي: يقول: بل أنا خير من هذا الذي هو مهين.

وهكذا قال بعض نحاة البصرة: إن "أم" هاهنا بمعنى "بل"، ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها: أَمّا أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، قال ابن جرير: ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحًا واضحًا، ولكنها خلاف قراءة الأمصار، فإنهم قرءوا: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ؟ على الاستفهام.

قلت: وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون -لعنة الله- بذلك أنه خير من موسى -عليه الصلاة والسلام، وقد كذب في قوله هذا كذبًا بينًا واضحًا، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

ويعني بقوله: مَهِينٌ كما قال سفيان: حقير، وقال قتادة والسدي: يعني: ضعيف، وقال ابن جرير: يعني: لا ملك له ولا سلطان ولا مال.

نعم، هذه المعاني متقاربة، فالمهين يعني الموصوف بالهوان، والهوان معنى يقارب الذل.

وَلا يَكَادُ يُبِينُ يعني: لا يكاد يفصح عن كلامه، فهو عَيِيٌّ حَصِر.

يعني موسى -عليه الصلاة والسلام- لما أرسله الله إلى فرعون قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ۝ يَفْقَهُوا قَوْلِي [سورة طه:27، 28]، والله -تبارك وتعالى- قال له بعد هذه الأمور التي سألها: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ۝ هَارُونَ أَخِي ۝ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ۝ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [سورة طه:29-32]، قال له بعد ذلك: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [سورة طه:36] فأعطاه الله ، انحلت هذه العقدة التي كانت في لسانه، وهذه العقدة الذي يظهر أنها كانت عارضة ولم تكن أصلية، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ليس فيهم علل تنفر الناس منهم، ليس فيهم عاهات تنفر الناس من قبول دعوتهم، فكان هذا أمرًا عارضًا ثم بعد ذلك ارتفع وزال عنه، طيب هو لا يزال يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ هذا يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أنه باعتبار ما سبق، يعني العلة زالت عندما أرسله الله ، فهو يتكلم عليه باعتبار ما عرف من هذه العقدة التي كانت في لسانه، فهي وإن زالت الآن لكن هو لم يستوعب بعد -أعني فرعون، والناس لربما لم يعرفوا ذلك، وإنما يعهدون أن موسى ﷺ كان في لسانه بعض الشيء.

الأمر الثاني: يحتمل أن يكون المراد بذلك أن موسى ﷺ قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يعني لم ينحل بصورة مطلقة وإنما بقي فيه بعض الشيء، ولكنه صار إلى حال يُفهَم فيها كلامه ومراده وخطابه بصورة لا يحصل معها خفاء أو التباس، ولكن بقي من أثر هذه العلة، فلذلك لا زال فرعون يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، ولكن كأن الأول أحسن -والله أعلم.

والسبب أن قوله: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ "لا يكاد" فإن "كاد" في الإثبات معروف أنها تدل على النفي، يعني تقول: كاد المطر أن ينزل معناه أنه ما نزلن كاد زيد أن يصل معناه أنه ما وصل، فإذا كانت مثبتة تدل على النفي، وإذا كانت منفية "لا يكاد" "إذا أخرج يده لم يكد يراها" قد تكلمت على هذا بشيء من التفصيل في الكلام على "الأمثال في القرآن" في رمضان في قوله: ِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] هل المقصود به أنه يراها لكن بصعوبة؟

بعضهم قال: نعم، المقصود هنا من السياق أنه يراها لكن بصعوبة بالغة، قد يتأمل حتى يراها، تقول: ما كاد زيد أن يصل، ما كاد زيد أن يتخلص من كذا، يعني يتخلص لكن بصعوبة، ما كدت أفهم هذه المسألة، يعني فهمتها ولكن بصعوبة بالغة.

وبعضهم يقول في قوله: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا: إن المقصود النفي ولكنه عبر بهذا من باب المبالغة، ِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا؛ لبيان شدة الظلام، وهذا مشى عليه بعض النحويين، وابن القيم تكلم على هذه الأقوال، وناقشها، ذكرنا هذا هناك فليراجع، فهنا وَلَا يَكَادُ يُبِينُ يدل على أن الإبانة عنده فيها صعوبة، إذًا هذه الحال التي كان عليها قبل أن يقول: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي.

ويحتمل أن هذا قاله فرعون على سبيل التعالي والتعاظم والبهت، وإلا فموسى ﷺ لم يكن كذلك، وهو الذي قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، والله قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى.

وقوله: مَهِينٌ كذب، بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخُلقًا ودينًا، وموسى هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد.

