الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} الآية:10- حتى نهاية السورة
تاريخ النشر: ٢٥ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 3827
مرات الإستماع: 2624

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1] أي: سبح ربك ذاكرًا اسمه، والأعلى يعود إلى الله -تبارك وتعالى، سبح ربك الأعلى ذاكرًا اسمه، الَّذِي خَلَقَ أوجد من العدم، فَسَوَّى ما خلق،  خلق هذا الخلق خلقًا معتدلاً مستويًا، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [سورة الأعلى:3] قدر مقادير الأشياء والخلائق، وهدى كل مخلوق إلى ما قدر له، ويدخل في ذلك هداية التوفيق وهداية الإرشاد.

وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى [سورة الأعلى:4] الذي تأكله الدواب والبهائم، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [سورة الأعلى:5] أخرجه فصار إلى حال من الخضرة، ثم بعد ذلك ما يلبث أن ييبس حتى يصير متفتتًا متكسرًا هشيمًا يتحول إلى السواد بعد أن ييبس أَحْوى.

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى [سورة الأعلى:6] هذا وعد من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ بأن يقرئه القرآن فلا ينسى، بل يثبت ذلك في قلبه ولا يحتاج معه إلى أن يكرره مع الملَك، سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ۝ إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ [سورة الأعلى:6، 7] أن تنساه مما نسخ ورفع، أو أن ذلك "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله" على سبيل التحقيق بذكر المشيئة، كقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [سورة الفتح:27]، وهم داخلوه قطعًا، فيكون المعنى على هذا سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ۝ إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ لكن الله لم يشأ أن تنسى شيئًا من القرآن.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى علمه محيط يسمع ويعلم جميع الأصوات المجهور منها والخفي فهي مهما تكاثرت وتغالبت وارتفعت وضج الناس فإن الله -تبارك وتعالى- يميز ذلك، ولا يفوته منه شيء، ويعلم مقال كل أحد من هؤلاء الرافعين أصواتهم، كما أنه -تبارك وتعالى- يعلم ما يخفى من السر.

وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [سورة الأعلى:8] هذا أيضًا وعد من الله لنبيه ﷺ أن ييسره لليسرى، لليسرى في كل شيء، وذلك للأيسر فييسره لطريق الجنة لعمل الجنة، ييسر له حفظ القرآن، ييسر له كل أمر من أموره، فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] ذكر الناس بهذا القرآن، ذكرهم بالإيمان، ذكرهم بالآخرة إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى هنا قال: إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ومعلوم أن الذكرى أو أن التذكير يجب إقامةً للحجة، وبيانًا للحق، ولكن كأنه ذكر -والله أعلم- أشرف النتيجتين أو الاحتمالين ذكر إن نفعت الذكرى، يعني وإن لم تنفع فإنه أيضًا مأمور بالتذكير سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ۝ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [سورة الأعلى:10، 11].

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين.

قال المصنف -رحمه الله: وقوله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى أي: سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قلبه يَخْشَى اللَّهَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ۝ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ۝ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حَيَاةً تَنْفَعُهُ، بَلْ هِيَ مُضِرَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بِسَبَبِهَا يَشْعُرُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنْ أَلِيمِالْعَذَابِ وَأَنْوَاعِ النَّكَالِ.

روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا أُنَاسٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمُ الرَّحْمَةَ فَيُمِيتُهُمْ فِي النَّارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشُّفَعَاءُ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الضِّبارةَ فَيُنْبِتَهُمْ -أَوْ قَالَ: ينبتون- في نهر الحيا- أَوْ قَالَ: الْحَيَاةِ أَوْ قَالَ: الْحَيَوَانِ أَوْ قَالَ: نَهَرِ الْجَنَّةِ- فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَمَا تَرَوْنَ الشَّجَرَةَ تَكُونُ خَضْرَاءَ ثم تَكُونُ صَفْرَاءَ ثُمَّ تَكُونُ خَضْرَاءَ؟، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ بِالْبَادِيَةِ[1].

