الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
[25] من قول الله تعالى: ِ{قل أتعبدونْ} الآية 76 إلى قوله تعالى: {وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} الآية 81
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3318
مرات الإستماع: 2293

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:76، 77].

يقول تعالى منكرًا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ومبينًا له أنها لا تستحق شيئًا من الإلهية فقال تعالى: قُلْ أي: يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم، ودخل في ذلك النصارى وغيرهم: أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا أي: لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: السميع لأقوال عباده العليم بكل شيء.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالسياق في الكلام في الآيات السابقة كله في النصارى حيث قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [سورة المائدة:72] وقال: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [سورة المائدة:73] وقال: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] وقال: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ [سورة المائدة:75] ثم قال: قُلْ أَتَعْبُدُونَ [سورة المائدة:76]، فقوله: قُلْ أَتَعْبُدُونَ [سورة المائدة:76] متوجه أيضًا إلى النصارى؛ لأن الحديث كان عنهم، ويكون السياق قرينة تدل على هذا، وهذا الذي رجحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- أي أنها في النصارى، وأما الحافظ ابن كثير فيرى أن الخطاب أعم من ذلك وأنه يدخل فيه النصارى، والذي يقول: إن هذا في النصارى يقول: إن قوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا [سورة المائدة:77] يعني اليهود، أي أنه يخاطب النصارى ويحذرهم من اتباع سنن اليهود الذين ضلوا قبلهم فيكونون مشابهين لهم وعلى طريقتهم في الضلال، والله أعلم.

وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة المائدة:76] أي: السميع لأقوال عباده العليم بكل شيء فلِمَ عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه؟!

ثم قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [سورة المائدة:77] أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تُطْروا من أُمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديمًا.

في قوله: لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [سورة المائدة:77] يقول: "أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق" وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو تفسير عام على المعنى، لكن حينما ننظر إلى التركيب والألفاظ نجد أن قوله: غَيْرَ الْحَقِّ يمكن أن يكون في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره لا تغلوا في دينكم غلوًا غير اتباع الحق، لكن هل يجوز للإنسان أن يغلو غلوًا حقًا، يعني هل يوجد غلو حق وغلو باطل؟

من فسر بهذا التفسير قال: المقصود بالغلو الحق هنا استفراغ الوسع في طلب الحق والبحث عنه وبذل الجهد في تطلبه وهذا ليس مذمومًا، وبعضهم يقول: إن قوله: غَيْرَ الْحَقِّ [سورة المائدة:77] في محل نصب على الاستثناء المتصل، وبعضهم يقول: استثناء منقطع، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:77] أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ۝ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة المائدة:78-81].

يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه وعلى لسان عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه.

قال العوفي عن ابن عباس -ا: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان. ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم.

على كل حال يذكرون في هذا بعض الروايات ومن ذلك أن داود -عليه الصلاة والسلام- لعن أولئك الذين مسخوا قردة، وأن عيسى ﷺ لعن الذين كفروا من أصحاب المائدة، ويقولون: إن الكفار من أصحاب المائدة مسخوا إلى خنازير، هكذا جاء في بعض الروايات المأخوذة عن بني إسرائيل ولا يبنى عليه التفسير، لكن القرآن الكريم قد نصَّ على أن اليهود المعتدين مسخوا قردة وخنازير في مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [سورة المائدة:60]، وأخبر الله عن هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أنهم لعنوهم؛ لكفرهم وعتوهم وعنادهم وتمردهم على الله -تبارك وتعالى- ومن ذلك أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كما سيأتي.

ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم فقال تعالى: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] أي: كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو المتبادر، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ أي: لا ينهى بعضهم بعضًا عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] أي: عن المنكر الذي أتوه وقارفوه، والمعنى واضح، ولذلك تجد عامة أهل العلم إذا تحدثوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكروا هذه الآية للدلالة على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للعن، وهذا ذائع شائع معروف. 

ومن أهل العلم -وعلى الأخص ابن جرير -رحمه الله- من حملها على معنىً آخر، فقال: لاَ يَتَنَاهَوْنَ أي: لا يقصرون بل هم في تمادٍ وإسراف على أنفسهم في الباطل، فلا يرعوي الواحد منهم ولا ينزجر ولا ينكف عن فعل الباطل والمنكر، وإنما هو غارق فيه ومتمادٍ لا يتوب، ولا يفتأ يعمل الباطل والمنكر من غير ملل ولا كلل. 

