الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(16- ا) حرف الحاء من قوله حمد إلى قوله محصنين ومحصنات
تاريخ النشر: ١٣ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 2338
مرات الإستماع: 1751

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(16- أ) حرف الحاء من قوله: حَمدٌ إلى قوله: مُحصِنين ومحصنات

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، وللحاضرين، والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: حَمدٌ: هو: الثناء، سواء كان جزاء على نعمة، أو ابتداء، والشكر: إنما يكون جزاء، فالحمد من هذا الوجه أعم، والشكر: باللسان، والقلب، والجوارح، ولا يكون الحمد إلا باللسان، فالشكر من هذا الوجه أعم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله بأن الحمد هو: الثناء، هذا مشهور على ألسن أهل العلم، وفي مؤلفاتهم، سواء في التفسير، أو في غيره، ولكن ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في معنى الحمد أدق، وذلك أن الحديث القدسي المشهور في سورة الفاتحة: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالفاتحة: 2، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قالالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِالفاتحة: 3، قال: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِالفاتحة: 4، قال: مجّدني عبدي)[1]، فذكر ثلاثة أشياء: الحمد أولا، والثناء ثانياً، والتمجيد ثالثاً، فدل ذلك على الفرق بين هذه المذكورات الثلاثة، فالحمد كما يفسره شيخ الإسلام -رحمه الله- هو: الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق، الصفات اللائقة به، صفات الكمال، فهو: ضد الذم، يقابل: الذم، فهو: إخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له والتعظيم، بخلاف الذم الذي يقابله، فهو: الإخبار بمساوئ المذموم، يقول شيخ الإسلام: مع البغض له، قيده بهذا القيد.

وعده الحافظ ابن القيم أوسع الصفات -يعني: الحمد-، وأعم المدائح، وعلل ذلك يقول: لأن جميع أسمائه -تبارك وتعالى- حمدٌ، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، إلى آخر ما ذكر، فهذا فرق بين الحمد والثناء:

فالثناء هو: ذكر الحمد ثانياً، من التثنية، يقال له: ثناء إذا ثنى بذكره، فهذا الثناء، فلما ذكره ثالثاً: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِالفاتحة: 4، قال: مجّدني عبدي)، والمجد يدل على: السعة، والكثرة في أوصاف الكمال، كما سبق الكلام في أسماء الله -تبارك وتعالى-، فلما ذكر الأول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الفاتحة: 2، والثاني: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الفاتحة: 3، والثالث: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: 4، فهذا الثالث يدل على: كثرة في حمده  -تبارك وتعالى-، وأوصاف كماله، فناسب أن يُذكر في مقابله المجد: (مجّدني عبدي)، وإلا فعامة أهل العلم حينما يفسرون الحمد يقولون: هو الثناء على الله -تبارك وتعالى- بصفات الكمال، أو بالجميل، أو نحو ذلك، وابن فارس -رحمه الله- يجعل هذه المادة ترجع إلى أصل واحد يدل على خلاف الذم.

ابن جُزي -رحمه الله- هنا يقول عن الحمد: سواء كان جزاء على نعمة، أو ابتداءً، فإن الله -تبارك وتعالى- يُحمد على كل حال، يُحمد على السراء والضراء، ويُحمد ابتداءً، تقول: اللهم لك الحمد، ونحن نقول: الحمد لله رب العالمين، يعني: لا يقوله في مقابل نعمة استجدت، ولا في مقابل أيضاً مكروه وقع له، فالحمد أعم من هذه الحيثية، والحمد يكون باللسان مع مواطأة القلب ولابد، وإن كان عامة أهل العلم حينما يتكلمون على الفرق بين الحمد والشكر يذكرون: أن الحمد يتعلق باللسان، لكنه لا يكون حمداً حقيقيًّا إلا مع مواطأة القلب، وإلا فإنه قد يكون تملقاً؛ ولذلك كان المدح منه ومنه، يعني: المدح قد يكون بصدق وحق، فيكون من قبيل الحمد، وقد يكون من قبيل النفاق والمَلَق، وما أشبه ذلك.

