بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [سورة البروج:4]، بمعنى: لُعن، أو أنه دعاء عليهم بذلك، وأصحاب الأخدود هم: الذين خَدُّوا الأخاديد، أي: حفروها، وأضرموا فيها النار، وأحرقوا أهل الإيمان، والأخدود: حَفير في الأرض.
قوله: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [سورة البروج:5] هذا يرجع إلى الأخدود، أي: أخدود النار، أو أنه ذكر بعض ما اشتمل عليه الأخدود، وهو: النار.
قوله: ذَاتِ الْوَقُودِ [سورة البروج:5] أي: الحطب الجزل الذي تسعر به.
قوله: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [سورة البروج:6]، المقصود بذلك: أهل الإجرام ينظرون إلى هؤلاء الضحايا من المؤمنين ممن يحترقون في هذه النار.
قوله: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [سورة البروج:7]، أي: حضور يشاهدون ذلك، أو أنهم يشهدون على أنفسهم بفعلهم هذا، ولا يستطيعون جحده وإنكاره.
قوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج:8]، يعني: لم يكن لهؤلاء جناية إلا أنهم آمنوا، فما نقموا منهم جناية وفعلاً يعاقبونهم عليه بهذه العقوبة سوى أن هؤلاء آمنوا بالله، العزيز: الذي لا يغالب، ولا يمانع، وهو الحميد: المحمود على أوصافه الكاملة، وفي هذا تطمين للنفوس، وجواب عن سؤالات المتعجلين: لماذا لم ينزل الله بطشه بهؤلاء المجرمين؟ ولماذا لم يخلص هؤلاء المؤمنين حتى صاروا لقمة سهلة سائغة يحرقون بالنار ويقتلون بهذه الطريقة البشعة؟ فالله عزيز قادر على أخذ هؤلاء، وعلى تخليص هؤلاء، وأفعاله جارية على سنن الحمد، فليس فيها ما يعاب، ولكنه عليم حكيم.
قوله: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة البروج:9] أي: كل نواصي الخلق بيده، وما في هذا الكون تحت تصرفه.
قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة البروج:9] أي: مشاهِد، لا يغيب عنه شيء، يرى جرم هؤلاء المجرمين، ويرى حال أولئك المستضعفين، فلم يغفل عنهم، وما حصل ذلك في لحظة اشتغال عن هؤلاء، أو نحو ذلك مما يحصل للمخلوقين، ولكن الله مطلع على ذلك كله، حاضر لا يغيب، وهو فوق سماواته، على عرشه .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين، وللمسلمين أجمعين.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: وقد روى الإمام أحمد، عن صهيب : أن رسول الله ﷺ قال: كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إليّ غلامًا؛ لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا، فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب، فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر.
قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها، فقتلها، ومر الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني، أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، وسائر الأدواء، ويشفيهم.
وكان للملك جليس فعمي، فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله ، فإن آمنتَ به دعوت الله فشفاك، فآمن، فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملكَ، فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رد عليك بصرك؟
فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه، فقال: أي بني، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟
قال: ما أشفي أحدًا، إنما يشفي الله ، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أوَلك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب.
فأتي بالراهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدُهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟
قال: كفانيهم الله تعالى، فبعث به مع نفر في قُرْقُور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.
ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضمرت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها، ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه، فإنك على الحق، وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح[1].
وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر فيها مخالفة لما تقدم، ثم قال ابن إسحاق بعد أن بين أن أهل نجران صاروا بعد قتل الغلام على دينه، دين النصرانية، قال: فسار إليهم ذو نُوَاس بجنده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله ﷺ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة البروج:4-9].
هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة: أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو: ذو نُواس، واسمه: زُرْعة، ويسمى في زمان مملكته: بيوسف، وهو: ابن تبان أسعد أبي كرب، وهو: تُبَّع الذي غزا المدينة، وكسا الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهوُّد مَن تهود من أهل اليمن على يديهما، كما ذكره ابن إسحاق مبسوطًا، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفًا، ولم ينجُ منهم سوى رجل واحد، يقال له: دوس ذو ثعلبان، ذهب فارسًا، وطردوا وراءه، فلم يقدروا عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشًا مع نصارى الحبشة، يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هاربًا، فلجج في البحر، فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى، لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون، فكانوا قريبًا من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير، وسنذكر طرفًا من ذلك -إن شاء الله- في تفسير سورة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [سورة الفيل:1].
هذه الواقعة وتفاصيلها من أولها تدل على حكمة الله ، وإحاطته، وتدبيره، فانظر كيف بدأ هذا الأمر بهذه البداية، وهو: طلب الساحر من يخلفه في تعلم السحر، فجيء بهذا الغلام، فكانت البداية مكروهة، وهي: إمعان في الضلالة والغواية، ولكن الله -تبارك وتعالى- عليم حكيم، فالناظر لأول وهلة يكره مثل هذا، ولربما يصيبه اليأس؛ لتطاول ليل هذا الساحر وذلك الملك الذي كان يسترقّ الناس بسحر هذا الساحر، ثم ما قيضه الله من وجود هذا الراهب، ثم بعد ذلك تحول هذا الأمر في حال هذا الغلام إلى إيمان ودعوة، بخلاف ما كانوا يعدونه له من الكفر والضلال والإضلال، فصار ذلك بعكس مقصودهم، والله عليم حكيم، فكانت بداية ذلك ما قيضه الله من هذه الدابة التي قتلها هذا الغلام لما دعا بهذا الدعاء، فكان ذلك تثبيتًا ليقينه، بحيث لا يصبح عنده أدنى تردد، ثم بعد ذلك ما حصل لهذا الأعمى من رد الله بصره بسبب دعاء هذا الغلام.