هكذا فسره كبير المفسرين -رحمه الله- لكن الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الأقرب، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، وهو المتبادر إلى الذهن، وكأن هذا التفسير الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله- صدر منه باعتبار أن الله قال: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] فأضاف الفعل يَتَنَاهَوْن إليهم جميعًا ففسره بأنهم لا يقصرون ولا ينكفون ولا يرعوون عن منكر فعلوه، فالفعل مضاف إلى الجميع. 

لكن الذي عليه عامة أهل العلم أنهم لا ينهى بعضهم بعضًاَ وقالوا: إنه نسب الفعل إليهم؛ لأنه صدر من بعضهم وإذا صدر من البعض صح أن ينسب إلى الجميع تنزيلًا للجميع منزلة النفس الواحدة، ومعلوم أن لهذا الأسلوب نظائر فالله يضيف كثيرًا من الأفعال إلى الطائفة وإن كان ذلك قد صدر من بعضها، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91] والذين قتلوا أنبياء الله هم بعض أسلافهم، ومن ذلك قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30] وقد قال ذلك طائفة من اليهود.

ومثل ذلك قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:92] والذين عبدوا العجل ليسوا كل اليهود، ومن ذلك أيضًا أن الله ذكر عنهم كثيرًا من الأفعال وقد صدرت من طوائف منهم ولم تصدر من كل واحد منهم، وهذا أسلوب عربي معروف، أي أن يضاف الفعل إلى القوم أو إلى الطائفة، وإن كان قد صدر من بعضها وذلك إذا كان أولئك الذين صدر منهم الفعل لهم الغلبة والظهور، أو كان هؤلاء على طريقتهم وسنَنَهم، أو أنهم قد رضوا فعلهم ووافقوهم، ومن ذلك ما يقع عليهم كقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة البقرة:49] وهذا وقع لأجدادهم في زمن فرعون ولم يقع لكل بني إسرائيل، وكذلك الأمر في قوله: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، فـ أضاف فَعَلُوهُ إلى الجميع مع أن الفعل واقع من بعضهم، والله أعلم.

ثم ذمهم على ذلك؛ ليحذر أن يُركَب مثل الذي ارتكبوه فقال: لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة المائدة:79].

في قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة المائدة:79] سمى تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعلًا –أي سمى الترك فعلًاً- وهذا يستدل به الأصوليون الذين يقولون: إن الفعل أربعة أقسام ويذكرون منه الترك،

وقد قال صاحب المراقي:

فكفنا بالنهي مطلوب النبي والترك فعل في صحيح المذهب

وفي البيت المشهور:

لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المضلل

سمى القعود عن العمل عملًا، فالمقصود أن الترك فعلٌ والإنسان يحاسب على الترك كما يحاسب على الفعل.

والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًاً.

على كل حال هذه الآيات يذكرها الله في سياق ذكر مخازيَ ومعايبَ بني إسرائيل إلا أن ذلك لا يختص بهم، فهم لعنوا بسبب هذا، وذلك وعيد لهذه الأمة أيضًا وتهديد أن لا يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل كما سبق في الآيات السابقة: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا [سورة المائدة:76] فالسياق في النصارى لكن هذا أيضًا يتوجه لغيرهم؛ لأن الجميع منهيون عن عبادة غير الله وعن الغلو في الدين وما أشبه ذلك. 

والمقصود بالغلو في الدين مجاوزة الحد بالإفراط والتفريط من تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، أما الذي يتمسك بدين الله ظاهرًا وباطنًا فهذا ليس بغالٍ إلا عند المفرطين الذين يرون أن إطلاق اللحية غلوٌ، كما أن عند البيئات التي اعتادت على شرب الخمور الذي يتعفف من شرب الخمر عنده غلو، والبيئات المتبرجة يرون المرأة المحتشمة المستترة المحجبة أنها متشددة وأن عندها غلوًا، والناس الذين اعتادوا على سماع الأغاني وسماع المعازف وسماع الشر الذي لا يسمع عندهم هذا فيه غلو، والذين اعتادوا على أكل الحرام والربا الإنسان الذي لا يأكل الربا ويتحرز من الأشياء المشتبهات هذا متشدد وعنده غلو، وهكذا كل المضيعين والمفرطين يرون أن من تمسك بدينه أو بشيء من دينه أن عنده غلوًا وأنه متشدد، فإذا جاء وقت الصلاة وهم في عملهم وأراد الملتزم أن يذهب ليصلي فهذا عندهم فيه غلو في الدين، وهكذا تجد اليوم من يردد هذا الكلام ويدعو إلى التحذير من الغلو، فأين الغلو؟

إن الغلو اليوم هو في ما نعاني من التفريط والتضييع وترك أمر الله وانتهاك حدوده، هذا الذي نعاني منه، أما أن يوجد أحد يحرم الحلال أو يقول: أنا أقوم الليل ولا أنام، وأصوم ولا أفطر أو ما أشبه ذلك، فما رأينا أحدًا يتبنى مثل هذا أبدًا.

والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًاً، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام:

روى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان -ا- أن النبي ﷺ قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن[1].

وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمـان رواه مسلم[2].

في قوله: مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده "مَـن" من صيغ العموم، وبدأ باليد؛ لأنها أقوى وأبلغ في إزالة المنكر وهذا هو المطلوب، فإن عجز عنه انتقل إلى ما دونه مما يخفف المنكر أو يبرئ الذمة على الأقل أو يقيم الحجة، ولذلك قال: فإن لم يستطـع فبلسانه، فإن لم يستطـع فبقلبه.

وقوله: فإن لم يستطـع فبقلبه أي يكون كارهًا، ولا يجزئه أن ينتقل من مرتبة إلى أخرى وهو قادر على التي قبلها.

ومسألة التغيير باليد تجب على كل قادر ما لم يترتب على ذلك مفسدة أكبر، وأما القول بأن هذا يختص بالسلطان فهذا ليس له أصل إطلاقًا؛ فحديث: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده عام، لكن إن ترتب عليه مفسدة أكبر فإنه لا يجوز أن يُغيَّر، ومن نظر في ما جاء عن الصحابة فمن بعدهم يجد أنهم كانوا يغيرون بأيديهم لكن فيما لا يترتب عليه مفسدة أكبر، فالإنسان في بيته يغير بيده، وقد يغير أيضًاَ في أماكن أخرى حيث لا يترتب عليه مفسدة، ومن أمثلة ذلك: لو رأى أحدنا وهو يمشي في الطريق رجلًا يريد أن يظلم أو يضرب أو يقتل أحدًا ظلمًا وجورًا فهل نكتفي بالنهي باللسان أم لا بد أن نخلصه باليد؟ لا شك أنك -إذا كنت مستطيعًا- تغير هذا المنكر بيدك.

ومن أمثلة ذلك لو رأيت بيت جارك يُسرق فهل تكتفي بالنهي باللسان فتقول: يا جماعة هذا حرام لا يجوز وتذهب وأنت تستطيع أن تغير باليد؟ هذا لا يكفي ولا تبرأ به الذمة.

وكذلك إذا رأيت الأطفال يلعبون والناس يصلون ألست تأتي وتأخذ الكرة من أيديهم وتقول لهم: هيا إلى الصلاة أم أنه يكفي أن تقول: اذهبوا إلى المسجد وتتركهم؟ الاكتفاء بالتغيير باللسان في مثل هذه الأمثلة البسيطة لا يكفي.

ابن عمر هتك الستر الذي في بيت الرجل الذي كان عنده وقال له: متى تحولت الكعبة إلى بيتكم؟ لكن ليس معنى ذلك إذا زرت إنسانًا أن تأتي وتغير بيدك وتوقع مشكلة معه فهذا الرجل قَبِل هذا التصرف من ابن عمر إذ إن من الناس من يُقبل منه ويتحمل الناس منه مثل الرجل الكبير أو العالم الكبير لكن لا يقبلونه من كل أحد، ولهذا لا يجوز لأحد إذا ذهب إلى بيوت الناس أو زارهم أن يتلف بعض الصور التي في الجدران أو يأخذ بروازًا فيكسره وإنما يمكن هذا حيث لا تترتب مفسدة.

الخلال أو المروزي لما وجد جرة أو نحوها فيها خمر في بيت رجل فقال له الإمام أحمد: هلا وضعت فيها ملحًا، فحط فيها ملحًا يفسدها دون أن يشعر أحد، فهذا من التغيير باليد.

ومرة كان الإمام أحمد يمشي مع أحد أصحابه فوجد صبيًا وامرأة ومع الصبي دف فخرقه، وإبراهيم النخعي قال: كانوا يأخذون –يقصد أصحاب ابن مسعود- كانوا يأخذون الدفوف من أيدي الصبيان ويخرقونها.

فالمقصود أن قاعدة تغيير المنكر مطلقة عامة، وأما عبارة: "التغيير باليد مختص بالسلطان" هذه عبارة غير دقيقة، وإنما الصواب إنه حيث لا يترتب عليه مفسدة، فليس لآحاد الناس أن يذهب ويغير في السوق بيده، ويكسر على الناس بضائعهم وأشياءهم، ويقول: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فتقع فتنة في السوق، لكن حيث لا يترتب عليه مفسدة وهكذا.

