بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [سورة الطارق:6-8] يعني على رجعه ثانية بعد الموت والفناء، وليس كما قيل: على رجعه إلى الصلب أو نحو ذلك، بقرينة قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9] وذلك يوم القيامة تَخرج مخبّآتُ النفوس وتظهر، وتبلى وتختبر كما قال الله : هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [سورة يونس:30]، فهنا تظهر الأعمال، ويعرف الإنسان ما هو عليه من حق وباطل، ومقاصد صحيحة ومقاصد فاسدة، قال: فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [سورة الطارق:10] يعني في ذلك اليوم لا يجد من يخلصه، وليس به قوة لدفع ما نزل به.
وقوله: وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ [سورة الطارق:11] هو المطر، أو ما هو أعم من ذلك مما يكون من قبل السماء بأمر الله -تبارك وتعالى، وقيل له: الرجع؛ لتكرره مرة بعد مرة.
وقوله: وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [سورة الطارق:12] حيث تنشق بالنبات، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [سورة الطارق:13] هذا القرآن حق لا مرية فيه، وهو يفصل بين الحق والباطل والهدى والضلال، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [سورة الطارق:14] بل هو جد، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [سورة الطارق:15] لإبطاله، لإبطال دين الله ، وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق:16] والله -تبارك وتعالى- يمهلهم ويستدرجهم؛ ليقعوا في مغبة كيدهم وسوء فعالهم، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [سورة الطارق:17] فالله -تبارك وتعالى- يتوعدهم بهذا أنه سيؤخذهم ويعذبهم ويعاقبهم على كيدهم وكفرهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين.
قال المصنف -رحمه الله: تفسير سورة الأعلى، هي مكية، نزلت قبل الهجرة، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ جَاءَ، فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا"[1].
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ: هَلَّا صَلَّيْتَ بِـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، والشَّمْسِ وَضُحاها، واللَّيْلِ إِذا يَغْشى[2]، وروىَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأَ فِي الْعِيدَيْنِ بِـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [سورة الغاشية:1] وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَرَأَهُمَا جَمِيعًا[3].
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ورواه ابْنُ مَاجَهْ، ولفظ مسلم وأهل السنن: "كان يقرأ في العيدين وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَرَأَهُمَا"[4].
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وعبد الرّحمن ابن أَبْزَى وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ فِي الوتر بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [سورة الكافرون:1]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1][5]، زَادَتْ عَائِشَةُ: وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ.
هذه السورة "سورة سبح" هكذا يقال اختصارًا، ويقال: سبح اسم ربك الأعلى، وتسمى أيضًا بسورة الأعلى كما هو مشهور في كتب التفسير، هذه السورة من السور المكية كما قال ابن كثير -رحمه الله، واستدل عليه بحديث البراء، يعني أن أصحاب النبي ﷺ الذين هاجروا قبله يُقرئون الناس كمصعب بن عمير أقرءوهم فيما أقرءوهم هذه السورة قبل مهاجر النبي ﷺ، فهي من أوائل السور النازلة في مكة، بل جاء في بعض الروايات في ترتيب النزول، والروايات في ترتيب النزول التي فيها سرد سور القرآن بحسب نزولها لا يصح منها شيء، جاء أنها الثامنة في الترتيب في النزول.
ويكفي أن نعرف أنها من السور المكية خلافًا لما قاله الضحاك من أنها نازلة في المدينة، وجاء عن بعض السلف أن السورة مكية، واستثنوا من ذلك قوله -تبارك وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:14، 15] باعتبار المعنى، يعني هم حملوا هذا تَزَكَّى على زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ على تكبير العيد، عيد الفطر فَصَلَّى يعني صلاة العيد، ومكة لم يكن فيها صلاة عيد، ولا زكاة فطر.
إذًا قالوا: هذا في المدينة، هاتان الآيتان نازلتان في المدينة، وهذا فيه نظر؛ لأن الآية قد تنزل قبل تقرير حكمها -يعني مقتضاها- أيًّا كان، سواء كان أمرًا أو نهيًا، حلالا أو حرامًا، أو كان قضية تحدثت عنها حصلت في المدينة، قد تنزل قبل تقرير الحكم، وهذا له أمثلة، هذا لو فرضنا أن المعنى كما قيل.
