بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] أي: تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك.
فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] أي: فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيرًا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى: وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.
وقوله: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته.
وقوله تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [سورة المائدة:110] أي: واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنكم حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم فكذبوك واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم ورفعتك إليَّ وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم.
وهذا يدل على أن هذا الامتنان يكون واقعًا يوم القيامة وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا ﷺ.
وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي [سورة المائدة:111] وهذا أيضًا من الامتنان عليه بأن جعل له أصحابًا وأنصارًا.
ثم قيل: إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية [سورة القصص:7] وهو وحي إلهام بلا خلاف كما قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا الآية [سورة النحل:69].
قال الحسن البصري: ألهمهم الله ذلك وقال السدي: قذف في قلوبهم ذلك فقالوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي [سورة المائدة:111] يقول: إن هذا من وحي الإلهام، بمعنى أن الله ألقى ذلك في قلوبهم، والوحي قد يكون بهذا المعنى كما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [سورة القصص:7] وقد يكون بطريقة أخرى كما قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية من سورة المائدة: أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ يعني عن طريق عيسى ﷺ؛ لأن أصل الوحي -على الأرجح مما ذكر في معناه والله تعالى أعلم- هو كل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه فهو وحي، ولا يشترط فيه -كما يقوله كثير من أهل العلم- الإلقاء السريع الخفي، فالسرعة والخفاء ليس من شرطه، وقد جاء جبريل إلى النبي ﷺ على صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر[1] وتكلم معه بكلام فهمه الجميع ولم يكن فيه هذا المعنى، وكذلك كان يأتي إلى النبي ﷺ أحيانًا بصورة دحية الكلبي.
والمقصود أن هذه قضية لا شك -والله أعلم- أنها واقعة وتدل على خلاف ما هو مشهور مما يذكره كثير من أهل العلم في معنى الوحي.
كما أن الوحي قد يأتي أيضًا عن طريق المَلَك إلى غير الأنبياء، ولا يعني ذلك أنهم أنبياء، فجبريل جاء إلى مريم قطعًا بنص الآية ومع ذلك مريم ليست نبيَّة؛ فقد يأتي الملك ابتلاء وامتحانًا وقد يأتي ببشرى من الله فجبريل تمثل لمريم بشرًا سويًا، ومن أمثلة ذلك أيضًا قصة الرجل الذي أرصد الله على مدرجته ملكًا لما زار أخًا له في قرية[2]، ومن ذلك الابتلاء الذي حصل للأقرع والأبرص والأعمى حيث جاءهم ملك على صورة رجل[3] فلا يقال: إن هؤلاء أنبياء بحال من الأحوال ولا يُتوهم ذلك ولم يقل ذلك أحد.
فالمَلَك قد يأتي إلى أحد من الناس بمثل هذه الصور التي ذكرت ولا يعني أنه نبي، كما أنه قد يُلقي الله المعنى في القلب إما بواسطة الملك وإما بغير واسطة والذي يكون بالواسطة هو الذي سماه بعض أهل العلم بالإلقاء في الروع يعني القلب، وفي الحديث عنه ﷺ: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها[4] ويكون بهذا مفارقًا للإلهام عند من فرق بينهما، فيكون الإلهام هو ما يلقيه الله مباشرة في القلب.
الحاصل أن الله هنا أوحى إلى الحواريين، فيمكن أن يكون أمرهم بذلك عن طريق عيسى ﷺ كما قاله بعض المفسرين، والمشهور أن الله ألقى ذلك في قلوبهم، وهو ما يعرف بالإلهام، وما وقع لأم موسى هو من قبيل الإلهام -والله تعالى أعلم- خلافًا لمن قال: إنه من قبيل الإلهام الغريزي، فهذا غير صحيح؛ لأن الغرائز ما جبلت على هذا بل هو ضد ما تقتضيه؛ لأن الغريزة تأبى أن تلقي المرأة ولدها وصغيرها في البحر إذا خافت عليه، فهذا ليس من الإلهام الغريزي لكن يمكن أن يقال: من الإلهام الغريزي قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [سورة النحل:68] والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111] هنا لم يفسر لمن كان خطابهم، لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك متوجه إلى الله -تبارك وتعالى- أي: واشهد يا ربنا بأننا مسلمون.
