بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [سورة الانشقاق:20]، أي: بعد هذا البيان الواضح الذي لا يترك في الحق لبسًا، وما يشاهدون من دلائل عظمة الله وقدرته ووحدانيته.
وقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [سورة الانشقاق:21] أي: لا يخضعون، ولا ينقادون، أو لا يخرون سجدًا؛ تعظيمًا للقرآن، واحترامًا له، وهذا يتضمن ما قبله فإن من سجد فقد خضع، فهو خضوع ينتظم الخضوع بنوعيه: خضوع القلب، وخضوع الجوارح، فإن أجلى صور هذا الخضوع إنما هو السجود، ووضع الجبهة التي هي أشرف موضع في جسد الإنسان، أن يضع ذلك على الأرض، فهم لا يفعلون، لا تخضع قلوبهم، ولا تسجد جباههم، وهذا فعل أهل الكبر والإعراض، كما يقال: فلان عفيف الجبهة، يعني: لا يسجد.
قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [سورة الانشقاق:22، 23]، بما تكنّه قلوبهم، وما يجمعون من الأعمال: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، فالله محيط بذلك بصير به عليم، لا يخفى عليه من ذلك قليل ولا كثير.
قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الانشقاق:24]، وهذا أطلق فيه البشارة -كما سبق: باعتبار أنها تأتي فيما يسر وما يسوء، وإن كان الغالب أنها تكون فيما يسر.
قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [سورة الانشقاق:25]، فهذا الاستثناء: استثناء منقطع، يعني: توعد الله هؤلاء المكذبين بالعذاب الأليم، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون، غير مقطوع، ولا منقوص.
سورة البروج.
يقول الله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [سورة البروج:1] أي: النجوم التي عرفت عند الناس قديمًا وحديثًا، تتخذ صورًا وأشكالاً محددة ومواقع لا تتعداها، عرفت بأسماء تنزل فيها الشمس في كل منزل شهرًا في السنة، وينزل فيها القمر في كل منزل يومين وثلث اليوم، فالقمر يتنقل فيها في الشهر، والشمس تتنقل فيها في العام.
قال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [سورة البروج:1، 2] أي: يوم القيامة.
قال: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [سورة البروج:3]، أقسم الله بالشاهد والمشهود وأطلق، فالله -تبارك وتعالى- شاهد، والأنبياء شهود، والملائكة شهود، وكذلك أيضًا يوم الجمعة شاهد، والخلق مشهود، وكذلك أيضًا جوارح الإنسان مشهود، وهي: شاهد، تشهد عليه، فالمقصود: أن ذلك يدخل فيه ما يصدق عليه عند الإطلاق، وأقوال السلف وعباراتهم يمكن أن تكون من قبيل التفسير بالمثال.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين، وللمسلمين أجمعين.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [سورة البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه: أخاديد، وهي: الحُفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله فقهروهم، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودًا، وأججوا فيه نارًا، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [سورة البروج:4-7] أي: مشاهدون لما يُفعل بأولئك المؤمنين.
قوله -تبارك وتعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، "قتل": هنا قال أي: لعن أصحاب الأخدود، وظاهر من هذا أن المقصود به: القَتَلَة، يعني: الكفار الذين أوقدوا النار للمؤمنين، وأحرقوهم.
وقوله: أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ يعني: ليسوا الذين عُذبوا بها، وإنما أصحاب الأخدود هم الذين أقاموا الأخاديد، وحفروها، وأوقدوا النيران، فهم المقصودون بذلك، وليس المقصود الخبر عن أولئك الذين قُتلوا في الأخدود حرقًا، لا، وإنما هذا -بإطباق المفسرين فيما وقفت عليه- المقصود به: من قاموا بهذا العمل الشنيع.
وهنا قال: أي: لُعن -كما سبق، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [سورة عبس:17]، ففسر بلعن، وقُتل تأتي بمعنى: لُعن، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وكما سبق أن بعضهم فسره بغير ذلك، أي: بغير لُعن، واللعن: الطرد والإبعاد من -رحمه الله، والمعنى الثاني: أنه دعاء عليهم بالقتل، قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، فيكون من قبيل الدعاء، وهما متقاربان، يعني: إذا دعي عليه بذلك فهذا إبعاد له.
قوله: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، بعضهم يقول: هذا هو جواب القسم في قوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، فالجواب: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، فبعضهم يقول: هذا هو الجواب، واللام فيه مضمرة.
وبعضهم يقول: الجواب مقدر محذوف، يعني: الجواب موجود، لكنه محذوف، ليس هذا هو الجواب: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ عند هؤلاء الذين قالوا: مقدر، يقولون: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ لتبعثن، من أي شيء جاء هذا التقدير؟ يعني: لماذا قدر لتبعثن؟ باعتبار مضامين القسم، أقسم بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبالشاهد، والمشهود، فهذا يشعر بأن جواب القسم يتعلق بالبعث، ونحن تحدثنا عن موضوع هذه السورة، وذكرنا أن هذه السورة تتحدث عن وعيد المكذبين بالبعث والوحي، فالكفار المعرضون عن الإيمان يتوعدهم ربنا -تبارك وتعالى- بأن يفعل بهم فعله بمن ضرب لهم الأمثال بهم كأصحاب الأخدود، وفرعون، وثمود، فهذا هو موضوع السورة، ومن ثَمَّ تقدير لتبعثن يتفق مع هذا.