الأمر الثاني: وهو أن هذه الزكاة المذكورة في الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ليس المقصود بها زكاة الفطر أصلاً، ولا الصلاة صلاة العيد، وإنما المقصود من زكى نفسه بالإيمان وطاعة الله ، وجانبَ مساخطه من الكفر والشرك والنفاق والمعاصي، والذكر يشمل ذكر القلب واللسان والجوارح، وليست تكبيرات العيد، وليست الصلاة بصلاة العيد، ومن ثم يقال: هذه السورة هي سورة مكية، وهذا الذي عليه الجمهور من أهل العلم، هذه الروايات التي جاء فيها أن العيد إن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعًا المقصود أنه يقرأ في صلاة العيد بهاتين السورتين، ويقرأ بصلاة الجمعة بهاتين السورتين، هذا هو المراد.
موضوع السورة: هذه السورة افتتحت بالأمر بتنزيه الله -تبارك وتعالى- ذي القدرة الباهرة والصفات الكاملة، وبعد ذلك فيها وعد من الله لنبيه ﷺ بأن يقرئه ولا ينسى ما أقرأه، ثم بعدها أمره بالتذكير، وذكَرَ الوعد والوعيد لمن استجاب ولمن امتنع.
ثم بعد ذلك ذكر في آخرها أن هذا في صحف إبراهيم وموسى بعدما قرر محبة الناس، وإيثار الناس للحياة الدنيا مع أن الآخرة خير وأبقى، هذا مجمل ما تدور عليه آيات السورة، ولو أردنا أن نصوغ ذلك بموضوع واحد فيمكن أن يقال: هذه السورة تنزيه لله -تبارك وتعالى- الذي أعطى هذا العطاء لنبيه ﷺ بالوحي، وهذه العِدة بأن لا ينسى، وهذا الوحي أو هذه الرسالة أمر الله نبيه ﷺ أن يبلغها فوعد الله من استجاب وأوعد من لم يستجب، وذكر علة ترك الاستجابة، هذه يمكن أن تكون خلاصة ما تدور عليه السورة، والله أعلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [سورة الأعلى:1-13].
روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى[6]، وروى ابْنُ جَرِيرٍ عن أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ إِذَا قَرَأَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَإِذَا قرأ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [سورة القيامة:1] فَأَتَى عَلَى آخِرِهَا: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [سورة القيامة:40] يَقُولُ: سُبْحَانَكَ وَبَلَى[7]، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى[8].
قوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يعني نزِّهه عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، هذا هو المشهور في معنى التسبيح، وهو الغالب في الاستعمال، ولكن ورد في عبارات السلف -رضي الله تعالى عنهم- تفسير التسبيح بالتعظيم كما جاء ذلك عن السدي مثلاً، سبح بمعنى عظم.
فالتسبيح يأتي بمعنى التنزيه، التقديس، التعظيم وما شابه ذلك، هنا سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى هذا في مقام ذكر الكمالات، يعني لا يوجد هنا تنزيه عن نقيصة ذُكرت، يعني في قوله مثلاً: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] ماذا قال؟ قال: "سبحانه" فهذا في مقابل ذكر نقيصة، فالتسبيح الوارد في القرآن تارة يكون في سياق ذكر صفات الكمال، وتارة يكون لدفع النقائص.
ومن هنا نعلم أن قول القائل حينما تذكر صفات الكمال ويثنى على الله بما هو أهله في دعاء القنوت، فيقول القائل: سبحانك، أن هذا لا إشكال فيه، فهذه صفات كمال متتابعة، والله يفتتح ذلك بالتسبيح، وكما في قوله -تبارك وتعالى- في مقام الإسراء والمعراج: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [سورة الإسراء:1] فهذا مقام ثناء على الله وتعظيم، وليس ثمّة ما ينزه ربنا -تبارك وتعالى- عنه، وهكذا في أوائل المسبحات، إلى غير هذا، وقد تكلمت على هذا المعنى في السنة الماضية في الكلام على آيات الصيام.
ولا بأس أن يقول الإنسان: سبحانك إذا سمع أوصاف الكمال أو الثناء على الله ، الأمر في ذلك يسير، ومن سكت فلا إشكال، الأمر فيه سعة.
قوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى هل المقصود تسبيح الاسم -تنزيه الاسم، تعظيم الاسم- أو المسمى؟ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أو سبح ربك، الأمر هنا بتنزيه الاسم أو تنزيه المسمى وهو الرب -تبارك وتعالى؟
بعضهم يقول: الاسم هنا مقحم؛ لقصد التعظيم، يعني أن التسبيح متوجه إلى الرب ، فيكون المقصود به تسبيح الله ، يعني سبح ربك الأعلى، وكما يقول بعض أهل العلم كشيخ الإسلام -رحمه الله، وغيره من أن المراد سبح ربك ذاكرًا اسمه، وأن المقصود ليس التنزيه في القلب، وإنما المقصود أن يجري ذلك على اللسان ذاكرًا اسمه.
وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يقول: إن المراد تنزيه الاسم، نزه اسم ربك تعالى أن يُسمَّى به أحد سواه، يعني أن يسمى به معبود من هذه المعبودات الباطلة، أو أن يُسمَّى بشيء من الأسماء المختصة بالله أحدٌ من خلقه، الأسماء المختصة بالله مثل "الله" لا يسمى به المخلوق، "الرحمن"، "الحكم" إذا لوحظت فيه الصفة، الأسماء الأخرى لو سمي أحد بالعزيز أو نحو ذلك لا بأس، لكن أن يُسمَّى بذلك شيء من المعبودات الباطلة فهذا من الكفر، ومن العظائم والمنكرات الشنيعة، كما يقال: إن اللات اشتقت من الله، وإن العزى من العزيز، هكذا يقول بعضهم، وهذا ليس محل اتفاق في الاشتقاق -أصل التسمية، وقيل غير هذا.
فابن جرير -رحمه الله- على قوله هذا لا يكون ذكر الاسم مقحمًا، بل هو مقصود أن ينزه الاسم فلا يُسمَّى به أحد سواه، وهذا من الأسماء كما ذكرت، وبعضهم يقول: نزه تسميه ربك، "سبح اسم ربك": نزه تسميته، وذكره من أن تذكره إلا وأنت معظم له، خاشع، تقدسه وتحترمه، هذا الاسم.
وابن القيم -رحمه الله- له تعليق على هذا مفيد قال -رحمه الله: "بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب؛ لأنه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان، والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعاً، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله؛ لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى، وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: "المعنى سبح ناطقًا باسم ربك متكلمًا به"، سبح ربك ذاكرًا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها، فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته"[9].
يعني حاصل كلام شيخ الإسلام وابن القيم التوسط بين القولين: من قال: إن الاسم مقحم، والمقصود سبح ربك، وقول من قال: المقصود الاسم نزه اسم ربك من أن يسمى به غيره، فهذا القول وسط أي يكون المقصود بالتسبيح هو الرب -تبارك وتعالى- على قول شيخ الإسلام وابن القيم، ولكن ذكْر الاسم هنا مقصود بأي اعتبار؟ سبح ربك ذاكرًا اسمه؛ ليكون ذلك مما يجري على اللسان، فلا يكون ذكر ذلك كما يقال: إنها مقحمة هكذا والمقصود للتعظيم مثلاً، يعني هم حينما يقولون: مقحمة، أو يقولون: زائدة هم لا ينكرون أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، لكن يقولون: هذا لزيادة التعظيم، لكن شيخ الإسلام وابن القيم يقولون: لا، من أجل أن يذكر اسمه، سبحه ليس بقلبك بل ذاكرًا اسمه.
وقال -رحمه الله: "فإن قيل: فما الفائدة في دخول الباء في قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [سورة الواقعة:74] ولم تدخل في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟
قيل: التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر، ويراد به مع ذلك الصلاة، وهو ذكر وتنزيه مع عمل"[10].
نفس الصلاة يقال لها: تسبيح، وفي بعض المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- فسر ذلك بالصلاة، بل فسر بأوقات الصلوات، ولذلك أيضًا يقال: سُبْحة الضحى، وقول ابن عمر -رضي الله عنهما- في صلاة السنة الراتبة في السفر: "لو كنت مسبِّحًا لأتممت"[11]، فالصلاة يقال لها ذلك.
وقال -رحمه الله: "ولهذا تسمى الصلاة تسبيحًا، فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء؛ لأنه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: سبحت بالله، وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد كأنك قلت: سبح مفتتحاً باسم ربك أو ناطقًا باسم ربك، كما تقول: صلِّ مفتتحاً أو ناطقا باسمه؛ ولهذا السر -والله أعلم- دخلت اللام في قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الحديد:1]، والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة، ولم يقل في موضع سبَّحَ اللهَ ما في السموات والأرض، كما قال: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الرعد:15]، وتأمل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [سورة الأعراف:206] فكيف قال: ويسبحونه لمّا ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه"[12].
