بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [سورة الفتح:27، 28].
قال: كان رسول الله ﷺ قد رأى في المنام أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح، ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال النبي ﷺ: فإنك آتيه، ومطوف به[1]، وبهذا أجاب الصديق أيضًا حذو القذّة بالقذّة؛ ولهذا قال -تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ، قوله: بِالْحَقِّ صفة لمصدر محذوف، أي: صدق رسوله صدقًا متلبسًا بالحق، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هذا جواب قسم مقدر، كأنه يقول: والله لتدخلن المسجد الحرام، فهذا جواب لهذا القسم المقدر المحذوف، المدلول عليه بهذه اللام الموطئة للقسم، ونحن عرفنا أن هذا موضع قسم؛ لوجود هذه اللام، وهذا الذي يسمونه بالقسم غير الصريح، ويسمونه القسم المضمر.
أما الصريح فهو: ما ذكر فيه فعل القسم، أو المقسم به، أو هما معًا، إحدى هذه الصور الثلاث، فأما ذكرهما معاً فكقولك: أقسم بالله، وأما حذف فعل القسم وذكر المقسم به فكقولك: والله، وأما حذف المقسم به وذكر فعل القسم فكقولك: أقسم، وأحلف، وأما هنا في قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فحذف فعل القسم، وكذلك أيضًا المقسم به.
قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يقول: "هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء"، يعني: أن الله قال ذلك، أي: جاء التعليق بالمشيئة وهم داخلوه قطعًا، فالله قد علم ذلك، وقدره، فالاستثناء بالمشيئة تارة يكون على سبيل التحقيق، كهذا، وتارة يكون على سبيل التعليق، تارة يكون تحقيقًا، وتارة يكون تعليقًا.
ومسألة الاستثناء في الإيمان معروفة، إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وفيها كلام لأهل العلم معروف، ولو أجري عليه هذا التفصيل لكان أفضل، يقول مثلا: أنا مؤمن إن شاء الله، يعني: تحقيقًا، فهذا أفضل.
وكذلك هذا يجري في الأيمان حينما يقول: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، فإن قصد بذلك التحقيق يحنث، وإن قصد بذلك التعليق على المشيئة فإنه لا يحنث، فهذا الاستثناء بالمشيئة جاء هنا على سبيل التحقيق، وهذا مثل ما جاء عن النبي ﷺ في زيارة القبور: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون[2]، وهو يعلم أنه لاحق بهم قطعًا.
وقد قال طائفة من أهل العلم: إن الله -تبارك وتعالى- ذكر هذا الاستثناء بالمشيئة هنا؛ تعليما لعباده أنهم لا يقولون لشيء في المستقبل أنه حاصل، أو أنهم فاعلوه، أو نحو ذلك إلا أن يعلقوا ذلك بالمشيئة: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [سورة الكهف:23، 24]، فقالوا: هذا من باب التعليم للعباد أن يقولوا ذلك، فالله يعلَم ما سيكون، لكن كما قال الإمام ثعلب: ليعلّم عباده الاستثناء فيما لا يعلمون.
وبعض أهل العلم حمل ذلك على محمل آخر، قال: إن الله تعالى علم أن بعض هؤلاء الذين كانوا مع النبي ﷺ وقت صلح الحديبية، أن بعضهم يموت أثناء العام؛ لأن من ضمن الصلح والاتفاق أنهم يأتون مكة في العام القابل معتمرين، فمات بعض من شهد الحديبية، علم الله أن بعضًا لن يدرك، فقال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يعني: باعتبار أن البعض لا يدرك ذلك الدخول؛ لكونه قد مات.
وبعضهم حمله على معنى آخر لا يخلو من بعد: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أي: كما شاء الله، لكن هذا تكلف -والله تعالى أعلم، وهكذا قول من قال: إنَّ "إنْ" هنا بمعنى: "إذ" أي: إذ شاء الله، وهذا كله لا حاجة إليه.
على كل حال، هذا يذكر على سبيل التحقيق، وتوجيه ذلك بأنه تعليم من الله لعباده، هذا أقرب هذه التوجيهات -والله تعالى أعلم.
