الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[28] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 94 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} الآية 95
تاريخ النشر: ٢٤ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3429
مرات الإستماع: 2186

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة المائدة:94، 95].

قال الوالبي عن ابن عباس قوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه.

وقال مجاهد: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ [سورة المائدة:94] يعني صغار الصيد وفراخه وَرِمَاحُكُمْ يعني كباره.

وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ [سورة المائدة:94] ذهب بعض أهل العلم -كالإمام مالك -رحمه الله- إلى أن هذا الخطاب للمُحلِّين، وكان ذلك في عام الحديبية، ومعلوم أن الصيد يحرم على المحرم سواء كان ذلك في أرض الحرم أو في غيره، وأما غير المحرم فإنه يشترك مع المحرم في التحريم إذا كان في أرض الحرم -في حدود الحرم- والحديبية منها ما هو في الحرم ومنها ما هو في الحل، فالمقصود أن الإمام مالك ذهب إلى أنها في المُحلِّين، وكان ذلك في عام الحديبية. 

وعلى كل حال فالخطاب عام لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ [سورة المائدة:94] فهو لا يختص بالمُحلِّين، ويمكن أن يقال: إنه أيضاً لا يختص بالمحرمين، كما ذهب إليه كثير من أهل العلم، بل هو حيث يحرم الصيد، سواء كان ذلك لحالٍ تلبّس بها العبد -وهي الإحرام- أو كان ذلك لمحل دخله -وهو أرض الحرم- فحيث ما حرم عليه الصيد في حال أو محل فإنه مخاطب بهذا.

وقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] يدل على قرب الصيد منهم، ودنوّه بحيث إنه يكون قريب المأخذ، هذا هو المراد والله تعالى أعلم، وهذا ابتلاء وامتحان كما قال الله: لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فاللام للتعليل، فالله ابتلاهم بذلك كما جاء في الرواية التي عن مقاتل "فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم" وهذا أحسن من أن يُخص ما تناله اليد بالبيض كبيض النعام مثلاً والفراخ التي لا تستطيع أن تنأى بنفسها عمن أرادها، والذي تناله الرماح ما عدا ذلك. 

فالصيد يكون قريباً منهم يبتليهم الله به، والنبي ﷺ في طريقه إلى مكة مر بظبي حاقف يعني قد مال رأسه على جنبه فنهاهم عن أن يريبوه وأوقف عنده رجلاً[1] وهم على كثرتهم ما رابه أحد ولا اعتدى عليه أحد، وهذا من فضل الله على هذه الأمة فقد ابتلاهم في بعض المناسبات بخوف وطمع كما ابتلى بني إسرائيل بخوف وطمع حيث أمرهم بدخول قرية الجبارين فقالوا: يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] وابتلاهم بطمع في القرية التي كانت حاضرة البحر فكانت تتهافت عليهم الحيتان في يوم السبت، فلم يحجزهم التحريم عن التعدي في يوم السبت، فحملهم القَرَمُ على تعدي حدود الله والاصطياد في ذلك اليوم الذي حرم عليهم الاصطياد فيه، وأما هذه الأمة فابتلاهم بطمع كما في هذا المقام فما تعدى منهم أحد، وابتلاهم بخوف كما في يوم بدر حيث سألهم النبي ﷺ فقالوا له: لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، بل نقول: إنا معك مقاتلون نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك.

فالحاصل أن قوله: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] يشمل هذا جميعاً فيكون قريباً منهم في متناول اليد، والله تعالى أعلم.

لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة الملك:12].

وقوله هاهنا: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ [سورة المائدة:94] قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلان والإنذار والتقدم، فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:94] أي: لمخالفته أمر الله وشرعه.

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:95] وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ونهي عن تعاطيه فيه، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور[2].

وعن ابن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ قال: خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور أخرجاه.

ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر -ا- مثله، قال أيوب: فقلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها، وألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد؛ لأنها أشد ضرراً منه أو لأن الكلب يطلق عليها، فالله أعلم.

الكلب له إطلاقان، له إطلاق متبادر وهو الكلب المعروف، والأصل: أن يحمل مثل هذا الخطاب على الظاهر المتبادر، وقد يطلق بإطلاق أوسع من هذا وهو عند العرب يدخل فيه ما ذكر، كالذئب والنمر والأسد والفهد وما أشبه ذلك، ويدل على هذا: الحديث الذي قال فيه النبي ﷺ: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك[3] فعدا عليه الأسد، فهو كلب بهذا الاعتبار. 