يعني يقصد أنه إذا عُدي بنفسه يكون المقصود به الذكر باللسان، التسبيح باللسان، وإذا عدي بالحرف بالباء مثلاً أو باللام فالمقصود به ما يكون في الصلاة.
وفي قوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى هنا الروايات التي ذكرها من أنه كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، "كان إذا قرأ" هذا ظاهره العموم، بمعنى أن ذلك يكون في الصلاة وفي خارج الصلاة ولا فرق، فإذا قرأ الإنسان هذا الموضع فإنه يقول ذلك ولو كان في الفريضة، وإذا قرأ خارج الصلاة فإنه يقول ذلك أيضًا، وهذه اللفظة تدل على هذا "كان إذا قرأ"، فيدل على أن ذلك يتكرر بتكرر القراءة، و"كان" تدل على الدوام والاستمرار.
وهنا في الرواية الأخرى يقول: إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ: لا أقسم بيوم القيامة، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سورة القيامة:40] قال: سبحانك فبلى، هذا هو الثابت أن يقول مثل هذا، أما المواضع الأخرى فلا تصح مثل "أليس الله بأحكم الحاكمين" يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، هذا لا يصح.
لكن ثبت من قول الجن لما قرأ النبي ﷺ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قرأ: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن] يقولون: ما من شيء بآلائك ربنا نكذب فلك الحمد، والنبي ﷺ أخبر أصحابه بأن الجن كانوا أحسن مردودًا منهم لما قرأها عليهم؛ لأنهم سكتوا، ومن هنا يؤخذ منه أنه إذا قرأ: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أنه يقول مثل هذا، أو إذا قُرئت عليه أنه يقول ذلك، لكن كانت هذه القراءة خارج الصلاة، والنبي ﷺ ذكر هذا لأصحابه لما سكتوا فما أجابوا بجواب الجن.
وقوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الأعلى هل هذه صفة للاسم أو للرب؟
الأرجح أنها صفة للرب -تبارك وتعالى- لاسيما على ما سبق من التفسير من أن المقصود تسبيح الرب -تبارك وتعالى، ويدل على هذا المعنى -أن المقصود تسبيح الرب- أن النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى فهذا تفسير للمراد بقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فكان يقول: سبحان ربي الأعلى، إذًا "سبح اسم ربك" يعني سبح ربك، وذكر الاسم يمكن أن يكون كما قال شيخ الإسلام وابن القيم: ذاكرًا اسمه، فكان النبي ﷺ يقول: سبحان ربي الأعلى، وعلى هذا يكون الأعلى من صفة الرب -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الاسم، يعني من فسر قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ نزه اسمه وأن الاسم هو المقصود قالوا: إن هذه الصفة -الأعلى- تعود إليه.
خَلَقَ فَسَوَّى خلق هذه المخلوقات، خلق الإنسان مستويًا، عدّل قامته كما يقول الزجاج، وهذا من التفسير بالمثال؛ لأن الله أطلق في الخلق، ما خص نوعًا كالإنسان، وإنما خلق كل ما خلق فسوى خلقه، ولهذا قال الضحاك: فسوى خلقه سوى هذا الخلق فجعله باعتدال، وفي حال صالحة لمثل هذا المخلوق، فخلق الحيوان على ما يليق به، وخلق الإنسان على ما يليق به، وسوى خلقه وأبعاضه، وأعضاءه ظاهرًا وباطنًا، وخلق هذه الجبال وهذه السماوات وما إلى ذلك وسوى خلقها، فالخلق يعني الإيجاد، والتسوية معنى زائد، سوّى هذه المخلوقات.
قوله -تبارك وتعالى: قَدَّرَ فَهَدى هكذا على قراءة الجمهور "قدّر"، وعلى القراءة الأخرى المتواترة قراءة الكسائي {قدَر فهدى} وما المراد بـ"قدّر فهدى"؟ هنا قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة وَالسَّعَادَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا، والله -تبارك وتعالى- قد أطلق ذلك، فيدخل فيه كل المعاني التي يحتملها.
وإن قال من قال من المفسرين وهذا قال به كثيرون، والظاهر أنهم يقصدون بذلك التفسير بالمثال، فالواحدي يعزو للمفسرين: "قدّر فهدى" يعني خلق الذكر والأنثى وهداه -يعني من الدواب الآدميين وما إلى ذلك- فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها، هذا من قبيل التفسير بالمثال، وإن قال به كثير من المفسرين، فإن المعنى لا يحصر بهذا إطلاقًا، وليس في اللفظ ما يدل على التحديد.
