الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(13- ب) حرف الهمزة من قوله أم إلى حرف الباء قوله بشر
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 2348
مرات الإستماع: 2336

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(13- ب) حرف الهمزة من قوله: أم إلى حرف الباء قوله: بشّر

يقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: "أم" استفهامية، وقد يكون فيها معنى الإنكار، أو الإضراب، وتكون متصلة للمعادلة بين ما قبلها وما بعدها، ومنفصلة مما قبلها.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه "أم" يقول: إنها تكون استفهامية، وقد يكون فيها معنى الإنكار، أو الإضراب، وتكون متصلة للمعادلة بين ما قبلها وما بعدها، ومنفصلة مما قبلها.

هذه "أم" تكون متصلة: عاطفة، أو منقطعة بمعنى بل، هذا معنى الإضراب الذي أشار إليه والإنكار، بمعنى: بل، فتكون بهذا الاعتبار منقطعة.

وتكون حرف تعريف بمعنى: "ال"، على لغة بعض العرب: طيِّئ، وحمير، بمعنى: "ال"، تقول: امجبل، يعني: الجبل، ولا زالت هذه اللغة مستعملة في بعض النواحي، لا زالت موجودة، أم بمعنى: "ال".

فأم هنا تكون: متصلة، ومنقطعة، فأم المتصلة هي الواقعة بعد همزة الاستفهام، فيُطلب بها وبأم التعيين، ويُذكر بعد أم: المُعادِل، وهناك نوع آخر من أم المتصلة، وهي المسبوقة بهمزة التسوية، هذه هي المتصلة، التي تأتي بمعنى الاستفهام أو التسوية.

أما المنقطعة فهي التي لا يفارقها معنى الإضراب، سواء كانت بمعنى بل، أو بمعنى بل وهمزة الاستفهام، والمؤلف -رحمه الله- ذكر هذين المعنيين: تكون استفهامية، وقد يكون فيها معنى الإنكار والإضراب، وتكون متصلة للمعادلة بين ما قبلها وما بعدها، ومنفصلة مما قبلها.

الآن في قوله -تبارك وتعالى-: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍإبراهيم: 21، هذه ما نوعها؟ هل هي متصلة أو منفصلة؟، هي متصلة، نحن قلنا: المنفصلة هي التي للإضراب، فهذه متصلة، تفيد معنى التسوية، لاحظ: أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا فالهمزة هذه للتسوية، وأم سُبقت بهمزة التسوية، وقوله:تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ السجدة: 2-3، فهذه قيل: إنها منفصلة بمعنى بل والهمزة، يعني: بل أيقولون افتراه؟، وقيل: إنها استفهامية، وقيل: إنها بمعنى بل، وليست بل والهمزة، أي بل يقولون افتراه، والأول هو المشهور، أنها بمعنى بل والهمزة، بل أيقولون افتراه؟.

وليس المقصود بهذه الأمثلة التي أذكرها التحقيق، تحقيق الراجح في المعنى؛ لأن المقصود بالأمثلة: التوضيح فقط، يعني قد نأتي بمثال تتطرق إليه احتمالات، وقد يحتاج إلى مناقشة لهذا القول الذي ذُكر، أو بناء عليه جاء هذا المثال، ولكن المقصود التوضيح فقط، وليس هذا مجالا للمناقشات، إذا اتضح لك المراد والمعنى فهذا هو المطلوب، والعلماء يأتون بالأمثلة في الفقه، وفي غير الفقه، في علوم الحديث، في أصول الفقه، في القواعد الفقهية، وفي النحو، من أجل التوضيح والتقريب، فقد يأتي بمثال لا يوافق على المعنى الذي أورده ليكون مثالاً عليه

 

والعلماء يأتون بالأمثلة في الفقه، وفي علوم الحديث، وفي أصول الفقه، وفي القواعد الفقهية، وفي النحو، من أجل التوضيح والتقريب، لا يوافق على المعنى الذي أورده ليكون مثالاً عليه

 

.

وقوله: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ الطور: 39، فهذه متصلة، وإذا قلنا بأنها المنقطعة فهي التي لا يفارقها معنى الإضراب، أي: تكون بمعنى بل، وأحياناً بل وهمزة الاستفهام، فهذه تحتمل أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ الطور: 39، يحتمل أنها تكون بمعنى همزة الاستفهام: أله البنات ولكم البنون؟، فتكون متصلة، لكن إذا كانت بمعنى همزة الاستفهام فإنه يُطلب بها وبأم التعيين، وإذا كان المقصود بذلك الإنكار تكون بمعنى بل، وهو أقرب هنا، والله أعلم، وقوله: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي البقرة: 133، أم هذه قيل: هي استفهامية، يعني: متصلة، وقيل: بمعنى بل، أي بل شهد أسلافكم يعقوب، وعلمتم منه ما أوصى به، وبعضهم كابن عطية يقول: إنها بمعنى بل والهمزة، بل أكنتم شهداء؟، وقوله: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ الطور: 30، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ الطور: 32 - 33، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ الطور: 35، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ الطور: 36، كل هذه متتابعة، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ الطور: 37 - 43، فهنا بمعنى بل والهمزة، بل أله البنات؟، بل أيقولون شاعر؟، بل أتأمرهم أحلامهم بهذا؟، وهكذا. 

قال -رحمه الله تعالى-: "إمّا" المكسورة المشددة: للتنويع، والشك، والتخيير، وقد تكون مركبة من إِن الشرطية، وما الزائدة.

