الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[18] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} الآية 41 إلى قوله تعالى: {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الآية 44
تاريخ النشر: ١٢ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3309
مرات الإستماع: 2243

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ۝ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:41-44].

نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي: مستجيبون له منفعلون عنه.

سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل المراد: أنهم يتسمعون الكلام ويُنْهُونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: "وهؤلاء كلهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ" يعني أن هذه الصفة ترجع إلى الطائفتين، إلى الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وكذلك أولئك الذين يرجعون إليهم من إخوانهم اليهود، فكلهم سماعون للكذب.

قال: "أي مستجيبون له منفعلون عنه سماعون لقوم آخرين"، فسر ابن جرير -رحمه الله- سمعهم للكذب بأنهم يسمعون قول أحبارهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وقالوا: إن الزاني المحصن يحمم ويُركب على حمار منكوسًا ويجلد ويطاف به، وأنه لا يرجم، فقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي: سماعون لهؤلاء الأحبار.

وفسر الجملة الأخرى وهي قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: أن المراد بهؤلاء الآخرين هم أهل الزاني الذين أرادوا المجيء إلى النبي ﷺ والاحتكام إليه، فهذا بناء على بعض ما ورد في أسباب النزول، ولهذا قال من قال: إن قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أي: اليهود في فَدَك، وفَدَك هذه ناحية قريبة من خيبر وذلك أنه جاء في بعض الروايات أن رجلًا وامرأة زنيا، من أهل فدك من اليهود -وفَدَك ناحية قريبة من خيبر- فأولئك أرادوا أن يأتوا للنبي ﷺ وهؤلاء كالعين لهم، أي أرادوا أن يستطلعوا وأن ينظروا ماذا يقول رسول الله ﷺ في حكم الزاني، فإن قال بالرجم، لم يأتِ أصحاب القضية، وإن قال بالجلد جاءوا إليه وقالوا: نجعل بيننا وبين الله نبيًا من الأنبياء ونكون قد حكمنا بحكمه، فعلى كل حال هذا بناء على بعض الروايات، وهنا الحافظ ابن كثير يقول: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي مستجيبون له، فيشمل هذا ما قاله الأحبار من الكذب والتحريف وكذلك أيضًا هم سماعون للكذب والفرى وقالة السوء مطلقًا.

ومن أهل العلم من جعل اللام في قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ تعليلية، أي أنهم يستمعون إليك ليلفقوا عليك، أي يسمعون لأجل أن يكذبوا وأن يحرفوا كلامك وأن يبدلوه ويغيروه، وهذا التفسير فيه بعد، وما مشى عليه الحافظ ابن كثير أيضًا في الجملة الأخرى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: يستجيبون لقوم آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد.

وقيل: المراد أنهم يستمعون الكلام ويُنهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك، وعلى هذا التفسير الأخير الذي ذكره ابن كثير أيضًا يمكن أن تكون اللام تعليلية، أي أنهم يسمعون لأجل أن ينقلوا هذا الكلام لمن لا يحضر مجلسك، وعلى كل حال سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ يحمل على أعم معانيه، ويدخل فيه سماع التحريف، وغير ذلك، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: أي أنهم يسمعون لقوم آخرين يعني من اليهود مثلًا يقبلون عنهم توجيههم وما ينصحونهم به وما يقولونه لهم، ويحتمل أن تكون سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ كما يقال في الآية الأخرى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [سورة التوبة:47] أي أنها تحتمل المعنيين نفسيهما، فهم آذان يسمعون أخبارك وما قلته في مجلسك فينقلونه لشياطينهم الذين لا يحضرون مجلسك، ويحتمل أن يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أنهم يتلقون من مصدر آخر فلا يقتصرون في التلقي عليك وإنما لهم مصادرهم الأخرى التي يتلقون التوجيه منها.

فقوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وقوله: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [سورة التوبة:47] يحتمل المعنيين، يعني أنه فيكم من يسمع الكلام ويوصله لهم، ويحتمل أن يكون المعنى أي فيكم من يقبل عنهم ويتأثر بتوجيههم وما يلقونه عليهم وما أشبه ذلك، فالآية تحتمل المعنيين معًا، والله تعالى أعلم.

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [سورة المائدة:41] أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.

قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [سورة المائدة:41] يمكن أن يكون بمعنى يحرفون الكلم عن مواضعه، أو يكون المعنى يحرفون الكلم بعد كونه موضوعًا في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث اللفظ والمعنى، فهم يغيرون الألفاظ تارة ويتلاعبون بالمعاني تارة أخرى فيغيرونه عن مواضعه التي وضعه الله عليها.

يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ [سورة المائدة:41] قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلًا.

إلى ماذا يعود الضمير في قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [سورة المائدة:41]؟

هم يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون –مثلًا- في الزاني المحصن إنه يحمم ولا يرجم، ولذلك هم قالوا لبعضهم: إن ذهبتم إلى النبي ﷺ واحتكمتم إليه فأعطاكم هذا الحكم فخذوه وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ أي إن قال لكم بالرجم فاحذروا.