وهكذا أيضًا ما جاء عن بعضهم وهو رواية عن مجاهد أيضًا غير الرواية السابقة: قدر السعادة والشقاوة والرشد والضلال، وهدى الأنعام لمراعيها، هذه عبارة مشابهة للعبارة السابقة لكن في بعض حروفها ما يوضح بعض ما سبق، وبعضهم يقول: قدر الأرزاق والأقوات وهداهم للمعايش سواء كانوا من الآدميين أو الحيوانات، والمراعي إذا كانوا من البهائم السائمة، وجاء عن عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له.
وبعضهم يقول: خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان إلى أوجه استخراجها منها، وبعضهم كالسدي يقول: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر أو أقل أو أكثر ثم هداه للخروج من الرحم، هذه كلها تصلح أن تكون من قبيل التفسير بالمثال، السلف يفسرون بالمثال وببعض المعنى للتوضيح، ولهذا ذهب ابن جرير وابن القيم إلى حمل ذلك على أعم معانيه، فكل هذه المعاني المذكورة داخلة في ذلك، قدر أجناس الأشياء وأنواعها، قدر صفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ويسّره لما خلق له، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه.
قَدَّرَ فَهَدى فيدخل فيها هداية التوفيق، ويدخل فيها هداية الإرشاد، ويدخل فيها الهداية الغريزية الفطرية، يعني الله -تبارك وتعالى- ألهم النحل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل:68] فهذه النحل في أي مكان ذهبت بها هي تقيم المحال التي تأوي إليها، وتضع فيها العسل بنفس الطريقة، وبنفس التشكيل، وهذا المولود البهيمة حينما يخرج من بطن أمه حتى الآدمي فإنه يلتقم الثدي من غير تعليم، تجده يسقط على الأرض ثم بعد ذلك يحاول التحرك ليصل إلى ثدي أمه وهو ما رآه من قبل ولا عُرّف بهذا، تجد هذه السباع من آكلة اللحوم هي تنشأ على هذا، وتطلبه، وتجد غيرها من بهيمة الأنعام ونحوها تأكل وتطلب ما يصلح لمثلها، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي هدى هذه الأشياء في مآكلها ومحالها التي تأوي إليها، وفي طرق تكاثرها على تنوع هذه الطرق، يعني في تزاوجها هي تختلف في طرقها وأحوالها، وكذلك أيضًا فيما يتعلق بالأماكن التي تأوي إليها تجد أنها أيضًا تختلف، وقد ركبها الله تركيبًا يصلح لذلك، ومن نظر في أحوال المخلوقات وما يصدر عنها عرف هذا المعنى معرفة مشاهدة، "والذي قدر فهدى".
ابن القيم -رحمه الله- لما ذكر أنواع الهداية في كتاب "شفاء العليل لمسائل القضاء والقدر والتنزيل" ذكر أنواع الهداية، ومنها هذه الأنواع النوع الفطري الغريزي، الهداية العامة للمخلوقات لمعايشها وما تقوم به مصالحها وما إلى ذلك، فذكر عجائب من أحوال المخلوقات، وكنت ذكرت أشياء من هذا مفرقة في مواضع في الكلام على الأسماء الحسنى، الرب، والخالق، والبارئ، والمصور، والعليم، والحكيم، والقدير، وما إلى ذلك من الأسماء ذكرت أشياء من هذا القبيل.
وغير ابن القيم يذكرون أشياء عجيبة انظروا مثلاً كتاب "غريزة أم تقدير إلهي"، وانظروا كتاب "النحلة تسبح الله"، وانظروا "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم، وانظروا "مفتاح دار السعادة" لابن القيم، يذكرون أشياء عجيبة: رجل يضع العسل في طست فيه ماء من أجل ألا يصل إليه النمل، فتتسلق النملة حتى تصل إلى السقف وتوازي هذا الإناء ثم تلقي نفسها، والقط إذا رأى في السقف الفأرة -السقوف في السابق خشب وسعف وجريد ففيه حشرات وفئران- يستلقي على ظهره ويبدأ يحرك قوائمه يديه ورجليه، فما تلبث الفأرة أن تسقط عليه، من الذي علمه هذا؟!