أما الشكر فيقول: باللسان، والقلب، والجوارح، ولا يكون الحمد إلا باللسان، لاحظ: قلنا: إن هذا لا يكون إلا مع مواطأة القلب، الحمد الصادق الحقيقي، الحمد لله -تبارك وتعالى-، فيقول: فالشكر من هذا الوجه أعم، أي: من جهة المتعلق الحمد أعم، ومن جهة المورد الشكر أعم، فلو نظرت إلى الحمد والشكر، فالمورد في الحمد ما هو؟ يعني: ما هو الجالب للحمد؟ النعمة، وغير النعمة، ومورد الشكر ما هو؟ مورد الشكر: النعمة، فأيهما أخص من جهة المورد؟ الشكر، وأما من جهة المتعلق فالحمد يتعلق: باللسان مع مواطأة القلب، والشكر يتعلق: باللسان، والقلب، والجوارح، فالشكر أعم من هذه الحيثية، هذا إذا أطلقنا المتعلق، وأردنا به ما يكون به الحمد أو الشكر، وقد يُعبر بغير ذلك، فالشكر -على كل حال- أعم من جهة الأنواع: لسان، قلب، جوارح، وأخص من جهة أخرى، يعني: السبب الذي يكون به الشكر، أو يكون منه، أو من جرائه، فإنه يكون على النعمة القريبة التي تجدّ، أو النقمة التي تندفع، فهذا الشكر: يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، ويكون على النعمة، وأما الحمد فهو أعم من جهةٍ ذكرناها، فإنه يكون على النعم السابقة القديمة، والجديدة، ويُحمد -تبارك وتعالى- على كماله، وأسمائه، وصفاته، ويُحمد -تبارك وتعالى- على دفع النِّقم، وما إلى ذلك، وهو أخص من جهة الأنواع: كونه باللسان، والقلب.

إذن: الشكر يتعلق: باللسان والقلب والجوارح، والحمد يتعلق: بالقلب واللسان

 

الشكر يتعلق: باللسان والقلب والجوارح، والحمد يتعلق: بالقلب واللسان

 

، ففي قوله -تبارك وتعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الفاتحة: 2، فهذا حمد، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ الأنعام: 1، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، ولا حاجة للتطويل في ذكر ذلك، والمادة الثانية التي ذكرها بعده أيضاً هي: تتعلق به من حيث الأصل.

قال -رحمه الله تعالى-: حميد: اسم الله تعالى، أي: بمعنى: محمود.

هنا فعيل بمعنى: مفعول، وهذا الذي عليه كلام أهل العلم، أنه ليس بمعنى فاعل، أي: حامد، أنه مثلاً: يَحمد أولياءه، ويحمد من يستحق الحمد، لا، إنما هو فعيل بمعنى: مفعول، حميد بمعنى: محمود، وهذا هو الذي فُسر به -على كل حال- هذا الاسم الكريم، مع أن أصل المادة يحتمل، فإن فعيلا يأتي بمعنى: فاعل، ويأتي بمعنى: مفعول، لكنه هنا بمعنى: محمود.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إنه -يعني الحميد- لم يأتِ إلا بمعنى: المحمود، وإنه أبلغ من المحمود، فإن فعيلاً إذا عُدل به عن مفعول دل على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجية، والغريزة، والخلق اللازم، كما تقول: فلان شريف، وكريم، ويذكر أن هذا البناء غالباً يكون من فَعُل، يعني: مثل: شَرُف، وأن هذا البناء من أبنية الغرائز والسجايا اللازمة، مثل: كبُر، صغُر، حسُن، ولطُفَ، ونحو ذلك، يقول: ولهذا كان حبيب أبلغ من محبوب؛ لأن الحبيب الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يُحَب لأجلها، فهو حبيب في نفسه، وإن قُدر أن غيره لا يحبه؛ لعدم شعوره به، أو لمانع منعه من حبه، أما المحبوب فهو الذي تعلق به حب المحب، فصار محبوباً بحب الغير له، وأما الحبيب فهو حبيب بذاته، وصفاته، تعلق به حب الغير، أو لم يتعلق، يعني: أحبه أحد أو لم يحبه، يقول: وهكذا الحميد، والمحمود، فالحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً، وإن لم يحمده أحد، فهو حميد في نفسه، محمود: مَن تعلق به حمد الحامدين، هذا الفرق بين الحميد والمحمود، يقول اللهوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ البقرة: 267، وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا النساء: 131، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ هود: 73، وما إلى ذلك.