والاحتمال الثاني أن ذلك خاطبوا به عيسى -عليه الصلاة والسلام- لكن السياق يدل على الأول؛ لأن الله يقول: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا [سورة المائدة:111] أي: استجابوا وقالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111] فيكون ذلك متوجهًا إلى الله -تبارك وتعالى- والله أعلم.
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:112-115].
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال: سورة المائدة، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة.
وقوله تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [سورة المائدة:112] وهم أتباع عيسى : يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112] والمائدة هي الخوان عليه الطعام.
يقول: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وهم أتباع عيسى -عليه الصلاة والسلام" يعني هم خلاصة أصحاب المسيح وليسوا كل أتباع عيسى ﷺ وقد قال النبي ﷺ: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.
فالحاصل أن خلاصة الأصحاب يقال لهم ذلك، وقيل: إن ذلك مأخوذ من الحوَر وهو شدة البياض، وقيل غير ذلك، لكنها تدل على الصفاء والنقاء، فخلاصة الشيء يقال له هذا، وسبق الكلام على هذا في سورة آل عمران.
قوله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] في هذه الآية قراءة أخرى متواترة: هل تستطيعُ ربَّك وقد فسرها بعضهم -أعني هل تستطيع ربَّك- بأن التاء والسين للطلب أي تستدعي طاعته، والمعنى هل تستدعي إجابته بأن ينزل علينا ذلك؟ وهذا الذي فسرها به كثير من أهل العلم، أي هل تستطيع أن تسأله؟ وهذه القراءة لا إشكال فيها، وأما القراءة المشهورة: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] فهل هذا من قبيل الشك في قدرة الله وأنهم لا يعرفون قدرة الله -تبارك وتعالى؟
إذا كان الأمر كذلك فهذه مشكلة، خاصة وأنهم خلاصة أصحاب المسيح، فهذا السؤال هو سؤال من لم يعرف الله وهذا السؤال كفر، فكيف يصدر منهم!! ولهذا قال بعض أهل العلم كابن جرير الطبري -رحمه الله: إن هذا صدر منهم؛ ولهذا قال عيسى ﷺ بعدها: اتَّقُواْ اللّهَ يزجرهم وينهاهم عن هذا السؤال الذي لم يتأدبوا فيه مع الله -تبارك وتعالى- ولم يقدِّروه حق قدره، فيكون قوله: قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ على سبيل الإنكار.
وكيف يقولون هذا؟ بعض أهل العلم قال: إنهم قالوه في أول أمرهم قبل أن يتعلموا حقائق الدين، وما عرفوا الله معرفة لائقة كما قال بعض من أسلم عام الفتح مع النبي ﷺ وهو متوجه إلى هوازن أو الطائف: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط[5]، وكما قال بنو إسرائيل لموسى ﷺ: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] فقالوا: إن هؤلاء أصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام- كانوا في أول أمرهم.
وتكلف بعضهم في تفسير قوله تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [سورة المائدة:112] فقالوا: لم يصدر هذا القول منهم وإنما من بعض من خالطهم ممن ليس منهم، وهذا خلاف الظاهر، فالله هنا أضافه إلى الحواريين ولا يمكن أن يضاف إلى من خالطهم ممن ليس منهم ولا يصدق عليه ذلك، والأقرب -والله تعالى أعلم- في تفسير قوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] هو ما مشى عليه بعض أهل العلم أي: هل يفعل؟ فإن الاستطاعة يعبر بها أحيانًا عن الفعل كما تقول: هل تستطيع أن تذهب معي وأنت تستطيع لكن المعنى هنا هل تفعل، أو هل يقع منك ذلك، أو هل توافق عليه، وكما تقول: هل تستطيع أن تعيرني هذا الكتاب فأنت مستطيع قطعًا لكن هل تستجيب فتفعل ذلك؟ هذا هو الأقرب في تفسيرها، والله أعلم.
بعضهم يفسر المائدة بالطعام، وبعضهم يفسرها بالخوان عليه الطعام، يعني بمجموع الأمرين، والخوان ما يوضع عليه الطعام، والمشهور أنها تفسر بالخوان الذي يوضع عليه الطعام بما عليه من طعام.
