الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} الآية:7
تاريخ النشر: ٢٢ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 3835
مرات الإستماع: 3324

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المؤلف -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة الطارق، وهي: مكية.

هذه السورة سورة الطارق تتحدث بعد الأقسام التي أقسم الله -تبارك وتعالى- في أولها على قضية وهي: أن كل نفس عليها حافظ، فهذه السورة تتحدث عن إحاطة الله -تبارك وتعالى- بهذا الإنسان، وإحصائه لعمله، وما يصدر عنه، وأن الله قادر عليه، فهو الذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة المهينة، فهو قادر على أن يعيده ثانية، هذا موضوع هذه السورة.

وروى النسائيعن جابر ، قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء، فقال النبي ﷺ: أفتان أنت يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق، والشمس وضحاها، ونحوها؟[1].

هذه الرواية عند النسائي في السنن الكبرى، وليست في الصغرى، قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء، فقال النبي ﷺ: أفتان أنت يا معاذ؟، والروايات المشهورة في قصة معاذ أنه كان يصلي لهم العشاء، وفي سائر الروايات أيضاً الصحيحة الثابتة أن النبي ﷺ لم يذكر له الطارق[2]، كما مضى، وكما سيأتي أيضاً، فهذه الرواية مخالفة للروايات الأخرى الثابتة المشهورة في الصلاة التي كان يصليها معاذ لأصحابه، فهو كان يصلي مع النبي ﷺ العشاء، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي لهم، وليس فيها ذكر المغرب، كذلك ليس فيها ذكر الطارق -والله أعلم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۝ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ۝ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ۝ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۝ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ۝ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ۝ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۝ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [سورة الطارق:1-10].

قال المؤلف -رحمه الله تعالى: يقسم -تبارك وتعالى- بالسماء، وما جعل فيها من الكواكب النيرة، ولهذا قال تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، ثم قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، ثم فسره بقوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ.

قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقاً؛ لأنه إنما يرى بالليل، ويختفي بالنهار، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: نَهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً[3]، أي: يأتيهم فجأة بالليل.

قوله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ هذان قَسَمان: أقسم بالسماء، وأقسم بالطارق، ثم فسر الطارق بقوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إذًا هذا تفسير للقرآن بالقرآن بلفظ يتصل به، فمثل هذا لا مجال لاجتهاد المفسر فيه؛ لأن تفسير القرآن بالقرآن منه ما يدخله اجتهاد المفسر، فقد يفسر آية بآية يربط بينهما وتكون تلك الآية في موضع آخر لا ترتبط بهذه؛ فيخطئ المفسر بهذا الاعتبار، وهذا ذكرناه في مناسبات سابقة في الكلام على أنواع التفسير، وأن قولهم: إن تفسير القرآن بالقرآن هو أعلى أنواع التفسير، وأفضل أنواع التفسير، أن المقصود بذلك: الجنس، أما الأفراد والأمثلة فهذه يتطرق إليها الخطأ من جهة المفسر، لكن إذا جاء تفسيره في القرآن بعده كقوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۝ النَّجْمُ الثَّاقِبُ فهذا لا إشكال فيه، فلا يحتاج بعد ذلك إلى غيره.

لكن هذا النجم هل هو نجم معين، أو المقصود بذلك كل ما يصدق عليه هذا؟ وما وجه هذه التسمية بالطارق، أو لماذا النجم سمي بالطارق؟

الواحدي ينقل عن المفسرين: أن المراد بذلك: الكواكب التي تطرق بالليل وتختفي بالنهار، يعني: النجوم، قيل له: طارق؛ لكونه يظهر ليلاً ويختفي نهارًا، باعتبار أن ما أتاك ليلاً فهو طارق، يعني: العرب تقول لمن يطرق أو يأتي أو يظهر أو يرد ليلاً: طارق، من إنسان أو حيوان أو نجم أو غير ذلك، لكن المقصود هنا النجوم؛ لأن الله فسره به، وإلا فالطارق في لغة العرب يشمل كل ما يطرق ليلاً.