وكما سبق أن ابن القيم -رحمه الله- يرى: أنه لا يوجد جواب أصلاً، ليس هناك جواب قسم، لا مقدر، ولا مصرح به، فأين الجواب؟ يقول: لا يوجد جواب، طيب، وهذا القسم على أي شيء؟
قال: هذا للتنويه، وبيان عظمة وشأن هذه الأمور التي أقسم الله بها، فالسماء ذات البروج مظهر من مظاهر عظمة الله وقدرته، وأنه الخالق وحده، وأنه القادر على بعث الموتى، فالذي خلق هذه الأجرام العظيمة قادر على بعث الأجساد، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي: الذي يبعثون فيه، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ فيدخل في ذلك الشاهد والمشهود -كما سبق، الله يشهد، والأنبياء يشهدون، وهذه الأمة تشهد، قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ أي: لعن أصحاب الأخدود، يعني: يا أيها المكذبون المحادون لله ولرسوله ﷺ اعتبروا بما جرى لمن قبلكم، واحذروا نكاية الله وغضبه وعذابه للمكذبين، كما فعل بهؤلاء من أصحاب الأخدود.
يقول ابن كثير: "الأخدود، وجمعه: أخاديد، وهي: الحفر في الأرض"، هذا معنى الأخدود، مثل الحفرة المستطيلة، يقال لها: أخدود، فحفروا الأحافير، فحفروا حفرًا في أفواه السكك، كما يدل عليه الحديث الآتي، يعني: في مدخل كل طريق وضعوا فيه أخدودًا، كمثل ما يفعل هؤلاء الآن أهل الإجرام في بلاد الشام، يضعون لهم ما يسمى: بالحواجز في مداخل الأحياء أو نحو ذلك، ومن مر بهم أخذوه وفتكوا به، وإن كانت امرأة هتكوا عرضها، فهؤلاء تسلطوا على عباد الله من أهل الإيمان، وحفروا هذه الحفر المستطيلة التي يقال لها: الأخاديد، وصاروا يسعرونها نارًا، ثم يلقون الناس فيها.
هذا الأخدود في قوله: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هل هو أخدود معين؟ أو أن المقصود بذلك الجنس يعني: كل من فعل ذلك بالناس؛ لأنهم يذكرون في التاريخ أن الأخاديد التي خُدت، وأُلقي الناس فيها، وأضمرت نارًا: أنها متعددة، وقع شيء من هذا بالشام، ووقع شيء من هذا في أرض فارس، ووقع شيء من هذا بأرض اليمن في نجران.
فبعض أهل العلم يقول: ليس المقصود أخدوداًً معيناً، فالله -تبارك وتعالى- لم يذكر أخدودًا معيناً، ومن ثم يقولون: يدخل فيه ما ذكره النبي ﷺ في قصة الغلام والراهب والساحر[1]، يقولون: هذا بعض ما يدخل فيه، ولكن الآية لا تتحدث عن هذا بخصوصه.
هكذا يقول بعض أهل العلم، ونحن نعرف أن التفسير النبوي على نوعين: نوع يكون النبي ﷺ تطرق فيه لنفس الآية، فهذا إذا صح إسناده فلا كلام بعد ذلك لأحد، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، والنوع الثاني: ما لم يتطرق فيه النبي ﷺ للآية، فيعمد بعض المفسرين إلى الحديث ويجعله تفسيرًا للآية، فهذا لون من الاجتهاد، الربط بين الآية والحديث نوع من الاجتهاد من المفسر، قد يصيب، وقد يخطئ، إلا أنه في بعض الصور يكون ظاهرًا لا خفاء فيه.
يعني: الربط واضح، مثل قول الله : وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23]، مع قول النبي ﷺ: يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك[2]، يعني: يقودونها، فهذا واضح أنه تفسير لقوله: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23]، لا إشكال أن يربط بين الحديث والآية، كيف يجاء بها؟ تقاد.
أما حديث الأخدود: الغلام والراهب والساحر فهل هو تفسير لهذه الآية قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الذين كانوا في تلك الواقعة المعينة أو لا؟ بعض أهل العلم يقول: ليس ذلك بخصوصه، وإنما هو واحد مما يدخل فيه، وإنما أصحاب الأخدود: كل من خد للناس الأخاديد، وأحرقهم بالنار، وامتحنهم في إيمانهم ودينهم.
والأقرب -والله أعلم: أن الآيات تتحدث عما ذكره النبي ﷺ في الحديث، فالسياق يدل على هذا -والله أعلم، قال الله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، فكأن "أل" هنا عهدية، أي: الأخدود المعهود الذي يعرفونه، ووقع في بلاد العرب، أما ما وقع في الشام، أو وقع في بلاد فارس فهو بمنأى عنهم، وليس في بلاد العرب.