هنا يقول ابن كثير عن فرعون: إنه حقير خلقة وخُلقًا ودينًا، هذا واضح، لكن خلقة بأي اعتبار؟ باعتبار ما قد علمتم، أليس كذلك؟ يعني هذا الذي يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى وهو من نطفة ويصير إلى جيفة وما بين ذلك ما هو معلوم.

والكفر مهانة ومذلة تلوح على وجه صاحبه، فهو في غاية الهوان والذل، والله قال: أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [سورة المجادلة:20] يعني المحادين له ولرسله -عليهم الصلاة والسلام، فكل من كان له محادًّا فقد حكم الله أنه في جملة الأذلين، فكيف إذا كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى؟! الذل يلوح عليه لا يفارقه.

وقوله: وَلا يَكَادُ يُبِينُ افتراء أيضا، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة...

يعني ما قد علمتم، يقولون: لما كان صغيرًا -روايات إسرائيلية- كان يشد لحية فرعون بقوة، ففرعون توجس منه خيفة أن هذا الصغير ليس كغيره، فهمّ به أن يقتله فامرأة فرعون قالت: هذا صغير، لا يميز، أعطِه تمرة وجمرة، وانظر ما يأخذ، فأخذ الجمرة ووضعها في فيه، فهي التي سببت له هذه العقدة.

فقد سأل الله أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في ذلك في قوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [سورة طه:26]، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته، كما قاله الحسن البصري، وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام.

نعم، هذا أحد الأجوبة التي ذكرتها آنفًا.

فالأشياء الخِلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا كقوله: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي: وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي، قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد، أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي: يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشكل الظاهر، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه، لو كان يعلم؛ ولهذا قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي: استخف عقولهم، فدعاهم إلى الضلالة، فاستجابوا له، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.

يعني أنه لما قال عن موسى ما قال، وقال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38] صدقوه في هذا، وانقادوا له واستجابوا، وقبلوا مقالته في نبي الله -عليه الصلاة والسلام، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ استخف عقولهم، يعني وقبلوا ذلك وصدقوه، حتى في مثل هذه الأمور يوجد من يصدقه، وإذا أردت أن تعرف كيف تُستخف العقول اقرأ في تاريخ الباطنية، وكيف هؤلاء منذ زمن بعيد من قرون متطاولة يجدون أتباعًا، اقرأ في أسماء الفرق فرق كثيرة جدًّا، فرق الباطنية مثلاً، أسماء كثيرة لهذه الفرق منذ زمن بعيد، وانظر: كل فرقة لها أتباع، كيف راج هذا على الناس في القرن الثالث الهجري والرابع الهجري والخامس الهجري؟، كيف وُجد من يتبعهم، ومن يقبل كلامهم؟، استخفوا عقول الناس.

إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، قال الله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: آسَفُونَا أسخطونا.

وقال الضحاك عنه: أغضبونا، وهكذا قال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، والسدي، وغيرهم من المفسرين.

وروى ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له، ثم تلا: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ[1].

وعن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله فذُكر عنده موت الفجأة، فقال: تخفيف على المؤمن، وحسرة على الكافر، ثم قرأ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.

وقال عمر بن عبد العزيز : وجدت النقمة مع الغفلة، يعني قوله: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.

وقوله: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ قال أبو مِجلز: سَلَفًا لمِثل من عمل بعملهم.

يعني أن من عمل عملهم يُلحق بهم، يصيبه ما أصابهم، كما قال الله : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:14] لما ذكر مَن أهلكهم، وكذلك أيضًا بقوله -تبارك وتعالى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83].

وقال هو ومجاهد: وَمَثَلا أي: عبرة لمن بعدهم، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.

نعم عبرة لغيرهم، الآن عرفنا أن القصص تكون من قبيل الأمثال كما قال شيخ الإسلام، وذلك لما فيها من العظة والعبرة، وأن الأمثال إنما تذكر للاعتبار، فيرجع من حال أولئك إلى الحال التي هو فيها، فيتجنب ما حل بهم، أو أن يفعل فعلهم؛ لئلا يقع به ما وقع لهم فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ، ابن جرير يفسر قوله: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا يعني مقدمة يتقدمون إلى النار، يعني يتقدمون كفار قومك -كفار قريش- يا محمد، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا فأهلكهم الله كما قال: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] فجعلهم سلفًا يتقدمون من كتب الله له الغواية وحقت عليه كلمة العذاب.

  1. رواه الروياني في مسنده، برقم (260).

مواد ذات صلة