الله أعلم بهذا، لكن هم أرادوا أن يكون ذلك آية لهم كما هو مصرح به في الآية.
بعض أهل العلم يقول: إنه قال لهم: اتقوا الله من أجل إنزالها، يعني تهيئوا لتحقيق الطلب بتقوى الله أي من باب قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] هكذا فسره بعضهم وفيه بُعد وهو عكس قول ابن جرير -رحمه الله- حيث يقول: إنه قال لهم ذلك على سبيل الزجر والإنكار لشكهم في قدرة الله -تبارك وتعالى.
والذي أظنه أحسن من هذا كله -والله أعلم- أنه قال لهم: اتقوا الله؛ لأنهم سألوا آية من الآيات، وليس للناس أن يقترحوا على الله الآيات فقد لا يقومون بما تستوجبه هذه الآيات فينزل عليهم العذاب كما هي عادة الله في الأمم المكذبة.
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا أي: نحن محتاجون إلى الأكل منها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا إذا شاهدنا نزلوها رزقًا لنا من السماء وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا أي: ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:113] أي: ونشهد أنها الآية من عند الله ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به.
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا [سورة المائدة:114] قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري: يعني يومًا نصلي فيه.
وَآيَةً مِّنكَ أي: دليلًا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك لدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك وَارْزُقْنَا أي: من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة المائدة:114].
قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ [سورة المائدة:115] أي: فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] أي: من عالمي زمانكم كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] وقوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145].
هنا أراد أن يجمع بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى فقال: "أي عالمي زمانكم" دفعًا لما قد يُتوهم من التعارض بينها وبين قوله تعالى عن آل فرعون في الآخرة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] أي العذاب الذي قد بلغ في الشدة غايته، وبينها وبين قوله تعالى عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] وأظن -والله أعلم- أنه لا حاجة لدفع هذا التوهم؛ لأن قوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] يعني أن صفة العذاب التي يعذبهم بها تختص بهم ولا يعني أن ذلك يكون أشد أنواع العذاب مما لا يدانيه غيرهم كآل فرعون أو المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار، فهو يعاقبهم بعقوبة مختصة، فكما يقال: إن المزية لا تقتضي الأفضلية فكذلك يقال هنا: الاختصاص لا يقتضي أنهم الأشد بإطلاق، فقد يكون عذاب آل فرعون أشد منهم ولكن هؤلاء يختصون بنوع من العقوبة لا يعذب بها غيرهم، والفرق في هذا واضح، ومثاله أن يقول الإنسان لمن يتوعده: لأقتلنك قِتلة ما سمع بها أحد، أو ما قُتِل بها أحد، أو نحو ذلك، فهذا لا يعني أن هذه القتلة هي الأشد وإنما قد تكون بطريقة خفية، فالمقصود أنه لا يوجد إشكال بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:115] فهذا خبر من الله ووعد منه نتيجة لهذا الدعاء ولا شك أنه تحقق، والعجيب أن مجاهد بن جبر -رحمه الله- يقول: إن المائدة لم تنزل وإنما هذا من قبيل ضرب المثل، فهو مثل ضربه الله للزجر عن اقتراح الآيات على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، وهذا تفسير باطل؛ لأنه خلاف ظاهر القرآن.
ذكرنا قبلُ أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي وإنما تمنع الزيادة، فأشد الناس يعني كلهم قد بلغوا في الشدة غايتها، وتقول: فلان أكرم الناس، ثم تذكر آخر وتقول: هو أكرم الناس، ثم تقول لثالث: إنه أكرم الناس، فلا تعارض في هذا؛ لأن المعنى أنهم كلهم قد بلغوا في الكرم الغاية، فالمقصود أن أفعل التفضيل -نحو أكرم وأعلم وأشد- لا تمنع من التساوي، وقد ذكرنا هذا في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ [سورة البقرة:114] أي لا أحد أشد ظلمًا، والله تعالى أعلم.