إمّا: يقول: تأتي للتنويع، إمّا: هذه حرف يكون بعد الطلب: للتخيير، أو الإباحة، وعرفنا الفرق بين التخيير والإباحة، وهما متقاربان جدًّا، وقد تكون للتفصيل، فقوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا الإنسان: 3، قيل: إِنّ إمّا هنا: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا، هي: إن الشرطية، وما الزائدة، هكذا قال بعض أهل العلم، وأصل إِنَّا: إننا، والمعنى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا الإنسان: 3، يعني: إننا عرّفناه السبيل إنْ شكر وإنْ كفر، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا يقولون: أصلها: إن شكر، وإن كفر، فـإِمَّا، يقولون: أصلها: إن وما، فأُدغمت فصارت: إِمَّا، هكذا يقول بعض أهل العلم.

على كل حال: هنا ابن جُزي -رحمه الله- يقول: إنها تأتي: للتنويع، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ التوبة: 106، فـ"إما" هنا يقولون: حرف شرط وتفصيل، حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ مريم: 75، فهنا يقولون: للتنويع، يعني: والتفصيل.

وأما التخيير فكقول السحرة لموسى ﷺ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ الأعراف: 115، هذا للتخيير.

وكما سبق فهنا يقول: وقد تكون مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، كما قلنا في قوله: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا الإنسان: 3، يعني: إن وما.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً الأنفال: 58، هذا مثال على ماذا؟ ما نوع إما هنا؟ بعضهم يقول: إن الشرطية وما الزائدة، وقوله: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا الكهف: 86، هنا: للتخيير.

على كل حال: يقول: "وقد تكون مركبة من: إن الشرطية، وما الزائدة، يعني: أنّ إِن الشرطية أُدغمت في ما الزائدة، فقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى طه:123، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الأنعام: 68، فإن شرطية، وما زائدة أُدغمت فيها، وعرفنا أن الزيادة يقصدون بها: الزيادة إعراباً وإلا فإن ذلك يأتي لزيادة في المعنى، كالتوكيد.

قال -رحمه الله تعالى-: "أمّا" المفتوحة المشددة: للتقسيم، والتفصيل.

هذه "أمَّا" هي: حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد، في آن واحد.

فأما التفصيل فهو في غالب أحوالها، فالخضر في خبره مع موسى فيما قصه الله علينا في سورة الكهف قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا الكهف: 79، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا الكهف: 80، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا الكهف: 82، فهذا للتفصيل، وقوله -تبارك وتعالى-: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الضحى: 9 - 11، ولاحظ: أنه دخلت الفاء في جوابها، كما تدخل في أجوبة الشرط، قالوا: لِمَا فيها من معنى مهما، لكن يوجد فيها اختصاص بالتفصيل؛ ولذلك يقولون: إن أمّا تكون بمعنى: مهما الشرطية، لكن ما تعمل عملها، ومعنى التفصيل يكون زائداً في معناها، وهذه الأمثلة التي ذكرتها تكفي.

قال -رحمه الله تعالى-: "ألَا" المفتوحة المخففة: للتنبيه، والاستفتاح، وللتوبيخ، والعرض، والتمني.

"ألَا" المفتوحة المخففة، يعني: يحترز من "ألَّا" المشددة بقوله: المخففة، ومن "إلّا" المكسورة بقوله: المفتوحة.

"ألَا" هذه ذكر لها هنا معنى: التنبيه، والاستفتاح، هذان بمعنى واحد، التنبيه والاستفتاح، هذا شيء واحد، هذه حالة واحدة، للتنبيه والاستفتاح، المعنى الآخر: التوبيخ هذا الثاني، والثالث: العرض، الرابع: التمني، فذكر أربعة: التنبيه والاستفتاح هذا واحد، والتوبيخ اثنان، والعرض ثلاثة، والتمني أربعة.

في التنبيه والاستفتاح إذا لم تدخل "ألَا" هذه يصح الكلام بدونها، كما سيتضح من خلال الأمثلة، يعني: لو حُذفت الكلام يُفهم، هذه إذا كانت للتنبيه والاستفتاح.

أما المعنى الآخر: أن تكون عرضاً فهذه تدخل على الجملة الفعلية فقط.

والمعنى الثالث: أن تكون جواباً، فهذا قليل، كقولك لمن سألك وقال: ألم تقرأ؟ تقول: ألَا، بمعنى: بلى، وهذا قليل، أو شاذ، نحن ماذا نقول إذا أجبنا في مثل هذا؟ ألم تقرأ؟ نحن نقول: إلَّا، أليس كذلك؟ هذا يبدو خاصًّا عندنا في البيئة، فالناس الذين يأتون طارئين على هذه البيئة يستغربون، يقولون: ماذا إلّا؟ أنتم تقولون: إلّا، فيحتاج مدة حتى يفهم المراد، فإذا قال لك: ألم تقرأ؟ ألم تذهب؟ ألم تحضر الكتاب؟ فالصحيح أن تقول: ألَا، بمعنى: بلى، ألَا وليس إلَّا، فهذه يُجاب بها -على كل حال- بمعنى بلى.

تأمل الأمثلة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ البقرة: 13، هذه ما موضعها؟ لاحظ: هذه للتنبيه والاستفتاح، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، وقلنا: إنها في هذا الموضع يصح الاستغناء عنها، ولو استُغني عنها يكون الكلام تامًّا أو ناقصاً؟ يكون تامًّا، هم السفهاء، طيب قوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ البقرة: 12، هذه أيضاً للاستفتاح والتنبيه، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا التوبة: 49، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ المجادلة: 18، أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ التوبة: 99، لو حذفتها صح الكلام، إنها قربة لهم، في الفتنة سقطوا، وهكذا في عامة المواضع في القرآن هي للتنبيه والاستفتاح "ألَا"، وعلامة ذلك: أنه يصح الاستغناء عنها.

وتأتي لمعانٍ أُخر: كالتوبيخ، وما ذكر المؤلف، فالآن في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ هود: 8، هذه للتنبيه والاستفتاح، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ [هود: 5]، هذه للتنبيه والاستفتاح، أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ هود: 5، هذا كله للتنبيه والاستفتاح.

