الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[3] من قول الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ} الآية 17 إلى قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} الآية 26.
تاريخ النشر: ٠٣ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3696
مرات الإستماع: 2374

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ثم قال تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سورة الأنعام:13] أي: كل دابة في السماوات والأرض، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة الأنعام:13] أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سورة الأنعام:13]: يمكن أن يكون الاقتصار على ما سكن باعتبار أنه الأغلب؛ لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما هو متحرك كالنباتات والجمادات وما شابه ذلك.

ويمكن أن يكون اقتصاره على ذكر ما سكن هو من قبيل ما يسميه البلاغيون بالاكتفاء، أي: أنه ذكر أحد المتقابلين ليدل به على الآخر، أو ذكر أحد الأمرين ليدل به على الآخر، وعلى هذا يقال: وَلَهُ مَا سَكَنَ أي: وما تحرك، ومن نظائر هذا قوله -تبارك وتعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] أي: وسرابيل تقيكم البرد.

ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد ﷺ الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم: قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الأنعام:14] كقوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [سورة الزمر:64] والمعنى لا أتخذ ولياً إلا الله وحده لا شريك له فإنه فاطر السماوات والأرض أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق.

وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ [سورة الأنعام:14] أي: وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الآية [سورة الذاريات:56] وقرأ بعضهم هاهنا: (وهو يُطعِمُ ولا يَطَعَمُ).

قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ [سورة الأنعام:14] هو بمعنى الصمد، أي الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها وأرزاقها وحوائجها، فالكل مفتقر إليه وهو ليس مفتقراً لأحد سواه فله الغنى الكامل، وهذا أحد المعاني التي تذكر في الصمد، ومن معاني الصمد أي الذي لا جوف له.

وفي هذه الآية قراء أخرى هكذا: (وهو يُطعِمُ ولا يَطَعَمُ) فقوله: وَلاَ يُطْعَمُ [سورة الأنعام:14] يعني أنه الغني الذي لا يفتقر إلى غيره، وقوله: (ولا يَطعَم) يعني أنه لا يأكل، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى كمال غناه وعدم افتقاره إلى غيره، والقراءة الثانية هي قراءة سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش لكنها من الشواذ وليست متواترة.

وكمال الغنى يعرف من نصوص كثيرة، فالاسم المباشر الذي يدل عليه هو الغَنِيّ والصفة المباشرة التي تدل عليه هي الغِنَى، ويعرف ذلك من نصوص أخرى كهذا الذي في سورة الأنعام، وكقوله -تبارك وتعالى- مثلاً: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255] يعني لا أحد يشفع عنه إلا بإذنه، فهذا يدل على كمال غناه؛ لأن الذي يُشفع عنده من المخلوقين إنما يقبل شفاعتهم عنده بغير إذنه، فهو إما أنه يقبل شفاعتهم لافتقاره إليهم كخوف غوائلهم أو لأن سلطانه لا يقوم إلا بهم أو نحو ذلك، أما الله فهو الغني عن خلقه، فلا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.

وكذلك قوله تعالى: لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:255] يدل على كمال الملك وكمال الغنى أيضاً.

ومن النصوص الدالة على كمال غناه أيضاً قوله ﷺ: يد الله ملأى لا تغيضها نفقة وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده[1].

وقرأ بعضهم هاهنا: (وهو يطعم ولا يَطَعم) أي: لا يأكل.

 وفي حديث عن أبي هريرة قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبيَّ ﷺ على طعام فانطلقنا معه فلما طعم النبي ﷺ وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، ومن علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا من الشراب وكسانا من العري، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافأً ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبصرنا من العمى، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين[2].

قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [سورة الأنعام:14] أي: من هذه الأمة وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ۝ قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الأنعام:14-15] يعني يوم القيامة.

في قوله تعالى: قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [سورة الأنعام:14] قال: "أي: من هذه الأمة" وهذا باعتبار أن النبي ﷺ مسبوق إلى الإسلام، فنوح ﷺ ومن جاء بعده من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ووصية يعقوب لبنيه، وما دل عليه قوله -تبارك وتعالى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ [سورة المائدة:44] كل هؤلاء سبقوا النبي ﷺ فالمقصود بذلك ضرورة من هذه الأمة.

مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ أي: العذاب يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ يعني رحمه الله وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [سورة الأنعام:16] كقوله: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [سورة آل عمران:185] والفوز حصول الربح ونفي الخسارة.

وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ۝ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ۝ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:17-21].

يقول تعالى مخبراً أنه مالك الضر والنفع وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [سورة الأنعام:17] كقوله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ الآية [سورة فاطر:2].

وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد[3] ولهذا قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [سورة الأنعام:18] أي: وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه.

وَهُوَ الْحَكِيمُ [سورة الأنعام:18] أي في جميع أفعاله الْخَبِيرُ بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا من يستحق ولا يمنح إلا من يستحق.

قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [سورة الأنعام:18] يقول: "أي: وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه" فسَّر القاهر بأنه الذي ذل له كل شيء وخضع له كل شيء.

والفوقية في قوله: فَوْقَ عِبَادِهِ تشمل الفوقية بأنواعها، فالفوقية بالذات بمعنى علو الذات داخلة هنا كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [5سورة طـه:] وكما قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [سورة النحل:50]، ويشمل ذلك أيضاً الفوقية في القدر والمنزلة -علو القدر- ويشمل أيضاً الفوقية بالقهر، فكل ذلك متحقق ثابت له -- ولذلك لا يُكتفى بتفسير الآية بفوقية القهر أو فوقية القدر، فإن هذه بعض المعاني الداخلة فيها، والله تعالى أعلم.

ثم قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [سورة الأنعام:19] أي: من أعظم الأشياء شهادة قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:19] أي: هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي.

قال: "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [سورة الأنعام:19] أي: من أعظم الأشياء شهادة" يعني من يشهد على صدق ما جئت به، ثم قال: قُلِ اللّهِ فهذا هو الجواب.

ومن أهل العلم من يقول في الآية: إن الكلام تمَّ عند لفظ الجلالة بمعنى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ [سورة الأنعام:19] انتهى -وهو ظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله- ثم يبدأ الكلام هكذا: شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:19] يعني قل الله هو أكبر شهادة، ثم قال: شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:19].

ومن أهل العلم من يقول: هذا كله في ضمن الجواب، أي أن الجواب هو: اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:19] وبعبارة أخرى: أي شيء أكبر شهادة؟ الله شهيد بيني وبينكم، والآية تحتمل الأمرين، والله أعلم.

ثم قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [سورة الأنعام:19] أي: من أعظم الأشياء شهادة قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أي: هو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17].

قوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ يعني الذين خاطبهم النبي ﷺ وَمَن بَلَغَ يعني من يأتي بعدهم ممن لم يدرك النبي ﷺ، فكل من بلغه هذا القرآن وفهمه الفهم الذي يصلح لمثله -وليس بالضرورة أن يكون فهمه كفهم أبي بكر وعمر- فإنه تقوم عليه الحجة ولا تبرأ ذمته ولا تحصل له النجاة إلا باتباعه، كما قال النبي ﷺ: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار[4].

وحينما يقال: بلغه هذا القرآن وفهمه يعني بلوغ الحجة وفهم الحجة، وفهم الحجة يتفاوت غاية التفاوت بين الناس لكن المقصود أنه لا يكون -مثلاً- من الأعاجم ممن لا يفقه حرفاً من العربية بحيث إذا قرئ عليه القرآن من أوله إلى آخره لم يفهم شيئاً فمثل هذا لا تقوم عليه الحجة وإنما يبلغه من القرآن ما تقوم به الحجة عليه.

وقال الربيع بن أنس: "حق على من اتبع رسول الله ﷺ أن يدعو كالذي دعا رسول الله ﷺ وأن ينذر بالذي أنذر.

وقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أيها المشركون أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ [سورة الأنعام:19] كقوله: فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ [سورة الأنعام:150] قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:19].

ثم قال تعالى مخبراًً عن أهل الكتاب أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء؛ فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد ﷺ ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته.