هذا الابتلاء الذي وقع لهؤلاء هو في ظاهره مكروه، ولكن في مضامينه العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، فهؤلاء بمجرد ما يقتل الواحد منهم ينتقل إلى جنات ونهر، وأما في الدنيا فإن ذلك لا يقاس بحياة زيد أو عمرو، فقُتل الأعمى، وقتل الراهب، ثم بعد ذلك هذا الغلام قدم نفسه أيضًا، وعلّم الملك كيف يستطيع قتله، لكن بهذه الطريقة التي أعمى الله بها هؤلاء الكفار عما تتضمنه من إغراء الناس بالإيمان، وهكذا شدة البغض، والعداوة، وكراهية الحق تعمي الإنسان، وتصمه.
يعني: هؤلاء رأوا هذه الآيات، ورأوا كيف يحصل على يد هذا الغلام من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، ويضيف ذلك إلى الله، وما حصل ابتداء من قتل الدابة بعد هذا الدعاء، كل ذلك لم يؤمنوا معه، ثم بعد ذلك لما ذهبوا به إلى رأس جبل، فسقطوا، فلم يكن ذلك سببًا للرجوع، أو التفكير في الحق الذي معه، ثم بعد ذلك في هذه السفينة العظيمة القُرقور، فغرقوا، ونجاه الله ، وجاء يمشي، فما كان ذلك داعيًا لهم إلى مجرد التفكير، فضلاً عن الإيمان، ولكن الإصرار إلى النهاية.
ثم بعد ذلك أعلمهم بهذه الطريقة التي يستطيعون قتله فيها، فلم يتفطنوا لما في مضامينه من خلاف مقصودهم، ولكنهم ممعنون في غوايتهم، وضلالتهم، فوضع السهم، وقال: بسم الله رب الغلام، فقتله، وقبل ذلك لم يستطع هؤلاء الجنود أن يلقوه من رأس الجبل، ولا أن يغرقوه في البحر، فالناس جميعًا آمنوا.
ثم هذا الإيمان كان في حال من القوة والثبات حتى آثروا الموت والقتل بهذه الطريقة: الإحراق بالنار على الحياة، فكانوا يتدافعون فيها، يعني: يأتون طواعية، ويلقون أنفسهم في غاية الصبر والثبات، وانظر كم مضى على إيمانهم؟ ساعات أو أيام، ومع ذلك كانوا في غاية الصبر، ما تلقوا دروسًا كثيرة، وما قرأوا كتبًا كثيرة، فكانوا يتدافعون كبارًا وصغارًا، رجالاً ونساء، وأنطق الله هذا الغلام الرضيع، ولم يكن هذا سببًا لرجوع المجرمين، أو إلى تحرك قلوبهم؛ لأنهم لا يبحثون عن الحق أصلا، وهكذا إذا طمست البصائر، وأعمى الله القلوب، وختم عليها وطبع، عند ذلك لا تنتظر إفاقة، ولا تنتظر تراجعًا، إنما هو إمعان في الغي إلى الهلاك، فهؤلاء كانوا يتدافعون في النار.
هذا الثبات يُذكِّر بثبات السحرة الذين جاء بهم فرعون، فكانوا في البداية في حال طمع، يسألونه: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [سورة الشعراء:41]، فيعدهم بذلك، ويقول: نعم، ويعدهم بأن يكونوا من المقربين أيضاً منه، ثم في لحظة حينما تبين لهم وتكشف أن هذا ليس من قبيل السحر، مباشرة ألقوا ساجدين، والإلقاء يعني: السجود بقوة، قال الله: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأعراف:120-122].
قالوا هذا أمام فرعون الذي يخافون منه، ولربما ما رأوه قبل ذلك، وما يجترئون على مجرد النظر إليه، ويقولون بهذه الجرأة والقوة، وهو يقول: أنا رب العالمين، فهذا من أعظم الثبات، فلما هددهم وتوعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل، وأن يصلبهم في جذوع النخل، قال: "في جذوع النخل"، كأنه لشدة الربط يدخل الواحد منهم في باطن الجذوع؛ ولذلك عبر بـ"في"، ولم يقل: على جذوع النخل، والنخل جذوعها معروفة، فالصلب عليها آلمُ ما يكون، ليست كبقية الأشجار، فاختار لهم جذوع النخل، فماذا قالوا؟
لم يبالوا بهذا التهديد، قالوا: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طه:73]، وقالوا له: افعل ما شئت، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [سورة طه:72]، يعني: هذه المخاطبة لا تحصل إلا من ثبات عظيم، ما تراجعوا، أو تلمسوا الرخص، كان بالإمكان لهؤلاء وهم في حال من الإكراه أن يتكلموا بكلام يكون لهم فيه مخرج، ولكن لا، فثبتوا هذا الثبات العظيم مع أنهم سحرة، أحط الناس وأسفل الناس؛ لأنه أتى بكل سحار عليم، أي: ممعن في السحر، عالم بالسحر، ولا يصل الإنسان إلى هذه المستويات السفلى جدًّا في السحر إلا أن يكون قد انخلع من الإنسانية، والكرامة، والدين، والإيمان، فصار في أسفل سافلين، فالساحر يكون حذقه وقدراته في السحر أعظم إذا كان أبعد وأحط مرتبة، ومع ذلك انظر إلى هذا الثبات، وهذا الجواب الذي لا ينقضي منه العجب، من أين تعلموا هذه المعلومات، ومصير المجرمين، ومصير المؤمنين؟ فهذا ما يفعله الإيمان بالنفوس، حينما يتمحض فيها فهو يفعل هذا الفعل.