طيب وأما قوله تعالى: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ يوسف: 59، فما محملها هنا؟ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ؟ هل هذه للعرض، أو للإنكار؟، الهمزة للاستفهام ولا نافية، أَلا تَرَوْنَ؟ فهي استفهام إنكاري، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ، وقال: أَلا يَتَّقُونَ الشعراء: 11، للتوبيخ، أَلا تَسْتَمِعُونَ الشعراء: 25، للإنكار، فإذا كانت الهمزة للاستفهام، ولا نافية فهذا استفهام إنكاري، وقد يقصد به التوبيخ، أو الإنكار، أو ما يحتفّ بهذا المعنى.

ولعل هذا يكفي في ذلك، لكن بالنسبة للعرض والتمني الذي ذكره، فمثال العرض قول إبراهيم ﷺ للملائكة: أَلا تَأْكُلُونَ الذاريات: 27، ما المقصود به هنا، هل التوبيخ؟ لا، بل العرض؛ لأنه لا يوبخ الضيف، وإنما العرض؛ لأنه أسلوب لطيف، بدلا من أن يقول: كلوا، يقول: ألا تأكلون.

وأما التمني بـ"ألَا" فهذا يمثلون له بالبيت المشهور:

ألَا موتٌ يُباع فأشتريه
ألَا رَحِمَ المهيمنُ نفس حر

***

***

فهذا العيشُ ما لا خيرَ فيه
تصدق بالوفاة على أخيه

 

ألَا موت يُباع فأشتريه، هذه للتمني.

قال -رحمه الله تعالى-: "إلّا" المكسورة المشددة: استثناء، وتكون للإيجاب بعد غير الواجب، وتكون مركبة من إن الشرطية، ولا النافية.

"إلّا" هذه حرف استثناء، هذا هو معناها المشهور، أنها حرف استثناء.

وقد تكون بمعنى: غير، كقوله: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا الأنبياء: 22، هنا قالوا: "إلا الله" يعني: غير الله -تبارك وتعالى.

وتأتي بمعنى: الواو عند بعض النحاة، مثل: الفراء، والأخفش، وهذا ليس محل اتفاق، ومثلوا لذلك بقول الشاعر:

وكلُّ أخٍ مفارقُه أخوه *** لعمرُ أبيك إلا الفَرقدانِ

لكن هذا ليس محل اتفاق، ففسروه هنا وقالوا: أي: والفرقدان؛ لأنهما يتفارقان، مع أن هذا يؤتى به كمثال لعكس هذا، يعني: أنهما لا يفترقان، فتكون للاستثناء، وليست بمعنى: الواو، يعني: عكس هذا المعنى.

وكلُّ أخٍ مفارقُه أخوه *** لعمرُ أبيك إلا الفَرقدانِ

فالاستثناء إذن هو الغالب، فقوله: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ البقرة: 249، ما المعنى هنا؟ هي هنا للاستثناء، فالاستثناء هو الغالب، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ الأنبياء: 22، فُسر بمعنى: غير.

وقوله: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، هنا يقول: تكون مركبة من إن الشرطية، ولا النافية، هذا مثال لها: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ التوبة: 40، أي: إنْ لا تنصروه، وهكذا: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ الأنفال: 73، إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي: إنْ لا تفعلوه، إن الشرطية دخلت عليها لا النافية في المعنى، الزائدة في اللفظ، فهي: مركبة من إنْ ولا.

يقول: وتكون للإيجاب بعد غير الواجب، غير الواجب: يعني المنفي، كقوله: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا آل عمران: 147، وَمَا كَانَ لاحظ: "ما" هذه نافية، فتكون للإيجاب بعد غير الواجب، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا آل عمران: 147، فالذي أثبته -أي المُثبَت أو الموجَب-: إِلَّا أَنْ قَالُوا آل عمران: 147، فتكون هنا: للإيجاب، وهذه تقع بعد النفي، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا آل عمران: 147.

وتأتي -على كل حال- لمعانٍ أُخر، فبعضهم يقول: تأتي زائدة، ويمثلون لهذا: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً البقرة: 171، قالوا: "إلا" زائدة، والمعنى: نفي سماع الدعاء والنداء أصلاً على هذا التفسير، لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً البقرة: 171، قالوا: "إلا" زائدة، لا يسمع دعاء، ولا نداء، لا يسمع شيئًا، وهذا مضى الكلام عليه في الكلام على الأمثال في القرآن، ومن حضر معنا من الإخوان يذكر ذلك، قال: إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة: 171]، وقد سبق الكلام على الترجيح، لكن للتذكير: أن الراجح: يسمع صوتاً لا يفقه معناه، مثل البهائم: يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً البقرة: 171، يسمع صوت الراعي، ولكنه لا يميز، ولا يفقه، ولا يفهم المراد، فليست زائدة على هذا المعنى؛ ولذلك رد بعض المفسرين، وبعض النحاة هذا المعنى -أنها زائدة-، مع أن القائل به إمام كبير، كالأصمعي -رحمه الله-، وقالوا: لا تكون زائدة أصلاً.

قال -رحمه الله تعالى-: "أيّ" المشددة سبعة أنواع: شرطية، واستفهامية، وموصولة، ومنادى، وصفة، وظرفية إذا أُضيفت إلى ظرف، ومصدرية إذا أُضيفت إلى مصدر.

"أيّ" الشرطية مثل: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَىالإسراء: 110، فدلت هنا على الشرط.

كذلك يقول: واستفهامية، وموصولة، مثال الاستفهامية: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًاالتوبة: 124، أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ النمل: 38، فهنا استفهامية، والاستفهامية غير الموصولة.