هذا الأخدود الذي في أرض اليمن جاء في التواريخ وبعض كتب التفسير في مرويات إسرائيلية: أنه في نجران، ولا زال إلى اليوم يوجد مكان في نجران كبير واسع جدًّا، مسوَّر، عليه شبك، يعني: هو أشبه بحي كامل، أكبر من هذا الحي المترامي من أوله إلى آخره، من الطريق هذا إلى الطريق ذاك، هناك منطقة واسعة جدًّا مترامية، يعني: إن أردت أن تمشي فيها على قدميك تحتاج إلى وقت طويل، كما لو تمشي في هذا الحي من أوله إلى آخره طولاً وعرضًا، بل أكبر من هذا، يعني: كأنه بقايا من مدينة، لكن لا مظاهر للبناء فيها، فهل هو الأخدود المقصود أو لا؟
هذه المنطقة اجترفتها السيول، بحيث إنك ترى فيها أماكن مثل الجدار صائرة في التراب، يعني: السيل يمر بها بحيث قطعها تقطيعًا، فصارت كأن جرافات قد قطعتها، هذا التراب أو النواحي التي جرفها السيل ماذا تشاهد في جدارها؟ هي: ليست جدارًا، هي: تربة، لكنها مشقوقة شقًّا، ماذا تلاحظ في جدرانها؟
ترى العظام بكثرة، وترى زَهَم الناس، يعني: بقايا الأجساد والزَّهَم -بقايا الدهون- واضحة في التربة، بل ترى أحيانًا زهمًا ممتدًا بقامة إنسان، يعني: كأنه قبر أو لحد كله زهم، لكن توجد كِسَر عظام، يعني: ليست هياكل كاملة، إنما هي كسر من أصابع، ومن سواعد، إلى غير ذلك، بل أنا رأيت بنفسي، ولست أتوهم، ولا أنقل عن أحد، رأيته بنفسي، رأيت بعض العظام محروقة أطرافها، وهممت أن آخذ عظمًا من هذه العظام من أجل أن يحلل، أي: يرسل إلى بعض الأماكن التي يعرفون تواريخ هذه الأشياء، متى هي، لكن خشيت أن يكون العظام لأناس مسلمين، ولهم حرمة، فلا يحل هذا، لكن في النفس شيء من ذلك، من جهتين:
الجهة الأولى: أنه جاء في الخبر أنه خد الأخاديد في أفواه السكك، وهذا أشبه ما تكون بمقبرة ضخمة كبيرة، يعني: أشبه بمدينة كبيرة كلها مقبرة، يعني: لم تجرِ العادة في الأولين أنهم بهذه الأعداد يضعون مقابر، وبهذا الحجم، مقابر الناس قديماً صغيرة، فهذا الشيء يجعل هذا الأمر في شك، أي: أن هذه هي الأخدود فعلاً، فهذا هو الأمر الأول: أنه جاء في الخبر أنه في أفواه السكك خد الأخاديد، وهذا منطقة شاسعة كلها عظام.
الجهة الثانية أو الأمر الثاني: أن واقعة أصحاب الأخدود قبل مبعث النبي ﷺ بمدة طويلة، يعني: متى كان هذا؟ كان قبل أكثر من ألف وأربعمائة، أو ألف وخمسمائة، أو ألف وستمائة سنة، أو أكثر، الله أعلم، لكنه بعد بعث عيسى ﷺ، يعني: بين عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام، فلو روجعت كتب التواريخ يمكن أن يعرف وقت ذلك؛ لأنه في وقت ملك معين، الشاهد: هل تبقى العظام منذ ذلك الحين إلى الآن؟ لا تبقى؛ لأن العظام كم تبقى؟ تبقى ستة أشهر ثم تتحول إلى تراب.
لكن قد يقول قائل: هذه كرامة من الله، نقول: كيف تكون كرامة من الله وما بقيت أجسادهم، وما حفظت من البلى؟ إنما هي كِسر عظام! يعني: الكرامة من الله أن الأرض لا تأكل الجسد، وهذا يحصل لبعض الناس، وليس بالضرورة أن يحصل لكل أولياء الله أو الشهداء، وإنما يحصل للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قطعًا؛ لأن النبي ﷺ أخبر: أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء[3]، لكن هل يحصل لغير الأنبياء كالصحابة والشهداء؟ هل يحصل لهم هذا الحفظ؟
الجواب: ليس هناك ما يدل عليه من جهة النقل، لكن قد يحصل كرامة من الله لبعضهم، كما وقع لبعض شهداء أحد، فقد حفروا بعد مدة طويلة عندما أجريت عين في عهد معاوية بعد نحو أربعين سنة، فاستُخرجوا كأنهم ماتوا للتو، ودماؤهم طرية، وجابر -رضي الله عنهما- لما أخرج أباه أيضًا حين دفن مع آخر من الشهداء، فاستخرجه ووضعه في قبر وحده، وذلك بعد مدة، فوجده لم يتغير بل كان طريًّا، ولما احترق المسجد النبوي، وتساقطت سقوف الحجرة النبوية، وأرادوا إزالة ذلك، فلما حفروا وكانوا يزيلون ذلك: خرجت لهم رِجْل، ففزعوا أن تكون رِجْل النبي ﷺ، يعني: مع الحفر، ثم عرفوا أنها رجل عمر ، هذا بعد متى؟ كان في زمن التابعين، فلم تتغير.