قال -رحمه الله تعالى-: حكمة: عقل، أو علم، وقيل في الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ البقرة: 129هي: السنة.

ابن فارس وكثير من أهل اللغة يرجعون أصل هذه المادة: الحاء والكاف والميم إلى أصل واحد، وهو: المنع، يعني: في جميع الاستعمالات، الآن: ائت بما شئت بما تتصرف منه هذه اللفظة فإن ذلك يرجعونه إلى: المنع، يعني مثلاً: الحُكم، قيل له: حكم، يقولون: لأنه يمنع أحد الطرفين من الاستحواذ على حق الآخر، أو التعدي عليه، والحَكَمَة هي: الحديدة التي توضع في فم الفرس، أو الدابة؛ ليمنعه من الانفلات، والمُحكم في الكلام، والمُحكم في القرآن مثلاً هو: الذي مُنع من أن يتطرق إليه خلل، أو خطل في ألفاظه، أو في معانيه، والحكيم: الحكمة صفة هي: الإصابة في القول والعمل، فهي: صفة تمنع مَن تحلى بها من وقوع الخطأ والخطل، فالخطل: يكون بالرأي، وأما الخطأ فيكون في القول أو الفعل، فهي: صفة تمنع مَن تحلى بها من وقوع الشطط والغلط، وقل مثل ذلك أيضاً في: الحاكم، وفي غير ذلك من وجوه الاستعمال، هكذا يرجعونها في أصل معناها.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام في ظاهره قد يدل على أن ذلك الذي يُذكر قد لا يكون بهذا الإطلاق، فهو يذكر مثلاً: أن الإحكام هو: الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء، ويحصل إتقانه، هذا الإحكام، فالقرآن محكم على سبيل العموم، يعني: الوصف العام للقرآن أنه مُحكم، يعني: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ هود: 1بمعنى: أنه متقن في ألفاظه ومعانيه، فهو يقول: هو: الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، يقول: ولهذا أُدخل فيه معنى: المنع، يقول: فالمنع جزء معناه، لا جميع معناه.

يقول: وهو: الإحكام في التنزيل، وأما الإحكام في التأويل والمعنى، يقول: فهو: تمييز الحقيقة المقصود من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها، يعني: الإحكام في التنزيل: القرآن أُحكمت آياته، بمعنى: الإتقان، فهو: يرى أنه يرجع إلى معنى الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقق ويحصل إتقانه، يقول: ولهذا أُدخل فيه معنى: المنع، يعني: إذا حصل فيه هذا التمييز والتحديد الذي يحصل به الإتقان فإنه يحصل المنع؛ ولذلك يقولون: إن الحكمة هي: وضع الأشياء في مواضعها، وإيقاعها في مواقعها، وبهذا يحصل التمييز في الحكمة، أو أفعال، أو أقوال الحكيم، يقول: أُدخل فيه المنع، بمعنى: أن ذلك مَن تحقق فيه فإنه يمتنع عليه الشطط، والخطل، والخطأ، هذا بالنسبة للتنزيل، فالقرآن مُحكم، فأنزله الله في غاية الإحكام، لا تجد فيه عوجاً الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا الكهف: 1، لا تجد هذا العوج في الألفاظ، ولا في المعاني، فهو ممتنع عليه، أُدخل فيه معنى: المنع.

يقول: وأما في التأويل والمعنى فهو تتميز، لاحظ: يُرجع ذلك إلى معنى: التمييز، تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها، بمعنى: أنه يُميز الحق من الباطل، بحيث لا يكون ملتبساً، فصار القرآن: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ النحل: 89.