المقصود: أن هذا التدبير، أعني: تدبير الله -تبارك وتعالى- أفضى إلى إيمان الناس جميعًا، فالله عليم حكيم، ثم بعد ذلك إلى قتل هؤلاء بهذه الطريقة، فهذا الذي استجاب للغلام في قتل دابة، واستجاب له لما دعا للأعمى، واستجاب له حينما كان يدعو للناس، فيبرئ الأعمى والأبرص إلى آخره، واستجاب له حينما وضعوه في ذروة الجبل، واستجاب له وهو في لجة البحر، ألم يستجب لهؤلاء الذين يحرقون؟! الله لم يكن غائبًا عن ذلك كله، ولكن له حكمة بالغة عظيمة، تتقاصر دونها أنظار المتعجلين، فالله عليم حكيم، فبعض الناس يقول: ندعو ولا يستجاب، يقال: الله عليم حكيم، وتدبيره خير من تدبير العبد لنفسه.
يقول: "فبعث به مع نفر في قُرقور"، القرقور هي: السفينة العظيمة، وحينما وقع السهم في صدغه، الصدغ هو: جانب الوجه، ما بين العين والأذن هذا يقال له: الصدغ، صدغ الإنسان هذا، فوضعه فيه فقتله.
بصرف النظر عن اسم هذا الملك، هل هو زرعة أو غير ذلك هنا يقول: إنه هو: تُبَّع الذي كان قد جاء إلى المدينة، وتُبَّع الذي يذكر في التاريخ أنه جاء إلى المدينة قد مضى الكلام عليه، حيث كان هذا يطوف في البلاد، فلما قاومه أهل المدينة حينها أراد أن ينتقم منهم، فكلمه حبران من اليهود أن هذه مهاجر نبي، وأنه لن يقدر عليها، فأعرض عنها، وانصرف، وأخذ الحبرين معه، ثم بعد ذلك توجه إلى مكة، وفي طريقه مر على نواحٍ من البلدان.
الآن لمّا تقرءون في معجم البلدان مثلا، وتقرءون طريق مكة، هناك مكان يبعد عن المدينة بأربعين كِيلاً على طريق مكة اسمه: وادي مَلل، كل مسمى له من اسمه نصيب، إذا بقيت في هذا الوادي تشعر بالملل، فرجعت إلى معجم البلدان، ونظرت لماذا سمي بوادي ملل، وهو يصدق فعلاً عليه أنه هكذا، يقولون: إن تُبَّعًا نزل فيه، فمل، فقيل له: وادي ملل -والله أعلم.
فانطلق إلى مكة، فقال له الحبران: هذه البلدة فيها كعبة الله، وبيته، وإنك لا تسلط عليها، فكساه، ثم بعد ذلك رجع إلى اليمن، وأخذ معه هذين الحبرين، وأن ذلك كان سببًا لدخول اليهودية في بلاد اليمن، هكذا يقول المؤرخون، وقد مضى الكلام على تُبَّع، وما ورد فيه من الأحاديث، وتوقُّف النبي ﷺ فيه في أول الأمر، ثم بعد ذلك ذكر حكمه.
يقول: "لم ينج سوى رجل واحد يقال له: ذو ثعلبان، ذهب فارسًا"، يعني: ركب على فرس، فلم يقدروا عليه، يقولون: سلك طريق الرمل، وذهب إلى قيصر، باعتبار أنه من النصارى، وهو: ملك الروم، وأن قيصر قد اعتذر إليه ببعد هؤلاء عن مملكته، وقال: لكن سأكتب إلى ملك الحبشة -لأن الأحباش في ذلك الوقت على النصرانية، فكتب إلى ملك الحبشة، وحصل بعد ذلك ما حصل من إرسال جيش من الحبشة، يقول هنا: يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، فظاهره هنا: أن هؤلاء كانوا على دين اليهودية، وأن هذا الملك كان من اليهود، لكن هذه أخبار في التواريخ الله أعلم بصحتها، لاسيما أنه كان يقول لهم: ألك رب غيري؟ واليهود يؤمنون بالله، فهذا ظاهر أنه كان يدعي الربوبية، -فالله أعلم.
يقول: ثم استنقذه سيف بن ذي يزن.
على كل حال، قصة الغلام والراهب، وقصة أصحاب الأخدود فيها عبر كثيرة لابد أن يستفاد منها.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، قال: "حرقوا، قاله ابن عباس.." إلى آخره، الفَتْن: يطلق على الاختبار؛ ولهذا يقال للإحراق بالنار، وعرض المعادن على النار؛ ليتبين خالصها من زيوفها، يقال له: فتن، يقال: فتنتُ الذهب على النار، يعني: امتحنته، واختبرته؛ لأخلصه، أي: ليميز الخالص من الشائب، فهذا يقال له: فتن، إذًا الحرق بالنار هو: فتن بهذا الاعتبار، والاختبار فتن، ويقال لنتيجة الاختبار أيضًا فتن، قال الله: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [سورة الذاريات:14]، فهذا في النتيجة.
فهنا قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يعني: أحرقوهم بالنار، فهم فعلاً أحرقوهم حرقًا حسيًّا بالنار، وهذا الحرق هو فتن من الناحيتين: الحرق بالنار يقال له: فتن، ونتيجته أي: ما يحصل فيه من التميز أيضًا يقال له: فتن؛ ولهذا ابن جرير عبر عنه بقوله: إن الذين ابتَلَوا، يعني: اختبروا، فالابتلاء يقال له: فتنة، قال الله: وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت:2]، أي: لا يمتحنون، ولا يختبرون.
فهنا ابن جرير يقول: إن الذين ابتلوا المؤمنين والمؤمنات بالله بتعذيبهم بالنار، فهم امتحنوهم في إيمانهم، والله يقول: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191]، وهنا يقول: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فإذا قلت: أحرقوهم بالنار فلا إشكال، وإذا قلت: أنزلوا بهم هذا الابتلاء فلا إشكال، فهذا كله صحيح.
