الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[21] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 51 إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} الآية 56
تاريخ النشر: ١٥ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3302
مرات الإستماع: 2276

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ۝ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ [سورة المائدة:51-53].

ينهى -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ الآية [سورة المائدة:51].

روى ابن أبي حاتم أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك، فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة المائدة:51] الموالاة بمعنى النصرة والموادة، ويقع ذلك بصور كثيرة جدًا، يقع بالقلب بالميل إليهم وتقديمهم على المسلمين والفرح بظهورهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي تدخل تحت هذا المعنى، ويكون أيضًا بالفعل بإعانتهم على المسلمين وبإيثار الإقامة بين أظهرهم على الإقامة بين أظهر المسلمين، وما شابه ذلك من الأمور الكثيرة المتفاوتة،

فالموالاة ليست على مرتبة واحدة، فمنها ما يكون معصية، ومنها ما يكون كفرًا مخرجًا من الملة، ويختلف ذلك باختلاف الصور، وأيضًا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يكون الفعل الواحد المعين يصدر من شخص فيكون كفرًا مخرجًا من الملة، ويصدر من آخر فيكون معصية، ومثل هذه المسائل هي من المسائل الدقيقة الشائكة التي لو وقف الناس معها عند حد الحذر من الوقوع في هذا الأمر الذي توعد الله عليه، وتحذير الناس منه لحصل المقصود.

وأما أن يتحول الناس من هذا إلى الاشتغال بتطبيق ذلك على الناس، فهذا أمر لا تحمد عواقبه خاصة إذا صدر ممن لا بصر له بالعلم، وكثير من الناس يبحثون في مثل هذه المسائل ويريدون أن يخرجوا فيها بحكم دقيق فصل وقاعدة عامة، وليس هناك قاعدة عامة إلا أن موالاة المشركين لا تجوز، أما متى تكون كفرًا مخرجًا من الملة ومتى لا تكون؟ فهذا لو جاء أحد فيه بقاعدة لخالفه غيره؛ لأن الشارع ما جاء بمقاييس محددة تفصل ذلك، وإنما يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وما أشبه ذلك. 

فالفعل الواحد يصدر من اثنين يكون كفرًا من هذا ولا يكون كفرًا من هذا، ومن أوضح الأدلة في هذه المسألة حديث حاطب بن أبي بلتعة فالذي فعله هو موالاة للمشركين، حيث كتب إليهم بما عزم عليه رسول الله ﷺ من المسير إليهم ومع ذلك لم يكفر، وقد قال النبي ﷺ لعمر: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم[1] فاحتسب له عمله في بدر ولو أنه كفر لحبط عمله، ولكن هذه الصورة أو هذا المثال لا يدل على أن من فعل ما فعل لا يخشى على دينه وإيمانه.

وقد جاء في بعض الروايات عن حاطب أنه ذكر للنبي ﷺ في جملة ما اعتذر به أنه عالم أن الله ناصر نبيه وأن هذا لا ينتفع به المشركون وإنما يريد أن يتخذ به يدًا عندهم فقط، أي أنه يتخذ شيئًا يستفيده هو دون أن يتضرر المسلمون، وعلى كل حال الأمثلة كثيرة جدًا في هذا وفي غيره، وهى تدل على أن الفعل الواحد يختلف حكمه بحسب الحال وبحسب من صدر منه، وما يقوم بقلبه وما إلى ذلك من الأمور التي تحتف به. 

ولهذا لا نستطيع أن نقول: إن موالاة المشركين إن كانت متعلقة بأمر يقوم بقلب العبد وهو محبة دينهم مثلًا فهذا هو الكفر المخرج من الملة وإلا فلا يكون مخرجًا من الملة، فهذا ليس صحيحًا إطلاقًا، ومن قال: إن موالاة المشركين بإطلاق كفر يخرج من الملة، فهذا أيضًا غير صحيح؛ فالأدلة ترده ومنها حديث حاطب هذا، ومن ذلك قصة أبي لبابة بن عبد المنذر رسول رسولِ الله ﷺ في قصة بني قريظة لما قالوا له: ننزل على حكم رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني الذبح، ثم قال بعد ذلك: إن قدمه ما زالت في مكانه الذي وقف فيه حتى أدرك أنه خان الله ورسوله، ومع ذلك لم يكفر بهذا الفعل. 