قال -رحمه الله تعالى: وقوله : آمِنِينَ في حال دخولكم.
وقوله: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، حال مقدرة، لأنهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين ولا مقصرين، وإنما كان هذا في ثاني الحال.
وكان منهم من حلق رأسه، ومنهم من قصره، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ: رحم الله المحلقين، وقالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ: والمقصرين، في الثالثة أو الرابعة[3].
هذا الحديث دليل على فضل الحلق، ومما يدل على فضل الحلق أيضًا هنا: أنه قدمه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، وذكرنا في مجالس التدبر وتطبيقاته في رمضان ما يدل على فضل الحلق على التقصير، وذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، فقوله: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ، أي: ولا تقصروا، فالتقصير له حكم الحلق، ولكنه ذكر الحلق؛ لأنه أكمل -والله تعالى أعلم.
يقول: "وقوله: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، حال مقدرة، لأنهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين، ولا مقصرين، وإنما كان هذا في ثاني الحال"، أي: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ حال كونكم مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، فهي: حال مقدرة باعتبار أن هذا لم يقع بعد.
قال -رحمه الله: وقوله : لَا تَخَافُونَ، أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد، وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي ﷺ لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه، بعضها عنوة، وبعضها صلحًا، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه ، ولم يغب منهم أحد، قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه.
ثم رجع إلى المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج ﷺ إلى مكة معتمرًا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار أصحابه يلبون، فلما كان ﷺ قريبًا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رُعِبُوا رعبًا شديدًا، وظنوا أن رسول الله ﷺ يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله ﷺ فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها.
مر الظهران: وادٍ قريب من مكة، ويأجج أيضًا وادٍ قريب من مكة على طريق المدينة، يبعد عن مكة تقريبًا عشرة كيلو مترات، يعني: بعد التنعيم.
قال -رحمه الله تعالى: وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها، كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص، فقال: يا محمد، ما عرفناك تنقض العهد، فقال ﷺ: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال ﷺ: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج، فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء.
وخرجت رءوس الكفار من مكة؛ لئلا ينظروا إلى رسول الله ﷺ، وإلى أصحابه ؛ غيظًا وحنقًا، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا على الطرق، وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله ﷺ، وأصحابه، فدخلها -عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله ﷺ يقودها، وهو يقول:
بسم الذي لا دين إلا دينُه | بسم الذي محمدٌ رسولُه |
خلوا بني الكفار عن سبيله | اليوم نضربكم على تأويله |
كما ضربناكم على تنزيله | ضربًا يزيل الهامَ عن مَقيله |
ويُذهل الخليل عن خليله | قد أنزل الرحمنُ في تنزيله |
في صحف تُتلى على رسوله | بأن خير القتل في سبيله |
يا رب إني مؤمن في قيله[4] |
فهذا مجموع من روايات متفرقة.
وروى أحمد: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم رسول الله ﷺ وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها سوءًا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرًّا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله نبيه ﷺ على ما قالوا، فأمر رسول الله ﷺ أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة؛ ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي ﷺ أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا، أخرجاه في الصحيحين[5].
وفي لفظ: "قدم النبي ﷺ وأصحابه صبيحة رابعة، يعني: من ذي القعدة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي ﷺ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم"[6].
وروى البخاري: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما قدم النبي ﷺ لعامه الذي استأمن، قال: ارملوا؛ ليُري المشركين قوتهم، والمشركون من قِبَل قُعَيقعان"[7].
"قعيقعان" هو: جبل، وهو جبل مشرف على مكة، يعني: الذي يشرف على الحرم، أو على الكعبة من الجبال: جبل أبي قبيس، كما هو معلوم، وهذا الجبل الآخر الذي هو: قعيقعان، ولكن الآن لا يسمى بهذا الاسم، بل كل ناحية منه تسمى باسم، مثل: السليمانية، ونحو ذلك، وهو شمال غرب الحرم، شمال غرب الكعبة.
قال -رحمه الله تعالى: وأيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إنما سعى النبي ﷺ بالبيت وبالصفا والمروة؛ ليُري المشركين قوته[8].