وذكروا من هذه الأشياء: الثعلب إذا أراد أن يصيد الطيور التي في النهر مثلاً يذهب إلى الناحية التي يأتي منها الماء فيأخذ من الحشائش والقش والأعشاب ويلقيها، فيمر بها الماء بجانب الطيور فتفزع في البداية ثم تطمئن، ثم يرسل ثانية ثم يرسل ثالثةً، ثم يرسل بعدها ويكون كامنًا تحتها فتأتي هذه الحشائش والقش وتطمئن هذه الطيور، تقول: إنها كسابقتها، فيأخذ منها ما أراد، من الذي علمه هذا التحيل؟!
الغثاء يعني اليابس، بحيث إنه يابس يتفتت يتطاير في الهواء بعد أن كان في حال من الخضرة والطراوة، "فجعله غثاء" وهذا الغثاء حينما يذهب يابسًا يتطاير هو الذي يحمله السيل ويكون غثاء فوقه، والأحوى يعني متغيرًا إلى السواد، يسود الزرع بعد أن كان في حال من الخضرة، هكذا فسره ابن جرير وغيره.
"فجعله غثاء" بعد أن كان أخضر صار يابسًا يضرب إلى السواد، صار مسودًّا، فهذا كله من دلائل قدرته -تبارك وتعالى- بخلاف قول من قال: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى يعني من شدة الخضرة تميل إلى السواد، يعني إذا كان الماء متتابعًا عليه تجد أن لونه الأخضر يميل إلى السواد، فهذا ليس بمراد هنا، والذي عليه عامة المفسرين خلاف هذا، والله أعلم، وإن كانت شدة الخضرة هي كذلك يعني تجعل هذا اللون الأخضر يميل إلى السواد، إن كان شديدًا، ولكن ليس هو المراد هنا، وإلا فإنك إذا أتيت في الطائرة مسافات مرتفعة على البلاد التي كلها أشجار خضراء تراها كأنها حَرَّة سوداء، تظن أنها سوداء حَرَّة، ولكنها تميل إلى السواد من شدة الخضرة.
يعني كان النبي ﷺ كما جاء في الحديث: يقرأ مع جبريل أثناء الوحي يخاف أن ينسى شيئًا منه، فوعده الله بهذا: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ فهل الاستثناء هنا متصل أنه ينسى شيئًا مما أقرأه إياه؟ أو أنه استثناء منقطع؟
بعض أهل العلم يقول: إن هذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ من أعم المفاعيل سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ، يعني لا تنسى مما تقرؤه شيئًا إلا ما شاء الله أن تنساه، هل شاء الله أو يشاء أن ينسى شيئًا؟
بعض أهل العلم يقولون: الله لم يشأ أن ينسى شيئًا لكن التعليق هنا على المشيئة من باب أن كل شيء لا يكون إلا بمشيئة الله ، كقوله -تبارك وتعالى- عن أهل الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108]، وقال عن أهل النار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107]، فهنا هم خالدون فيها قال: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ فكل شيء بمشيئته، لكنه لم يشأ -تبارك وتعالى- أن يخرجوا بل حكم بخلودهم وبقائهم.
فهنا على قول بعض أهل العلم كالفراء جعلوها كآية هود أن كل شيء بمشيئته لكنه لم يشأ أن ينسى شيئًا مما أُقرئ، وبعضهم يقول: الاستثناء هنا مراد، يعني إلا ما شاء ربك أن تنساه فتذكره بعد ذلك، يعني النبي ﷺ فيما يوحى إليه لا ينسى شيئًا من ذلك إطلاقًا قبل البلاغ، لكنه إذا بلّغ الأمة وحفظت الأمة هذا الوحي قد يعرض له النسيان؛ ولهذا صلى النبي ﷺ فأسقط آية وقال: هلا أذكرتَنيها[14]، فهذا يرِد قد ينسى بعد البلاغ ولكنه يتذكر.
ولكن كثير من أهل العلم حملوا هذا قالوا: إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ يعني ما شاء أن تنساه مما نسخ ورفع، فهذا لا حكم له، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وقريب من هذا قول من قال: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ: لا تترك العمل به إلا ما شاء الله مما نسخ، فسروه هنا بالعمل، ولكن هذا الذي استُثني يكون من قبيل ما نسخ.
وبعضهم يقول: إلا ما شاء الله أن يؤخر سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ أن يؤخر إنزاله، وهذا بعيد، وأبعد من هذا -والله أعلم- قول من قال: إن "لا" ناهية ينهاه أن ينسى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى لكن هذا بعيد؛ لأنه إذا نظرت إلى الرسم تجد أن حرف العلة مثبت، ولو كان الفعل مجزومًا لحذف حرف العلة، فـ "لا" هذه ليست ناهية؛ لأنها لم تجزم الفعل، والذين فسروا النسيان بما لا يملكه الإنسان -ليس بيده- قالوا: لا تغفل عن قراءته، فسروه بهذا، لكن هذا بعيد، والله أعلم.