مَن هؤلاء الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات؟ هم أصحاب الأخدود، هذا الذي عليه عامة المفسرين سلفًا وخلفًا، مع أن ابن عاشور حمل ذلك على قريش، فيقول: بعدما ذكر الله -تبارك وتعالى- أصحاب الأخدود توعد قريشًا الذين يمتحنون ويفتنون أهل الإيمان بمكة، فعذبوا بلالاً وعمارًا وياسرًا وسمية وغير هؤلاء -رضي الله عنهم وأرضاهم- فيقول: هذا الخطاب موجه إلى قريش، والصحيح أنه لا زال الخبر متصلاً بأصحاب الأخدود، ويدخل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يدخل فيه: كل من كان بهذه المثابة.
لكن كأن الذي حمل ابن عاشور -رحمه الله- على هذا القول: أنه قال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، وهذا خطاب لهم، فأولئك من أصحاب الأخدود قد انقضوا وماتوا وهلكوا، فليس للتوبة مجال بالنسبة لأولئك، فهو نظر إلى أن هذا خطاب لأهل مكة، وأن الله -تبارك وتعالى- يرجيهم بالتوبة، ويوجههم إليها، فقال ذلك بهذا الاعتبار.
ويمكن أن نقول: لا يلزم من ثُمَّ هذه أن يكونوا أحياء، وأن هذا ترغيب لهم بالتوبة، أو توجيه إلى التوبة، وإنما ذلك عطف خبر على خبر، فهو يخبر عنهم أنهم فعلوا هذا، ثم لم يتوبوا بعدها، وهذا هو الأقرب، والله أعلم.
قوله: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج:10]، يقول ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل، أحرقوهم بالنار، فقال: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ، والذي عليه عامة المفسرين: أن عذاب جهنم وعذاب الحريق هو: عذاب النار، فهذا وعيد لهم في الآخرة، إلا أن بعض المفسرين -واختاره ابن جرير- قالوا: لهم عذاب جهنم في الآخرة، وعذاب الحريق في الدنيا، من أجل ألا يكون ذلك من قبيل التكرار، باعتبار القاعدة وهي: أن التأسيس مقدم على التوكيد.
فابن جرير مثلاً يقول: هذا في الدنيا، وبهذا يقول الربيع بن أنس، على أي أساس؟ وعلى أي: اعتبار؟ على اعتبار أنهم بعدما أحرقوا أهل الإيمان سقطوا هم في النار، وأحرقتهم، فالله تعالى أعلم، نحن ليس عندنا شيء يثبت هذا: أنهم فعلاً احترقوا في تلك النار التي أوقدوها، والعلم عند الله ، وبعض العلماء الذين يقولون: في الآخرة، يقولون: هذا ليس من قبيل التكرار المحض، وليس من قبيل التوكيد.
فقوله: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ أي: عذاب النار المعروف، وقوله: وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ أي: عذاب زائد على كفرهم، وهو: عذاب الحريق الذي وقع منهم، فيكون عذاب الحريق يعني: الذي فعلوه هم بأهل الإيمان، يعني: لهم عذاب جهنم، ولهم عذاب آخر في الآخرة جزاء الحريق الذي صدر منهم، فيكون عذاب الحريق ليس اسمًا لعذابهم في النار، ولكن لهم عذاب في النار جزاء عذاب الحريق الذي عذبوا به أهل الإيمان، ومعروف أن أهل النار يتفاوتون في العذاب بحسب جناياتهم، فالنار دركات، قال الله: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ [سورة الحجر:44]، أعاذنا الله وإياكم، ووالدينا، وإخواننا، والمسلمين منها.
وبعضهم يقول: هذا اسم من أسماء النار، أي: الحريق، كجهنم، ولظى، وغير ذلك، وأما الربيع وابن جرير والكلبي فقالوا: هذا الحريق وقع لهم في الدنيا، أُحْرِقوا بالنار التي في الأخدود، قالوا: هذه النار ارتفعت لما أحرقوا فيها أهل الإيمان فأحرقتهم، -فالله أعلم.
قوله: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي: لم يقلعوا عما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا.
فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ، وذلك أن الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
هذه من آيات الرجاء بلا شك، والعلماء تكلموا في أرجى آية في القرآن، ولا شك أن هذه الآية من أعظم الآيات ترجية، قوله: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، يعني: فعلوا هذا الفعل الشنيع ومع ذلك يقول: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، وقد لا تكون هذه دعوة للتوبة، وإنما هو مجرد خبر عنهم، ولكن لا شك أن التوبة تتوجه إلى أعتى العتاة، وأكثر الناس إجرامًا، ففرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، أرسل الله إليه موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام، وأمرهما بالرفق به؛ لعله يتذكر أو يخشى، فلو حصل له هذا التذكر والخشية والإيمان فإن الله يقبل توبة من تاب وآمن، فإن الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [سورة البروج:11، 22].
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم؛ ولهذا قال: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ.
هذا الوعد عام لأهل الإيمان الذين عملوا الصالحات، ويدخل في ضمن هؤلاء أهل الإيمان الذين أُحرقوا في الأخدود، لكن هذه الآية لا تختص بهم، وكثيرًا ما تورد هذه الآية على أن ذلك يتعلق بأصحاب الأخدود، فيقال: انظروا أُحرقوا بالنار ثم عاقبة ذلك: الفوز الكبير، يعني: كأن هذا الإحراق بالنار هو الفوز الكبير.
أقول: لا شك أن القتل في سبيل الله فوز كبير، ونحن كلنا نعرف ذلك، وفي السيرة قال أحدهم: فزت ورب الكعبة، لما دخل الرمح من ظهره، وخرج من بين ثدييه، فتلقى الدم، وقال: فزت ورب الكعبة، فهذا فوز عظيم، وشهادة في سبيل الله، ولكن الآية هنا هي وعد لأهل الإيمان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا تختص بهؤلاء الذين أُحرقوا، ولكنهم من جملة من يدخل فيها، فكثيرًا ما نسمع هذا الإيراد والاستشهاد، فيقولون: انظروا أُحرقوا في النار ثم عاقبة ذلك: الفوز الكبير، فالإحراق بالنار فوز كبير، فيقال: نعم، ولكن الآية ليست بهذه الصفة أو المعنى الذي فهمته.