هذا ما ذكره شيخ الإسلام، وهو خلاف المشهور المتداول عند أهل العلم في معنى، أو في أصل هذه المادة، حيث يرجعونها إلى: المنع، ويقولون: حَكَمَ يحكم حكماً، بمعنى: قضى، وفصل، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ غافر: 48.

وكما ذكرنا: أن ابن جُزي -رحمه الله- يُفسر كل موضع بما يليق به، وهذا هو الأصل في التفسير، لكن نحن نبين أصل المادة، وما يتفرع عنها؛ ليكون ذلك دُربة لطالب العلم؛ من أجل أن يحصل له الميز، والضبط، ويستطيع بعد ذلك أن يجمع بين الأقوال، وأن يتعامل معها في التفسير؛ ولذلك فإن الكلام في غريب القرآن، ومن ثَمَّ الكلام في التفسير ليس بالشيء السهل، فحينما تريد أن تكتب في معاني الغريب مثلاً، وحينما تريد أن تُحرر الألفاظ، هذه قضية في غاية الصعوبة، فأنت تحتاج إلى النظر في الخلفية لهذه المادة، ثم بعد ذلك تُعبر عنها بعبارة دقيقة، مراعياً في ذلك أيضاً السياق في الموضع المعين، لكن لابد من لَمِّ شعث المعاني المتفرقة التي قد تُكثَّر بها وتُسوَّد بها الصفحات، وهي: ترجع إلى شيء واحد، إذا فُهم أمكن بعد ذلك أن تجمع عبارات السلف، وما ذكره المفسرون، ولا تُكَثِّر الأقوال.

فهنا: الحكم يأتي بمعنى: القضاء والفصل، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ المائدة: 42، وتقول: حَكَّمه في كذا: يعني فوضه في الحكم فيه، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ النساء: 65، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ المائدة: 43، ويقال: أَحْكَم الشيء: يعني إذا أتقنه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ [الحج: 52]، لاحظ كلام شيخ الإسلام، فهو: يتكلم عن التمييز، يُميز بين ما ألقاه الشيطان وما أنزله، هذا الإحكام في التنزيل، في التنزيل وليس في التأويل، ليس في المعنى، فيتميز ما ألقاه الشيطان أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الحج: 52، بناء على تفسير الأمنية هنا: أنها القراءة، فيميز الله بين هذا وهذا، يعني: بين ما أنزله، وأوحى به، وما ألقاه الشيطان، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ هود: 1، فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ [محمد: 20]، هنا "محكمة" يعني: أنه لا يتطرق إليها خطأ، أو خلل، وإنما هي: في غاية الإتقان، فالقرآن محكم، كله محكم بهذا الاعتبار.

ابن جُزي هنا يقول: الحكمة: العقل، أو العلم، وقيل في: الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 129]هي: السنة، الحكمة يُفسرها بعضهم بأنها: كل ما يتحقق، يعني: صفة من الأوصاف، كل ما يتحقق فيه الصواب من القول والعمل، الإصابة في القول العمل؛ ولذلك يقولون: هي وضع الأشياء في مواضعها، وإيقاعها في مواقعها، فمن كان كذلك فهو حكيم، وهذا لا يتأتى -يعني إيقاع الأشياء في مواقعها- إلا لمن كان حكيماً، قد يكون الشيء في نفسه حقًّا، ولكنه في ذلك الموضع الذي قد يُفعل فيه، أو يقال لا يكون صواباً، فيتطرق الخطأ إلى القول، أو الفعل، إما في ذاته، يعني: بأن يكون من قبيل الغلط، وإما في ما يتعلق به من جهة الزمان، أو المكان، أو الحال، يعني: قاله في موضع لا يحسُن أن يقال فيه، أو فعله في موضع ليس بملائم لهذا أن يُفعل فيه، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالزمان، كأن قاله في وقت لا يصلح فيه هذا، أو في حال لا يصلح فيها، قال عبد الله بن مسعود: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"[2]، قد تقول كلاماً من قبيل الحق، ولكنك ألقيته على مسامع من لم يتأهل لقبوله، فيكون ذلك سبباً للتكذيب، والرد، ويكون فتنة لبعض من سمعه، فليس من الحكمة أن يُحدَّث الناس بما لا يعقلون، بما لا تبلغه عقولهم، وتتوصل إليه، أو تقوى عليه أو تطيقه مداركهم، فإن الإطاقة نوعان:

النوع الأول: إطاقة عملية.