وروى أَحْمَدُ أَيْضًا عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ أُنَاسٌ -أَوْ كَمَا قَالَ- تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ -أَوْ قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ- فَيُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ حِينَئِذٍ: كَأنّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كان بالبادية، ورواه مسلم[2].

قوله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ۝ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وهذا يدل على أن الذي ينتفع بالتذكرة هم أهل الخشية، وأن الذين لا ينتفعون ولا يتعظون ولا يعتبرون هم الأشقياء، فهذه علامة أهل السعادة وعلامة أهل الشقاوة، ولذلك ينبغي على المؤمن أن يحرص غاية الحرص على الانتفاع بما يسمع، وأن يعمل بما علم، وأن يظهر أثر ذلك عليه في سمته وهديه ودَلّه وعمله وحاله في ظاهره وباطنه.

سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وعرفنا أن الخشية أخص من مطلق الخوف، فهي خوف مع علم بالمخوف منه، بخلاف الخوف المطلق فإنه قد لا يكون مع علم، فقد يخاف الإنسان من أمور لا يعرفها، لكن إذا كان على علم بالمخوف منه فهذه هي الخشية.

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الأشقى هنا هل المقصود به أفعل التفضيل يعني الأكثر شقاء؟ أو أن المقصود بأفعل التفضيل هنا مطلق الاتصاف، يعني ليس على بابه، أي أن المراد يتجنبها الشقي؟ هذا -والله تعالى أعلم- هو الذي يظهر، أي أن أفعل التفضيل غير مراد هنا، وإنما مطلق الاتصاف، وهذا يأتي ويرد، وسبق الكلام على هذا وذكر أمثلة له كقول الشاعر:

تمنى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ

يعني لست فيها بواحد، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ۝ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى النار الكبرى هذه هي نار جهنم -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها، والنار الصغرى هي نار الدنيا، بالنسبة لنار الآخرة كما قال الحسن البصري -رحمه الله.

وبعضهم يقول: إن المقصود بالنار الكبرى هي النار السفلى، الطبقة السفلى من النار كما يقوله الزجاج، وهذا فيه بُعد؛ لأن الأشقياء هؤلاء من الكفار ليسوا في النار السفلى، النار على دركات، وإنما الذين في السفلى منها -في الدرك الأسفل- هم أهل النفاق، والذين لا ينتفعون بالذكرى من هؤلاء الكفار ليسوا فقط محصورين بأهل النفاق، وإنما بمختلف طوائفهم -أعني الكفار.

قال: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى "ثم" هنا ليست للتراخي في المدة الزمانية، وإنما التراخي في مراتب الشدة؛ لأن التردد بين الموت والحياة هذه الحال فوق دخول النار، يعني أشد وأعظم، يعني ليس مجرد دخول النار فقط بل يكون في حال فيها لا يموت ولا يحيا،يعني قد يدخل النار ويموت بلحظات، لكن هذا لا يموت ولا يحيا يبقى أبد الآباد، نسأل الله العافية.

ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى هنا قد يقول قائل: كيف نفى عنه النقيضين، الموت والحياة نقيضان، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، يعني الموت والحياة لا يجتمعان في ذات واحدة فيقال: حي ميت في وقت واحد، ولا يرتفعان في وقت واحد فيقال: لا حي ولا ميت، إما حي وإما ميت، مثل الليل والنهار، الوجود والعدم، ما تقول: نحن الآن في ليل نهار، أو تقول: لا ليل ولا نهار، فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فكيف نفى الله ذلك عنه، كيف نفى النقيضين؟

يقال: المقصود هنا ليس نفي أصل الحياة، وإنما المقصود أنه لا يموت فيستريح، فهو حي يحس ويتألم، ويُعذب ولا يحيا حياة نافعة، هذا هو المراد -والله أعلم.