فلذلك لا يقال: إن كل ما يقع من موالاة تكون كفرًا مخرجًا من الملة، ولا يقال أيضًا: إنه لا يكون كفرًا إلا إذا كان لمحبة دينهم، لكنه متفاوت فمنه ما يكون من كبائر الذنوب ومنه ما يكون دون هذا ومنه ما يكون مخرجًا من الملة، والواجب على الإنسان إذا سمع هذه النصوص أن يحذر من الوقوع في قليل هذا وكثيره، والعلماء -رحمهم الله- ذكروا من الموالاة أشياء، منها تبرية القلم وتعبئة الدواة له وما أشبه ذلك، فيبقى على الإنسان أن يحذر هذه الأمور ويتجنبها بجميع صورها.

وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يحتمل معنيين، يحتمل أن اليهود يوالون النصارى، ويحتمل أن المراد أن النصارى يوالي بعضهم بعضًا وأن اليهود يوالي بعضهم بعضًا، ومستند صاحب هذا القول الأخير أن اليهود يكفرون النصارى والعكس، والعداوة بينهم معروفة، وقد أخبر الله عن هذا فقال: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة المائدة:64] فقالوا: هذا كقوله -تبارك وتعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] يعني هذا مقسم عليهم، فاليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا، فقالوا: قوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة المائدة:51] مثل الآية الأخرى أي أن كل طائفة توالي قومها وأتباع دينها وما أشبه ذلك.

والذين قالوا: إن المراد أن اليهود يوالون النصارى، قالوا: إن بينهم عداوة كما أخبر الله كما أن بين طوائف النصارى عداوة وبين طوائف اليهود عداوة، والقرآن أخبر عن هذا وقال عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14] قيل: إن ذلك في اليهود والمنافقين، وقال الله : بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14] ومن المعاني التي ذكرت في قوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14] قيل: أي العداوة التي هي واقعة بينهم، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على هذا المعنى.

وعلى كل حال لا شك أنهم يجتمعون على حرب الإسلام كما اجتمع أهل الأحزاب من المشركين ومن اليهود والمنافقين، وهم أيضًا يوالي بعضهم بعضًا كما هو معلوم، وإن وقع بينهم عداوة إلا أن الموالاة موجودة ولو لبعض طوائفهم، ولهذا قال الله : وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [سورة البقرة:217] فهم جميعًا يوالي بعضهم بعضًا كما يشهد به الواقع، والموالاة هي النصرة، فينصر بعضهم بعضًا إذا كان العدو هو الإسلام.

روى ابن أبي حاتم أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد.

قوله: "أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد" يعني أن يكتب ذلك في رقعة واحدة، فالكاتب أحصى له المخرجات والأشياء التي وردت، يعني الأشياء التي دفعت من بيت المال والأشياء التي وردت إليه، وهذا يسمى إحصاء ومحاسبة أو تقريرًا عن المصارف والموارد المالية في تقرير واحد بكتاب واحد.

وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك، فعجب عمر وقال: "إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتابًا في المسجد جاء من الشام؟ " فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر: أجُنُب هو؟، قال: لا، بل نصراني، قال: فانتهرني وضرب فخذي ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء الآية [سورة المائدة:51].

طبعًا كون اليهودي أو النصراني يعمل عند المسلم ليس هذا من الموالاة، لكن هذا حاله يختلف؛ فإنه يطلع على ما دخل وما خرج فهو يعرف هذه الأمور التي ينبغي أن لا يعرفها العدو فيطلع على عورات المسلمين، وما يحصل لهم من قوة اقتصادية أو من ضعف وما أشبه هذا، فلا يُتخذ كاتبًا؛ لأنه سيكتب الأمور الخاصة والعامة، فكل ما يتعلق بأبي موسى الأشعري فيما يختص بولايته يمر عن طريق هذا النصراني وذلك من أمور الحرب والسلم وليس فقط الاقتصاد والمال، فمثل هذا يكون قد قُرِّب واتُّخذ بطانة، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [سورة آل عمران:118] أي لا تتخذوا بطانة من غيركم فإنهم لا يدخرون وسعًا فيما يضعفكم ويوهنكم ويفت في أعضادكم، وما أشبه ذلك، فالذي في قصة أبي موسى الأشعري من هذا الباب.