والذي عليه كثير من أهل العلم، واختيار ابن جرير أن المقصود سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ مما رفع ونسخ، ويلي هذا القول قول من قال كالفراء: إن سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ كقوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فالله لم يشأ أن يقع شيء من النسيان، والله أعلم.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ما يجهر به العباد وما يخفونه، أي محيط بذلك كله فيدخل فيه ما قيل من الجهر بالقراءة أو الصدقة أو نحو ذلك، يعني السلف يفسرون كما سبق بالمثال، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى من القراءة أو الصدقة أو الأعمال أو الأقوال، أو كل ذلك، فالله -تبارك وتعالى- قد عمم ذلك فلا يحمل على بعض المعنى، وكما سبق في تطبيقات التدبر في ذكر الجهر من كلام ابن هبيرة -رحمه الله- من أن الأصوات إذا تعالت واختلطت فإن ذلك مظنة أن لا يفهم ولا يعي السامع ما يقال، والله يعلم ذلك جميعًا، هكذا قال، والله -تبارك وتعالى- يخبر أنه يعلم ذلك جميعًا فهو عنده سواء، بمعنى لا يخفى عليه شيء من الجهر والإسرار.
هذا وعد آخر لنبيه ﷺ بالتيسير لليسرى، يسهل عليه أفعال الخير وأقوال الخير، وينزل عليه شرعًا سهلاً لا حرج فيه، ويدخل في هذا قول من قال: نهون عليك عمل الجنة، أو نوفقك للشريعة اليسرى، أو الوحي، كل هذا داخل فيه، فاليسرى فُعلى من اليسر.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فهنا اليسرى في كل شيء بما شرع عليه ويسر له ابتداء من حفظ الوحي الذي ينزل عليه فلا يشق عليه ذلك حتى يحتاج إلى أن يردد مع الملَك، ويقرأ مع التنزيل في وقت الإيحاء، فهذا من تيسير الله أن يسر عليه حفظه، ويسر عليه العمل، وأنزل عليه شريعة ميسرة، ويسره لكل بر، وفضل وإحسان، وخير، ومعروف، وكان ﷺ ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا[15]، فيسَّره إلى الهدى، إلى طريق الجنة، يسره إلى كل فضيلة ومعروف، وهون عليه ذلك.
وقوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أَيْ: ذَكِّرْ حَيْثُ تَنْفَعُ التَّذْكِرَةُ، وَمِنْ هَاهُنَا يُؤْخَذُ الْأَدَبُ فِي نَشْرِ الْعِلْمِ فَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ : "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ"، وَقَالَ: "حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ الله ورسوله؟!".
هذا الموضع فيه كلام معروف لأهل العلم حيث إن الله -تبارك وتعالى- أمر بالتذكير، وجعله مقيدًا بهذا، إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فما المراد بذلك؟ ابن كثير يقول: ذكِّر حيث تنفع التذكرة، كلام ابن كثير -رحمه الله- فيه نوع من الإجمال هل المقصود حيث تنفع فإن لم تنفع أو غلب على الظن أنها لا تنفع فإنك لا تذكر؟ هذا فهمه بعض أهل العلم، لماذا خص هذه الحال إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى؟ هل هذا مراد؟
فبعضهم قال: نعم إذا نفعت يذكر، وإن كانت لا تنفع فإنه لا يذكر، ومن ثم قالوا: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يوجه الخطاب والدعوة إلى من يظن أنه لا يقبل، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى قالوا: إذا ظننت أنه لا يقبل ولا ينتفع لا يجب عليك أن تأمره وأن تنهاه وأن تعلمه وأن تنصحه وأن تكلمه وأن تخاطبه، لا يجب عليك، هذا قال به بعض أهل العلم، والأرجح خلاف ذلك.
ولهذا قال جمع من أهل العلم وذكر هذا الواحدي والجرجاني والفراء والنحاس وصاحب التفسير الكبير وغير هؤلاء، قالوا: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى يعني أو لم تنفع.