وهنا ذكر الحديث: أما أهل النار الذين هم أهلها -يعني أهل الخلود- فلا يموتون ولا يحيون، كما قال الله ثم ذكر من يخرجون منها، يعني من غير أهل الخلود، وذكر الشفعاء يدخل عليهم الشفعاء فيأخذ الرجل الضِّبارة فينبتهم، أو قال: ينبتون في نهر الحياة، يأخذ الضبارة يعني الرجل الشفيع أو الشافع يدخل على هؤلاء المعذبين من أهل التوحيد فيأخذ الضبارة يأخذ الجماعة منهم يشفع في جماعة فيخرجون من النار فيلقون في نهر الحياة، فينبتون بهذه الطريقة التي ذكرها النبي ﷺ نبات الحِبّة -والحِبّة يعني بذور البقل ونحو ذلك- في حميل السيل.

يعني الحبة هذه تنبت في حميل السيل، وحميل السيل ما يحمله السيل من بقايا أشجار، فتات، هشيم، طين فيكون على ضفافه، ضفاف مجرى السيل، أو يلقيه في ناحية، فتنبت هذه الحِبة نبتة صغيرة ضعيفة تميل إلى الصفرة، ثم بعد ذلك تخرج شيئًا فشيئًا، ولهذا قال: أما ترون الشجرة تكون خضراء ثم تكون صفراء ثم تكون خضراء؟، يعني في بدايتها وهي صغيرة هكذا.

ولهذا قال بعضهم: كأن النبي ﷺ كان في البادية، يعني يشاهد هذا النبات وما يخرج في حميل السيل، ما يحمله السيل، وهنا قال: فجيء بهم ضبائرَ ضبائرَ فبُثوا على أنهار الجنة، فيقال لأهل الجنة: أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحِبة تكون في حميل السيل.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ۝ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ۝ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ۝ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [سورة الأعلى:14-19]، يَقُولُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أَيْ: طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وتابع ما أنزل الله على الرسول -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ.

وهذا غالب الاستعمال في مثل هذا، تزكية النفس بالإيمان وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وسبقت الإشارة إلى قول من قال: إن المقصود بذلك "تزكى" يعني أخرج زكاة الفطر، وأن زكاة الفطر لم تشرع بمكة، ولهذا عمد بعض هؤلاء إلى القول بأن هذه الآية نازلة في المدينة، ولكن الأقرب ما ذكره ابن كثير، وهذا الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم أن التزكية المقصود بها هنا تزكية النفس، كما قال الله : قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10]، فهنا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى فتلك الآية تفسر هذه.

لكن في بعض المواضع -كما ذكرت سابقًا- يكون ذلك محتملاً للمعنيين، يعني زكاة المال، أو تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح وتخليصها من أضداد ذلك، هذا يوجد في بعض المواضع كقوله -تبارك وتعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ۝ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة فصلت:6، 7]، فهل المقصود بها زكاة المال؟ وكقوله -تبارك وتعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [سورة المدثر:42-45]، مسألة توجه الخطاب خطاب الشارع إلى الكفار بفروع الشريعة هنا هل هم مطالبون بهذه الأشياء؟

هي لا تصح منهم قطعًا، لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فهذا زيادة في التعذيب عليهم يوم القيامة، على أن بعض الأصوليين ذكروا معنى آخر غير العذاب، أو مضاعفة العذاب الأخروي.

وهنا وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ۝ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ يحتمل أنهم لا يخرجون الزكاة زكاة المال، ويحتمل أنهم لا يؤتون الزكاة، يعني تزكية النفوس، الإيمان، وهذا لعله الأقرب -والله أعلم- مع أن الآية تحتمل المعنيين.

وقال تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أَيْ: أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَطَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالًا لِشَرْعِ اللَّهِ.

إذًا وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أقام الصلاة في أوقاتها امتثالاً لشرع الله -تبارك وتعالى، أولئك يقولون: ذكر اسم ربه يعني في ذكر العيد، وصلى صلاة العيد، كما قالوا في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ  [سورة الكوثر:2]: صلاة العيد، والنحر الذي هو الأضاحي، وهذا أيضًا بعيد -والله تعالى أعلم.