مثل هذا مما يؤخذ عن بني إسرائيل، والروايات المأخوذة عن بني إسرائيل في هذا الموضع في كتب التفسير كثيرة جدًا ومختلفة غاية الاختلاف، حيث يصفون هذه المائدة بأوصاف عجيبة وهي مختلفة تمامًا، فمنهم من يقول: سمك، ومنهم من يقول: لحم، ومن يقول: خبز وسمك، والله تعالى أعلم، فمثل هذا لا يمكن أن يوصل إليه إلا عن طريق الوحي، وما يذكر من هذه الإسرائيليات لا نصدقه ولا نكذبه إن كان لا يخالف ما عندنا، ولا فائدة في معرفة نوع هذه المائدة والأصناف التي نزلت فيها؛ فهذا لا يترتب عليه عمل بل هو من التكلف، ولو كان فيه فائدة لذكره الله وإنما العبرة في سؤالهم ونزولها.
وروى ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاءوا، قال: فسرق بعضهم منها، وقال: لعلها لا تنزل غدًا فرفعت.
وهذه الآثار وغيرها دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ الآية [سورة المائدة:115].
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده فرآها الناس فتعجبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة، ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود -عليهما السلام- فالله أعلم.
طبعًا هنا لا يقصد بالمائدة الطعام وإنما يقصد الخوان أو الشيء الذي يوضع عليه الطعام، إلا أن هذه الواقعة الله أعلم بها، وإن كان صحيحًا أنهم وجدوا شيئًا فلا يقال: إن هذا مما نزل على عيسى -عليه الصلاة والسلام- ولا يقطع أنه مما كان لداود ﷺ أو لسليمان أو غير ذلك فمثل هذه الأخبار لا يوثق بها، كما يزعم كثير من الناس إلى اليوم أن هذا المكان أو أن هذا الشيء أو أن هذا السيف للنبي ﷺ أو لفلان فمثل هذا قد لا يثبت، كما نشاهد الآن توجد أماكن ومساجد ينسب إلى النبي ﷺ أنه صلى فيها أو أن فلانًا صلى فيها، أو أن فلانًا قُبر هنا مع أنه لم يثبت شيء من هذا في كثير من الأحيان، ومن أمثلة ذلك مكان قبر الحسين فهو موجود في أماكن متعددة حسب زعم الزاعمين.
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:116-118].
هذا أيضًا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم قائلًا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ [سورة المائدة:116] وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رءوس الأشهاد، هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [سورة المائدة:119].
وهذا أحسن من تفسير من فسره بأن ذلك وقع حينما رفعه الله.
وقوله: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة:116] هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل كما روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: يلقَّى عيسى حجته ولقَّاه الله تعالى في قوله: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ [سورة المائدة:116] قال أبو هريرة عن النبي ﷺ: فلقَّاه الله سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة:116] إلى آخر الآية[6] وقد رواه الثوري عن معمر عن ابن طاوس عن طاوس بنحوه.
وقوله: إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [سورة المائدة:116] أي: إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا ربِّ فإنه لا يخفى عليك شيء، فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ولهذا قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [سورة المائدة:116-117] بإبلاغه أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سورة المائدة:117] أي: ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه.
قوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [سورة المائدة:116] هذا يدل على إثبات صفة النفس لله -تبارك وتعالى- وقال بعضهم: هذا من باب المشاكلة، وهذا غير صحيح؛ لأن المشاكلة نوع من المجاز عند أهل المجاز، وقد تجد بعض طلبة العلم من يعبر بمثل هذا في الصفات، وهذا غير صحيح، وهو تأويل لهذه الصفة حيث يقولون: المشاكلة أن يعبر بلفظ مشاكل للفظ آخر عبر به أو خوطب به أو نحو هذا فقوله: وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ يعني أنه أراد أن يشاكل اللفظة الأولى في قوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وإلا فالله لا يوصف بهذا، وهذا الكلام غير صحيح، بل نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وعيسى أعلم بالله ، ولقد تطاول بعض الجهمية وقال: إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- مشبِّه حينما قال: وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [سورة المائدة:116] نسأل الله العافية.