فمثلًا: إذا دخلت المسجد ووجدت أحدًا قد علق إعلانًا تجاريًا أو عن مدرسة تجارية أهلية يبدأ التسجيل فيها في تاريخ كذا فبادر بتسجيل ابنك، فهل هذا يصلح في المسجد؟ لا يصلح في المسجد، فما الذي عليك فعله؟ عليك أن تزيل هذا الإعلان وما شابهه كأن يكون تقويمًا فيه صور ذات أرواح ونحوه، فهذا من التغيير باليد.

ومن أمثلة ذلك لو أن أحدًا علَّق ورقة فيها كلام لا يصلح، كأن يكون فيها تحريض على الخروج على ولي الأمر، فهذا مما لا يصلح، لذلك عليك أن تأخذ هذه الورقة وتمزقها، وذلك من التغيير باليد، وهذه الصورة الأخيرة أظنها مما لا يخالف فيها أحد فهي بالإجماع أي أنك تأخذها فترميها، وهكذا الأمر بالنسبة لما لا يترتب عليه مفسدة أكبر، فالإطلاقات ينبغي أن تضبط، ولا بد أن يكون كلام طالب العلم دقيقًا فيقول: حيث لا يترتب عليه مفسدة أكبر، وبالنسبة لمسألة تعارض المفاسد والمصالح فهذه مسألة طويلة فيها تفصيل، ليس هنا محل ذكرها، والله أعلم.

روى أبو داود عن العرسي عن ابن عميرة عن النبي ﷺ قال: إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها -وقال مرة- فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها تفرد به أبو داود[3].

وروى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن النبي ﷺ قال: لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم[4].

وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قام خطيبًا فكان فيما قال: ألا لا يمنعنَّ رجلًاَ هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا[5].

وفي حديثٍ عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه[6].

وروى الإمام أحمد عن حذيفة عن النبي ﷺ قال: لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق وكذا رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب[7].

في قوله-عليه الصلاة والسلام: ألا لا يمنعنَّ رجلًاَ هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه يقول أبو سعيد : "قد والله رأينا أشياء فهبنا" يقول هذا وهو من علماء الصحابة.

وفي قوله –عليه الصلاة والسلام: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وقوله في الحديث الآخر: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله[8] صار من اتصف بهذه الصفة بمنزلة سيد الشهداء وجهاده من أفضل الجهاد؛ لأن هذا أمر تحجم عنه النفوس بما جبلت عليه من الضعف والخوف الذي يعتريها، فمثل هذه الأشياء ينبغي أن تراعى. 

ولذلك لا ينبغي أن يكون لسان الإنسان سليطًا يفري به أعراض أهل العلم بحجة أنهم قصروا وأنهم ما قاموا بواجبهم ونحو ذلك، بل ينبغي أن يكون هناك مذاكرة ومناصحة وتذكير، وإلا فإذا وضع الإنسان نفسه في هذا المقام فقد يكون أعجز من غيره، ولذلك فإن كثيرًا من الناس من لا يعرف عيوبه وضعفه وتقصيره ولا يعرف أحيانًا أن عنده مشكلة، لكن إذا جاء مقام خوف وصار أمام الموت، أمام القتل، أمام العدو؛ فإن الذي يحصل لبعض الناس أن تجده قد انعقدت ركبه فلا يستطيع أن يقوم ولا يقعد. 

ولذلك فالحريق الذي وقع قبل سنوات في منى حصل عنده لكثير من الناس وبالذات النساء أن انعقدت أرجلهن فما صارت الواحدة منهن تستطيع القيام، مع أنه قبل ذلك الموقف يمكن أن يكون كثير من الناس لم يكن يظن أن الخوف قد بلغ به هذا المبلغ، وهكذا فيما يزاوله الإنسان من قدرة وقوة سواء كان ضبط النفس أو قوة بدنية، فإنه إذا جاء موقف يستثير وغضب يجد نفسه لا يستطيع أن يتصرف لا بيديه ولا بعلامات وجهه فتراه مثل المجنون وكان يظن أنه حليم، وهكذا فيما يبذله الإنسان ببدنه قد يظن أنه قوي وما عنده مشكلة وتمشي معه مسافة فتراه قد اصفر وجهه وجلس وبدأ يشعر بإغماء وتدرك ضعفه الشديد وعجزه وأنه ضعيف في غاية الضعف، حتى لم يكن يتصور هو نفسه هذا الكلام.

وكذلك بعض الناس نجده إذا جرح في حادث ولو كان بسيطًا إذا رأى الدم بدأ يصفر وجهه وترتعش أطرافه، وصارت رجله لا تحمله ويشعر بإغماء وهو من قبل ما كان يشعر بهذا ولا يظن أنه في هذه الدرجة من الضعف.