وبعض أهل العلم يقول: "وذكر اسم ربه فصلى" يعني ذكر اسم ربه بالخوف فعبده وصلى له.

وبعضهم يقول: ذكر اسم ربه بلسانه فصلى لله تعالى أي أقام الصلوات.

وبعضهم يقول: الذكر هنا ذكر القلب، يعني ذكر موقفه ومعاده فعبده -تبارك وتعالى، وهنا قد أفلح من تزكى بالإيمان والعمل الصالح، وذكر اسم ربه يعني ذكر ربه -تبارك وتعالى- باسمه، فهذا يشمل ذكر القلب وذكر اللسان، كما قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1] هنا وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى فيكون من الذاكرين المصلين، فهنا حكَمَ بالفلاح لأهل الذكر والصلاة بعد الإيمان، قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى.

وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ سَائِلٌ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلْيُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِهِ زَكَاة، فَإِنَّ الله تعالى يَقُولُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى زَكَّى مَالَهُ وَأَرْضَى خَالِقَهُ.

هذه أقوال لهؤلاء السلف ترجع إلى خلاف المعنى المشهور الذي عليه الجمهور من أن المقصود بالتزكية هنا تزكية النفوس بالإيمان، فيكون ذلك بزكاة يعني من المال، والذين قالوا: إنها نزلت في صدقة الفطر جماعة كقتادة وعطاء وأبي العالية، وبعضهم يقول: في زكاة الأموال كلها وهذا مروي عن أبي الأحوص وأيضًا هو رواية عن قتادة.

وبعضهم يقول: المقصود هنا بالتزكية تزكية الأعمال كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهذا يرجع إلى تزكية النفوس، وهذا مروي عن ابن عباس، وقال به جمع من التابعين كالحسن، وهو رواية عن قتادة، وقال به عكرمة.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: تُقَدِّمُونَهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ وَتُبْدُونَهَا عَلَى مَا فِيهِ نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم.

يعني لما ذكر لمن يكون الفلاح -والفلاح هو تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب- ذكر الحال التي عليها من لم يوفق لمثل هذا من الأعمال الطيبة الزاكية فقال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، العاجلة القريبة، تؤثرونها على الآخرة، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، وإنما يكون هذا لضعف اليقين، فإذا انعدم اليقين تكالب الناس على الدنيا، وإذا ضعف يقينهم في الآخرة فإن ذلك يكون ضعفًا في إقبالهم على عملهم، ويكون الحرص والجد في تحصيل متاع الحياة الدنيا، ومن ثم فإن الإنسان قد يشق عليه العمل ويثقل البذل في سبيل آخرته؛ لضعف يقينه.

قال الله تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَنِيَّةٌ فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى وَيَهْتَمُّ بِمَا يَزُولُ عَنْهُ قَرِيبًا وَيَتْرُكُ الِاهْتِمَامَ بِدَارِ الْبَقَاءِ وَالْخُلْدِ؟!.

على أن هنا أيضًا أفعل التفضيل ليست على بابها؛ لأنه لا مقارنة بين الدنيا والآخرة، لا مقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، لا مقارنة بين مدة الدنيا ومدة الآخرة، دار البقاء ودار الفناء، وإنما يكون التفضيل بين شيئين بينهما قدر مشترك بحيث يمكن أن تقارن بين هذا وهذا، أو بأن تفاضل بين هذا وهذا، وإلا فإذا كان ذلك لا يتأتى فيكون كما قيل:

ألم ترَ أنّ السيفَ يَنقُص قدرُه إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

فما يقارن بين السيف والعصا فيقال: والله هذا السيف أقطع من العصا، هذا أحدّ من العصا، يكون هذا من قبيل الاستخفاف بالسيف والازدراء به، وعلى هذا يحمل ما جاء من أفعل التفضيل بين أمور الدنيا وأمور الآخرة أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا [سورة الصافات:62] "خير" هنا تأتي بمعنى أفعل التفضيل "خير" بمعنى أخير، وتأتي مرادًا بها مطلق الاتصاف، وكذلك آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة النمل:59] هنا لا وجه للمقارنة.