ثم روى عن عبد الله بن عتبة قال: ليتقِ أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا وهو لا يشعر، قال: فظنناه يريد هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء الآية [سورة المائدة:51].

ومن ذلك الذي يقدمهم على المسلمين ويتمنى نصرهم، ويرى أنهم رسل الحرية وأنهم أفضل من المسلمين فهذا يخشى عليه أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا، والمرء يحشر مع من أحب، وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن من جامع المشرك وساكنه فهو مثله، فمثل هذه الأشياء تدل على أن هذا من أنواع الموالاة التي قد تجعله يهوديًا أو نصرانيًا وهو لا يشعر.

وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أي: شك وريب ونفاق يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [سورة المائدة:52].

المرض يطلق ويراد به النفاق -ويمكن أن يكون هو المراد هنا- كما جاء في بعض الروايات أن المراد بذلك عبد الله بن أبي، وهذا في رواية قد لا تصح، لكنْ كثير من أهل العلم ومنهم ابن جرير –رحمهم الله- يقولون: إنها نزلت في عبد الله بن أبي.

قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ المرض يطلق على مرض النفاق كما قال الله : فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا [سورة البقرة:10]، ويطلق على ضعف الإيمان، وهو أحد المعنيين في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] فهذا العطف هنا إن كان من باب عطف الذوات الذي يقتضي المغايرة فيكون هذا للتنوع، فيكون الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين -أعني في آية الأحزاب هذه- وبالتالي يكون المراد بالذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان.

وبعض أهل العلم يقول: هذا كله من باب عطف الصفات والموصوف واحد، فهي من صفات المنافقين، أي أنهم منافقون وفي قلوبهم مرض، والمقصود أن مرض القلب إذا ذكر في القرآن فتارة يراد به ضعف الإيمان وتارة يراد به النفاق إلا في موضع واحد وهو قوله -تبارك وتعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] فهنا المراد به الذي فيه ميل محرم للنساء فالمرض هنا هو الميل المحرم للنساء، وأما المرض في قوله تعالى هنا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52] فيمكن أن يصدق على المنافقين وعلى ضعفاء الإيمان.

يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [سورة المائدة:52] أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم أيادٍ عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52].

قوله: نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52] يمكن أن يصدق على معنى الدائرة ما ذكره هنا من أنه قد يحصل انتصار للكفار على المسلمين فيكون هذا الإنسان قد مهد لنفسه ووطأ لها مخرجًا يعتصم به ويلجأ إليه، ومما يدخل في الدائرة أيضًا أن يصيب الناس بلاء في، جائحة أو فقر أو أي مكروه –نسأل الله العافية- فيكون له من الرفد والمعتصم -في زعمه- يعني لا يقطع العلائق بالكفار ويتبرأ منهم وإنما يجعل له خطوط رجعة بحيث إذا حصل مكروه أو شيء يكون له أيادٍ عند هذا وهذا فينجو بها بزعمه.

عند ذلك قال الله تعالى: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] قال السدي: يعني فتح مكة.

قد عرفنا قبلُ أن "عسى" من الله واجبة، يعني أن ذلك متحقق الوقوع وأن أصلها للترجي في كلام المخلوقين، وإذا صدرت من الله فهو علام الغيوب فالمراد بها التحقيق، ولهذا قالوا: "عسى" من الله واجبة، وعلى هذا يكون قوله: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] أي أمر فتح مكة، أو ظهور النبي ﷺ على الكفار -سواء كانوا من كفار مكة أو من غيرهم- بالفتح والنصر والغلبة، والظهور على الكافرين من المشركين ومن اليهود والنصارى كما حصل بفتح قريظة والنضير وسائر اليهود كبني قينقاع، وهكذا ما حصل من الفتوح كفتح فارس والروم وما أشبه هذا، وهذا المعنى الثاني أحسن لأنه حملٌ للمعنى على العموم.

أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ [سورة المائدة:52] قال السدي: يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى.