ولذلك فإن بعض من ذكر أسماء الكلب ذكر منها كل هذه الأشياء وقال: إن أبا العلاء المعري -وهو رجل أعمى البصر والبصيرة ولكل مسمى له من اسمه نصيب- كان يمشي في المسجد فعثر برِجْل رجلٍ نائم في المسجد فقال النائم: من هذا الكلب فقال: الكلب الذي لا يعرف للكلب سبعين اسماً، فالسيوطي لما رأى هذا ألف رسالة سماها "التبري من معرة المعري" فجمع للكلب مائة اسم ثم نظمها، فله رسالة في هذا، وذكر من أسماء الكلب الذئب والأسد والنمر، وذكر هذه الأشياء جميعاً، فهي عند العرب بهذا الاعتبار، وأما أهل علم الحيوان المعاصر فعندهم فصيلة الكلبيات لا يدخلون فيها الأسد مثلاً؛ لأنه عندهم من فصيلة السنوريات، وعلى كل حال لا عبرة بهذه الاصطلاحات الجديدة، لكن الكلام يحمل على الظاهر المتبادر.

والمقصود بالعقر في قوله: الكلب العقور أي الذي يعدو على الناس فيعقرهم، وما كان فيه هذا المعنى، بمعنى أنه يعدو فيفسد ويضر فإنه يلحق به، والله تعالى أعلم.

قال: وعن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه سئل عما يقتل المحرم؟ فقال: الحية والعقرب والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور والحدأة والسبع العادي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث حسن[4].

وقوله تعالى: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] قال مجاهد بن جبر: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد الناسي لإحرامه، فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه فذلك أمره أعظم من أن يكفِّر وقد بطل إحرامه، وهو قول غريب والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه.

هذا القول الذي ذكره عن مجاهد هو في غاية الغرابة حيث يقول: إن المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد الناسي لإحرامه، يعني أنه قصد قتله وليس حاله كمن أراد أن يقتل كلباً عقوراً يطارد الظباء مثلاً، فأصاب ظبياً فهذا بالخطأ وقد ينسى أنه محرم ويقتل الصيد، ففي هذه الحال يكون وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ [سورة المائدة:95] لكن إذا كان ذاكراً لإحرامه -فعند مجاهد- الأمر يختلف فهو يرى أن الإحرام قد بطل، وهذا قول في غاية الغرابة، فارتكاب محظورات الإحرام وقتل الصيد لا تبطل الإحرام وإنما يبطله الجماع فقط.

وجمهور أهل العلم يقولون في قوله: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا [سورة المائدة:95]: مفهوم المخالفة لهذا الشرط غير معتبر، أي من قتله متعمداً ومن قتله غير متعمد، فإنْ قتَله غير متعمد كأن يكون قتله خطأ أو قتله متعمداً؛ لأنه قد نسي إحرامه فعليه الجزاء ولا إثم عليه؛ لأنه لا يؤاخذ بالخطأ والنسيان، وإنْ قتله متعمداً ذاكراً للإحرام فإنه في هذه الحال يكون عليه الجزاء ويأثم، فهذا الجزاء ليس بكفارة، وهذا المعنى أكده ابن جرير وقوّاه، وقال: هذا ليس من باب الأمور المكفِّرة خلافاً لما جاء في الحدود بأنها كفارات.. الخ، فالحاصل أن هذا عندهم من قبيل الجناية التي توجب العوض، والإثم يبقى بينه وبين الله .

وهناك قول آخر: وهو أن هذا الشرط وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا [سورة المائدة:95] هو قيد معتبر، ومفهومه أنه إن قتله من غير عمد فلا شيء عليه؛ لأن هذا القيد علق عليه الحكم، وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] مفهوم المخالفة إن قتله غير عامد فلا جزاء، هذا هو ظاهر القرآن، وهو الأقرب والله تعالى أعلم. 

وهذا القول منقول عن ابن عباس –ا- وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة، وبه قال جماعة كداود الظاهري وسعيد بن جبير وطاوس بن كيسان وأبي ثور، والحسن، وإبراهيم النخعي، وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري، ومال إليه الشيخ محمد الأمين -رحمه الله. 