والموصولة مثل: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّامريم: 69، يعني: لننزعن الذين، هي بمعنى الذين، ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا مريم: 69، يعني: الذين هم أشد على الرحمن عتيًّا.

إذن: الشرطية واحد، والاستفهامية اثنان، والموصولة ثلاثة، يقول: ومنادى مثل: يَا أَيَّتُهَاالفجر: 27، لاحظ: أي صارت مناداة، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الفجر: 27، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ المائدة: 67.

يقول: وصفة، وظرفية إذا أُضيفت إلى ظرف، بعض هذه الأشياء ليس لها مثال من القرآن، يعني: حينما تقول مثلاً: أيُّ ساعة تحضر أحضر، فهذه ظرفية، لأنه يقول: إذا أُضيفت إلى ظرف، فساعة: ظرف، أيّ وقت تحضر أحضر، أيّ يوم تختاره أوافق عليه، فهذه ظرفية.

يقول: ومصدرية إذا أُضيفت إلى مصدر، أيّ كلام تقول أستمع، فكلام: مصدر، أيّ كتابة تكتب أطبع، فهنا: أُضيفت إلى المصدر.

وعلى كل حال: قد تأتي دالة على معنى الكمال، فتقع صفة للنكرة، أي: الصفة التي أشار إليها المؤلف، حينما نقول مثلاً: زيد رجل، ونقول لكي نُكمل هذا الكلام فنَصِف زيدًا، نقول: زيد رجل أيُّ رجل، يعني: رجل كامل، هذا للصفة، زيد رجل أيُّ رجل، فهذا كامل الرجولة.

كذلك تكون حالاً للمعرفة، يعني: إذا جاءت بعد نكرة مثل: رجل فهي صفة، مثل: زيد رجل أيُّ رجل، لكن لو جاءت بعد معرفة تكون حالاً، لو قلت: مررت بزيد أيَّ رجل، أو جاء زيد أيَّ رجل، هذا من الناحية الإعرابية.

وتأتي أيضاً وصلة إلى نداء ما فيه "ال"، فإذا أردت أن تنادي ما فيه "ال" مثل: الرجل، تأتي بها، وذلك مثل قولك: يا أيها الرجل.

قال -رحمه الله تعالى-: "إِيْ" المكسورة المخففة معناها: التصديق.

"إِيْ" هذه معناها: التصديق، والإثبات، أيضاً والتوكيد؛ ولهذا قال بعضهم: إنها بمعنى: حقًّا، يقصد في المعنى، لكنها لا تقع موقع حقًّا من جهة الإعراب، فتلك: اسم، وهذه: حرف، إِيْ، مثل: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَيونس: 53، فهنا معناها: الإثبات، والتوكيد، والتصديق، فهي حرف جواب، كأنها بمعنى: نعم من جهة المعنى، تقال عند تصديق المُخبِر، أو إعلام السائل، أو وعد الطالب.

قال -رحمه الله تعالى-: "إلى" معناه: انتهاء الغاية، وقيل: تكون بمعنى مع.

"إلى" هذه حرف جر، وتأتي لمعانٍ:

تأتي: لانتهاء الغاية الزمانية ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِالبقرة: 187، فهذه للغاية، غاية الصيام إلى الليل.

وتأتي: للغاية المكانية أيضاً، كقوله -تبارك وتعالى-: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَىالإسراء: 1، فهذا مكان، غاية مكانية، تقول: اشتريت هذه الأرض إلى دار فلان، فإلى هذه للغاية المكانية.

وتأتي أيضاً لمعنى المعية على قول بعض أهل العلم، واستشهدوا بقوله: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِالصف: 14، فإلى الله هنا بمعنى: مع الله، على خلاف فيها، يعني: بعضهم يقول: إن الفعل أصلاً أَنصَارِي هنا، أو ما يقوم مقامه؛ لأن أنصاري ليس بفعل، ولكن هذا يقوم مقامه في بعض أحواله، يقولون: فهنا هو مُضمَّن معنى ما يصح تعديته بإلى، على خلاف في تقدير ذلك، يعني: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ الصف: 14، يقولون: مضمن معنى: أتباعي في سيري إلى الله.

فهنا هل هي: أنصاري إلى الله أو أنصاري مع الله؟ لقد ذكرنا في بعض المناسبات -ربما في غير هذه المجالس، وإنما في تفسير ابن كثير-: أن التضمين هو مذهب فقهاء النحويين، كما يقول ابن القيم، يُضمن الفعل معنى الفعل، فيُعدى تعديته، يعني: إذا الفعل هذا ما يتعدى بهذا الحرف عادة أو في اللغة، فيكون هذا الفعل مضمناً معنى فعل آخر يصح تعديته بهذا الحرف المذكور، فيكون هنا زيادة في المعاني.

مثال ذلك: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَاالإنسان: 6، أصلاً: العين في الأرض تنبُع، ما يُشرب بها، إنما يُشرب بالكأس، وإنما يُشرب منها.

فالكوفيون مذهبهم سهل، فيقولون بتناوب الحروف عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَاالإنسان: 6، يقولون: الباء بمعنى مِن، يشرب منها، وخلاص انتهينا، ما في زيادة في المعنى.

أما مذهب البصريين فيقولون: لا، هنا يشرب ما يُعدى بالباء في هذا الموضع، إذن: في جوفه فعل آخر يصح تعديته بالباء، مثل: يرتوي بها، أو يلتذّ بها، فصار يشرب فيه معنى: يلتذ، ومعنى: يرتوي، فصار عندنا زيادة في المعاني: شُرْب، وارتواء، والتذاذ؛ لأنه ليس كل من يشرب يلتذ، قد يشرب على القذى، وهو كاره، وقد يشرب ولا يرتوي، فلاحظ: مذهب البصريين الذين يسميهم ابن القيم: فقهاء النحاة، فهذا أكثر في المعاني، تضمين الفعل وما في معناه معنى فعل يصح تعديته بهذا الحرف.