قوله: "يعني ضرب الجزية" هذا أحد المعاني الداخلة، والمعنى أنه يحصل انتصار للمسلمين أو يحصل أمر من عند الله تندفع به صولة الكفار وتنطفئ نارهم ويحصل الظهور لدين الله -تبارك وتعالى- وتنتفي المخاوف.

وبعضهم يقول في قوله تعالى: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ يعني كشف المنافقين وفضحهم وتعريتهم وما أشبه ذلك، وبعضهم يقول: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ أي ما يحصل من السعة والخصب وما أشبه ذلك من الأمور التي يستغنون بها عن الكفار، والحاصل أن الله يقول: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] بالغلبة والنصر أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ بأي أمر يحصل به دحر الكافرين ومحقهم ودفع صولتهم وما أشبه ذلك، فالله على كل شيء قدير.

فَيُصْبِحُواْ يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ من الموالاة نَادِمِينَ [سورة المائدة:52] أي على ما كان منهم مما لم يُجْدِ عنهم شيئًا ولا دفَع عنهم محذورًا بل كان عين المفسدة فإنهم فُضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين لا يُدرى كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبيّن أمرهم لعباد الله المؤمنين فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ [سورة المائدة:53].

هذه الجملة وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ فيها ثلاث قراءات متواترة، قراءتان بالواو وقراءة بحذف الواو، فالقراءتان بالواو أولاهما بالرفع والثانية بالنصب –في اللام من قوله: وَيَقُولُ وإحدى القراءات بحذف الواو والرفع، فعلى هذه الأخيرة يكون كلامًا مبتدأً هكذا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [سورة المائدة:52] ثم ابتدأ كلامًا جديدًا: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) [سورة المائدة:53].

فعلى قراءة النصب يمكن أن يكون ذلك عطفًا على فَيُصْبِحُواْ هكذا فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ إلى أن قال: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ.. [سورة المائدة:52] أي فإذا جاء النصر أو الأمر من عند الله يحصل من جراء ذلك الندم فيصبحوا ويقولَ الذين آمنوا، هذا الاحتمال الأول.

وبعضهم يقول: إن قوله: وَيَقُولَ معطوف على يَأْتِيَ هكذا: فعسى الله أن يأتي بالفتح ويقولَ الذين آمنوا، وبعضهم يقول: إنه معطوف على الفتح هكذا: فعسى الله أن يأتي بالفتح ويقولَ الذين آمنوا، وعلى كل حال فالقول الأول لعله أقرب وأرجح، وهذا على قراءة النصب في (يقولَ) كما سبق أن ذكرنا، وأما بالنسبة لقراءة الرفع مع ثبوت الواو وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ تكون الجملة استئنافية، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله ﷺ بنو قينقاع، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أُبيّ بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله ﷺ فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، قال: فأعرض عنه، قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ: أرسلني وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه ظللًا ثم قال: ويحك أرسلني قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله ﷺ: هم لك[2].

قوله: "أربعمائة حاسر " الحاسر هو الذي ليس عليه لا درع ولا مغفر.

وقوله: "منعوني من الأحمر والأسود" هذا يقال للتعميم، يعني منعوني من جميع الناس أحمرهم وأسودهم، ويقال: بُعث النبي ﷺ إلى الأحمر والأسود، يعني لجميع الخلق.

إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله ﷺ: هم لك قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ.

الرواية السابقة كما هو بين أنها من طريق ابن إسحاق، ومثل هذه الروايات تذكر في السير ليس لها إسناد، وقد يتساهل في الرواية فيما يتعلق بالسير بشروط، لكن حينما نقول: إن هذا هو سبب النزول فهذا لابد له من النظر في صحة الإسناد.

قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ﷺ وكان أحدَ بني عوف بن الخزرج.