هكذا قال العلماء من المفسرين، وأصحاب المعاني، وأهل اللغة كالفراء والزجاج والمبرد، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله، وكلام ابن القيم في هذا، فهذه النجوم قيل لها ذلك؛ لكونها تظهر ليلاً وتختفي نهارًا، لكن بقي الخلاف بينهم: هل هو نجم معين أو لا في قوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ؟ هذا النجم الذي سمي بالطارق ما هو؟ هل هو النجوم عمومًا أو نجم معين؟

فبعضهم يقول: إنه نجم معين، بعضهم يقول: زحل، وبعضهم يقول: الثريا، وبعضهم يقول: هي النجوم التي ترمى بها الشياطين، وبعضهم يقول: هي جنس النجوم، وهذا الذي اختاره ابن القيم -رحمه الله، فالنجوم التي تظهر ليلاً وتختفي نهارًا هي النَّجْمُ الثَّاقِبُ، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- ألا يحدَّ ذلك بنجم بعينه.

وهناك من فهم أن المقصود والمراد بذلك النجم الطارق هو: ما يصدر عنه صوت يشبه الطرق، هذا قاله بعض المعاصرين ممن يتكلمون على الإعجاز العلمي، فالطارق لم يفسروه بالذي يطرق ليلاً، كما هي لغة العرب، وكما هو المعروف من كلامهم، وإنما فهموا من كلمة الطارق أنه هو الذي يطرق الباب مثلاً، وأصل هذه المادة في لغة العرب: أن ذلك يكون في حق ما يطرق ليلاً، وإن لم يحصل صوت، أو طرق، أو نحو ذلك، فالعرب لا تقيده بهذا، فقوله: إلا طارقًا يطرق بخير[4] ليس معناه يطرق الباب، وإنما يرِد أو يأتي، فكل ما ظهر ليلاً أو وردك ليلاً أو جاءك ليلاً فهو طارق، ولهذا نهى النبي ﷺ أن يطرق الرجل أهله طروقًا، ومعنى يطرقهم: أن يأتيهم ليلاً، ليس المقصود: النهي عن طرق الباب، فإذا كان الباب مفتوحًا دخل، أو معه مفتاح دخل، لا، إنما المقصود: ألا يرِد عليهم، أو ألا يدخل عليهم ليلاً وقد قدم من سفر، هذا الحكم قبل وجود أجهزة الاتصال، وكونهم يعرفون أنه سيأتي، وينتظرونه.

فهذا المجيء ليلاً يقال له: طروق، وهؤلاء ماذا فهموا؟ هم فهموا الدَّق من قول الناس اليوم: طرق الباب، يعني: دق الباب، وهذا غير مراد إطلاقًا، فهذا الطرق الذي بمعنى دق الباب يكون في الليل وفي النهار، فيقول: إنه اكتُشف نجم له صوت يطرق أي: يدق، فهذا هو الطارق، يعني: أن السلف وأهل اللغة هؤلاء جميعًا ما فهموا الآية، هم ذهبوا على أنه الطروق بالليل من غير صوت ولا تصويت، وهو فهمه على هذا الفهم الذي لا تتوجه إليه أذهان العرب عند ذكر الطروق، فهذا الكلام غير صحيح، ولا يُفرح بمثل هذه الأشياء.

هذه الأيام أشغلنا الناس بالسؤال حتى إنه بمجرد ما يبدأ الشخص يذكر قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] يقاطعه ويقول له: هذا غير صحيح، ويقول: هناك من يقول: لا يُعرف في لغة القرآن وكلام العرب أن الجمل هو البعير، وإنما الجمل هو: حبل السفينة، وينكر أن يكون البعير، ويقول: ليس هناك علاقة بين البعير وبين سم الخياط حتى يُذكر في الآية، وهذا كلام كبير جدًّا لا يقبل إطلاقًا، ويستحي الإنسان أن يسمعه، بالسماع فقط يجد الإنسان حرجًا، لا يمكن أن يقال هذا، حتى الصغار والأطفال يدركون أن الجمل هو البعير، وأنا كنت أتعجب من بعض الأشياء التي تذكر في بعض كتب اللغة وغيرها. 

يعني: بعض أئمة اللغة يُذكر في ترجمته أنه كان هناك من يتمحلون في سؤاله، فقال له: ما الجمل؟ قال: البعير، قال: ما البعير؟ قال: ذو القوائم الأربع، قال: وما هو؟ فصار هذا عالم اللغة في المسجد في أثناء الدرس يمشي على أربع أمام الناس، ويقول: الذي يقول هكذا، يعني: الذي يمشي بهذه الطريقة، ابن مسعود يقول لمن سأله: ولد الناقة، يعني: أما تعرف الجمل؟

فهذه السؤالات تفضي إلى ضجر هؤلاء الأئمة، فإذا رأى الإنسان مثل هذه الدعوى الكبيرة من أن الجمل ليس هو البعير يقول: هؤلاء معذورون بهذا الضيق من هذه الدعاوى الفجة.