وعلى كل حال فمفهوم المخالفة حجة، لكن الذين قالوا: إنه هنا غير معتبر جعلوه أحد الأنواع السبعة أو الثمانية التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، ومنها أن يكون ذلك خرج مخرج الغالب، فإذا خرج مخرج الغالب فليس بمعتبر نحو قوله تعالى في المحرمات من النساء: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ [سورة النساء:23] فلو كانت الربيبة ليست في حجره وإنما هي عند جدتها فإنها تحرم عليه أيضاً، إذاً قول الله : وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ [سورة النساء:23] مفهوم المخالفة لهذه الآية أنها إن لم تكن في حجره فإنها تحل له لكن قالوا: هذا خرج مخرج الغالب، وهذا هو الراجح في هذه الآية، وذلك أن الغالب أن تكون مع أمها عنده فتحرم عليه، فإن كانت في مكان آخر –خلاف الغالب- فإنها تحرم عليه أيضاً.

وهنا في الصيد الذين قالوا: إن المفهوم غير معتبر، قالوا: إن قوله: مُّتَعَمِّدًا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الإنسان يعمد إلى قتل الصيد ويستفزه الصيد إذا رآه حيث إنه لا يتمالك ولا يصبر فينسى نفسه ويسرع إلى قتله، هذا هو الغالب، وقالوا: إن الصيد أحد وجوه المكاسب المعروفة عند العرب فهم يتطلبونه غاية التطلب بخلاف غيرهم من بعض الأمم الذين لا يشتغلون بالصيد، والله المستعان.

قال: والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه، وقال الزهري: دل الكتاب على العامد وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ [سورة المائدة:95] وجاءت السنة من أحكام النبي ﷺ وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم والمخطئ غير ملوم.

الذين قالوا: إنه لا يضمن الصيد، قالوا: الإتلاف مضمون في حق الآدميين، فلو أن إنساناً صدم دابة إنسان، أي قتلها خطأً فإنه يضمن، ولو أتلف سيارته خطأً فإنه يضمن، فالخطأ لا يذهب معه الحق، لكن هذا يختلف، فهذا في حق الله وصاحب الحق يقول: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] أي فمن قتله غير متعمد فلا جزاء، هذا صاحب الحق جعل ذلك على العامد دون غيره، هذا جواب من قال: إن ذلك يختص بالعمد، والله أعلم.

قال: وفي قوله: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] دليل لوجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي كما حكم به الصحابة.

قوله: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا الراجح أن المثل ثم ما ذكر بعده أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95] ليس للتخيير، وإنما ما كان له مثل فيجب فيه المثل وهذه المثلية إنما تكون لوجه من الشبه في الظاهر، ولهذا قالوا: الحمامة فيها شاة مع أنها ليست مثلها في الحجم، لكن قالوا: إنها عندما تشرب تعب الماء عباً، فهي تشرب بنفس الطريقة التي تشرب فيها الشاة فجعلوا فيها الشاة، وأما الدجاجة فطريقة شربها تختلف عن الحمامة فهي التي تقر الماء بأن تأخذه بمنقارها ثم ترفع رأسها حتى ينحدر. 

فالمقصود أن المثلية تكون لوجه من الشبه وليس للمطابقة، وهذا مما يستدل به على أن لفظة المثل لا تعني المطابقة من كل وجه في كل المواضع خلافاً للمشهور، فالمشهور أن الشبيه هو الذي يوجد بينه وبين مشابهه بعض وجوه التطابق أي يتطابق معه من بعض الوجوه فتقول: فلان يشبه فلاناً، وأما المثل فالمشهور أنه ما كان مطابقاً لنظيره، لكن المثل هنا في الآية فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] ليس المراد به المطابقة، ولذلك يقولون مثلاً: الوعل فيه بقرة، والنعامة فيها بدنة، والزرافة فيها بدنة مع أن الزرافة أكبر من البعير، والشاة أكبر من الحمامة والجدي أكبر من الضب، وهكذا.

وما حكم فيه الصحابة رُجع فيه إلى حكمهم، فقوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] يعني من المسلمين، فيُرجع إلى أحكام الصحابة في هذا فيما حكموا فيه وما لم يحكم فيه الصحابة فإنه يحكم به اثنان من ذوي العدالة من المسلمين، وما ليس له مثل فإنه ينتقل إلى ما ذكر بعده أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] والمراد بالمساكين هنا يعني من مساكين الحرم. 