طيب لماذا اقتصر على إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى؟ قالوا: اقتصر على الأشرف، يعني لاحتمال الأكمل وهو إن نفعت لكن وإن لم تنفع فيذكر؛ ولهذا أمر الله موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- أن يذهبا إلى فرعون فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] مع أن الله يعلم أنه لا يتذكر ولا يخشى، والله قال لنبيه ﷺ: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [سورة الشعراء:214] مع أن بعض هذه العشيرة لا يقبلون، وكان منهم أبو لهب عم النبي ﷺ الذي كان يؤذيه، ويسير معه في بعض أسواق العرب يسير خلفه فيقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، ومع ذلك أمر بأن ينذر هؤلاء، فالأمر والنهي والإنذار والدعوة توجه للجميع من يقبل ومن لا يقبل، فمن يقبل فإنه ينتفع ويهتدي، ومن لا يقبل تكون الحجة قد أقيمت عليه، ويكون الإنسان قد أبرأ ذمته وألقى التبعة عن كاهله؛ لأنه سيحاسب على عدم البلاغ.
ثم هذا الباطل أو المنكر إنما يفشو حيث يجهل هؤلاء الناس، لم يعد من يذّكر ولا يأمر ولا ينهى، يقول: ما يقبلون، كيف يعرفون إذًا الحق من الباطل؟ وكيف تقوم عليهم الحجة؟
ولهذا في قصة القرية التي قص الله فيها خبر بني إسرائيل الذين كانوا يعدون في السبت فانقسموا إلى هذه الأقسام الذين يأمرون وينهون، الطائفة الأخرى لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [سورة الأعراف:164] فأجابت الطائفة الأولى: قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ نحن نفعل ذلك إعذارًا إلى الله -تبارك وتعالى، ولما حصل بعد ذلك مسْخ هؤلاء، وحصلت العقوبة لهم ماذا قال: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [سورة الأعراف:165].
والطائفة الثالثة التي سكتت ما كانت تشارك سكت عنهم، العلماء يقولون: سكت عنهم؛ لأنهم لا يستحقون الذكر أصلاً مع اختلافهم هل نجوا أو أنهم ما نجوا، ابن عباس كان يرى أنهم مسخوا، يقول عكرمة: فما زلت به حتى تبين له أنهم نجوا، لكن ترك ذكرهم؛ لأنهم لا يستحقون التنويه بالذكر -الذين سكتوا- فالمقصود أن هؤلاء كانوا في حال من اليأس لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا لا يقبلون.
فالمراد فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى أن ذلك يعني حيث نفعت أو لم تنفع، وبعض أهل العلم يقول: هذا مخصوص بقوم معينين، ولا دليل عليه، بل هي عامة، فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى وقد يكتفى بالأشرف أو بأحد النوعين ليدل على الآخر، وهذا أنواع وكثير كقوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] ما ذكر البرد، هي تقيهم البرد، ذكر أحد النوعين ليدل على الآخر، والله أعلم.
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [سورة الانشقاق:19]، برقم (4941).
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من شكا إمامه إذا طول، برقم (705)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (465).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (18383)، وقال محققوه: "حديث صحيح".
- رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم (878)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقرأ به في الجمعة، برقم (1122)، وأحمد في المسند، برقم (18409)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير حبيب بن سالم، فمن رجال مسلم، عفان: هو ابن مسلم الصفار، وأبو عوانة: هو الوضاح بن عبد الله اليشكري"، وقال الشيخ الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في "صحيحه"، في صحيح أبي داود برقم (1027).
- رواه أحمد في المسند، برقم (2725)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وبرقم (2776)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وبرقم (15354)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه أبو داود، باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب الدعاء في الصلاة، برقم (883)، وأحمد في المسند، برقم (2066)، وقال الألباني: "حديث صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي"، في صحيح أبي داود، برقم (826).
- انظر: تفسير الطبري (23/ 528).
- انظر: تفسير الطبري (24/ 310)، ورواه أبو داود، باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب الدعاء في الصلاة، برقم (883)، وأحمد في المسند، برقم (2066)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (826)، وفي صحيح الجامع، برقم (4766).
- بدائع الفوائد (1/ 19).
- المصدر السابق (1/ 20).
- رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).
- بدائع الفوائد (1/ 20).
- رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام، برقم (2653).
- رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (13216)، عن سالم عن أبيه: "أن رسول الله ﷺ صلى صلاة فأُلبس عليه فيها، فلما انصرف قال لأبي بن كعب: أصليت معنا؟، قال: نعم، قال: فما منعك أن تفتح عليّ؟".
- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، برقم (3560)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته ﷺ للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، برقم (2327).