فالمقصود: أن هذه العظام الموجودة كيف بقيت من ذلك الزمان، وليست كاملة، هي قطع وكسر؟ فإذا قال قائل: هذه كرامة من الله، نقول: لو كانت هكذا لحفظت الأجسام، ولم تأكلها الأرض، لكنها أكلتها الأرض، وذهبت، فلا ترى أثرًا للجماجم، وإنما هي بقايا عظام، حتى إنه كان المزارعون في السابق ثم منعوا من الوصول إليها، كان المزارعون وأهل الفلاحة يأخذون من هذا التراب ويضعونه في مزارعهم، لماذا؟ لأنه خصوبة، فهذه أشياء عضوية، وبقايا آدميين، وهذا ظاهر فيها.
ثم هل الزهم يبقى إلى الآن من ذلك الحين، أي: قبل أكثر من ألف وخمسمائة سنة؟ هل يبقى الزهم إلى الآن، فترى شقًّا كبيراً جرفه السيل، ثم ترى زهمًا بقدر قامة إنسان كامل، هل يبقى إلى الآن؟ لا يبقى، نحن نعرف أن المقابر إذا مر عليها سنوات في عصرنا هذا، ثم حفرت لحاجة أو لسبب، أو لعذر، لا يرون فيها أثرًا، بل القبور التي تفتح في الأماكن التي لا يوجد فيها إمكان لاستيعاب أعداد كثيرة، فهي تفتح ويوضع فيها موتى من جديد بعد مدة من الزمن، وهي أشهر غالباً، غاية ما يجدون كِسرًا من العظام، فكيف بهذه المدة الطويلة؟ ففي النفس من هذا شيء.
لكن يمكن أن يعرف هذا من خلال تحاليل المختبرات التي يعرفون التواريخ بها، كما ذكرت في بعض المناسبات عن الحَرَّة الشرقية والغربية في المدينة، وحرة النار، فهذا الحِرار أُخذ منها قطع وحللت، والذين ذهبوا بها لا يعرفون ما الغرض، ومن أين أخذت، والذين حللوها لا يعرفون، وظهرت التواريخ، أتوا بالتواريخ: الحرة الغربية لها أكثر من أربعة آلاف عام وكسر، والحرة الشرقية ثلاثة آلاف تقريبًا وخمسمائة وكذا، وحَرَّة النار جاءوا بالقرون، يعني: وضعوها في التاريخ الذي وقعت فيه يعني: سنة ستمائة وأربعة وخمسين هجرية، فكان الذي ذهب بها رجع وهو يقول: هؤلاء لا يفقهون، يقولون: هذه أربعة آلاف وحوالي خمسمائة سنة، وهذه ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، وهذه مئات السنين، وذكروا له العدد، فقيل له: هذه حرة النار كانت سنة ستمائة وأربعة وخمسين هجرية، وهذه كانت الحَرَّة الغربية، وهذه الحَرَّة الشرقية، والحرة الغربية أقدم؛ ولذلك ترى حجارة الحرة الغربية تميل إلى اللون الأشهب تقريباً، لكن حرة النار فاحمة السواد، فإذا جئت في الطائرة تنزل إلى مطار المدينة انظر إلى الأسفل على يسارك تراها مثل الوادي، تصل إلى جهة المطار، إلى قريب من أُحُد، الآن وصل العمران إلى تلك النواحي، وذهبت بعض المعالم، لكن موجودة، فإذا جئت تطير في الطيارة وهي ترتفع انظر إلى الأسفل ستجد حرة النار فاحمة السواد، مع أن المنطقة كلها حرار، لكن سواد هذه أقوى وأوضح؛ لأنها جديدة، والله أعلم.
والذي يظهر: أن هذا الأخدود هو المقصود في الحديث.
يقول ابن كثير: وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله فقهروهم، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودًا، وأججوا فيه نارًا.
يعني: امتحنوهم في إيمانهم، وقتلوهم بهذه الطريقة التي هي في غاية النكارة والبشاعة، فالإنسان لا يطيق أن يفعل هذا ببهيمة، أن يحرقها وهي حية، لا يطيق هذا، ولا يحتمل، ولا يستطيع، ولكن القلوب تتحول إلى حال تصير فيها أقسى من الحجارة، فتفعل هذه العظائم ولا تبالي، وهذا أيضاً يؤخذ منه أنه -كما قال بعض السلف: مَن خالف عقده عقدك خالف قلبه قلبك، إذا خالف اعتقاده اعتقادك خالف قلبه قلبك، وبعد ذلك لا يبالي، فتوقع منه كل شيء.