وروى البخاري أيضا: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله ﷺ خرج معتمرًا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحًا عليهم إلا سيوفًا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر ﷺ من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثًا أمروه أن يخرج، فخرج ﷺ[9].
وقوله تعالى: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا، أي: فعلم الله من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم.
فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَأي: قبل دخولكم الذي وُعدتم به في رؤيا النبي ﷺ فَتْحًا قَرِيبًا، وهو: الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين.
قوله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا هذا الذي علِمَه الله -تبارك وتعالى- بعضهم يقول: هو وجود بعض المؤمنين من الرجال والنساء في مكة ممن لا يعلمهم المسلمون، فلو دخلوا لوقع عليهم القتل، ونحو ذلك، كما قال الله : فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الفتح:25]، هكذا فسره بعض أهل العلم، وممن قال بذلك ابن جرير -رحمه الله، قال تعالى: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا، ويحتمل غير هذا.
وهذا الفتح القريب هنا فسره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بصلح الحديبية، وهو قول الجمهور، واختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله، وكما سبق أنه هو المراد بقوله في أول السورة: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، أن المقصود به: صلح الحديبية، وقد قال الزهري -رحمه الله: لا فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، باعتبار أنه كان مقدمة لفتح مكة، فبعد صلح الحديبية كثر المسلمون، يعني: كانوا في وقت صلح الحديبية ألفًا وأربعمائة تقريبًا، ولما قدم النبي ﷺ مكة فاتحًا قدم بعشرة آلاف، فهذا يدل على كثرة الداخلين في الإسلام بعد صلح الحديبية، وقد فتحت خيبر، وما فيها من الأموال الكثيرة، فكان ذلك توسعة للمسلمين، فكل هذا مما يدل على عظمة هذا الصلح.
مع أن بعض أهل العلم كابن زيد والضحاك -كما سبق- فسروه بفتح خيبر، قالوا: هذا هو الفتح القريب الذي حصل بعد صلح الحديبية؛ لأنه بعد صلح الحديبية فتحت خيبر، ثم فتحت مكة، فكان فتح خيبر في السابعة، وفتح مكة في الثامنة، فقالوا: أقرب ما يلي الصلح هو فتح خيبر.
وأما ابن جرير -رحمه الله- فيقول: إن الله لم يحدد فتحًا بعينه في قوله: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا، فالذي حصل من هذه الفتوح القريبة بعد صلح الحديبية، من فتح خيبر وفتح مكة كل ذلك يدخل فيه، يعني: أنه يشمله، فحملها على هذا جميعًا؛ لأنه لا دليل على تحديد واحد منها -والله أعلم.
قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى يعني: أرسل رسوله ﷺ إرسالا متلبسًا بالهدى.
قال: قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي: على أهل جميع الأديان من سائر الأرض من عرب وعجم وملِّيين ومشركين.
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا أي: أنه رسوله، وهو ناصره، والله أعلم.
يعني: أن الله -تبارك وتعالى- أرسل هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، فهذه اللام: لام التعليل: أرسله؛ ليظهره على الدين كله، فهذا أمر لابد أن يتحقق، فهذه إرادة الله ، ولو كره الكافرون، وكذا لو كره المشركون، فهذا أمر لابد أن يقع، وأن يبلغ مداه، وأن يظهر هذا الدين على سائر الأديان، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يمنع من تحقق إرادة الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وما عمل هؤلاء إلا كما قال الله : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة التوبة:32].
فهذا الذي يريد أن يمنع دين الله من الظهور والغلبة والانتشار هو كالذي ينفخ في الشمس من أجل أن يطفئها، بل أعظم من ذلك يريد أن يطفئ نور الله الذي هو أعظم من الشمس، فلو أن الأولين والآخرين اجتمعوا في صعيد واحد من أولهم إلى آخرهم، ومن إنسهم وجنهم، وجعلوا ينفخون على مخلوق وهو هذه الشمس ليطفئوها فإنهم مهما فعلوا، ومهما نفخوا فإن ذلك لا يحركها، ولا يؤثر فيها، ولا يبلغها إطلاقا، فكيف بنور الله ؟! هذا أمر لا طاقة للبشر به.