ومن جعل ذلك من المشاكلة جعل قول عيسى هنا من باب قول القائل:
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه | قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا |
فلما كانت الجبة والقميص لا تطبخ قالوا: أراد أن يشاكل اللفظة التي خاطبوه بها، وهؤلاء جعلوا كلام عيسى في قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [سورة المائدة:116] وفي قوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ [سورة الأنفال:30] وفي قوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق:15-16] جعلوه من المشاكلة في الألفاظ، وتأويلهم لهذا أنه من المشاكلة تأويلًا للصفة لا يصح، بل يجب أن نثبت لله ما أثبته لنفسه على الوجه اللائق به، فهناك أشياء تثبت بإطلاق على الوجه اللائق كالنفس، وهناك أشياء تثبت حيث تكون كمالًا ولا يشترط أن تكون على سبيل المقابلة مثل الكيد في قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183] فإنه لم يذكر ما يقابله هنا ومع ذلك نثبته لله لكن حيث يكون الكيد كمالًا؛ لأن هذا ليس من الصفات التي تكون كمالًا من كل وجه وفي كل حال، بل أحيانًا تكون كمالًا وأحيانًا لا تكون كذلك، فإذا كانت في موضعها الذي تكون فيه كمالًا فإنها تثبت، والله أعلم.
أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سورة المائدة:117] أي: هذا هو الذي قلت لهم.
وقوله: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ [سورة المائدة:117] أي: كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة:117].
قوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [سورة المائدة:117] يحتمل أن يكون أراد الوفاة في النهاية؛ لأن عيسى -عليه الصلاة والسلام- رفع ثم يرجع ثم بعد ذلك يتوفاه الله فهو يقول هذا الكلام في اليوم الآخر، ويحتمل أن يكون قال ذلك باعتبار معنى الوفاة الذي ذكرناه في قوله: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] وقلنا هناك: إن الوفاة لها معنىً لغوي ولها معنىً شرعي، فالوفاة في معناها اللغوي مأخوذة من الاستيفاء، ولهذا قال بعضهم في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] أي: مستوفيك، يعني مستوفيه إليه بروحه وجسده، والمعنى الشرعي للوفاة يأتي بإزاء أمرين: الأول: مفارقة الروح الجسد المفارقة المعروفة التي يحصل بها الموت للإنسان ومفارقة الدنيا، ومنه قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [سورة الزمر:42].
الثاني: يأتي بإزاء معنىً آخر وهي الوفاة الصغرى وذلك بنوع من مفارقة الروح للجسد مفارقة يبقى معها الإدراك وليست مفارقة كلية، وهذه أمور غيبية الله أعلم كيف تتم، فالله يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [سورة الزمر:42] ويقول سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ [سورة الأنعام:60] يعني النوم، فالنوم هنا سماه وفاة، فإذا احتملت الآية المعنى الشرعي والمعنى اللغوي فالأولى بها أن تفسر بالمعنى الشرعي، ولذلك يقال في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] أي: إنه رافعه في حال النوم، وهنا فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [سورة المائدة:117] أي رفعتني في الصفة المشار إليها وهي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:117] فهذا محتمل أيضًا.
من أهل العلم من قال: وإن كان النبي ﷺ قد قال: فأقول أصحابي إلا أن المقصود بأصحابه أتباعه الذين على ملته، وقالوا: هذا من عموم أتباع النبي ﷺ في أي عصر من العصور ممن بدل وغيَّر فهو -عليه الصلاة والسلام- يعرفه بمعرفته لهذه الأمة بعلامات، وهذا وإن كان يحتمله الحديث، لكن الأقرب في ظاهره -والله أعلم- أن الصحبة تقتضي المخالطة، فقوله: أصحابي يعني ممن صحبه، ومعلوم أنه قد ارتد من ارتد بعد وفاة النبي ﷺ فالذين حجوا معه ﷺ أكثر من مائة ألف فلما توفي النبي ﷺ ارتدت العرب وما بقي إلا أهل المدينة ومكة وثبّتهم سهيل بن عمرو بعد ما كادوا أن يتضعضوا حيث ذكَّرهم بأنهم آخر الناس إسلامًا فلا ينبغي أن يكونوا أول الناس ارتدادًا، فثبت هؤلاء وثبت من ثبت من بني عبد القيس.
والمقصود أنه ما بقي إلا هؤلاء وأما الباقون فقد ارتدوا بأنحاء جزيرة العرب فمنهم من تبع مسيلمة، ومنهم من تبع الأسود العنسي، ومنهم من تبع سجاح، ومنهم من أنكر الزكاة إلى غير ذلك من أنواع صنوف المرتدين، فهذا وقع بلا شك، ويصدق عليهم هذا الحديث، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يُتخذ هذا الحديث للطعن والتشكيك في أصحاب النبي ﷺ كما يفعل الرافضة.