ومن جملة ما حرفوه –وهو يذكر في أسباب النزول- ما يتعلق بالديات بين بني قريظة وبني النضير، فبني النضير يرون أنهم أشرف من بني قريظة، فهم من ولد هارون -عليه الصلاة والسلام، كما أنهم من قوم من اليهود الذين لم يحصل لهم إخراج قط في التاريخ قبل بعثة النبي –عليه الصلاة والسلام- فيما ذُكر، ومعلوم أن تاريخ اليهود حافل بالتشريد والإخراج والإجلاء. 

وبنو النضير هم الذين قال الله فيهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2] لذلك هم يرون أنهم أشرف من بني قريظة، وكان القتيل إذا قتل منهم فيه الدية كاملة، وذلك كأن يكون قتله قرظي مثلًا، وإذا قُتل الرجل من قريظة ففيه نصف الدية، وكانوا على هذا حتى جاء النبي ﷺ فحكم فيهم بالتساوي بالدية، فالحاصل أن قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [سورة المائدة:41] يعني ما حرفوه في هذا الأمر لكن المشهور أن ذلك في حكم الزانيين.

قيل نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلًا، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

لا يثبت شيء يعتمد عليه أن هذه الآية نازلة في هذا، وقد ورد فيه رواية عن الشعبي لكن مثل هذه المراسيل لا تقوم بها حجة.

والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الذي الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين.

قوله: "والإركاب على حمار مقلوبين"، يعني وجههما إلى الجهة الأخرى –المعاكسة- إذلالًا.

فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

على كل حال سبب النزول هذا ثابت وصحيح، وقد ورد عن جماعة من الصحابة وإن اختلفت الروايات في بعض التفصيلات.

وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر -ا: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله ﷺ فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتُوا بالتوراة، فأتَوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال لهم عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة" أخرجاه وهذا لفظ البخاري[1].

وفي لفظ له: فقال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخِّم وجوههما ونخزيهما، قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد إن فيها آية الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما[2].

وعند مسلم أن رسول الله ﷺ أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله ﷺ حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنا؟ قالوا: نسود وجوههما ونحممهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، قال: فجاءوا بها فقرءوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله ﷺ: مره فليرفع يده، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه[3].

وروى أبو داود عن ابن عمر -ا- قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله ﷺ إلى القُفِّ، فأتاهم في بيت المدراس..

القُف وادٍ كان يسكنه اليهود في المدينة.

قوله: "فأتاهم في بيت المدراس" يعني المكان الذي يكون فيه دراستهم.

فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلًا منا زنا بامرأة فاحكم، قال: ووضعوا لرسول الله ﷺ وسادة فجلس عليها ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها، وقال: آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع[4].

فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله ﷺ حكم بموافقة حكم التوراة وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ولكن هذا بوحي خاص من الله إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطئوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة.

قوله: "الشرع المحمدي" هل يقال: الشرع المحمدي والأمة المحمدية، ونحن محمديون؟

هذا لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وفيما أعلم لم يرد عن أحد من السلف الصالح في القرون المفضلة، وإنما استعمله بعض المتأخرين كالحافظ ابن كثير -رحمه الله- واستعمله بعض المعاصرين من المتأخرين أيضًا أمثال محمد رشيد رضا حيث له كتاب اسمه الوحي المحمدي، وأيضًا في بعض العبارات لبعض المتأخرين مثل هذا. 

ومن أهل العلم من يستوحش من مثل هذه العبارة، ويقول: إنها تضاهي ما يطلقه النصارى أو ما يقال: بالمسيحيين، وإنما النسبة إلى الإسلام؛ لأن الله  سمانا بالمسلمين، فينتسب إليه ولا ينتسب إلى النبي ﷺ بحيث يقال: فلان محمدي وأمة محمدية أو شريعة محمدية، لكن هل يقال هذا لأنه من باب المنكر والحرام وما أشبه ذلك؟ لا، لا يصل الأمر إلى ذلك، لكن الأحسن في التعبير الانتساب إلى الإسلام؛ لأنه هو الذي ورد في الكتاب وفي السنة، والله أعلم.

فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم وعدولهم إلى تحكيم رسول الله ﷺ إنما كان عن هوىً منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ولهذا قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [سورة المائدة:41] أي: الجلد والتحميم، فَخُذُوهُ [سورة المائدة:41] أي اقبلوه، وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ [سورة المائدة:41] أي: من قبوله وإتباعه.

يلاحظ أن هذه الروايات التي اقتصر عليها المختصر هنا في الصحيحين ليس فيها سبب نزول، أي أنه ليس فيها: فنزلت الآية، لكن صح ذلك في روايات أخرى وإلا لو بقينا مع هذه فقط ما يحصل المقصود من أنها سبب لنزول الآية.

وقال الله تعالى: وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [سورة المائدة:41-42] أي: الباطل، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [سورة المائدة:42] أي الحرام، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له؟!

قوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام مطلقًا ويدخل فيه الربا، كما قال الله : وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا [سورة النساء:161] ويدخل فيه الرشى؛ لأنهم كانوا يأخذون ثمنًا قليلًا يستعيضون به عن بيان الحق الذي أمرهم الله  أن يبينوه.