وهذا مشاهد اليوم، انظر إلى ما يجري في بلاد الشام مثلاً، وغيرها، في بلاد الشام يحرقونهم وهم أحياء، ويتفرجون عليهم، مع أنهم نساء وأطفال، فيوقدون النار بهم وهم أحياء، وفي العراق يوقدون بهم النار وهم أحياء، ويضحكون، فيُدخلون رجلا خبازاً، لأن اسمه عمر، يدخلونه في التنور، في الفرن الذي يخبز فيه، يعني: من يطيق يفعل هذا؟
ولكن حينما تتحول نفوس الناس إلى نفوس بهيمية سَبُعِيَّة بسبب العقائد الفاسدة فإن ذلك يكون وزيادة، يكون مع أقرب الناس، مع القرابات من أبناء العم والعشيرة، يتلذذ بالتنكيل به، والتشويه، والقتل، والتمثيل، انظر أهل بلد واحد ماذا يفعلون، وانظر إلى ما حصل من المشركين، مع ما عندهم من الحمية، والنخوة، والعصبية القبلية، انظر إلى ما فعلوا في أحد بقتل المسلمين، وبحمزة ، وبمن معه من بني العمومة، والعشيرة، وأبناء القبيلة الذين عُرفوا بالحمية، والعصبية القبلية، لقد كانوا يبقرون البطون، ويقطعون الأنوف، ويقطعون الآذان، ويتلذذون بهذا، ما الذي سوغ لهم مثل هذه الأفعال القبيحة؟ هو الاختلاف في الاعتقاد.
ولهذا امتن الله على هذه الأمة بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [سورة الأنفال:63]، فتأليف القلوب لا يكون بالأموال، لا يكون بأمور مادية، ولا أمور دنيوية، إنما يكون جمع القلوب على الإيمان، والاعتقاد الصحيح، وإلا فهيهات هيهات هيهات، ولنا عبر فيما نشاهد، فتجد هؤلاء لربما يعيشون في بلد واحد، ويحصل بينهم من التعايش ما يتوهمون به أن هذه الأمور قد انتهت وانقضت مما يسببه اختلاف العقائد، فإذا حانت الفرصة، وأمكنهم البطش والانتقام، فإنه يظهر منهم ما لا يخطر على بال، فيتحول هذا الذي كان جارًا وديعًا إلى سبع بهيمي، يفتك ويقتل بأبشع الطرق التي لا تجري على بال، ولا تدور في خيال.
فالذي يخالف في الاعتقاد يصدر منه مثل هذا، أيًّا كان اعتقاده، سواء كان هذا الاعتقاد الذي يخالفك به في مذهب قديم أو مذهب جديد، فكل هؤلاء من المحادين لله ولرسله -عليهم الصلاة والسلام- لا يمكن أن يقر لهم قرار وهم يرون أهل الإيمان، ويتركونهم في سبيلهم، يعني: هؤلاء ماذا فعلوا بهم؟
قال الله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج:8]، ما فعلوا لهم شيئًا، ومع ذلك قتلوهم بهذه الطريقة التي هي في غاية الفظاعة والبشاعة، وما صدر منهم جرم، كيف لو صدر منهم شيء؟!
وقوم لوط كانوا يقولون: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة الأعراف:82]، فصار الطهر تهمة تستوجب النفي والإخراج من البلد، فهم يريدونهم أن يواقعوا الفاحشة؛ ولهذا جاء عن عثمان : أن المرأة الزانية تود أن كل النساء زوانٍ، حتى لا يتميز أحد بالشرف والفضيلة.
قال الله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، النَّارِ هنا مجرورة، فبعضهم يقول: إن النار هنا مجرورة باعتبار: أنه بدل اشتمال، فالأخدود حفرة ومشتملة على نار، فالنار هي: بضع ما في الأخدود، فهو: بدل اشتمال من الأخدود، حيث إنه مشتمل عليها.
لكن بعض أهل العلم رد هذا القول -وإن قال به مثل أبي علي الفارسي- قالوا: هذا ليس ببدل اشتمال، فابن القيم يرد عليه، ويقول: هذا يمكن أن يكون على حذف مضاف، يعني: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ أخدود النارِِ ذات الوقود، فيكون بدل كل من كل: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ أخدود النار، فحذف المضاف، ويكون الجر هنا على اعتبار: أنه مضاف إليه، وليس لأنه بدل اشتمال، فالجر على أنه: أخدود النار، وهذا يحتمل، والأصل: عدم التقدير، لكن هكذا قال ابن القيم -رحمه الله.
قوله تعالى: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، الوَقود بالفتح يعني: ما توقد به، يعني: ذات الحطب الجزل الذي تسعر به النار، أما الوُقود بالضم فهو التوقد، أي: الفعل نفسه، مثلما نقول: سَحور وسُحور، فالسَّحور هو: ما نأكله، والسُّحور هو: نفس العملية، ونقول: وَضوء ووُضوء، فالوَضوء هو: الذي نتوضأ به، وهو: الماء، والوُضوء هو: الفعل، فهل هي هنا: النار ذات الوُقود بالضم أو الوَقود بالفتح؟ هي: الوَقود بالفتح، أي: ما توقد به النار.