ثم قال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي: إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كَذَّبوا رسله وخالفوا أمره لشديد عظيم قوي، فإنه تعالى ذو القوة المتين، الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر، أو هو أقرب.
البطش هو: الأخذ بعنف وشدة، قال الله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [سورة هود:102].
ولهذا قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد أي: من قوته وقدرته التامة: يبدئ الخلق، ويعيده كما بدأه، بلا ممانع، ولا مدافع.
قوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد يبدئ ماذا؟ ويعيد ماذا؟ قال: "يبدئ الخلق، ويعيده كما بدأه، بلا ممانع، ولا مدافع"، هذا قول الجمهور، وهذا هو الشائع كثيرًا في القرآن: الاحتجاج ببدء الخلق، وإيجاد الخلق ابتداء على الإعادة، ولكن هذا ليس محل اتفاق، فابن جرير يقول: يبدئ للكفار عذاب الحريق في الدنيا، باعتبار أن ابن جرير يرى: أنهم احترقوا، أي: هؤلاء أصحاب الأخدود، ثم يعيده لهم في الآخرة.
والقرينة عند ابن جرير: أن القضية لا زالت متصلة بأصحاب الأخدود، قال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، أي: يبدئ لهم العقوبة في الدنيا، ويعيدها في الآخرة، ففي الدنيا أحرقهم، وفي الآخرة يحرقهم، فهو يرى: أن الآيات هذه متصلة، مع أن هذا ظاهره العموم، فهو مشى على أن الله أحرقهم في الدنيا، ولكن -والله أعلم- هذا ليس هو المتبادر من السياق.
فقوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي: يبدئ الخلق، ويعيدهم، فهو قوي قادر على ذلك، لا يتعاصى عليه شيء، ولا يمتنع، هذا الذي ذكره ابن كثير، وبه قال الجمهور، والعلم عند الله .
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود أي: يغفر ذنب من تاب إليه، وخَضَع لديه، ولو كان الذنب من أي شيء كان.
والودود: قال ابن عباس وغيره: هو الحبيب.
الودود يعني: الواد لأوليائه، الواد لأهل الإيمان، قال الأزهري في التهذيب، وهو من الكتب التي لم تتلوث باللوثات الكلامية في اللغة ككثير من كتب المتأخرين، فالأزهري -رحمه الله- يقول: بمعنى: المودود، ففسره بعضهم: بالوادّ، يعني: أن الود يصدر منه، والود مرتبة من مراتب المحبة العالية، والود من خالص مراتب المحبة، فالأزهري يقول: بمعنى: المودود، يعني: أن عباده المؤمنين يودونه، يعني: يحبونه محبة خالصة، ومحبة عظيمة، قال الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة المجادلة:22]، فالمودة أخص من مطلق المحبة.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: الودود هو: ذو المحبة له، يعني: الذي يُحَب؛ لأن بعض أهل البدع يقولون: الله لا يُحَب، ولا يُحِب، ولا يوصف بشيء من هذا، وهؤلاء الذين يجحدون هذه الأوصاف، ويقولون: لا يضحك، ولا يرضى، ولا يغضب كيف يتعبدون الله ، وهو في نظرهم عادم لهذه الأوصاف، لا يُحِب، ولا يُحَب؟
وبعضهم يقول: يُحَب، ولكنه لا يُحِب، والله يقول: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، وقال في حق موسى ﷺ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [سورة طه:39]، وقد مضى الكلام على هذا، أي: على القولين، وكلاهما صحيح -إن شاء الله: الأول: أن الله أحبه، وهذا لا إشكال فيه، المعنى الثاني: أنه لا يراه أحد إلا أحبه، فجعل له المحبة في قلوب الخلق.
ويبعد جدًّا ما قاله إسماعيل القاضي -رحمه الله- على إمامته وفضله وعلمه، في قوله تعالى: الْوَدُودُ فقال: الذي لا ولد له، وهذا بعيد، والله أعلم.
على كل حال، الله ودود، وادٌّ لأوليائه، محب لهم، وهو أيضًا: محبوب، يحبه أهل الإيمان، فكل ذلك صحيح، ولابن القيم -رحمه الله- تعليق على هذا، يقول -رحمه الله تعالى: "ثم ذكر سبحانه جزاء أوليائه المؤمنين، ثم ذكر شدة بطشه، وأنه لا يعجزه شيء، فإنه هو المبتدئ المعيد، ومن كان كذلك فلا أشد من بطشه، وهو مع ذلك الغفور الودود، يغفر لمن تاب إليه.."[2].
انظر إلى الجمع بين الخوف والرجاء في قلب المؤمن.
يقول: "يغفر لمن تاب إليه، ويوده، ويحبه، فهو سبحانه الموصوف بشدة البطش، ومع ذلك هو الغفور الودود، المتودد إلى عباده بنعمه، الذي يود من تاب إليه، وأقبل عليه، وهو الودود أيضًا أي: المحبوب، قال البخاري في صحيحه: "الودود: الحبيب"[3]، والتحقيق أن اللفظ يدل على الأمرين: على كونه وادًّا لأوليائه، ومودودًا لهم، فأحدهما بالوضع، والآخر باللزوم، فهو الحبيب المحب لأوليائه، يحبهم ويحبونه، قال شعيب : إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [سورة هود:90]، وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور.."[4].
انظر: هذه لفتة أخرى، تبين وجه الاقتران بين الاسمين.
يقول: "وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور، فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وكذلك قد يرحم من لا يحب، والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه ويرحمه ويحبه مع ذلك، فإنه يحب التوابين، وإذا تاب إليه عبده أحبه، ولو كان منه ما كان"[5].
يقول المؤلف -رحمه الله: ذُو الْعَرْشِ أي: صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق.