الضمير في يَعْرِفُونَهُ من قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ [سورة الأنعام:20] إما أن يرجع إلى النبي ﷺ وإما أن يرجع إلى ما جاءهم به النبي ﷺ من الوحي والقرآن، أي: إنهم يعرفون هذا القرآن أنه من عند الله حثاً وليس بمختلق كما يعرفون أبناءهم، أو يعرفون أن محمداً رسول الله إلى العالمين كما يعرفون أبناءهم الذين من أصلابهم، بل قد قال له بعضهم: والله إنا نعرفك أكثر مما نعرف أبناءنا؛ يعني أنه لا يدري هل ولده هذا من صلبه فعلاً أم لا، مع أن المقصود بمعرفتهم أبنائهم أنهم ينسبونهم إليهم من بين سائر الناس دون أن يشتبه ذلك عليهم.

يقول ابن كثير –رجمه الله- في الآية: "أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم" يعني أنه يرى أن الضمير يرجع إلى القرآن.

والقول بأنه الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو أنه القرآن الذي جاء به بينهما ملازمة، فهم يعرفون النبي ﷺ وهو -عليه الصلاة والسلام- قد جاءهم بالقرآن.

وهناك احتمال ثالث في عود الضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ؛ وذلك أن الله  قال قبل هذه الآية: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة الأنعام:19-20] فيحتمل أن يرجع الضمير أيضاً إلى الله –تبارك وتعالى- ليكون المعنى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون وحدانية الله، وذلك أن هذه السورة مكية فهي تقرر توحيد الله  وإفراده بالوحدانية، فهذا احتمال أيضاً يضم إلى ما سبق.

وقد حمل كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- الضمير في يَعْرِفُونَهُ على المعاني الثلاثة، أي: يعرفون الله ويعرفون الرسول -عليه الصلاة والسلام- ويعرفون الوحي الذي جاء به النبي –عليه الصلاة والسلام.

وعلى كل حال فالآيات في سياقها تتحدث عن الوحدانية وتتحدث أيضاً عن صدق النبي ﷺ فهذه القضايا الثلاث مذكورة قبل ضمير يَعْرِفُونَهُ فالله يقول: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [سورة الأنعام:19] يعني على صحة ما جئت به، ثم قال: قُلِ اللّهِ يعني يشهد على صدقي وصدق رسالتي، ثم بعد ذلك قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة الأنعام:20] أي: يعرفون هذا الحق الذي جئت به وأنه صدق من الله -تبارك وتعالى- وهذا المعنى هو الذي تدل عليه الآيات الأخرى، ولهذا قال الله في موضع آخر: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] فقوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] يعني أنهم يكتمون وحدانية الله وهم يعلمون، أو أن أنبياءهم أخبروهم عن النبي ﷺ وعن صفته فكتموا ذلك، فالثاني هو المتبادر، والله تعالى أعلم.

هل يمكن ترجمة هذه الآية إلى لغات أخرى حرفياً؟

لابد من معرفة أن المترجم للقرآن إلى لغة أخرى لا يمكن أن يترجم الآية ترجمة صحيحة إلا أن يكون قد فسرها؛ لأن الترجمة الحرفية مستحيلة، أعني لا يمكن أن تنقل كلام الله تعالى بحروفه بكل معانيه الأصلية والخادمة إلى لغة أخرى إلا بأن تفهم معاني هذه الآية.

فإذا أردت أن تترجم قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ [سورة الأنعام:20] إلى لغة أخرى فلابد أن تفهم تفسيرها أولاً، ولذلك فإنك إذا كنت تعتقد أن معنى قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ أي اليهود والنصارى، وأن الضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ يعني الرسول ﷺ فإنك ستقول في ترجمتك للآية: اليهود والنصارى يعرفون الرسول ﷺ وأنه من عند الله كما يعرف الواحد منهم ابنه.

وإذا كنت تعتقد أن الضمير في يَعْرِفُونَهُ يرجع إلى الله ستقول: اليهود والنصارى يعرفون وحدانية الله كما يعرفون أبناءهم.

وإذا كنت تعتقد أن الضمير يرجع إلى القرآن ستقول: اليهود والنصارى يعرفون أن هذا القرآن حق من عند الله .