ويقال لهؤلاء الرافضة: إذا كان هذا مما يُتخذ ذريعة للطعن فيهم والتشكيك فإن ذلك يتوجه إليكم قبل كل شيء، فإذا كنتم بلغتم بالتقديس غايته مما لا يصلح للبشر من تقديسكم لبعض أصحاب النبي ﷺ فإن ما تقولونه في غيرهم قد يتوجه إلى هؤلاء، فلا فرق، والوحي قد انقطع بعد النبي ﷺ وأنتم تقولون: وما يدرينا أن يكون هؤلاء ممن ارتد؟
فنقول: وهؤلاء الذين تقدسونهم من الصحابة ما يدرينا أنهم ممن ارتد؟ طبعًا نحن ندري أن هذا لم يحصل حاشاهم – وأرضاهم- لكن من باب إلقامهم الحجر، نقول: الوحي انقطع وما يدرينا أن هؤلاء ممن حصل منهم هذا كما تقولون في أبي بكر وعمر ؟
لكن نحن نقول: إن الله قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [سورة الفتح:18] وهم -قبحهم الله- يقولون: إن "إذ" في الآية تقتضي وقتًا معينًا يعني رضي عنهم في تلك اللحظات لكنهم بدلوا بعدها، نقول: كذبتم، فالله يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [سورة التوبة:100] ويقول –تبارك وتعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29] فقد وصفهم بأحسن الأوصاف، وكما قال ابن مسعود : إن الله نظر إلى أهل الأرض -وكان مما ذكر أنه قال: اصطفى محمدًا من بين سائر الناس، واصطفى أصحابه هؤلاء لصحبته من بين سائر أهل زمانه، أو كما جاء عن ابن مسعود .
فالمقصود أن هؤلاء خيار الأمة وأفضلها، وكما قيل: لو سئل اليهود من أفضلكم؟ لقالوا: أصحاب موسى، ولو سئل النصارى: من أفضلكم؟ لقالوا: أصحاب عيسى، ولو سئل الرافضة -قبحهم الله: من شراركم؟ لقالوا: أصحاب محمد ﷺ.
على كل حال هذا الحديث يحمل على الذين ارتدوا من الأعراب ونحوهم ممن وقع منهم ردة، وهم معروفون لا يخفون، ناهيك عن الذين قاتلوهم وعلى رأسهم الصديق الأكبر ووزيره عمر -رضي الله عن الجميع- فهؤلاء هم الذين ردوا الناس إلى الجادة حيث ردوهم إلى الإسلام وقاتلوهم عليه فليس هؤلاء ممن بدل وغيَّر، والنبي ﷺ إلى اللحظات الأخيرة وهو يقول: يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس[8] يقول ذلك والموت ينازعه ﷺ فهل يمكن أن يصدر ممن يوحى إليه في حق من ينكص على عقبيه ويكون مرتدًا؟ هذا مستحيل غير ممكن.
وقوله: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118] هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا -تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا- وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
إن هذا المقام مقام عظيم يغضب فيه الرب غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، فعيسى -عليه الصلاة والسلام- فوَّض الأمر إلى الله تمام التفويض، فما أراد أن يكون مدافعًا عنهم وفي صفهم وهم قد نسبوا له الصاحبة والولد، فقال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118] فقد ختم الآية بهذين الاسمين مع أن المتبادر أن يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن المقام ليس مقام استعطاف كما يقال أو كما يعبَّر أو مقام استرحام أو مدافعة عنهم أو نحو ذلك من استجلاب العفو وإنما هو مقام تفويض إلى الله -تبارك وتعالى.