فالجمل هو البعير، والعلاقة واضحة: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فالعرب لا زالوا إلى اليوم يقولون: الباب يسع جملا، يعني: واسعًا، لكن سم الخياط ما يدخل منه الجمل، وهذه طريقة العرب، وهذه لغتهم؛ ولهذا يقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب.

إذا شابَ الغرابُ أتيتُ أهلي وعاد القارُ كاللبنِ الحليبِ

الغراب ما يمكن أن يشيب، يقولون: حتى تشيب مفارق الغربان، لا يمكن أن يشيب مفرق الغراب، ولا يعود القار الأسود إلى بياض كالحليب، وكما يقولون أيضاً: حتى يعود اللبن في الضرع، فهذا كله جارٍ على لغتهم، ومعروف في مخاطباتهم، فلا يمكن أن يرِد مثل هذا الكلام، ولا أن يقبل، وكلام أهل العلم من المفسرين سلفًا وخلفًا في تفسير الجمل بأنه البعير هو الأشهر، وهو معروف عند أهل اللغة، ومتبادر عند الإطلاق في القرآن، فلابد أن يُترك هذا كله، وينكر من أصله، فالمسألة ليست مجرد ترجيح أيضاً، والناس يروجون هذه الأشياء، ويقلبونها، وتنتشر انتشار النار في الهشيم.

وقوله تعالى: الثَّاقِبُ قال ابن عباس: المضيء، وقال عكرمة: هو مضيء ومحرق للشيطان.

عبارات السلف تجد مثل هذا: مضيء ومحرق، مجاهد يقول: متوهج، ابن جرير يقول: يتوقد ضياؤه، ويتوهج، فالثاقب: شديد التوقد، أو شديد التوهج، أو شديد الإضاءة، ابن القيم يقول: يثقب ضوءُه، يعني: له ضياء قوي متوهج شديد.

وقوله تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ أي: كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [سورة الرعد:11].

هذا جواب القسم: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، أقسم قسمين على هذه القضية: أن كل نفس عليها حافظ، وهذه الآية فيها قراءتان متواترتان كل قراءة لها معنى، ونحن عرفنا أن القراءتين إن كان لكلٍّ معنى فهما بمنزلة الآيتين.

القراءة الأولى: وهي هذه التي نقرأ بها: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، لَمَّا بالتشديد، فهذه قراءة عاصم، وبها أيضاً قرأ ابن عامر وحمزة، فعلى هذه القراءة بالتشديد لَمَّا تكون إِنْ نافية، بمعنى: ما، أي: ليست المخففة من الثقيلة، وإنما هي نافية بمعنى: ما، يعني: ما كل نفس إلا عليها حافظ، وتكون لَمَّا للاستثناء، بمعنى: إلا، أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، يعني كأنك تقول: ما من نفس إلا عليها حافظ، فهذه القراءة الأولى.

القراءة الثانية: وهي قراءة الجمهور بالتخفيف: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ، يعني: أن الشأن كل نفس لعليها حافظ، فتكون إِنْ هنا على هذه القراءة مخففة من الثقيلة، وعلى الأولى نافية، ومع إِن النافية تكون اللام في لَمَا فارقة، ومَا يقولون: مزيدة للتوكيد، يعني: كل نفس عليها حافظ.

في قوله -تبارك وتعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ أي: حافظ يحفظ هذه النفس، ما المراد به؟ هل حافظ يحفظ الأعمال أو يحفظ هذا الإنسان؟

ابن كثير هنا أورد هذه الآية: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وقد مضى الكلام على هذه الآية، وأن هؤلاء الملائكة يحفظون الإنسان حتى إذا جاء القدر خُلي عنه، يعني: يحفظونه من الشياطين أن تتخطفه، يحفظونه من العوارض والأخطار والآفات حتى يأتي قدر الله النافذ إلى هذا الإنسان فيُخلّى عنه عندئذ، فابن كثير -رحمه الله- فسرها بهذا؛ لذلك ذكر هذه الآية: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني: أن حفظهم ناتج أو صادر عن أمر الله لهم، أمرهم الله بذلك، لكن ابن جرير -رحمه الله- يحمل ذلك على حفظ الأعمال.

فقوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ يعني: يحفظ ما يصدر عنه من عمل، ويحصي ذلك عليه، فقد وكل الله الملائكة الكرام الكاتبين، قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ [سورة الانفطار:10، 11]، فيفسر الحافظ بهذا، وكما قال الله : وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [سورة الأنعام:61]، فهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله.

وبعضهم يقول: إن الله -تبارك وتعالى- هو الحافظ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، أخذًا من أن الله هو المطلع على أحوال العباد، شهيد على أعمالهم، وهو الذي يحفظهم ويكلؤهم، بهذا الاعتبار.

وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27].

وقوله تعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يعني: المني، يخرج دفقاً من الرجل والمرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله ؛ ولهذا قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ يعني: صلب الرجل، وترائب المرأة وهو: صدرها.

وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ صلب الرجل وترائب المرأة، أصفر رقيق لا يكون الولد إلا منهما.

قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، الله قادر على هذا الإنسان، هو الذي خلقه من هذه المادة الضعيفة، وهو قادر على إعادته ثانيًا، كما أنه محيط به من كل وجه.

قوله: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يعني: يخرج دفقًا، الدفق هو: صب الماء، تقول: دفقَه يعني: صبه، فهذا الصب هو الذي يقال له: الدفق، وما دونه لا يكون دفقًا، يعني: إذا كان مجرد إفراز مثلاً لا يقال له: دفق، يعني: خروج المذي مثلاً شيئًا بعد شيء أشبه ما يكون بالإفراز، فمثل هذا لا يقال له: دفق؛ ولذلك ما يوجب الغسل من خروج الماء مقيد بهذا القيد مع القيد الآخر: خروج الماء دفقًا بلذة، فلو خرج من مرض لا يوجب الغسل، ولو أنه خرج من غير دفق، يعني: بمعنى أن الوطر واللذة لم تستتم فخرج شيء يسير لا يكون دفقًا، فمثل هذا لا يوجب الغسل.

دَافِقٍ قيل: بمعنى فاعل، أي ذو دفق من النسبة، أو مفعول أي مدفوق.

يقول: "من الرجل والمرأة، فيتولد منهما الولد، قال: ولهذا قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ يعني: صلب الرجل، وترائب المرأة وهو: صدرها".

هذا القول هو الذي عليه عامة المفسرين، أن المقصود بقوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، أن الصلب: صلب الرجل، الترائب: ترائب المرأة، أي: أن ذلك يرجع إلى الرجل والمرأة معًا، وليس ذلك من صفة الرجل وحده، هذا الذي عليه عامة السلف، ومن بعدهم، ومن تأمل كلامهم وأقوالهم رأى ذلك.

فالضحاك يقول: ترائب المرأة، وإن اختلفوا في معنى الترائب، فالضحاك يفسر ترائب المرأة باليدين والرجلين والعينين، يعني: كأنه يخرج من جميع أجزاء الجسد، الرأس والأطراف وما بين ذلك.

وسعيد بن جبير يقول: الجِّيد، والجيد: العنق، وهو بمعنى قول من قال: موضع القلادة، ومجاهد يقول: ما بين المنكبين والصدر، ما الذي بين المنكبين والصدر؟ هو موضع القلادة، وجاء عنه: الترائب يعني: الصدر، وجاء عنه: التراقي، ما هي التراقي؟ العظم الممتد ما بين الكتف إلى الثغرة التي في النحر، العظم الناتئ يقال له: ترقوة، قال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [سورة القيامة:26]، فجاء عن مجاهد: أن الترائب هي: التراقي، وهذا كله يرجع إلى الصدر، وعظام الصدر، والنحر، هذه هي الترائب.

وبعضهم يقيد ذلك يقول: أربعة أضلاع عن يمين الصدر، وأربعة عن يساره، يعني: في الأعلى، وبعضهم يقيد ذلك بضلعين عن اليمين وعن الشمال تحت الترقوتين، وبعضهم يقول: ما بين الثديين، والترائب: جمع تريبة، فهم يقولون: موضع القلادة.