والعلماء اختلفوا في تقدير هذا الإطعام، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك باعتبار قيمة الصيد، لكن أيضاً اختلفوا في تحديد قيمة الصيد هل هو بسعره في ذلك المحل في ذلك اليوم؟ فقد يوجد في منطقة ما من يأكلون الصيود ولا يرفعون لها رأساً أو نحو ذلك فمثل هذا لو جاء الإنسان يبيع الصيد أو يشتريه فيمكن أن لا يباع ولا بريال وفي مكان آخر قد يباع بألف أو أكثر، فبعضهم قال: إنه يرجع في القيمة إلى المحل الذي هو فيه في يومه.

وقال بعضهم: بل يعرف ثمن الصيد الذي يستحقه فعلاً ثم يخرج بقدر ذلك من الطعام بحيث لو فرضنا أن قيمة الصيد تساوي خمسمائة ريال فإنه يشترى بهذا المبلغ برّاً أو أرزاً أو نحو ذلك ثم يُعطى للفقراء.

فإن عُدل إلى الصيام فيقدر هذا الذي قيمته خمسمائة ريال من البُّر بحيث لو فرضنا أن كيلو البُّر بريالٍ واحد فمعنى ذلك أن المطلوب منه خمسمائة كيلو كل مُد منه لمسكين، فإذا كان الصاع أربعة أمداد، والصاع كيلوان ونصف –كما في بعض التقديرات- فعلى هذا عليه أن يصوم يوماً عن كل مد، وعلى هذا سيحتاج إلى صيام مدة طويلة، فلا شك أن إخراج الطعام في هذه الحالة أسهل بكثير من الصيام.

وبعضهم قال: يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام، وهؤلاء كأنهم جعلوه كفدية الأذى، لكن نقول: هناك فرق بين جزاء الصيد وبين فدية الأذى، والله تعالى أعلم.

فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز، وأما إذا لم يكن الصيد مثلياً فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة، رواه البيهقي.

بالنسبة للثمن فالله قال: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [سورة المائدة:95] أي أن هذا المثل يقرب إلى الكعبة، يعني يوصل به إلى أرض الحرم وليس المقصود بالكعبة البناء المعروف وإنما المراد إلى أرض الحرم فيذبح هناك ويوزع على فقراء الحرم كما يفعل بالهدي، لكن الطعام قال الله فيه: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [سورة المائدة:95] ما قال: لفقراء الحرم، ولهذا قال بعضهم: يطعمه من حضره، كما يقال في فدية الأذى: إذا ذبح فإنه يذبح في مكانه، وكذلك المحصر في مكانه الذي أحصر فيه، وأما ابن عباس -ا- فيقول: إن الثمن والطعام يرسلان إلى الكعبة.

قال: وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] يعني أنه يحكم بالجزاء بالمثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين.

وروى ابن جرير عن أبي جرير البجلي قال: أصبت ظبياً وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر.

قوله: "عن أبي جرير البجلي" أبو جرير هذا يروي عن عمر وعن بعض الصحابة، فهو غير جرير بن عبد الله البجلي الصحابي المعروف.

قال: فذكرت ذلك لعمر فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعداً، فحكما عليَّ بتيس أعفر.

وروى ابن جرير عن طارق قال: أوطأ أربد ظبياً فقتله وهو محرم.

أوطأ أربد ضباً هكذا الرواية ضباً وليس ظبياً، بمعنى أنه جعل دابته تطأ الضب فقتله وهو محرم، فهذا متعمد لكن لو أنه حصل من غير عمد بأن وطِئت الدابة الضب أو وطِئت الجراد فليس عليه شيء، فالجراد إذا انتشر صار مثل البساط في الأرض فلا يمكن توقيه لذلك ليس عليه شيء إن قتله.

قال: فأتى عمر ليحكم عليه، قال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر ثم قال عمر.

قوله: "جدياً قد جمع الماء والشجر" يعني أنه مفطوم قد رعى الشجر وشرب الماء واستغنى عن لبن الأم، فعمر هنا في هذه الرواية -إن صحت- قال له: احكم معي مع أن الكثيرين من أهل العلم يقولون: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] غير الجاني الذي وقع منه قتل الصيد، فمن وقع منه لا يحكم وإنما يحكم عليه.