والسحت: بعضهم يقول: أصله الهلاك والشدة، تقول: سحته بمعنى استأصله وأزاله، وبعضهم -كابن جرير رحمه الله- وبعض أئمة اللغة من المتقدمين يقول: أصله من كلب الجوع، وذلك أن الإنسان إذا وصف بهذا كلب الجوع، فإنه يأكل في كل وقت، ولا يزال يجد الجوع فلا يشبع، فمثل هؤلاء الذين يأكلون الرشى والأموال المحرمة شبهوا بذلك فهم لا يكتفون بالحلال بل كل ما وقع بأيديهم من مال استحلوه وأخذوه لشدة جشعهم وطمعهم وتهالكهم على الدنيا، ومثل ذلك الإنسان الذي ابتلي بكلب الجوع فإنه يأكل في كل وقت ولا يشبع، وهذا من حيث أصل المعنى، والله أعلم.

ثم قال لنبيه: فَإِن جَآءُوكَ [سورة المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك، فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا [سورة المائدة:42] أي: فلا عليك أن لا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم.

قال ابن عباس -ا- ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخرساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ [سورة المائدة:49].

هذا قال به كثير، منهم من ذكر هنا وغير هؤلاء الزهري وعمر بن عبد العزيز، بل نسبه القرطبي إلى أكثر العلماء، مع أن كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يرى أنها محكمة، وذلك أنه لم يدل دليل على النسخ، والتعارض بين الآيتين ليس من كل وجه، فهو يقول: متى أمكن أن نجمع بين الآيات فهو مطلوب، يقول: ويمكن الجمع بينها باعتبار أن الله  خيره أن يحكم أو يترك فإن اختار أن يحكم فإنه مأمور أن يحكم بينهم بما أنزل الله.

وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [سورة المائدة:42] أي بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [سورة المائدة:42].

ثم قال تعالى منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم فقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [سورة المائدة:43].

ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:44] أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها.

في قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ كثير من المفسرين يقولون: النبيون الذين أسلموا، يعني أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة، ويحكم بها أيضًا الربانيون والأحبار.

ومن أهل العلم من يقول -ومنهم ابن جرير رحمه الله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ يعني محمدًا ﷺ وكذلك من حكم بها من الأنبياء قبله، وليس المقصود أن النبي ﷺ متعبد بالحكم بالتوراة، وإنما فيما ورد أنه حكم فيها مثل قضية حكم الزاني، ومثل قضية الديات وتفاوتها التي أشرت إليها في أول الكلام، وعلى كل حال إذا كان هذا هو المراد فلا إشكال أن النبي ﷺ حكم عليهم بكتابهم، لكن المتبادر في هذا أن الله ذكر التوراة وما فيها من المعاني ويحكم بها النبيون وكذلك الأحبار والرهبان ممن كانت شريعتهم التوراة.

وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [سورة المائدة:44] أي وكذلك الربانيون منهم، وهم العلماء العباد وَالأَحْبَارُ وهم العلماء.

بعضهم يقول: إن الربانيين هم العلماء الحكماء، وبعضهم يقول: علماء فقهاء، فعلى هذا يكون الرباني أعلى من الحبر، وابن جرير له كلام معروف في قوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] وأيضًا في هذه الآية، ومحمود شاكر -رحمه الله- علق على تفسيره لقوله تعالى: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] تعليقا طويلًا جيدًا يحسن مراجعته، فكلام ابن جرير واحد في الموضعين، في الربانيين -أعني هنا في المائدة وهناك في آل عمران- فابن جرير يرى أن المقصود من الربانيين أنهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم، يعني أنه ليس مجرد فقيه أو عالم وإنما له بصر بأحوال الناس وأمورهم وسياستهم وما أشبه ذلك، فهم يرجعون إليهم فيما نابهم من أمور دينهم ودنياهم، فهذا هو الرباني، وأما الحبر فهو العالم، وليس كل عالم يكون ربانيًا.

بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ [سورة المائدة:44] أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [سورة المائدة:44] أي: لا تخافوا منهم وخافوا مني.

قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ [سورة المائدة:44] أي استودعوا من كتاب الله وأمروا بحفظه، وقد بيّن الله أنهم ضيعوه في مواضع من كتابه كما في قوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، وكذلك في قوله: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] يعني من الرشى، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على أنهم ضيعوا ولم يقوموا بحفظ هذا الكتاب.

وقوله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء [سورة المائدة:44] من أهل العلم من يقول -كابن جرير رحمه الله: أي شهداء على أن هذا مما قضى به الأنبياء، يعني أن الأنبياء يحكمون وهؤلاء شهدوا ذلك وعرفوه من أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- وعرفوا أنهم كانوا يحكمون بكتاب الله.

وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] فيه قولان سيأتي بيانهما.
  1. أخرجه البخاري في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة – باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام (6450) (ج 6 / ص 2510).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها (7104) (ج 6 / ص 2742).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (1699) (ج 3 / ص 1326).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الحدود – باب في رجم اليهوديين (4451) (ج 4 / ص 264) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (4449).

مواد ذات صلة