وعبد الله بن أبي هو من زعماء الخزرج، وقد كان الحلف بين الخزرج وبين النضير وبني قينقاع، وأما الأوس فكان حلفاؤهم قريظة، ولهذا لما صارت وقعة قريظة جاء الأوس إلى سعد بن معاذ يطوفون به وهو على حماره، ويقولون: الله الله في مواليك، ولقد كان الأوس والخزرج في الجاهلية يتنافسون في المكارم، فيقولون: إن الخزرج أحسنوا إلى حلفائهم في قينقاع والنضير، وكانت وقعة النضير قبل وقعة قريظة حيث قيل: إنها كانت بعد وقعة أُحد بأربعة أشهر، وقيل: بعد أُحد وبئر معونة، وأما وقعة قريظة فكما هو معروف أنها كانت بعد الأحزاب مباشرة حيث انطلق إليهم النبي ﷺ بعد عودته من الأحزاب، وبالنسبة لعبادة بن الصامت فهو من رهط عبد الله بن أبي من الخزرج وقد تبرأ من حلفه هذا وإن كانت هذه الرواية هنا لا تصح.

له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أُبي فخلعهم إلى رسول الله ﷺ وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وقال: يا رسول الله، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ [سورة المائدة:51] إلى قوله: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56].

قال سبحانه: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56] ولم يقل: فإنهم الغالبون؛ وهذا إظهار في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار يكون لعلل وأغراض شتى في البلاغة كما هو معروف.

وهنا كما نذكر مرارًا أنه قد يذكر حكمًا خاصًا ثم يأتي بالحكم العام؛ ليشمل كل ما ينطبق عليه ذلك الحكم العام فهنا قال: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56] وحزب الله هم أتباع دينه وأنصار رسوله ﷺ.

والحزب أصله في لغة العرب الجماعة من الناس كما قال بعضهم، وبعضهم يقول: هم جماعة فيها غِلَظ يعني شدّة، بمعنى أنه يتحزب بعضهم لبعض ويرتبط بعضهم ببعض فيكون ذلك مقويًا لأمرهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۝ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:54-56].

يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من خير لها منه وأشدَّ منعة وأقومَ سبيلًا كما قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [سورة محمد:38] وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۝ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [سورة إبراهيم:19-20] أي: بممتنع ولا صعب، وقال تعالى هاهنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ [سورة المائدة:54] أي: يرجع عن الحق إلى الباطل، وهذا خطاب عام إلى يوم القيامة.

وقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:54] هذه صفات المؤمنين الكُمَّل، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29] وفي صفة رسول الله ﷺ أنه الضحوك القتّال، فهو ضحوك لأوليائه قتّال لأعدائه.

وقوله : يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [سورة المائدة:54] أي: لا يردهم عن ما هم فيه من طاعة الله وإقامة الحدود وقتال أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردهم عن ذلك رادٌّ ولا يصدهم عنه صادٌّ، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل.

روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: "أمرني خليلي ﷺ بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرَتْ، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش"[3].

فيما يتعلق بالنظر إلى من دونه فالمراد به في أمور الدنيا خاصة، وأما في معالي الأمور وفي طاعة الله فإنه لا ينظر إلى من دونه فيقول مثلًا: أنا أحسن من غيري فأنا على الأقل أصلي في المسجد، فهذا لا يجوز وإنما ينظر إلى من دونه في أمور الدنيا فهذا حري به أن يعرف قدر نعمة الله عليه.

وثبت في الصحيح: ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتحمل من البلاء ما لا يطيق[4].

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أورد هذه الرواية: ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه بعد قوله تعالى: وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [سورة المائدة:54] وبعد حديث أبي ذر الذي فيه: "أن أقول الحق ولو كان مرًا" وهذا في غاية المناسبة فهذا الأمر وإن كان ليس له علاقة بتفسير الآية إلا أنه يُحتاج إليه؛ فالإنسان يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، لكن ينبغي أن يكون ذلك بمراعاة هذا المعنى، فالمؤمن ليس له أن يُذلَّ نفسه بأن يُعَرِّض نفسه لما لا يطيق من البلاء، فمن الناس من قد يقوم ويتكلم أو يخطب خطبة ثم يحصل له بعد ذلك بلاء أو أذى يؤدي به إلى أن ينكسر.