فالمقصود أن كثيرًا من الأشياء لا يدركها الإنسان من نفسه، ومن أراد أن يعرف هذا الجانب من الضعف في الإنكار فليتأمل في نفسه وهو يصلي إذا سمع من أحد العمال أو السائقين جواله يرن بالموسيقى والأغنية ونحو ذلك في الصلاة، أو كان من بجواره مسبلًا ثوبه، أو لابسًا خاتم ذهب هل ينكر عليه أم لا؟ ربما لا ينكر خوفًا من لا شيء!!

ومن أمثلة ذلك أيضًا أن ترى إنسانًا في الطريق أو في الشارع أو عند الإشارة مشغلًا أغاني وبأصوات مرتفعة ومع ذلك لا تنكر عليه، فلماذا لا تنكر عليه؟ إنه الخوف من لا شيء!!

وتجد الواحد يجلس مع ناس على وليمة وهم ضعاف لا يملكون حولًا ولا طولًا فيشرب من بجواره بيده اليسرى ولا إنكار، فلماذا؟ وتجلس في المجلس وهذا يغتاب وأنت تنظر وتبتسم، فلماذا تبتسم بدلًا من أن تنهاه عن الغيبة وخاصة أنه لا يملك حولًا ولا قوة؟ فكيف حالك إذن لو جلست مع ناس أعظم من هذا ممن لهم مكانة وسلطة وهيبة ونحو ذلك؟

فالإنسان لا يدرك في كثير من الأحيان عيوبه وليس هذا تبريرًا للقعود عن الحسبة، لكن أقول: ينبغي للإنسان أن ينظر إلى عيوبه قبل أن ينظر إلى عيوب الناس، وينظر إلى تقصيره قبل أن ينظر إلى تقصير الناس، ينشغل بذنوبه قبل أن ينشغل بذنوب الناس، هذا هو القدر الذي أقصده فقط، ولو أن الإنسان التفت إلى نفسه ونظر إليها بهذا النظر لاستراح من كثير من الكلام، لكن في كثير من الأحيان الإنسان ينسى نفسه وينشغل بغيره، ويأتيه الشيطان ويزهده بأهل العلم، ثم يكون هو الذي يفتي نفسه أو يكون له من أقرانه ونظرائه من يفتيه ومن يجعلونه رئيسًا لهم في العلم ويفتيهم وهو جاهل أو لم ينضج بعد ثم تقع المصائب والمشكلات والبلايا، نسأل الله العافية.

وقوله تعالى: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة المائدة:80] قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين.

وقوله: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ [سورة المائدة:80] يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين.

قوله: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة المائدة:80] السياق في بني إسرائيل وليس في المنافقين وإن كان يقع في هذا أهل النفاق فهم يوالون الكافرين لكن الله ذكر هذا في جملة ما ذكر من معايب بني إسرائيل ومساوئهم من أجل أن يحذر فلا يقع فيه المسلم، فالسياق هنا ليس في المنافقين، فالله ذكر من عيوب بني إسرائيل التي سببت لهم اللعن أنهم كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] ثم ذكر أن من ضمن الأمور التي سببت لهم هذا اللعن أن تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة المائدة:80].

لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ [سورة المائدة:80] يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم، ولهذا قال: أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:80] وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [سورة المائدة:80] يعني يوم القيامة.

وقوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [سورة المائدة:81] أي: لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة المائدة:81] أي: خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.

  1. أخرجه الترمذي في كتاب الفتن - باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2169) (ج 4 / ص 468) وأحمد (23349) (ج 5 / ص 388) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7070).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (49) (ج 1 / ص 69).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب الأمر والنهى (4347) (ج 4 / ص 218) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (689).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب الأمر والنهى (4349) (ج 4 / ص 218) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5231).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب الفتن - باب ما جاء أخبر النبي ﷺ أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (2191) (ج 4 / ص 483) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4007) (ج 2 / ص 1328) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (168).
  6. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب الأمر والنهى (4346) (ج 4 / ص 217) والترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر (2174) (ج 4 / ص 471) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4011) (ج 2 / ص 1329) وأحمد (18850) (ج 4 ص 315) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح وصححه الألباني أيضًا في مشكاة المصابيح برقم (3705).
  7. أخرجه الترمذي في كتاب الفتن – باب 67 (2254) (ج 4 / ص 522) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [سورة المائدة:105] (4016) (ج 1 / ص 1332) وأحمد (23491) (ج 5 / ص 405) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7797).
  8. أخرجه الحاكم في مستدركه (4884) (ج 3 / ص 215) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3675).

مواد ذات صلة