قال: احكم، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر، ثم قال عمر: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95].

وقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أي: واصلاً إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرَّق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه     في هذه الصورة.

يبقى الخلاف في الطعام هل لا بد أن يوصل إلى الحرم أو لا؟.

قال: وقوله: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95] أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال.

الجمهور -ومنهم ابن جرير- على أنه مخير، إما المثل وإما الإطعام وإما الصيام، وهذا على أن "أو" هنا للتخيير، ومنهم من يقول: إن "أو" هذه ليست للتخيير وإنما هي للتقسيم، وهذا الخلاف مثله الخلاف الذي في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ [سورة المائدة:33] فهل الإمام مخير بحسب ما يراه من المصلحة أو أن ذلك ليس للتخيير، وإنما هو للتقسيم إن قتلوا قُتلوا، وإن أخذوا المال وقتلوا فإنهم يصلبون أو تقطع أيديهم، أو ينفوا الأرض إن أخذوا المال وأخافوا السبيل دون أن يقتلوا، هكذا قال بعض أهل العلم كالشافعي، وهنا الخلاف في "أو" كذلك، فمن قال: إنها للتخيير قال هو مخير وهذا قول الجمهور، وذهب بعض أهل العلم كابن عباس إلى أن ذلك لمن لم يجد المثل.

قال: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95] فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

يقول: " فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" هذا الإطعام لستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام ورد في فدية الأذى عند قوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] ثم رخص فقال: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196] وقال النبي ﷺ لكعب بن عجرة: أتجد شاة؟[5] وذكر له أيضاً الإطعام -إطعام ستة مساكين- أو صيام ثلاثة أيام، وهذا في فدية الأذى، فالأقرب -والله أعلم وهو الذي عليه عامة أهل العلم- أن ذلك ليس كفدية الأذى بل يكون الإطعام مراعىً فيه القيمة، والصيام يكون عن كل مُدٍّ يومًا؛ لأن إطعام ستة مساكين أين هو من قيمة الصيد إذا كان كبيرًا؟! والله أعلم.

قال: فإن قتل أيَّلًا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا فإن لم يجد صام عشرين يومًا، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد: الطعام مُدٌّ مـد يشبعهم.

وقوله: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] أي: أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة.

عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95] أي: في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية.

ثم قال: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ [سورة المائدة:95] أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة المائدة:95] قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف؟ [سورة المائدة:95] قال: عما كان في الجاهلية، قال: قلت: وما وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ؟ [سورة المائدة:95] قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه وعليه مع ذلك الكفارة، قال: قلت: فهل في العود من حد تعلمه؟ قال: لا، قال: قلت: فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ولكن يفتدي، رواه ابن جرير.

وقيل: معناه فينتقم الله منه بالكفارة، قاله سعيد بن جبير وعطاء، ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.

قوله: "الأولى والثانية والثالثة" يعني كل ما قتل صيدًا فإنه عليه الجزاء بناء على قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ [سورة المائدة:95] يعني ليست الأولى فيها الجزاء والثانية كما قال بعضهم: إن من قتله متعمدًا فهذا يترك؛ لأن عقوبته أشد وأعظم عند الله ، فهذا غير صحيح، بل الصحيح أنه كلما قتل صيدًا فعليه الجزاء، وينتقم الله منه بما شاء يوم القيامة.

قال: وقال ابن جرير في قوله: وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة المائدة:95] يقول -عزَّ ذكره: والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره له العزة والمنعة.

وقوله: ذُو انْتِقَامٍ يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج – باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد (2818) (ج 5 / ص 182) وأحمد (15782) (ج 3 / ص 452) وقال الألباني: صحيح الإسناد.
  2. أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب ما يقتل المحرم من الدواب (1732) (ج 2 / ص 650) ومسلم في كتاب الحج - باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1199) (ج 2 / ص 858).
  3. أخرجه الحاكم (3984) (ج 2 / ص 588) والبيهقي في السنن الكبرى (9832) (ج 5 / ص 211) وصححه الذهبي في التلخيص.
  4. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك – باب ما يقتل المحرم من الدواب (1850) (ج 2 / ص 108) وأحمد (11003) (ج 3 / ص 3) وضعفه العلامة الألباني وشعيب الأرنؤوط.
  5. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدره (1201) (ج 2 / ص 859).

مواد ذات صلة