والْمَجِيدُ فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب ، والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح.
ونحن عرفنا أن القراءتين إن كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فالقراءة الأولى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، برفع المَجِيْدُ، فـالعَرْشِ هنا مضاف إليه مجرور، والْمَجِيدُ مرفوع، فهو يرجع إلى الرب -تبارك وتعالى؛ لأن ذُو يعود إليه، فـذُو الْعَرْشِ يعني: صاحب العرش، فيكون الْمَجِيدُ هو: الله -تبارك وتعالى، وهذه قراءة الجمهور، والقراءة الثانية: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ، بجر المَجِيْدِ، فـالمَجِيْدِ يرجع إلى العرش، فيكون العرش موصوفًا بالمجد، وهذه الصفة هي من الأوصاف الجامعة، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الأسماء الحسنى.
والصفات الجامعة يعني: هناك مجموعة من الصفات ليس لها معنى واحد فقط، وإنما تكون من مجموع أوصاف، تدل على السعة، كالمجد يعني: السعة في الكمالات، فقراءة الجر هذه هي: قراءة الكوفيين عدا عاصم.
ولابن القيم -رحمه الله- تعليق على هذا، وقد أُكثرُ أحيانا في بعض المواضع من نقل كلام ابن القيم؛ لأنه متميز، يعني: أنا أنظر في كلام المفسرين فأجد هذا مثل الشامات، فأنقله، وإلا فكلام المفسرين كثير جدًّا، ولكن هذا مثل الشامات فيه، تأبى نفسي أن أتجاوزها دون أن أنقلها.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى: "ثم وصف نفسه بالمجيد، وهو المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها، وعدم إحصاء الخلق لها، وسعة أفعاله، وكثرة خيره، ودوامه، وأما من ليس له صفات كمال، ولا أفعال حميدة فليس له من المجد شيء، والمخلوق إنما يصير مجيدًا بأوصافه، وأفعاله، فكيف يكون الرب -تبارك وتعالى- مجيدًا وهو معطل عن الأوصاف والأفعال تعالى الله عما يقول المعطلون علوًّا كبيرًا؟ بل هو المجيد، الفعال لما يريد.
والمجد في لغة العرب: كثرة أوصاف الكمال، وكثرة أفعال الخير، وأحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد، كما قالت الملائكة لبيت الخليل : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [سورة هود:73]، وكما شرع لنا في آخر الصلاة أن نثني على الرب تعالى بأنه حميد مجيد، وشرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول: ربنا ولك الحمد، أهل الثناء والمجد، فالحمد والمجد على الإطلاق لله، الحميد المجيد، فالحميد: الحبيب المستحق لجميع صفات الكمال، والمجيد: العظيم الواسع القادر الغني ذو الجلال والإكرام.
ومن قرأ "المجيد" بالكسر فهو: صفة لعرشه سبحانه، وإذا كان عرشه مجيدًا فهو سبحانه أحق بالمجد.."[6].
وهذا القول خلافًا لمن قال: إن هذه القراءة مشكلة، وحاول أن يوجه ذلك بتكلفات، وقال: لم يعهد أصلا وصف العرش بالمجد، فانظر إلى الفهم، وكيف تقرر مثل هذه المعاني عند المحققين.
يقول: "وقد استشكل هذه القراءة بعض الناس، وقال: لم يسمع في صفات الخلق مجيد، ثم خرجها على أحد الوجهين: إما على الجوار، وإما أن يكون صفة لربك.."[7].
أي: مجرور بالمجاورة، أي: أن هذا من صفة الرب أصلاً، لكن هي مجرد حركة إعرابية؛ لأنها جاورت العرش وهو مجرور، وإلا فهي في الأصل في محل رفع عند هذا القائل.
يقول: "وهذا من قلة بضاعة هذا القائل، فإن الله سبحانه وصف عرشه بالكرم، وهو نظير المجد، ووصفه بالعظمة، فوصفُه سبحانه بالمجد مطابق لوصفه بالعظمة والكرم، بل هو أحق المخلوقات أن يوصف بذلك؛ لسعته وحسنه وبهاء منظره، فإنه أوسع كل شيء في المخلوقات، وأجمله، وأجمعه لصفات الحسن، وبهاء المنظر، وعلو القدر والرتبة والذات، ولا يقدر قدر عظمته وحسنه وبهاء منظره إلا الله، ومجدُه مستفاد من مجد خالقه ومبدعه، والسموات السبع، والأرضون السبع في الكرسي الذي بين يديه كحلقة ملقاة في أرض فلاة"[8].
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ أي: مهما أراد فعله لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقهره وحكمته وعدله، كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم، قالوا: فما قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد.
وقوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردّها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي: إذا أخذ الظالم أخذه أخذًا أليمًا شديدًا، أخذ عزيز مقتدر.
يعني: أنزل الله على هؤلاء الجنود الذين تجندوا على الله ورسله وأوليائه، أنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
فهذه السورة ينبغي أن تكون محل عناية ودراسة، لاسيما في هذه الأوقات التي لربما يحصل فيها لبعض النفوس شيء من اليأس أو الإحباط أو الشك في وعد الله بالنصر لأهل الإيمان؛ نظرًا لما يرون من الفظائع والجرائم في بلاد الشام وغيرها، فيقولون: أين نصر الله الذي وعد أهل الإيمان؟
فالله -تبارك وتعالى- بطشه شديد، وأخذه أليم، ولا تطاق سطوته، وهو فعال لما يريد، وقد فعل بأمثال هؤلاء وبأسلافهم الأفاعيل، وأنزل بهم ألوان المثُلات والعقوبات، فيقول تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ أي: هل أتاك خبر هؤلاء الذين تجندوا على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وعلى أهل الإيمان، وماذا فعل الله بهم؟
قال: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أي: كهؤلاء أصحاب القوى والقدرة، والإمكانات العالية، ففرعون يدعي الإلهية والربوبية، ليس من ضعف وفقر ومسكنة وقلة ذات يد، إنما الذي أوصله إلى هذا هو لما رأى ما وصل إليه الحال بالنسبة إليه من القوة والتمكين والغنى والجنود والجيوش الجرارة وما إلى ذلك، فأصابه الغرور، فادعى هذه الدعاوى الفجة، وكذلك ثمود هؤلاء الذين استطاعوا أن ينحتوا الجبال بهذه الطريقة التي هي مثار للعجب على مر الأجيال.