وقد يقوم إنسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم بعد ذلك يُؤذَى فينكسر، فعلى الإنسان أن يتحمل من الأعمال ما يطيق، ومعنى ما يطيق أي ما يطيقه في لحظته هذه وما يطيق تبعته، ولذلك فإنه يسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله إذا كان يلحقه من جراء ذلك ما يعذر بمثله، فلا يكون فرض عين عليه لو كان فرض عين، أعني أنه في بعض الصور وفي بعض الحالات -وهذا أمر ينبغي أن يكون على بال الإنسان- تجد كثيرًا من الناس يدخل في أشياء ثم بعد ذلك يحصل له من الذل ما لا يقادر قدره ويصدر منه من التصرفات ما كان في غنىً عنه في أول الأمر، فهو لم يكن بحاجة إلى أن يدخل في هذا كله أصلًا، فالمؤمن لا يذل نفسه بهذا الاعتبار، فإن كان الشيء في طوقه فهذا مطلوب، وأما إن كان يعجز عنه إما حقيقة أو حكمًا فإن ذلك يسقطه عنه ولا يكون مطالبًا به، والله أعلم.

ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [سورة المائدة:54] أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له، وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ أي: واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.

وقوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [سورة المائدة:55] أي: ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين.

وقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أي: المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامِ الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين.

وأما قوله: وَهُمْ رَاكِعُونَ فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أي: في حال ركوعهم.

يعني أنهم توهموا أن المعنى أنه يؤتي الزكاة وهو راكع، ويذكرون في هذا أثرًا عن علي أنه تصدق بخاتمه وهو راكع -وهذا لا يصح- ويقولون: إن المراد بقوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [سورة المائدة:55] يعني عليًا وهذا غير صحيح، فهو من جملة أولياء الله -تبارك وتعالى- ومن خيار المؤمنين لكن الآية لا تختص به وإنما هي صادقة عليه وعلى كل من ينطبق عليه هذا الوصف.

وأما قوله: وَهُمْ رَاكِعُونَ فليس المراد بذلك أنهم في حال الركوع يتصدقون، وإنما يحتمل معنىً آخر أو معاني أخرى، منها أن يكون معنى وَهُمْ رَاكِعُونَ أي هم في جملة الرُّكَّع -يعني في جملة المصلين- فهم يؤتون الزكاة ويصلون، حيث يقرن الله كثيرًا بين الصلاة والزكاة، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] فيكون هذا من هذا القبيل وَهُمْ رَاكِعُونَ [سورة المائدة:55] أي في جملة المصلين.

ويمكن أن يكون المراد بالركوع معنىً آخر هو الخضوع والتواضع والخشوع وما أشبه ذلك، سواء ربط بما قبله من قوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ بمعنى أنه يؤتيها ولا يكون بهذا العمل كأنه يترفع أو يمتن به على ربه -تبارك وتعالى- أي كأنه يقول: أنا قدمت شيئًا، وإنما المؤمن هو الذي يؤدي العبادة وحاله كما قال الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60] فهو يخاف أن لا يقبل منه ذلك العمل، وعلى هذا إذا فسر الركوع بغير المعنى المتبادر يكون قوله: وَهُمْ رَاكِعُونَ [سورة المائدة:55] معناه الخضوع والخشوع والاستكانة لله -تبارك وتعالى.

ويمكن أن يقال: إن قوله: وَهُمْ رَاكِعُونَ [سورة المائدة:55] لا يختص بقوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وهي الجملة الأخيرة وإنما يختص بكل ما قبله أي يقيمون الصلاة يؤتون الزكاة وهم راكعون، بمعنى أنهم يفعلون ذلك جميعًا -يصلون ويتعبدون لله ويزكون- وهم في غاية الخشوع والخضوع لله .

ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، فالمعنى وَهُمْ رَاكِعُونَ [سورة المائدة:55] أي: يحضرون في صلواتهم الفريضة في مساجد الله لأداء صلواتهم مع الجماعة، وينفقون صدقاتهم في مصالح المسلمين.

وقد تقدم أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56] كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة:21-22] فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56].

  1. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن (2915) (ج 3 / ص 1120) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2494) (ج 4 / ص 1941).
  2. رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع ومن طريقه الطبري في التاريخ والبيهقي في الدلائل، والخبر مشهور في كتب السيرة.
  3. أخرجه أحمد (21453) (ج 5 / ص 159) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2166).
  4. أخرجه الترمذي في كتاب الفتن – باب 67 (2254) (ج 4 / ص 522) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [سورة المائدة:105] (4016) (ج 1 / ص 1332) وأحمد (23491) (ج 5 / ص 405) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7797).

مواد ذات صلة