وكذلك لو فهمت أن الآية تحمل على المعاني الثلاثة فإنك تنقلها عند الترجمة بناء على الفهم الذي فهمته منها.

والمقصود أنه لا بد من فهم معنى الآية أولاً ثم بعد ذلك ينقل هذا الفهم إلى اللغة الأخرى سواء كان صواباً أو خطأً وهذا هو ما يحصل، ولذلك تجد كثيراً من الترجمات فيها أخطاء كثيرة جداً وانحرافات بحسب فهم المترجم، فالمترجم ليس مترجماً فحسب بل هو مفسر في الدرجة الأولى ولذلك لا بد في المترجم أن يعرف اللغتين الأصلية والمنقول إليها معرفة تامة، وأن يعرف معاني القرآن وتفسيره، وكلما كان أحذق كانت ترجمته أقرب إلى الإصابة، لكن أين تجد من يفهم اللغتين ويكون حاذقاً في التفسير في نفس الوقت؟ فالله المستعان.

فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد ﷺ ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته، ولهذا قال بعده: الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ [سورة الأنعام:20] أي: خسروا كل الخسارة فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:20] بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه.

ثم قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ [سورة الأنعام:21] أي: لا أظلم ممن تقول على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:21] أي لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ۝ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۝ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ۝ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۝ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة الأنعام:22-26].

يقول تعالى مخبراً عن المشركين: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يوم القيامة.

قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [سورة الأنعام:22] الظاهر المتبادر أن تكون هذه جملة استئنافية تخبر عن هذا الأمر الذي سيكون لا محالة حينما يحشرون ويسألون عن شركائهم.

وابن جرير -رحمه الله- ربط هذه الآية بما قبلها أي بقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:21] والمعنى: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ولا يفلحون يوم نحشرهم جميعاً في الآخرة، ثم ذكر ما يحصل لهم فقال: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ [سورة الأنعام:22].

لكن الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- ومشى عليه كثير من المفسرين أن هذه الآية لا ترتبط بما قبلها، أي أن المعنى تمَّ عند قوله: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:21] ببيان أنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الله أطلق نفي الفلاح عنهم، ثم ذكر ما يحصل لهم حينما يوجه إليهم هذا السؤال يوم القيامة وذكر كيف يكون جوابهم فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ الآيات [سورة الأنعام:22].

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [سورة الأنعام:22] يوم القيامة، فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه.

لفظة: "جميعاً" في قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [سورة الأنعام:22] تحتمل معنيين: الأول: أي: يم نحشرهم مجتمعة أبعاضهم وأجسادهم وما تفرق منهم في الأرض.

والثاني: نحشرهم جميعاً أي فلا نغادر منهم أحداً كما قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47] فالله يحشر الأولين والآخرين، والذين ظلموا ونظراءهم وأشكالهم كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ [سورة الصافات:22] وهذا المعنى الثاني هو المتبادر وهو الأقرب في تفسير الآية وفي تفسير نظائرها من الآيات، والله تعالى أعلم.

قائلاً لهم: أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:22] كقوله تعالى في سورة القصص: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة القصص:62] وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] أي: حجتهم، وقال عطاء الخرساني: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] بليَّتهم حين ابتلوا.

هذه المعاني متقاربة؛ وذلك أن أصل الفتنة هي الاختبار، وأصل ذلك يكون بعرض الذهب أو المعدن على النار ليتميز خالصه من شائبه، ومثل هذا قوله تعالى عن أصحاب الأخدود: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10] فالفتنة هنا تحتمل المعنيين كما يمكن أن تحمل على المعنيين، أعني أنهم أحرقوهم بالنار أو فتنوهم عن دينهم، فالفتن هو الاختبار.

يقول تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] قال بعض السلف: بليتهم أي: اختبارهم، ففسروه باعتبار أصل المعنى.

وقال بعضهم ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] أي: نتيجة هذه الفتنة، وهذا يشبه قول من قال: لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ أي: جوابهم حينما سُئلوا هذا السؤال، وهو يشبه أيضاً قول من قال -كالحافظ ابن القيم وهو ظاهر كلام ابن جرير: أي: عاقبة كفرهم، وهكذا هو تفسير من فسر فتنتهم بالكفر، فإنه قصد بالكفر عاقبته، وعاقبة كفرهم هي أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فهذا هو الجواب، أي: أنهم حينما سئلوا عن إشراكهم هذا قالوا: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23].