فهنا بناء على مذهب الكوفيين، فتكون بمعنى: مع، مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِالصف: 14أي: مع الله، فإذا ضممتَ شيئاً إلى آخر يقولون: الذود إلى الذود إبل، كم الذود من الإبل؟ إلى عشر، فالذود إلى الذود إبل، يعني: قطيع من الإبل، والدرهم إلى الدرهم مال، فهذا معنى المعية، لاحظ: الذود إلى الذود، يعني: بمعنى: مع، والدرهم إلى الدرهم، يعني: مع الدرهم، فهي تأتي بمعنى مع بهذا الاعتبار، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْالنساء: 2يعني: مع.

وأما على مذهب البصريين فيقولون: تأكلوا هنا مضمن معنى: تضموا أموالهم إلى أموالكم؛ لأن ضم يُعدى بإلى، فصار الأكل هنا بمعنى: ضم أموالهم إلى أموالكم.

ويقولون: تأتي بمعانٍ أيضاً مثل: التبيين، مبينة لفاعلية مجرورها، بعد ما يفيد حبًّا، أو بغضاً، من فعل تعجب أو اسم تفضيل، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ يوسف: 33.

ويقولون: تأتي مرادفة للام، مثل: وَالأَمْرُ إِلَيْكِ النمل: 33، يعني: الأمر لكِ، وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَالنمل: 33، وبعض أهل العلم يقولون: إنها هنا لانتهاء الغاية، الأمر إليكِ، يعني: ينتهي القرار إليكِ.

وعلى كل حال: الكلام في هذا يطول، والعلماء يذكرون أكثر مما ذُكر، لكن الغاية هي: أصل معانيها، فـ"إلى" المعنى الأصلي لها: الغاية، على تفاصيل عند الأصوليين والفقهاء في دخول المُغيَّا، أو عدم دخوله، مثل: غسل اليدين إلى المرفقين، هل المغيّا بغاية يدخل فيها أو لا؟ هل المرفق داخل أو لا؟ العورة من السرة إلى الركبة، هل الركبة داخلة أو لا؟ هل السرة داخلة أو لا؟ هذه مسألة يتكلمون فيها، ويختلفون في ذلك، والصحيح والأقرب: أن هذا فيه تفصيل، يختلف، فيُذكر له بعض الضوابط.

وتأتي أيضاً بمعنى: في، لكن يقولون: هذا موقوف على السماع؛ لقلته، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِالنساء: 87، بعضهم قال: في يوم القيامة، مع أنها لا تخلو هنا من معنى: الغاية، إلى غايةٍ وهي القيامة.

وعلى كل حال: يقولون -أيضاً-: تأتي بمعنى: مِن، يقولون:

تقول وقد عاليتُ بالكُور فوقها *** أيُسقَى فلا يَروَى إليّ ابنُ أحمرا

أيُسقى فلا يَروَى إليّ، يعني: مني، هذا يتكلم عن ناقته حينما رفع الرحل عليها؛ ليضعه، وهو: إنسان كثير السفر، فكأن الناقة تخاطبه، وتقول: ما باله لا يشبع من السفر، أيُسقى فلا يَروَى إليّ ابن أحمرا، يعني: فلا يروى مني، هكذا قالوا.

وقالوا: تأتي أيضاً بمعنى: عند، كقول الشاعر:

أم لا سبيلَ إلى الشباب وذكرُهُ *** أشهى إليّ من الرحيق السَّلْسلِ

أشهى إليّ: يعني أشهى عندي، يعني: لن يعود الشباب لمن فقده، ولكن تذكُّر الشباب، وأيام الشباب متعة أشهى إليّ من متعة تناول الخمر الصافية باردة لذيذة، لكن أكثر البصريين لم يثبتوا لها إلا معنى الغاية، ويتأولون كل هذه الأمثلة، ويرجعونها إلى معنى الغاية.

وبعضهم يقول: قد تأتي أيضاً زائدة، ويستشهدون بقوله -تبارك وتعالى-: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوَى إِلَيْهِمْإبراهيم: 37على هذه القراءة: "تَهْوَى إليهم"، يعني: تهواهم، لكن مثل هذا يتأوله البصريون، فيمكن أن يقولوا: "تَهوَى إليهم": يعني إلى الوصول إليهم، وهذه من خصائص مكة: أن الإنسان كلما فارقها تاقت نفسه من جديد إلى العود إليها.

على كل حال: قوله -تبارك وتعالى-: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ البقرة: 187، فهذه: الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ تكون بمعنى ماذا؟ على قول البصريين: يجعلونها بمعنى: الغاية، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة: 187، فهذه للغاية، فالرفث إلى نسائكم يمكن أن يكون الرفث مضمنًا معنى: الإفضاء، فإنه يُعدى بإلى، وتكون بمعنى إلى التي للغاية، على طريقة البصريين، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الإسراء: 1، هذا كله للغاية، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: الهمزة: للاستفهام، أو التقرير، والتوبيخ، والتسوية، والنداء، وللمتكلم، وأصلية، وزائدة للبناء.

الهمزة هي حرف مُهمل يكون للاستفهام، وهي أُم الباب، باب الاستفهام أُمه: الهمزة، أدوات الاستفهام أعظمها، وأهمها، وأشهرها: الهمزة، وتكون أيضاً: للنداء، وما عدا ذلك من أقسام الهمزة يقولون: ليس من حروف المعاني.

ابن جُزي -رحمه الله- ذكر هذه المعاني، فابتدأ بالاستفهام باعتبار أنه الأصل، فقال: للاستفهام، مثل: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ؟ الأعراف: 28، أيًّا كان نوع هذا الاستفهام: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ؟ هذه للاستفهام.