قال -رحمه الله: قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [سورة الفتح:29].
يخبر تعالى عن محمد ﷺ: أنه رسوله حقًّا بلا شك ولا ريب، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، كما قال : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:54]، وهذه صفة المؤمنين: أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار، رحيمًا برًّا بالأخيار، غضوباً عبوساً في وجه الكافر، ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [سورة التوبة:123]، وقال النبي ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[10]، وقال ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا، وشبك ﷺ بين أصابعه[11]، كلا الحديثين في الصحيح.
قال -تعالى- في صفة أصحاب رسول الله ﷺ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، وقال في صفة القوم الذين يحبهم ويحبونه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، فالشدة على الكفار، والرحمة لأهل الإيمان هي من صفة أولياء الله -تبارك وتعالى، وأهل القُرْبِ منه، وأما الذين يكونون في غاية اللين واللطف على الكفار، والشدة على أهل الإيمان فإن هذه من صفة المنافقين، وينبغي على المؤمن أن يحذر من الوقوع في مثل هذا، وأن ينظر في حاله وعمله، وأن يتحقق بهذه الأوصاف التي يحبها الله -تبارك وتعالى، ويحب أهلها، وللأسف صرنا اليوم إلى حال آل فيه الشر والاختلاف بين المسلمين إلى أن أدى إلى فجور في الخصومة، وانتفى هذا الوصف: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ عن الكثيرين، فتجد أن بعض المسلمين هو أشد على المسلمين في فجوره وبغيه وصلَفه وأذاه من بعض الكافرين، نسأل الله العافية.
قال -رحمه الله: وقوله : تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر من الأول، كما قال -جل وعلا: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة التوبة:72].
وقوله : سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يعني: السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني: الخشوع والتواضع، وقال بعضهم: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
وروى الإمام أحمد: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة، ورواه أبو داود[12].
فالصحابة خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله ﷺ.
قوله -تبارك وتعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ من أهل العلم من حمله على أنه في الدنيا، ومنهم من حمله على أن ذلك في الآخرة، أنهم يأتون يوم القيامة بصفة معينة، وهذا وذاك منهم من حمله على معنى خاص في موضع، ومنهم من حمله على ما هو أعم من ذلك، بمعنى: أن هذه السمة التي في وجوههم -هنا فيما أورده في هذا المختصر لا يوجد شيء منه: أن ذلك هي العلامة التي تكون في الجبهة من أثر السجود، وإن كان هذا أحد الأقوال التي قيلت في ذلك.
فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك إنما هو من أثر الاجتهاد في العبادة، فهم بين قيام طويل، وصيام، فيظهر أثر ذلك في وجوههم من تعب وصفرة العبادة، ونحو ذلك، قالوا: هذا المراد بقوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يعني: نَصَب العبادة، وأثر التعب فيها، هذا قاله الضحاك.
وبعضهم يقول: إن مواضع السجود تكون أشد بياضًا في وجوههم يوم القيامة، فهو حمله على الآخرة، وهذا قال به محمد بن شهاب الزهري -رحمه الله، والنبي ﷺ أخبر عن الغرة والتحجيل من أثر الوضوء[13]، وهنا من أثر السجود، فيكون هذا من قبيل الأنوار المضاعفة التي تكون من أثر الوضوء، ومن أثر السجود.
وبعضهم يقول: ما يظهر عليهم في الدنيا من الخشوع والتواضع، وهكذا قول من قال: السمت الحسن، ما يظهر عليهم من سيما الإيمان والصلاح والتقوى وحسن السمت، فهذا كله لا شك أنه حلية لأهل الإيمان، وممن فسره بالتواضع والسمت مجاهد -رحمه الله، وهذا قال به كثيرون، بعبارات مقاربة: أنه السمت الحسن والوقار والتواضع وبهاء الإيمان ونور الطاعة على وجه الإنسان، وهذا الذي أورد من أجله ما مضى: "ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه"؛ ولهذا قالوا: من طال قيامه بالليل حسن وجهه في النهار، فهذا الوجه مرآة تعكس ما في قلب الإنسان، وما هو عليه من الحال، والعمل، فيشرق الوجه ويضيء، وتظهر عليه أنوار الإيمان إذا كان على حال من التقوى، وكان الذي بينه وبين الله عامرًا، وإذا نقص فإنه ينقص من ذلك بحسبه.