قوله: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، من هم الذين عليها قعود، هل هم من حُرقوا بالنار، أو من قاموا بالحرق؟ أي: هل هم الكفار أو المؤمنون؟ هم الكفار، ماذا يفعلون؟ يتفرجون، ويلقون الناس، فهم يجلسون على حافة الأخدود ينظرون، ويتمتعون بهذه الأعمال المنكرة، وتعذيب هؤلاء المؤمنين، وهم أهل بلد كامل ألقوهم في النار، ففي الروايات وهي مأخوذة من بني إسرائيل: أن العدد بلغ عشرين ألفًا، والعشرون ألفاً في ذاك الوقت كثيرة جدًّا، فهم أهل البلد الذين آمنوا في قصة الغلام، فقد آمن الناس جميعًا، فلم يكن عند هذا الملك وجنوده أي تردد في إحراق أهل البلد بكاملهم، مع أنهم ما فعلوا له شيئًا، آمنوا فقط، فأحرق البلد بكاملها، وألقاهم في حفر، فبهذه الطريقة أحرقوهم، وهم يتفرجون عليهم، وجالسون على الأخدود ينظرون إليهم.
قال الله تعالى: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين، يعني: إذا كانوا يشاهدون هذا أبلغ؛ لأنه قد يأمر بذلك ولا يشاهده، ولو شاهده لتراجع من فظاعة المشهد، يُحرَق واحدٌ، ثلاثة، خمسة ثم بعد ذلك يرى شيئًا لا صبر عليه، لكن لا يُحرق أهل البلد بكاملها وهو يتفرج، ولا يحرك ذلك فيه عرقًا.
لذلك لا يرجى من أهل الإجرام، ومن أعداء الله ، لا يرجى منهم رحمة، ومن الخطأ أن ينتظر المسلمون من أعدائهم النصر، والرحمة، وأن يلتفتوا إليهم، وأن يقفوا معهم، وأن يرفعوا ما بهم من بلاء، هؤلاء يفعلون بهم أعظم من هذا، فلا يرجى، ولا ينتظر منهم إطلاقًا أدنى عون، أو مدد، أو دفع، أو نفع، وأنا أستغرب غاية الاستغراب ممن ينتظر من أعدائه أن يعينوه، وأن ينصروه، وأن يمدوه، والعجيب: أن بعض هؤلاء الناس وإن تطاول الزمان على البلاء، ورأوا من الأعداء ما رأوا، إلا أن آمالهم لا تنقطع، بينما قد تنقطع آمال بعض الذين يبتلون ولم يكن لهم من الإيمان ما يحصل لهم معه به الصبر، قد تنقطع آمالهم من الله، وييأسون، ويقولون: أين النصر؟ لماذا ينزل هذا كله بنا؟ ولا ييأسون من أعداء الله أن ينصروهم، فقوله تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
على كل حال، من أهل العلم من يقول: إن قوله: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: أنهم يشهدون بذلك يوم القيامة، أي: أنه من الشهادة، وفسره ابن كثير -رحمه الله- بالحضور، وهذا في الواقع يتضمن الشهادة، فهو شيء شاهدوه، ولا يستطيعون إنكاره، والتنصل منه.
فيما يتعلق بهذه الجملة: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الواحدي يعزو للمفسرين أن قول جميعهم: إن "قُتِل" بمعنى: لُعن، مع أن هذا ليس محل اتفاق، لكن من قالوا بذلك كأنهم بنوه على أن الجملة الدعائية لا تكون جواب قسم، وهذا ليس محل اتفاق أيضاً، مع أن ابن القيم -رحمه الله- يرى أن هذا ليس بجواب للقسم أصلاً، فتفسيره باللعن ليس محل اتفاق، ولا يوجد ما يلجئ إليه.
مع أن بعض أهل العلم قال: إن الجواب غير هذا تمامًا، وإنه مذكور أيضاً، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [سورة البروج:10]، بعضهم يقول: هذا هو جواب القسم، وبعضهم يقول: جواب القسم: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [سورة البروج:12]، وهذا قول المبرد، لكن هذا فيه بعد؛ لطول الفصل -والله أعلم، لكن تقديره: لتبعثن هذا قال به بعض الأئمة مثل ابن الأنباري، فقال: إنه موجود ومقدر، وآخرون مثله كأبي حاتم السجستاني صاحب الغريب، وبعضهم يقول: الكلام فيه تقديم وتأخير، أي: قُتل أصحاب الأخدود، والسماء ذات البروج، وهذا خلاف الأصل، فإن الأصل في الكلام الترتيب، والله أعلم.
هنا في قوله تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ قعود هنا فسر بالحضور، كما يقوله ابن كثير، وابن جرير، أي: قعود على حافة الأخدود، وقوله: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، يقول هنا: شهود أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين، وبعضهم أيضاً يفسر هذا بالحضور، لأن المشاهدة تقتضي الحضور، فهو بمعنى: الحضور؛ لأنه لا يشاهِد إلا إذا كان حاضرًا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وبعضهم يقول: شهود يعني: يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه فعل وفعل وفعل، يعني: كل واحد يشهد للآخر، فيشهد بعضهم لبعض على ما فعلوا من هذا الإجرام، أي: يفتخرون به، ويتقربون، ويعتزون بهذا، ولكن هذا فيه بعد، يعني: هؤلاء يقولون: إنهم يريدون أن يبينوا له أنهم لم يقصروا فيما أمرهم به.