وواضح أنه لم يكن مجرد نحت حاجة، وبطريقة لربما يحصل بها بعض المقصود، إنما هو في غاية الدقة والنقش والإتقان حتى يبقى على طول هذه المدة الطويلة، نقوش وزخارف على الصخر، كأنه قُص بآلات، لا يستطيع الناس اليوم فعل ذلك، كيف ينحت هذا الصخر بهذه الطريقة، وهو أملس، ثم بعد ذلك يترك منه أشياء تجعل على شكل طيور ونقوش وإلى آخره، في واد طويل يصعب على الإنسان أن يقطعه على قدميه؟ كيف فعلوا هذا في الجبال؟
فهذا لا شك أنه يدل على أن عندهم من الإمكانات والقُدر ما لا يمكن أن يقاس معه ما كان عند أولئك من القرشيين الذين لربما أحسن أحوال الواحد منهم أن يكون عنده شيء من عُكّةٍ من السمن، أو لربما زنبيل من الرطب، وناقة، أو فرس، وسيف، فما الذي كان عند هؤلاء المساكين في مكة من المشركين الذين آذوا رسول الله ﷺ بالنسبة لما عند أولئك؟
ولا زال الناس يقفون على أشياء تدل على التمكين الذي كان في أولئك الأقوام، أيًّا كانوا، يعني: انظر الآن إلى الأشياء التي تخرج من تحت الرمال، في مثل الربع الخالي، سواء قيل: هذه إرم، أو ليست بإرم، الله أعلم، لكن لا شك أنها تدل على إمكانات هائلة، قصور تحت الرمال مبنية بطريقة عجيبة، والأفيال من حولها، وتماثيل، وكثير من الناس يظن أن الأولين لم يكن عندهم شيء، ولم يكن عندهم إمكانات، وأنهم يبنون على قدر الحاجة بيوتًا من الطين والسعف، ويذكرون العصر الحجري، والعصر البرونزي، وما علموا أن الأولين عندهم من الإمكانات ما ليس عند الناس اليوم.
فتلك القصور التي تحت الرمال لا يمكن أن تبنى من قبل قوم من البدائيين، فهؤلاء وصلوا بالقوة والقدرة والإمكانات والعلم إلى أن استطاعوا أن يصلوا إلى هذه الأشياء، ولا يمكن أن يصل الناس إلى هذا النوع من الزخرفة، والبناء المشيد بهذه الطريقة الذي يبقى على هذه الدهور إلا أن يكون هؤلاء الناس قد وصلوا إلى مرحلة من البطر والغنى والتفوق المادي ما لا يقادر قدره، وإلا فالأصل أن الناس تكون مساكنهم بقدر الحاجة -والله أعلم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالله -تبارك وتعالى- يتوعد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، وآذوهم أو عذبوهم أو قتلوهم أو أحرقوهم بالنار، أو امتحنوهم في إيمانهم، يتوعدهم إن لم يتوبوا بعذاب جهنم، وهو اسم من أسماء النار، ويتوعدهم بعذاب الحريق الذي يكون في النار، فإن النار تشتمل على أنواع من العذاب، ومنه الحريق.
ثم ذكر ما لأهل الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي: تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار.
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ، فهذا هو الفوز العظيم، والسعادة الكبرى في هذا النعيم الأبدي السرمدي.
ثم بين -تبارك وتعالى- قدرته وشدة بأسه بقوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، فإذا أخذ -تبارك وتعالى- فإنه يأخذ بقوة وشدة.
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي: هو الذي يبدئ الخلق، وينشئه، وهو الذي يعيده ثانية.
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فالله -تبارك وتعالى- جعل هذا القرآن مثاني، ومن ذلك: أنه يثني فيه الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فهو الغفور، أي: الذي يستر الذنب، ويقي جرائره وتبعته، فإن الغفر يشمل هذا وهذا، فمن غفر الله له فإنه لا يعذبه، وكذا لا يفضحه، فهو مأخوذ من المغْفر الذي يستر الرأس، وأيضًا يقي لابسه الضرب بالسلاح، وهو الودود، أي: المحب الوادُّ لأوليائه، وهو المحبوب، فهو يحبهم ويحبونه، وتبين وجه الجمع بين الغفور والودود، وما يؤخذ من ذلك من وصف ثالث، فهو -تبارك وتعالى- يغفر مع محبة، وأنه قد يحصل الغفر من الإنسان، لكن من غير محبة.
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ العرش أكبر المخلوقات، استوى عليه -تبارك وتعالى- استواء يليق بجلاله وعظمته، و"المجيد" بالرفع على هذه القراءة: يعود إلى الله -تبارك وتعالى، فهو ذو المجد، وهو: ذو الصفات الكاملة، فإن هذا الاسم وما تضمنه من الوصف يدل على السعة في الكمالات، وأوصاف الكمال، و"المجيدِ" بالكسر على القراءة الأخرى: يكون ذلك من صفة العرش، أن العرش مجيد.
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فعال يعني: كثير الفعل لما يريد، فلا يتعاصى عليه شيء، ولا يمتنع، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد .
ثم قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ أي: هل بلغك نبأ هؤلاء الذين تجندوا على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وعلى أتباعهم؟
قوله: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، هذا تفسير للجنود، أي: فرعون، وقوم فرعون، وهكذا ثمود.
قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ يعني: هل بلغك ما فعل ربك -تبارك وتعالى- بهؤلاء العتاة المكذبين؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أي: هم في شك وريب وكفر وعناد.
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ أي: هو قادر عليهم، قاهر، لا يفوتونه ولا يعجزونه.
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي: عظيم كريم.
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أي: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل.
آخر تفسير سورة البروج، ولله الحمد والمنة.
قوله -تبارك وتعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، قال ابن كثير: "هم في شك، وريب، وعناد"، وقد جاء هنا بـفِي التي تدل على الظرفية، فقال: فِي تَكْذِيبٍ، يعني: أنهم منغمسون في الكفر والتكذيب.
قال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ، أي: قادر عليهم، لا يفوتونه، ولا يعجزونه، ومحيط بأعمالهم، محصٍ لها، لا يخفى عليه منها شيء، كما يقول ابن جرير -رحمه الله: وهو محيط بهم أيضًا، بذواتهم، يحصي أعمالهم، وهو قادر عليهم، إن شاء أخذهم وعاقبهم وأهلكهم، لكن كأن ابن جرير -رحمه الله- راعى ما قبله، وهو قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ يعني: يعلم حالهم، وكفرهم، وتكذيبهم، وإعراضهم، وما يصدر عنهم.
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، قال: " أي: عظيم كريم"، وعرفنا أن المجد يأتي بمعنى: السعة، وكثرة الخير، وهو اجتماع صفات الكمال، فالله وصف القرآن هنا بأنه مجيد؛ لكثرة خيراته التي لا يعلمها إلا من تكلم به، فهو كثير الخيرات، كثير البركات، كثير الهدايات، والعبر، والعظات، فلا يحيط بذلك إلا من تكلم به .
قال: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، قال: " أي: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص"، هنا قرأ الجمهور مَحْفُوظٍ بالجر، باعتبار أنه نعت لـ"لوح"، أي: هذا اللوح محفوظ، والقراءة الأخرى وهي قراءة متواترة: قراءة نافع بالرفع، يعني: القرآن، فهو يرجع إلى القرآن، وكما ترون أن بين القراءتين ملازمة، فالقرآن في اللوح، واللوح محفوظ، أو هذا القرآن محفوظ، كل ذلك يؤدي إلى هذا المعنى، إلا أن قراءة الجر أشمل في المعنى، باعتبار أن اللوح فيه القرآن وغير القرآن، وهو: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ربنا -تبارك وتعالى- المقادير، وقال للقلم: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة[9]، فكل ذلك محفوظ في هذا اللوح، واللوح محفوظ لا تصل إليه الشياطين، ولا تصل إليه أيدي العابثين، ولا يستطع أحد أن يطلع عليه، أو أن يسطو عليه، فهو محفوظ، وفي ضمن ذلك القرآن، وعلى القراءة الأخرى التي بالرفع: أن القرآن محفوظ، فيكون بذلك محفوظًا بخصوصه، وهو أيضاً محفوظ بعينه كما قال الله : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9].
ولابن القيم تعليق على هذا، يقول -رحمه الله تعالى: "وقد اشتملت هذه السورة -على اختصارها- من التوحيد: على وصفه سبحانه بالعزة المتضمنة للقدرة والقوة وعدم النظير، والحمد المتضمن لصفات الكمال، والتنزيه عن أضدادها، مع محبته وإلهيته، وملكه السموات والأرض المتضمن لكمال غناه، وسعة ملكه، وشهادته على كل شيء المتضمن لعموم اطلاعه على ظواهر الأمور وبواطنها، وإحاطة بصره بمرئياتها، وسمعه بمسموعاتها، وعلمه بمعلوماتها، ووصفه بشدة البطش المتضمن لكمال القوة والعزة والقدرة، وتفرده بالإبداء والإعادة المتضمن لتوحيد ربوبيته، وتصرفه في المخلوقات بالإبداء والإعادة، وانقيادها لقدرته، فلا يستعصى عليه منها شيء، ووصفه بالمغفرة المتضمن لكمال جوده وإحسانه وغناه ورحمته، ووصفه بالودود المتضمن لكونه حبيباً إلى عباده محباً لهم، ووصفه بأنه ذو العرش الذي لا يقدر قدره سواه، وأن عرشه المختص به لا يليق بغيره أن يستوى عليه، ووصفه بالمجد المتضمن لسعة العلم والقدرة والملك والغنى والجود والإحسان والكرم، وكونه فعالاً لما يريد المتضمن لحياته وعلمه وقدرته ومشيئته وحكمته، وغير ذلك من أوصاف كماله، فهذه السورة كتاب مستقل في أصول الدين تكفي مَن فهمها، فالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده.."[10].
يعني: هذا ما تضمنته هذه السورة مما يتصل بصفات الله وكمالاته.
يقول: "وقوله تعالى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أكثر القراء على الجر: صفة لـ"لوح"، وفيه إشارة إلى أن الشياطين لا يمكنهم التنزل به؛ لأن محله محفوظ أن يصلوا إليه، وهو في نفسه محفوظ أن يقدر الشيطان على الزيادة فيه والنقصان، فوصفه سبحانه بأنه محفوظ في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9]، ووصف محله بالحفظ في هذه السورة، فالله سبحانه حفظ محله، وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل، وحفظ معانيه من التحريف، كما حفظ ألفاظه من التبديل، وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة والنقصان، ومعانيه من التحريف والتغيير"[11].
- أخرجه أحمد، رقم: (23931)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، رقم: (3005).
- التبيان في أقسام القرآن (ص: 93).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [سورة هود:7]، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة: 129].
- التبيان في أقسام القرآن (ص:93).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (ص:94، 95).
- المصدر السابق (ص:95).
- المصدر السابق.
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم: (4700)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ن، رقم: (3319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 405)، رقم: (889).
- التبيان في أقسام القرآن (ص:97، 98).
- المصدر السابق (ص:99).