ومنهم من قال: هي العلامة التي تكون في الجبهة، وهذا مروي عن سعيد بن جبير، والإمام مالك -رحمهما الله.
وأما ابن جرير -رحمه الله- فذكر الوقار يعني: السمت الحسن، ولكنه عمم المعنى؛ ليشمل كل ذلك جميعًا، في الدنيا والآخرة، يعني: ما يظهر عليهم في الدنيا من الوقار والسمت الحسن وأنوار الإيمان والطاعة، وما يكون في الآخرة من الغرة والتحجيل والأنوار التي تكون في مواضع السجود، باعتبار أنه لا دليل يدل على تحديد شيء من ذلك، وممن قال: إنها إنارة الوجه سفيان الثوري -رحمه الله.
فقوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، السيما هي: العلامة، قال: مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، فهذا يدل على أن السجود من أبلغ العبادات، والصلاة من أبلغ العبادات أثرًا في استنارة الوجه في الدنيا والآخرة، فالذين لا يصلون -نسأل الله العافية- ما حالهم؟ وكيف يعرفهم النبي ﷺ وهم لا يصلون، ولا يتوضئون؟ يعرف أمته بالغرة والتحجيل، فهؤلاء الذين لا يتوضئون ولا يصلون يعرفون بماذا؟!
أما مجرد العلامة التي تكون في الجبهة وتظهر لبعض الناس فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذا غير مراد، وإن كانت قد تكون داخلة في جملة هذا المعنى العام، لكن لا يحد ولا يخص ذلك بها، وأنت ترى هذه أحيانًا ظاهرة في بعض أهل البدع الغليظة مع ظلمة الوجه، أحيانًا لا تستطيع أن ترى أو تنظر إلى بعض وجوه هؤلاء من أصحاب البدع الغليظة، وعلامة السجود تلوح -نسأل الله العافية، وهي لا تزيده إلا ظلمة، والله المستعان.
قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، المثل هنا بمعنى: الصفة، وقد مضى الكلام على معنى المثل، وأن بعض المواضع يمكن أن يفسر فيها بالصفة، فقوله: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أي: وصفهم فيها، صفتهم فيها: أنهم بهذه المثابة: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، وأنهم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، فيكون الكلام قد تناهى عند قوله: فِي التَّوْرَاةِ ونقف، فيكون هذا المثل في قوله: مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ يرجع إلى ما قبله، من السيما، والشدة على الكفار، والرحمة بينهم، ثم يأتي ما بعده: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.
وهذا الذي عليه كثير من المفسرين، وممن اختار هذا كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: أن قوله تعالى: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ يعود إلى ما سبق.
وأما قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ فهو ما ذكر بعده: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلى آخره، مع أن من أهل العلم من قال: إن ذلك يشمل ما ذكر، أي: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ويقف، ثم يستأنف: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلى آخره، فيكون مثلهم في التوراة والإنجيل هو ما سبق، وهو قوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ وكذلك: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.
هذا قال به بعض أهل العلم، ورده ابن جرير -رحمه الله، وقال: لو أنه كما قالوا؛ لكان قوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ بالعطف، يعني: لدخلت عليه الواو، أي: وكَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ؛ ليكون عائداً على الصفة الأولى، فيكون وكَزَرْعٍ وصفًا آخر لهم، فالوصف الأول قوله: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، ثم ذكر وصفًا آخر لهم قال: وكَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، لو دخلت الواو، فيقول: لم تدخل الواو، فدل على أن قوله: كَزَرْعٍ يتعلق بما قبله من قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، فيكون المثل الثاني: كَزَرْعٍ هو: المثل المضروب لهم في الإنجيل.
قوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ما معنى شطأه؟ يعني: فراخه، فتنبت بجانبه صغيرة دقيقة، ثم ما تلبث أن تتكاثر وتقوى، ثم بعد ذلك تنمو وتشتد وتقوم على سوقها، هذا الذي فسره به أكثر أهل العلم، وقد قال الأخفش والكسائي: إن شطأه يعني: طرفه، أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: طرفه، وقال الفراء: أشطأ الزرع إذا خرج، والزجاج قال: أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: نباته، وقيل غير هذا، وهناك رواية أخرى عن الفراء أنه قال: السنبل، والجوهري يقول: شطْءُ الزرع والنبات هو: فراخه، كما ذكر ابن كثير -رحمه الله- هنا.
قوله:فَآزَرَهُ يعني: الزرع آزر الشطء وقواه، وبعضهم يقول عكس ذلك، وقد مضى الكلام على هذا مفصلا في الكلام على أمثال القرآن، ومعنى المثل: أن أصحاب النبي ﷺ في الابتداء كانوا قلة ضعفاء، فما لبثوا أن كثروا، وزاد عددهم، وتعاظمت قوتهم، حتى صاروا في حال يتغيظ منها أعداء الله ؛ لكثرتهم، وقوتهم، لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.
قوله: فَاسْتَغْلَظَ أي: شب وطال.
قوله: فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ، الزراع يعجبهم، وهم أعلم بالزرع، وأخبر، وأدرى به، فيعرفون أن هذا هو حال مرضي جيد، ونماء صالح.
قال ابن كثير -رحمه الله: "فكذلك أصحاب رسول الله ﷺ آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع؛ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ"، وكما يقول الله : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة الأنفال:26]، فهذا من نعمة الله على هذه الأمة في صدرها وأولها، وهذه النعمة لاحقة لأوسطها وآخرها، فإن النعمة التي لأصولهم ومبدئهم لا شك أنها لاحقة لآخرهم إذا كانوا على طريقتهم.
قال سبحانه: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وهذا أمر لابد أن يتحقق، بمعنى: أن الكفار يغتاظون إذا رأوا أهل الإيمان يكثرون ويقوون، والأمة تعود إلى دينها، وإلى عبادة ربها -تبارك وتعالى؛ لأنهم كما قال الله : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، وقال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [سورة البقرة:217].
قال -رحمه الله تعالى: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمة الله عليه- في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر؛ لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك، والأحاديث في فضل الصحابة ، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
ثم قال -تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ "مِن" هذه لبيان الجنس، مَغْفِرَةً أي: لذنوبهم، وَأَجْرًا عَظِيمًا أي: ثواباً جزيلاً، ورزقاً كريماً، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف، ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُد أحدهم، ولا نصيفه[14].
آخر تفسير سورة الفتح، ولله الحمد والمنة.
قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ، يقول: "مِن" هذه لبيان الجنس"، يعني: لا يفهم من هذا أنها تبعيضية، باعتبار أن المراد به: أصحاب النبي ﷺ، لكن على القول الآخر: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ، ليس فقط الصحابة، وإنما الأتباع الذين آمنوا به، فهؤلاء وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً، فيمكن هنا أن تكون تبعيضية بهذا الاعتبار، يعني: من أهل العلم من حمل ذلك على الصحابة فقط، وبعضهم قال: لا، بل من أتباع النبي ﷺ.
فقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني: من الأتباع معه، يعني: من الأتباع إلى يوم القيامة.
- أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، رقم: (2731).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، رقم: (974).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، رقم: (1727)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، رقم: (1301).
- أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، باب ما جاء في عمرة القضية وتصديق الله وعده بدخولهم المسجد الحرام آمنين.
- أخرجه أحمد في المسند، رقم: (2639)، والبخاري، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، رقم: (4256)، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، وفي الطواف الأول في الحج، رقم: (1266).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: كيف كان بدء الرمل، رقم: (1602).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، رقم: (4256).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، رقم: (1649).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح مع المشركين، رقم: (2701).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011)، وأخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا، رقم: (6026)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2585).
- أخرجه أحمد في المسند، رقم: (2698)، وأبو داود، أول كتاب الأدب، باب في الوقار، رقم: (4776)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 401)، رقم: (1993).
- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء، رقم: (136)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم: (246).
- أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذًا خليلا، رقم: (3673)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب تحريم سب الصحابة ، رقم: (2540).