انظر إلى الجمع بين العزة والحمد في هذا المقام، يعني: هؤلاء أحرقوا أولياءه، والله قادر على استنقاذهم، والله -تبارك وتعالى- محمود على أفعاله وأحكامه الشرعية والقدرية، وقدر عليهم هذا، فالله -تبارك وتعالى- لا يصدر عنه إلا ما يحمد عليه، أو ما يقتضي الحمد، ولكن الله يمهل ولا يهمل، والحياة هذه حياة قصيرة، معاييرنا فيها ناقصة، معايير البشرية، فقد يقول قائل: لماذا الله يمكّن هؤلاء المجرمين من أهل الإيمان، يفعلون بهم كل هذا، ينتهكون الأعراض، ويسفكون الدماء، ويتطاول البلاء، ولا ينزل العذاب بهؤلاء، بل قد لا يزدادون إلا قوة وتمكينًا؟
نقول: المقاييس عند الله ليست كالمقاييس التي عند البشر، نحن نحسب ونقيس الأمور بالمدد القصيرة التي نعايشها، وما عمر الإنسان بالنسبة لهذا السجل الطويل في التاريخ؟! فالذي عاش في أيام الحروب الصليبية، وحين دخلوا المسجد الأقصى، وخاضت الخيل إلى الركب في الدماء، والذين عاشوا أيام التتار لما قتلوا الخليفة في بغداد، وقتلوا في ذلك الوقت في بعض التقديرات ما يزيد على المليون، وفي بعضها أكثر، وفعلوا الأفاعيل، ولما جاءوا إلى بلاد الشام فعلوا الأفاعيل، استباحوا دمشق، وجمعوا النساء والأطفال في المساجد، فكانوا ينتهكون الأعراض في الجوامع، ويفجرون بالصبيان وبالنساء أمام ذويهم، وقتلوا الرجال، ثم أباحوها لعبيدهم، يعني: الشبيحة كما يقال الآن للناس الذين يأتون مع الجيش، أباحوها لهم ثلاثة أيام، فعاثوا بها فسادًا، فلا ترى إلا صبيًّا يسير في الطرقات ليس له أحد، يهيم على وجهه، ثم أحرقوا دمشق، فضلاً عن حلب، وما فعلوا بها، وبغيرها، هذا حصل أيام التتار، فالذي عاش تلك الأيام يقول: كيف يمكّن هؤلاء التتر من هذا كله؟
أنا أقول لك الان: ائتني بتتري واحد، من منكم يعرف تتريًّا؟ من منكم رأى تتريًّا؟ هؤلاء الذين في تترستان سألت كثيرين منهم، فقد كانوا يأتوننا في الجامعة الإسلامية طلاباً، فكانوا ينفضون ثيابهم ويقولون: لسنا التتر، يقولون: والذي سمانا بذلك -أظن قالوا: ستالين أو لينين، قالوا: أراد أن يشوه سمعتنا، فقال: أنتم تترستان، أنتم التتر، يقولون: ولسنا التتر، وهم مسلمون.
فالتتر الذين غزوا بلاد المسلمين من منكم رأى تتريًّا واحدًا منهم؟ هل فيكم أحد رأى تتريًّا واحدًا؟ أين هم الآن؟ تبخروا، أين قوتهم؟ من منكم رأى سيفًا لأحد منهم، أو رمحًا، أو جملاً، أو فرسًا؟ لا شيء، انتهوا، بعضهم دخلوا في الإسلام وصاروا يجاهدون في سبيل الله، وبعضهم بقوا على الوثنية، وبعضهم خلطوا بين الإسلام ووثنياتهم.
فالمقصود أنهم انتهوا، وبقي دين الله ، لكن الذين عاشوا تلك الفترة لربما انقطع صبر بعضهم، وقل مثل ذلك في زمن فرعون، أين فرعون الآن؟ من يأتي بخاتم، أو بقطعة من حلي، أو بأدنى شيء، ولو قطعة من خزف من بقايا فرعون؟ أين قصور فرعون؟ لا شيء، لا شيء أبداً، وكذلك ثمود وعاد، أين ثمود؟ أين عاد؟ أين هؤلاء جميعًا؟ ذهبوا، وبقي الحق، وبقي دين الله.
فالمعيار هو هذا، قال الله تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف:128]، والله قال عن عيسى ﷺ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، هذا الظهور متى؟ قال الله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14]، متى كان هذا الظهور للذين آمنوا؟
الراجح من أقوال المفسرين: أن هذا كان بعث النبي ﷺ، وإلا فالنصارى منذ عهد المسيح -عليه الصلاة والسلام- ما كان لهم قوة وتمكين، لكن العاقبة للتقوى وللإيمان، فلا يقاس هذا بسنة وسنتين وثلاث وسبع وعشر وعشرين وثلاثين، لا يقاس بهذه الطريقة، العاقبة لأهل الإيمان، والعاقبة للتقوى، فنصر الله ووعده لا يتخلف، لكن صبر الناس يقل ويضعف.