وقال: أو التقرير، مثل: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الأعراف: 172، هذه للتقرير، وقول فرعون لموسى -عليه الصلاة والسلام-: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا الشعراء: 18، هذه للتقرير، لكن لاحظوا: هي للاستفهام، لكن استفهام فيه معنى: التقرير، يسمونه استفهامًا تقريريًّا.

كذلك التوبيخ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ الأحقاف: 20، أصلها: أأذهبتم طيباتكم؟، فالهمزة للاستفهام، هي أُم الباب، لكن فيها معنى: التوبيخ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ الأحقاف: 20.

وهكذا التسوية، التسوية يعني هي الواقعة بعد سواء، وما أدري، وليت شعري.

وما أدري وسوف إخالُ أدري *** أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ

أقومٌ، لاحظ: هذه للتسوية، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ البقرة: 6، جاءت بعد سواء، هذه للتسوية، يعني: يستوي الإنذار وعدم الإنذار، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ إبراهيم: 21، يستوي الجزع والصبر، فهم معذبون في النار خالدون فيها -نسأل الله العافية.

وقوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ البقرة: 87، "أفكلما" هذه ما نوعها؟، استفهامية، لكن هذا الاستفهام يفيد: الإنكار، أو التوبيخ؛ ولذلك لاحظ: أن هذه المعاني تابعة، يعني: ليست أصلية؛ ولذلك نقول: ما نوع الاستفهام؟ هي استفهام، لكن ما نوعه؟

وذكر هنا النداء، النداء مثل قول الشاعر:

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التدللِ *** وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجمليِ

أفاطمُ يعني: يا فاطمة، أفاطمُ، فهي للنداء.

قال: وللمتكلم، الهمزة للمتكلم مثل قولك: أخذتُ، أعطيتُ، أكلتُ، فهذه للمتكلم.

يقول: وأصلية، مثل: إنسان، وغير أصلية مثلما قلنا في: "أحد"، قلنا: أصلها ماذا؟ "وَحَد"، أصلها: "وَحَد"، كقول الشاعر:

كأنّ رحلي وقد زال النهارُ بنا *** بذي الجليل على مستأنِسٍ وَحَدِ

وتكون أيضاً زائدة للبناء، مثل: أكرم، وأجاب، وأعطى، هذه زائدة للبناء، ومثل: همزة: "أل" التي للتعريف عند سيبويه -يعني أل- كما قال ابن مالك:  

أل حرفُ تعريفٍ أو اللامُ فقط *** فنَمَطٌ عرَّفتَ قُل فيه النَّمط

أل: حرف تعريف، أو اللام فقط، يعني: هم مختلفون في "أل" هذه: هل الهمزة زائدة، واللام هي التي للتعريف؟ فعلى هذا القول تكون الهمزة زائدة للبناء.

قال -رحمه الله تعالى-: حرف الباء.

بارئ: خالق، ومنه: البريئة، أي: الخلق.

هذه المادة: البارئ من الباء والراء والهمزة: برأ، ابن فارس يجعل ذلك يرجع إلى أصلين، إليهما ترجع الاستعمالات، استعمالات هذه المادة:

الأول: الخلق، برأ الله الخلق، بمعنى: خلقهم، ويبرَؤُهم: يخلقهم، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا الحديد: 22، يعني: المصيبة، نبرأها أي: نخلقها.

الأصل الثاني عنده الذي ذكره: هو التباعد، لاحظوا: هذا تكلمنا عليه في اسم الله: البارئ، فالثاني: التباعد من الشيء، ومزايلته، التباعد من الشيء؛ ولهذا يُقال: البُرء من المرض: مزايلة المرض، فالتباعد من المرض والعلة ومزايلتها ومفارقتها يقال له: بُرء، والبراءة من المشركين يعني: مزايلة المشركين، وعدم موالاة المشركين، والتباعد منهم، فهذا بمعنى: المزايلة.

فهنا قوله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ التوبة: 3، بمعنى: التباعد عن الشيء، والمزايلة، ونحو ذلك، بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ التوبة: 1، هذا قطعٌ للعصمة، رفع للأمان، خروج من العهود التي كانت، أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ القمر: 43، براءة يعني: من النار، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا النساء: 112، البريء هو الذي لا صلة بينه وبين هذا الجُرم، فيبهته به، يُلصقه به، فهو بريء، ومزايل لهذا الجُرم، وبعيد عن هذه الجريمة، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ الزخرف: 26كذلك: التباعد، في قوله: وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ آل عمران: 49، أُبرئ يعني: مزايلة العلة، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا الأحزاب: 69، أظهر براءته بمعنى: باعد بينه وبين هذه التهمة التي ألصقوها به، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي يوسف: 53، لا أنزهها، وأُباعدها، وهكذا.

فهذه المادة برأ إذن: تأتي بمعنى الخلق، ومن أسماء الله -تبارك وتعالى-: البارئ بمعنى: الخالق؛ لكن قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الحشر: 24، فالخالق لما ذُكرت مع البارئ صار معنى الخالق: المُقدِّر، في هذا الموضع، في آخر سورة الحشر، بمعنى: المُقدِّر، والبارئ: المُوجِد من العدم، والمُصوِّر: الذي أعطى الصورة لكل مخلوق بما يليق به، فهذا فقط في هذا الموضع، وإلا فالخلق يأتي بمعنى: التقدير، وأيضاً: الإيجاد من العدم، ويأتي بمعنى: التصوير، مثل قوله: تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ، يُشكِّل من الطين على صورة طير: فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.

إذن: البُرء بمعنى: الخلق، برأ الله الخلق يعني: أوجدهم، والبُرء من العلة، ومن المرض، ومن السوء، ومن التهمة، وما إلى ذلك، فهذا هو: التباعد، طيب وقوله: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ البينة: 6، البرية: الخليقة.