وابن جرير -رحمه الله- يذكر وجه التعبير عن العاقبة أو الجواب بالفتنة فيقول: حينما سئلوا عند الاختبار أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:22] تبيّن لهم عندئذ أنهم لم يكونوا على شيء فجحدوا هذا الإشراك ولم يقولوا: هؤلاء شركاؤنا بل كان الجواب: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فلما كان الجواب واقعاً بسبب الامتحان والفتن والاختبار أطلق على هذا الجواب بأنه فتنة فقال تعالى: لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23]، والله تعالى أعلم.

وعلى كل حال فإن هذه العبارات التي قالها السلف هي عبارات متقاربة يمكن الجمع بينها وإن كانت تختلف في معناها من حيث هي، ولذلك فإن حملها على اختلاف التنوع أقرب من حملها على اختلاف التضاد، وعليه فلا حاجة إلى الترجيح بينها، والله أعلم.

إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:24] وهذا كقوله: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ۝ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ [سورة غافر:73-74].

وقوله: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [سورة الأنعام:25] أي: يجيئون ليستمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئاً؛ لأن الله جعل على قلوبهم أكنة أي: أغطية؛ لئلا يفقهوا القرآن وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا أي: صمماً عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء الآية [سورة البقرة:171].

هذا مثل ما ذكر الله في الموضع الآخر أنهم إذا خرجوا من عند النبي ﷺ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] فهم يأتون ويسمعون ولكن لا ينتفعون بما سمعوا كما ينتفع المؤمنون، قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124-125].

قوله: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [سورة الأنعام:25] الوَقر –بفتح الواو- هو الصمم أي الثقل الذي يكون في السمع، والوِقر –بكسر الواو- هو الحمل، فتقول مثلاً: أوقرت دابته، وتقول: معه وِقرٌ من طعام.

وقوله: وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [سورة الأنعام:25] أي: مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [سورة الأنعام:25] فلا فهم عندهم ولا إنصاف، كقوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ الآية [سورة الأنفال:23].

وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ [سورة الأنعام:25] أي: يحاجونك ويناظرونكم في الحق بالباطل، يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [سورة الأنعام:25] أي: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذاً من كتب الأوائل ومنقول عنهم.

الأساطير جمع أسطار أو أسطورة أو أسطارة أو أسطور أو أسطير فكل ذلك قد قيل فيه، ويُقصد به ما كتبه الأولون وسطروه، فهو من السطر بمعنى الكتابة، ومرادهم هنا أن ما جاء به النبي –عليه الصلاة والسلام- ليس من عند الله وليس بوحي وإنما هو من مختلقات الأولين وحكاياتهم وأخبارهم وما أشبه ذلك.

وقوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ [سورة الأنعام:26] أي: أنهم ينهون الناس عن اتِّباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [سورة الأنعام:26] أي: ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع.

هذا هو المعنى الظاهر المتبادر من معنى الآية خلافاً لمن قال: إن قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي: ينهى عن النبي ﷺ بالذب عنه، وأن المراد بذلك أبو طالب حيث كان ينهى عن أذى النبي ﷺ ويدافع عنه، وينأى بنفسه عن الإيمان، فهذا القول بعيد غاية البعد حيث لا دليل على ذلك، ولا يصح في ذلك شيء، وإنما هي في صفة المشركين، والله أعلم.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يردون الناس عن محمداً ﷺ أن يؤمنوا به.

وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي ﷺ وينهون عنه. وكذا قال قتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد.

وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة الأنعام:26] أي: وما يهلكون بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلا عليهم وهم لا يشعرون.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [سورة ص:75] (6976) (ج 6 / ص 2697).
  2. أخرجه النسائي في السنن الكبرى – كتاب عمل اليوم والليلة - ما يقول إذا غسل يديه (10133) (ج 6 / ص 82)
  3. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب من لم ير رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة (808) (ج 1 / ص 289) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفة (593) (ج 1 / ص 414).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).

مواد ذات صلة