على كل حال، انظر إلى ذكر هذين الاسمين: "العزيز الحميد"، فعزته تقتضي القدرة، والقوة، ومنع هؤلاء المعتدين، وإنزال العذاب بهم، ولكن الله مكنهم من المؤمنين لحكمة، فهذه الحياة التي عاشوها، ودخلوا فيها في هذه النار، وفي هذا الأخدود لا تساوي شيئًا أمام ما انتقلوا إليه؛ لأنهم مباشرة انتقلوا إلى جنات ونهر، لكن ما حال الذين حفروا لهم هذه الأخاديد؟
بعض المؤرخين وبعض المفسرين يقولون: إنهم تساقطوا أصلاً فيها، كما سيأتي عند قوله: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج:10]، يقول: الحريق في الدنيا؛ لأنهم سقطوا في الأخدود، واحترقوا، هكذا يقول بعضهم، ونهايتهم مهما طالت أيامهم، ومهما عاشوا بعدها، نهايتهم النار، والعذاب، فأي الفريقين يحكم لهم فعلاً بالسعادة الحقيقية؟ من هم: الذين أُحْرِقوا، أو الذين أَحْرَقوا؟
الجواب: قطعًا الذين أُحْرِقُوا هم السعداء، والذين أحرقوهم هم في عذاب في البرزخ، وعذاب في النار، ويصيحون كل يوم: ربِّ لا تقم الساعة، ربِّ لا تقم الساعة، مع ما هم فيه، -نسأل الله العافية، فهذه المعايير الصحيحة الحقيقية، وليست معايير قصيرة مادية ينقطع عندها الصبر، هذا في كل شيء.
وانظر إلى موسى ﷺ، وما أعطاه الله -تبارك وتعالى، نعمْ قبل أن يوحى إليه، لكن أيضاً الله يختار أفضل أهل ذلك القرن، يصطفيه للنبوة، فموسى ﷺ يذهب إلى مدين شريدًا طريدًا، ويبقى عشر سنين يرعى غنماً مهراً لامرأة، يبقى عشر سنوات يرعى غنمًا، إنسان بهذه المثابة، وبهذه الأوصاف، وبهذه الكمالات، ولكن المعايير عند الله تختلف.
وانظر إلى يوسف ﷺ يدخل في السجن، ويجلس بضع سنين بتهمة، ويباع قبل ذلك، لا شك أنه أعطاه الله من أنواع الكمالات ما لا يقادر قدره، ومع ذلك يبقى في السجن مع مجرمين هذه المدة الطويلة، والناس أحوج ما يكونون إليه، فالمقاييس والمعايير عند الله تختلف عن المعايير عند أهل الدنيا من النظرة المادية المحضة؛ ولهذا فإن الله عليم حكيم، وما يقدره لأهل الإيمان فهو خير لهم، وأعظم تهمة وأبشع وأقبح تهمة وجهت لأهل الإيمان كانت في عصر النبي ﷺ هي: قصة الإفك[4]، ومع ذلك قال الله فيها: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة النور:11]، فهذه إذا قال الله فيها: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فما دونها كذلك، فما يجريه الله : تظهر به حقائق الأشياء، ويعرف المحق من المبطل، ويكون فيه رفع الدرجات وتكفير السيئات، والله المستعان.
ثم قال تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، من تمام الصفة: أنه المالك لجميع السموات والأرض، وما فيهما، وما بينهما.
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض، ولا تخفى عليه خافية.
يعني: إذا كان بهذه المثابة: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فنواصيهم بيده، سواء كانوا من أهل الإجرام، كهؤلاء الذين أحرقوهم بالنار، أو كانوا من أهل الإيمان، كالذين استضعفوا وأحرقوا، فالنواصي بيده، وهو قادر على إنقاذهم، فله ملك السموات والأرض، والمُلك يدخل فيه التصرف المطلق، وكل شيء هو يملكه .
ثم هو أيضاً لا يغفل، ولا يغيب، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
إذًا: لماذا الأذهان تتفرق، ويضعف صبر المؤمن، وكل شيء بيده، وهو حاضر لا يغيب عما يفعله خلقه، وهو فوق عرشه وسماواته ، يعلم أعمالهم، ويطلع عليهم، فبصره نافذ فيهم، وهو عزيز وحميد؟! فهذه الأوصاف كافية لبناء القلب بناء إيمانيًّا صحيحًا، فيفوض العبد أموره إلى ربه -تبارك وتعالى، ويعلم أنه لن يضيعه، وأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له -والله أعلم.
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، رقم: (3005).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، رقم: (2842).
- أخرجه أبو داود، تفريع أبواب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، رقم: (1047)، والنسائي، كتاب الجمعة، إكثار الصلاة على النبي ﷺ يوم الجمعة، رقم: (1374)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب في فضل الجمعة، رقم: (1085), وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 440)، رقم: (2212).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النور:12] إلى قوله: الْكَاذِبُونَ [سورة النور:13]، رقم: (4750)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم: (2770).