قال -رحمه الله تعالى-: بعْث له معنيان: بعث الرسل، وبعث الموتى من القبور.

البعث يُرجعه ابن فارس إلى معنى: الإثارة، تقول: بعثت الناقة إذا أثرتها، وهذا أصل المعنى، ولكن المعنى المباشر في كل موضع يكون بحسب ذلك السياق، وإلا ففي كل الاستعمالات يمكن أن يرجع إلى معنى: الإثارة، كقوله: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا البقرة: 247بمعنى: أرسل، فالسياق هو الذي يحدد ذلك، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا يس: 52، بعثنا يعني: أيقظنا، لاحظ: هنا قال: البعث: بعث الرسل، وبعث الموتى من القبور، وهذا يقال: في النومة الصغرى أيضاً، في النوم تقول: بعثته من رقدته، من نومه، يعني: أيقظته، يقول -تعالى-: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الكهف: 12، لاحظ: هؤلاء ما ماتوا، وإنما ضُرب على آذانهم في الكهف هذه المدة الطويلة ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْالكهف: 12أي: أيقظناهم، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا الأنعام: 65بمعنى: يُرسل، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِالأنعام: 60، يعني: بعد نومكم، بعد النوم، هذا بمعنى: الإيقاظ، يقول: بعْث الموتى من القبور، وأيضاً: إيقاظ النائم، وهكذا في كل الاستعمالات، تقول: انبعث فلان لشأنه يعني: إذا مضى ذاهباً واندفع، معنى: الإثارة، قال -تعالى-: إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَاالشمس: 12، فقال: انبعث، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْالتوبة: 46يعني: مُضيهم، أي: ماضٍ، مُنبعث، منطلق، وتقول: فلان ماضٍ، وانبعث، مضى لحاجته، مُنبعث يعني: هو ماضٍ، فقوله: إِذْ انْبَعَثَ يعني: بمعنى انطلق، ومضى، ففيه معنى الإثارة.

طيب وفي بعث الموتى ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ البقرة: 56يعني: أحييناكم، فهذا: بعث الموتى، وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الأنعام: 36، لكن في قوله -تبارك وتعالى-: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ آل عمران: 164، يعني: بمعنى أرسل.

قال -رحمه الله تعالى-: بسط الله الرزق: وسّعه، وضده: قبض، وقَدَر الرزق أي: ضيقه، ومن أسماء الله تعالى: القابض، والباسط، وبسطة: زيادة.

بسط هذه ترجع إلى معنى: امتداد الشيء، سواء كان من الأشياء الحسية -المحسوسة، ويسمونها الأعراض-، أو في الأمور المعنوية، مثال الأمور الحسية: البساط، قيل له: بساط؛ لأنه يُفرش ويمد.

قال: بسط الله الرزق: وسعه، وقدَره: ضيقه، وبسطة يعني: زيادة، فهنا هذا يدل على معنى: الامتداد، لاحظ: في قوله -تبارك وتعالى-: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]، يقبض ويبسط يعني: يوسع ويُضيق، وفي قوله -تعالى- عن هؤلاء من بني إسرائيل، لما اعترضوا على طالوت أن يكون ملكاً عليهم، قالوا فيما قالوا: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ البقرة: 247، فالبسطة في العلم لاحظ: هل هذا معنوي أو حسي؟ هو معنوي، فهي بمعنى: السعة، والامتداد في الأمور المعنوية، فبسطة في العلم: معنوي، وفي الجسم: حسي، امتداد في الأمور الحسية، ما المقصود بالبسطة في الجسم؟ بسطة قلنا: امتداد، ليس المقصود به البدانة، فهذه ضعف، ولا يُمدح بها، ولكن المقصود بالبسطة يعني: امتداد القامة، فُسر بالطول، إنسان قوي، وكامل بناء الجسم، فهذا لا شك أنه يكون قوة، فالبسطة هنا: الامتداد في قامة الإنسان، وكمال بناء الجسم، فهذا كمال من الكمالات، فإذا وُجد مع الجسم بسطة في العلم فإن ذلك هو الكمال، وإلا فأجسام البغال وأحلام العصافير، كما قيل:

لا خيرَ في القوم من طول ومن عِظم *** أجسامُ البغال وأحلامُ العصافير

فالطول والضخامة ونحو ذلك في هذا البدن إذا لم يكن معها عقل وعلم فإن ذلك قد يكون سبباً لعناء وشقاء صاحبه.

أما القابض الباسط فليس مجال الكلام على هذا هنا، فمن أهل العلم من يثبته في جملة الأسماء، ومنهم من لا يثبته، بناء على ضوابط معينة، ذكرناها في أوائل الكلام على الأسماء الحسنى.

فقوله: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُالرعد: 26، يبسط بمعنى: يوسع، ويقدر يعني: يُضيق، اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُالروم: 48، يعني: ينشره، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِالكهف: 18، باسط: يعني قد مد ذراعيه، وبسطهما على الأرض، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًانوح: 19، يعني: كالفراش ممهدة ممتدة، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ الممتحنة: 2، هم أعداء أصلاً، ومع ذلك يبسطوا، فبسط اليد بمعنى: مد اليد بالقتل، والضرب، ونحو ذلك، فمد يده يقال: بسطها، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَالمائدة: 28، فهذا مد اليد بالقتل، والصولة، والضرب، أو يكون مد اليد لطلب شيء: كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُالرعد: 14، لاحظ: كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِالرعد: 14، على خلافٍ فيها، وقد مضى الكلام في ذلك مفصلاً في الكلام على الأمثال في القرآن، فقيل: هو الذي يمد يده إلى الماء، يريد أنّ الماء يخرج من البئر مثلاً ليصل إلى فيه، مد اليد لا ينفعه، فمجرد مد اليد لا ينفعه، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِالإسراء: 29، فإن بسط اليد بهذه الطريقة -كل البسط- لا يُبقي عليها شيئًا، لا يُمسك بها شيئاً، بمعنى: بسطها في البذل، وقوله: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْالمائدة: 11، وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُالأنعام: 93، كل هذا في بسط اليد.