إذاً الترائب هي: الصدر، أو عظام الصدر، أو نحو ذلك، يعني: هذا الموضع، فعامة هؤلاء يقولون: إن الترائب هي: عظام الصدر، أو الصدر، أو موضع القلادة من المرأة، إذًا الترائب ترجع إلى المرأة، والصلب إلى الرجل، فيكون من مجموع الماءين، ويدل على هذا الأحاديث: لما سئل النبي ﷺ عن اغتسال المرأة إذا احتلمت، فلما واجه هذا السؤالُ شيئًا من الحرج بقولها: أوتحتلم المرأة؟ لما قالت أم المؤمنين: فضحت النساء، فقال النبي ﷺ: ففيم يشبهها الولد؟ أي: تحتلم المرأة، ثم قال النبي ﷺ: إذا رأت الماء[5]، فدل على أنها تحتلم، وأن لها ماء، وأن هذا الماء يُخَلَّق منه الولد أيضاً، لقوله: ففيم يشبهها الولد؟، مع الحديث الآخر: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة[6]، وفي قوله ﷺ: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة[7]، فذكر ﷺ في الحديثين: الإذكار والإيناث، وذكر الشبه، ويأتي -إن شاء الله- الكلام على هذا، لكن كل هذا يرجع إلى أنه يخلق من مجموع الماءين.

لكن من أهل العلم من يقول: إن الصلب والترائب كل ذلك يرجع إلى الرجل، أي: صلب الرجل، وترائب الرجل، والمقصود بالصلب: العمود الفقري، هذا هو الصلب، والترائب: عظام الصدر، وبعض هؤلاء يقولون: إن الذي ذكر من موضع القلادة وما أشبه ذلك باعتبار أن هذا يرد كثيرًا، يعني: هذا اللفظ، أو هذه العبارة، وهي: الترائب في أوصاف النساء شعرًا ونثرًا، يقولون: فحينما يذكر أهل اللغة أو السلف الترائب ويقولون: ترائب المرأة، أو موضع القلادة، يقصدون: تحديد المكان فقط، لا أنها ترائب المرأة في الآية، وهذا الكلام فيه نظر، فإنهم يقصدون أنها ترائب المرأة فعلاً، وليس البيان للمعنى اللغوي أين الترائب.

إذًًا الأكثر على أنه صلب الرجل، وترائب المرأة، لكنه ليس محل اتفاق، فبعضهم يقول: صلب الرجل، وترائب الرجل، لكن حتى على هذا القول تبقى الأحاديث تدل على أن ماء المرأة يخلّق منه أيضاً الجنين، إلا أن الأطباء من المعاصرين لا يقرون هذا ولا يذكرونه، وإنما يقولون: إنه يخلق من ماء الرجل، فيلقح الحيوان المنوي، ولا يثبتون أن المرأة لها ماء أصلاً، ما رأيت أحدًا منهم يثبت هذا على كثرة تتبع كلامهم، فماذا يقولون في هذه الأحاديث؟

نقول: الآية تحتمل القولين، لكن الأحاديث واضحة، فماذا يقولون؟ يقولون: هو تلقيح البويضة، فإذا لقحت البويضة حصل الحمل، لكن ماذا يقولون في ماء المرأة والنبي ﷺ وصفه بدقة؟ وانظر إلى عبارة ابن كثير هنا يقول: "يخرج دفقًا من الرجل والمرأة، فيتولد منهما بإذن الله ... إلى آخره، قال: قال ابن عباس: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ صلب الرجل، وترائب المرأة، أصفر رقيق"، يقصد: هذا وصف ما كان بالنسبة للمرأة: أصفر رقيق، هكذا يصفه الفقهاء: أصفر رقيق.

فكلام الأطباء المعاصرين مردود، وإن كانت الآية تحتمل؛ لكنه مردود بالأحاديث، وما رأيت لأحد من المعاصرين كلامًا يشفي في هذا الموضوع، بحيث يكون مبناه على الجمع بين النصوص، الطاهر بن عاشور -رحمه الله- له كلام جيد في هذه القضية، ومفيد، وفيه تفاصيل ما رأيته لغيره، يقرب لك شيئًا من هذا، يقول في جملة كلامه: "الترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء؛ لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.."[8].

يعني: الآية تحتمل في الترائب، هل المقصود الرجل أو المرأة؟

يقول: "وقوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ الضمير عائد إلى الماء الدافق، وهو: المتبادر، فتكون جملة يَخْرُجُ حالاً من قوله: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أي: يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه..."[9].

فهو هنا مشى على أن ذلك يرجع إلى الرجل، لكنه لم ينكر الأمر الآخر بالنسبة للمرأة.

يقول: "وبهذا قال سفيان والحسن، أي: أن أصل تَكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى: أنه يمر بين الصلب والترائب..."[10].