والتعبير في قوله: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [سورة المائدة:118] له سر لطيف -والله أعلم- وهو أن السيد لا يعذب عبده بل من شأنه أن يرفق به وأن يستبقيه، وإنما يكون ذلك إذا جنا جناية لا يناسب أو لا يصلح العفو عنها؛ بأن يكون قد جنا جناية عظيمة جدًا يستحق عليها العقوبة فيكون ذكر العباد هنا ليس لمطلق التفويض، وإنما فيه أيضًا ما يشعر بالعلة والأدب مع الله ، فهو يقول: هؤلاء عبادك فإن عذبتهم فإنما تعذبهم لأمر قد استحقوه وعمل قبيح قد عملوه يستحق العقوبة، وإلا فالسيد لا يعذب عبده بل يستبقيه ويحسن إليه لقربه منه، وإن عذبه فإن ذلك يكون لجرم عظيم يستحق العقوبة عليه، هذا ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ردًا على الذين يقولون:
ما ثم غير مشيئة قد رجحت | مثلًا على مثل بلا رجحان |
يقولون: الله ليس متصفًا بالحكمة وإنما يعذب هؤلاء ويعذب هؤلاء لأنهم خلقه وعبيده وتحت قبضته ويتصرف بهم كما شاء، فهو يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، والصواب أن الله عليم حكيم يعذب من يستحق العقوبة ويرحم من شاء من خلقه ممن كتب لهم الرحمة من أهل الإيمان والعمل الصالح، والله أعلم.
قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة:119-120].
يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله ومن ردِّ المشيئة فيهم إلى ربه فعند ذلك يقول تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [سورة المائدة:119] قال الضحاك عن ابن عباس -ا: يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم.
على قراءة الرفع يقول تعالى: قَالَ اللّهُ وجملة مقول القول: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فهو خبر من الله عن ذلك اليوم أنه ينفع الصادقين صدقهم.
وعلى قراءة النصب: قال اللهُ هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم من أهل العلم من يقول: إن المقصود أن هذا القول يقوله الله في ظرف معين وذلك الظرف هو يوم ينفع الصادقين صدقهم، أي: أن الله يقول هذا القول يوم ينفع الصادقين صدقهم.
وهناك معنى آخر لقراءة النصب قال اللهُ هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم [سورة المائدة:119] وهو أنه لما رد عيسى -عليه الصلاة والسلام- بهذا الرد إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118] عقب الله بذلك فقال: هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم وهو يوم القيامة، وعلى كل حال قراءة النصب هذه قراءة متواترة، والله تعالى أعلم.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [سورة المائدة:119] أي: ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [سورة المائدة:119] كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ [سورة التوبة:72] وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث.
وقوله: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة المائدة:119] أي: هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه كما قال تعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [سورة الصافات:61] وكما قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [سورة المطففين:26].
وقوله: لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة:120] أي: هو الخالق للأشياء المالك لها المتصرف فيها القادر عليها، فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير له ولا وزير ولا عديل ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، ولا إله غيره ولا رب سواه.
قال ابن وهب: سمعت حُيَيّ بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو -ا- قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة.
قوله: "آخر سورة أنزلت سورة المائدة" يعني آخر سورة تتعلق بالأحكام أي أنه لم ينسخ شيء مما في المائدة مع أن دعاوى النسخ موجودة، كما سبق في قوله -تبارك وتعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة المائدة:106] فالأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: إنها منسوخة، وهذا القول وإن كان مرجوحًا فالمقصود أن دعاوى النسخ موجودة في السورة، والمقصود أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام لم ينسخ منها شيء، وإلا فقد نزل بعدها كثير من القرآن.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله (36) (ج 1 / ص 36).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب – باب في فضل الحب في الله (2567) (ج 4 / ص 1988).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3277) (ج 3 / ص 1276) ومسلم في كتاب الزهد والرقائق (2964) (ج 4 / ص 2275).
- أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في مصنفه (20100) (ج 11 / ص 125) وأبو نعيم في الحلية (ج 10 / ص 27) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2085) وهو عند البيهقي في شعب الإيمان (1185) (ج 2 / ص 67) ولفظه: إن الروح الأمين قد نفث في روعي.
- أخرجه الترمذي في كتب الفتن - باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (2180) (ج 4 / ص 475) وصححه الألباني في المشكاة برقم (5408).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ (3062) (ج 5 / ص 260) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (8159).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4349) (ج 4 / ص 1691) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2860) (ج 4 / ص 2194).
- أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة - باب حد المريض أن يشهد الجماعة (633) (ج 1 / ص 236) ومسلم في كتاب الصلاة - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام (418) (ج 1 / ص 311) واللفظ لأحمد (24107) (ج 6 / ص 34).