والنوع الثاني من الإطاقة هي: العلمية، من جهة ما يعقله الإنسان، فإذا كان المخاطب لا يعقل ذلك من جهة العمل، كأن تخاطبه بأشياء لا يستطيع أن يعملها، فليس ذلك من الحكمة، أو كان لا يطيقه في عقله، فهو لا يعقل هذه الأمور، فليس ذلك من الحكمة، لكن في المواضع المعينة استعمال هذه المادة، أو هذه اللفظة  -الحكمة- يختلف: أحياناً يراد بها: النبوة، وأحياناً يراد بها: الفقه في الدين، وأحياناً يراد بها: وضع الأشياء في مواضعها، وأحياناً تُفسر: بالسنة، وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ النساء: 113، فُسِّر: بالسنة، ولكن ذلك ليس في كل المواضع، فكل ما يتحقق فيه الصواب من القول والعمل فهو: حكمة، فالنبوة كذلك قطعاً، من حصل له الفقه في الدين، فإن الفقه لا يعني: حفظ المسائل، وإنما الفقيه هو: الذي يحفظ هذه المسائل، والدلائل، وأيضاً يُنزل ذلك في موضعها اللائق بها، فهذا هو: الفقيه حقًّا، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالسنة، فإن السنة شارحة للقرآن، وفيها الحق، والصواب، والفقه في الدين؛ ولذلك من فسره في بعض المواضع: بالسنة فهذا التفسير: صحيح، وحينما يُفسر: بالنبوة، أو الفقه في الدين، أو نحو ذلك، كل ذلك يرجع إلى هذا المعنى في أصله، وقد يُجمع بين بعض تلك المعاني في بعض المواضع، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ البقرة: 151، الحكمة ما هي؟ فُسرت: بالسنة، وفُسرت: بالفقه في الدين، ولا شك أن السنة إنما يكون التفقه بها، فهي: شارحة لكلام الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا يقول ابن جُزي: وقيل فيالْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الحكمة هي: السنة، قال: وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ البقرة: 231، لكن في قوله: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ البقرة: 251، ما المراد بالحكمة هنا؟ هل هي السنة؟ الجواب: لا، فبعضهم يفسر ذلك: بالإصابة في القول والعمل، وبعضهم يفسره بغير ذلك، ففُسر: بالنبوة، أن الله آتى داود ﷺ الملك والحكمة، فجمع له بين النبوة والملك، وهذا معنى صحيح، لكن فيما ذكره الله عن لقمان: أنه آتاه الحكمة، بناء على الراجح: أنه ليس بنبي، لا تفُسر الحكمة: بالنبوة، ولا تفسر: بالسنة، ولكن يمكن أن يقال: إنها الإصابة في القول والعمل؛ ولذلك يقال: لقمان الحكيم، واللهيُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ البقرة: 269، هل الحكمة هنا النبوة؟

الجواب: لا، هل هي السنة؟ الجواب: لا، لكن فُسرت: بالفقه في الدين، وهذا معنى صحيح، والنبي ﷺ لمّا ذكر الغِبطة ذكر ما تقع فيه ومن ذلك: (ورجل آتاه حكمة، فهو يقضي بها، ويُعلمها)[3]، ما المقصود بالحكمة هنا؟ يمكن أن تفسر: بالفقه في الدين، وهكذا، والله تعالى أعلم.

فإذا نظرت إلى كافة وجوه الاستعمال فإن ذلك قد يجمع على ما ذكرنا، قال الله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ آل عمران: 79، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا يوسف: 22، ما هذا الحكم؟ فُسر بالنبوة، وفُسر بغير هذا، لكن في الآية قبلها: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ آل عمران: 79، هنا لا يُفسر: بالنبوة؛ لئلا يكون من قبيل التكرار، وهكذا فقد يأتي الحكم بمعنى: الفصل، والقضاء، كما سبق: فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ المائدة: 43، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ الأنعام: 57، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا المائدة: 50، وأما الحكمة في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ النحل: 125، فالحكمة ما هي هنا؟ الحكمة المذكورة في هذه الآية لا تكون إلا بمعنى: العلم الصحيح، وتنزيل ذلك في موضعه الصحيح، الإصابة في القول والعمل.