وقد روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مِنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى[3]، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

الحديث في إسناده ضعف، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ضعف هذا الحديث أولاً ثم بعد ذلك صححه لغيره، يعني صححه لشاهد آخر.

وقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ۝ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى هذه الآية كقوله تعالى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ۝ وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ۝ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ۝ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى ۝ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ۝ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ۝ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى  [سورة النجم:36-42] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهِنَّ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قِصَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ۝ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا أَيْ مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ، لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ۝ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وهذا الذي اختاره حسن قوي، وقدرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ نَحْوُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبِّحْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.

إِنَّ هَذَا الإشارة هنا إلى قريب فيكون ذلك متوجهًا كما قال ابن جرير -رحمه الله- إلى قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني هذا الحكم الذي حكم الله -تبارك وتعالى- به، وما ذكر بعده وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ۝ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، وهذا قال به جماعة من السلف كقتادة وابن زيد، ويقولون: تتابعت هذه الكتب -كتب الله -تبارك وتعالى- على أن الآخرة خير وأبقى من الأولى، وجاء عن الحسن البصري نحو هذا إلا أنه حدد البداية.

قول ابن زيد وقتادة: إِنَّ هَذَا يعني الآخرة خير وأبقى، والحسن البصري يقول كما قال ابن جرير: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى قوله: وَأَبْقى هو المراد، يعني الإشارة هنا ترجع إلى أي موضع من هذه الآيات؟

عند ابن جرير والحسن البصري من قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، وعند الآخرين كقتادة وابن زيد أن ذلك يرجع إلى قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أن هذه الكتب متتابعة على تقرير هذا المعنى، يقول: قال أبو العالية: قصة هذه السورة في الصحف الأولى، فقوله: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ۝ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يعني أن هذا المذكور ثابت في هذه الصحف.

قال -رحمه الله: قد تقدم عن النعمان بن بشير أن رسول الله ﷺ كَانَ يَقْرَأُ بِـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1]، وَالْغَاشِيَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَروى الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ[4]، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.

سورة الغاشية هي من السور المكية باتفاق، وهذه السورة تتحدث أيضًا عن القيامة، عن الآخرة، تتحدث عن النار وعن حال أهلها، وتتحدث أيضًا عن أهل النعيم وما لهم في الجنة، وهذه السورة حينما تتحدث عن هذه القضايا تنعى على الناس الغفلة والإعراض عن آخرتهم، وعن الإيمان مع قيام الشواهد والدلائل والبراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته، فكيف يحصل منهم هذا الإعراض والكفر والتكذيب بالآخرة ولا يؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- يعيد بعث هذه الأجساد ثانية بعد أن تفنى؟!

ومن هنا يأمر الله نبيه ﷺ بأن يقوم بمهمته وهي التذكير فحسب، ثم الله -تبارك وتعالى- يتولى عباده، خوّفهم ورغّبهم وعجب من إعراضهم وتكذيبهم مع قيام الدلائل الظاهرة على وحدانيته وقدرته على بعثهم، ثم قال لنبيه ﷺ قولاً مبطنًا بالتهديد: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ [سورة الغاشية:21] يعني نحن سنتولاهم، ثم صرح بذلك بعده: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [سورة الغاشية:25، 26] هذا ما تدور عليه هذه السورة، والله تعالى أعلم.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (11016)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (11077)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي نضرة -وهو المنذر بن مالك العبدي- فمن رجال مسلم، سعيد بن يزيد: هو أبو مسلمة الأزدي البصري".
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (19697)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5340).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (18381)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".

مواد ذات صلة