قال -رحمه الله تعالى-: بشَّرَ: من البشارة، وهي الإعلام بالخير قبل وروده، وقد يكون للشر إذا ذُكر معها، ويجوز في الفعل التشديد، والتخفيف، ومنه: المُبشِّر، والبشير، واستبشر بالشيء: فرح به.

الباء والشين والراء ابن فارس يُرجع ذلك إلى معنى واحد، وهو: ظهور الشيء مع حُسن وجمال، هكذا ذَكر، فالبَشَرَة: ظاهر جلد الإنسان، وباشر الرجل المرأة: وذلك بإفضائه ببشرته إلى بشرتها من غير حائل، والبَشَر قيل لهم: البشر، قيل: لظهورهم، ما هو معنى ظهورهم؟ يعني: أن الجلد بادٍ، يقولون: لا يوجد شيء من هذه ذوات الأرواح بشرته بادية إلا الإنسان، فهو: إما أن يكسوه الريش، أو الشعر، أو الوبر، أو الصوف، أو غير ذلك، يقولون: إلا الإنسان فقيل له: بَشَر.

فابن فارس يقول: البشير هو الحَسن الوجه، فهو يُرجع هذا إلى موضوع: الجمال والحُسن مع ظهور الشيء، فالبشير: يقول: هو الحَسن الوجه في الأصل، يعني: في العادة أنه يُستبشر بحَسن الوجه، أو يُرسَل حَسن الوجه بالبشارة؛ ولذلك سُمي البشير.

والبشارة: الجمال، فهذه البَشَرَة هي: ظاهر الجلد؛ ولهذا يقال: بَشَرتُ الأديم، إذا قشرت وجهه؛ ولهذا يقولون: هذه فواكه أو خضار مبشورة، فبَشْرها هو إزالة القشرة العلوية، وإن كان ذلك شيئاً فشيئاً، فلا إشكال، وهكذا: تباشير الصبح هي: أوائل الصبح، أوائل كل شيء يقال لها: تباشير، تباشير الثمر: أوائل الثمر، كان النبي ﷺ يُعطيها للصغار والصبيان، فكانوا يفرحون بذلك([1]).

فحينما تقال البشارة فإن ذلك يدل على ظهور الشيء، فيقال: بشّره إذا أخبره خبراً يظهر أثره على المُبشَّر، وعلى بَشَرَتِه، وعلى وجهه، ومن ثَمَّ فإنالبشارة تكون كما يقول ابن جُزي: الإعلام بالخير قبل وروده، يعني: هذا عند الإطلاق، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، من أهل اللغة، ومن المفسرين، يقولون: البشارة هي: الإعلام بالخير قبل وروده، هكذا يقولون، وقد يقال غير هذا.

البشارة تكون كما يقول ابن جُزي: الإعلام بالخير قبل وروده، يعني: هذا عند الإطلاق، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، من أهل اللغة، ومن المفسرين

 

يقول: هي: الإعلام بالخير، يعني: هذا عند الإطلاق، قال: وقد تكون للشر إذا ذُكر معها، يعني: مقيداً، إذا قيل: بشارة فمعناها أنها بالخير، فإذا قُيدت، كقوله: فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍلقمان: 7 ، فهذه بشارة بالشر، بصرف النظر عن كلام البلاغيين، يعني بعضهم يقول: هذا للتهكم، ومعانٍ أخرى يذكرونها، ليس هذا موضع الحديث عنها، لكن البشارة إذا أُطلقت فهي: إخبار بالخير، وقيل لها ذلك؛ لظهور أثرها على بشرة الإنسان، ولا تكون للشر إلا إذا قُيدت.

ويصح فيها: التخفيف والتشديد، تقول: بشَّرَهُ وبَشَرَهُ، والمُبَشِّر والبَشِير، يقال: استبشر بالشيء يعني: إذا فرح به، أو وجد ما يُبَشِّر، فهو مستبشر، كل هذا صحيح.

إذن في قوله -تبارك وتعالى-: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ التوبة:34، من أي نوع هذا؟ من البشارة بالشر، وبعض أهل العلم يقول: البشارة لا تكون بالخير فقط، وإنما تكون بالخير والشر، لكن المشهور: أنها إذا جاءت للشر فهي مقيدة، وقوله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىآل عمران: 39، بشره بالخير، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ آل عمران: 171، يستبشرون بالخير، بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا النساء: 138، بشارة بالشر، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍالتوبة: 3، هذه بشارة بالشر، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ الحجر: 53، هذه بشارة بالخير، قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الحجر: 55، بشارة بالخير، وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَالحجر: 67، -قبحهم الله-، هي: بالنسبة لهم بشارة بالخير؛ لأنهم وجدوا بغيتهم، يعني: إذا وجد ما يستبشر به فهي بشارة بالخير، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ يوسف: 96، هو: المُبَشِّر يعني.

وأما في قوله: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ المدثر: 29، فما معنى: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ؟ البشر قيل: هم الناس، وعرفنا لماذا سُموا بالبشر على قول بعض أهل العلم، ولواحة قيل: تظهر لهم، تظهر للناس، فلواحة للبشر: يعني لواحة للخلق يرونها، وقيل: إن لواحة بمعنى تلوح ظاهرَ الجلد بتسويدها له، فالبشر يعني: البَشَرَة، أي: يحترق الجلد بذلك، فهي لواحة، والله أعلم.



[1] أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها، رقم: (1373).

مواد ذات صلة