ابن عاشور يقول: يتكون، وليس ذلك مجراه وطريقه فقط، لا، هو يقول: يتكون ما بين الصلب والترائب.

يقول: "إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب؛ لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورئتين، فجعل الإنسان مخلوقًا من ماء الرجل؛ لأنه لا يتكون جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل، فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة، وهو: شيء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكون منه الجنين، ويطرح ما عداه..."[11].

فهو يقول: ماء رقيق يحتوي على بويضات، يعني: ليس هو البويضة.

يقول: "وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل، مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل وماء المرأة بذكر الترائب؛ لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة، ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة، فيتكون من ماء الرجل، وهو سائل فيه أجسام صغيرة..."[12].

ثم ذكر الأوصاف المعروفة التي يقولها أهل العصر الحديث، وذكر مقرها واندفاعها إلى آخره.

يقول: "ومِن ماءٍ هو للمرأة كالمني للرجل، ويسمى: ماء المرأة -انظر هو ما أنكره- وهو: بويضات دقيقة كروية الشكل، تكون في سائل مقره حويصلة من حويصلات يشتمل عليها مبيضان للمرأة، وهما بمنزلة الأنثيين للرجل، فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مبيض يشتمل على عدد من الحويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين، وخروج البويضة من الحويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة، فإذا انتهى نموها انفجرت، فخرجت البويضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البويضة النمو وخروجها من الحويصلة في وقت حيض المرأة؛ فلذلك يكثر العُلوق -يعني: الحمل- إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها..."[13].

يعني: إذا اغتسلت من الحيض طهرت، فهذه المدة القريبة من الحيض هي أكثر احتمالاً للحمل.

يقول: "وأصل مادة كلا الماءين مادة دموية -أي: بالنسبة للرجل والمرأة- تنفصل عن الدماغ، وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو: الصلب، ثم ينتهي إلى عرق ما يسمى الحبل المنوي، مؤلف من شرايين وأوردة وأعصاب، وينتهي إلى الأنثيين، وهما الغدتان اللتان تفرزان المني، فيتكون هنالك بكيفية دهنية، وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية، وذلك عند دغدغة ولذع القضيب المتصل بالأنثيين، فيندفق في رحم المرأة، وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة، وهو: الترائب؛ لأن فيه موضع الثديين، وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم، وهي: عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض، وتنقبض عقب الطهر، والرحم يأتيها عصب من الدماغ، يقول: وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن..."[14] إلى آخره.

هذا كلام فيه تفصيل غير ما يذكره الأطباء، يعني: فيه زيادة على كلام الأطباء، فهو يتكلم عن نزوله، ومجراه، وإلى آخره، أي: ما بين الصلب والترائب، وتكوُّن ماء الرجل، وتكوُّن ماء المرأة، وهذا شيء مشاهد، فإن هذا الماء ينسل من أجزاء الجسد؛ ولذلك بعض السلف يقول عما ينزل مما بين الصلب والترائب: عصارة القلب، هكذا فسره، فهو ينسل من أجزاء الجسد؛ ولهذا يحصل بعده الفتور، فيعوض ذلك بالاغتسال، فيتجدد النشاط ويعود.

وابن القيم له كلام جيد في الطرق الحكمية في هذا الموضوع، وهو ذكره في عدد من كتبه، فذكره في زاد المعاد، وذكره أيضاً في مفتاح دار السعادة، وفي بدائع الفوائد، لكن نحن ننظر في الطرق الحكمية ففيه حاصل ما ذكره في المواضع الأخرى.

  1. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، سورة الطارق، رقم: (11600).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من شكا إمامه إذا طول، رقم: (705)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم: (465).
  3. أخرجه البخاري، أبواب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة، رقم: (1801)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق، وهو الدخول ليلا لمن ورد من سفر، رقم: (1928).
  4. أخرجه أحمد، رقم: (15460)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (2/ 495)، رقم: (840).
  5. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، رقم: (130)، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (313).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (314).
  7. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [سورة البقرة:97]، رقم: (4480)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (311).
  8. التحرير والتنوير: (30/ 263).
  9. المصدر السابق.
  10. المصدر السابق.
  11. المصدر السابق.
  12. المصدر السابق.
  13. المصدر السابق (30/ 263، 264).
  14. المصدر السابق (30/ 264).

مواد ذات صلة