وهنا المادة التي بعدها أيضاً لها تعلق بها، وترجع إلى هذا الأصل.

قال -رحمه الله تعالى-: حكيم: اسم الله تعالى، من الحكمة، ومن الحُكم بين العباد، أو من إحكام الأمور وإتقانها.

إذا عُرف ما سبق: يتبين هنا المعنى -إن شاء الله-، يقول: اسم من الحكمة، ومن الحُكم، أو من إحكام الأمور وإتقانها، وكل ذلك صحيح، فإن الله -تبارك وتعالى- حكيم، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وهو أيضاً: حكيم، فعيل بمعنى: فاعل، أي: حاكم، بمعنى: حاكم بين العباد، والحكم له وحده، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ الأنعام: 57، وكذلك أيضاً: قد أحكم هذا الخلق، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ الملك: 3، فخلقه في غاية الإحكام، وكلامه في غاية الإحكام، وأحكامه -تبارك وتعالى- كذلك، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ البقرة: 32، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ البقرة: 129، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: 209، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ آل عمران: 58يعني: ذي الحكمة، المحكم المتقن، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ الدخان: 4يعني: يمكن أن يُفسر بأنه ذو صواب وحكمة أَمْرٍ حَكِيمٍ، ويمكن أن يُفسر بأنه: متقن.

قال -رحمه الله تعالى-: حليم: الحِلم: العقل، وقد يقال بمعنى: العفو، والأحلام: العقول، والحليم: من أسماء الله تعالى: قيل: الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، وقيل: معناه: العفو عن الذنوب، وأحلام النوم: ما يُرى في المنام.

هذه كما سبق: معانٍ مباشرة، تكون في كل موضع بحسبه، لكن أصل هذه المادة: الحاء واللام والميم أرجعه ابن فارس -رحمه الله- إلى ثلاثة أصول:

الأول: ترك العجلة، يعني: ما يقابل الطيش، والخفة، يقال: حَلُمْتُ عنه أحْلُم، فأنا حَلِيم، يعني: ضبط النفس عند الغضب، هذا المعنى الأول، وهو المشهور، يقال: فلان حليم، والنبي ﷺ قال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحِلم والأناة)[4]؛ ولذلك الذي يطيش سريعاً، ولا يضبط أقواله وأفعاله عند الغضب، يقال له: حَمَقِي، أليس كذلك؟! من الحماقة، أحمق: يعني ضد الحِلْم، الحِلْم الذي هو العقل، فإن العقل يضبطه، ومن الذي يرضى لنفسه بهذه الصفة؟، يقال: فلان حَمَقِي، يعني: أحمق، والأحمق: الذي يطيش، لا عقل له يضبطه، فتصدر منه الأقوال التي يندم عليها، والأفعال التي يستحي منها العقلاء، ثم بعد ذلك يندم، ولا ينفعه الندم، فقد يقتل، وقد يعتدي على غيره، أو نفسه هو، بأن يؤذي نفسه حال الغضب، إلى آخره، فهذا يتعلق بترك العجلة.

المعنى الثاني الذي ذكره ابن فارس هو: تَثَقُّب الشيء، حَلِمَ، لاحظ: تلك حلُم بالضم، وهذه حَلِم الأديم -بالكسر- إذا تثقّب وفسد، لكن هذا غير مستعمل في القرآن.

المعنى الثالث الذي ذكره: هو الذي أشار إليه ابن جُزي -رحمه الله- وهو: رؤية الشيء في المنام، يقال: حَلَم بالفتح، لاحظ: فصار عندنا: حلُم بالضم: الذي يتصل بالعقل، يقابل الطيش، أي: ترك العجلة حلُم، وحلِم بالكسر: تثقّب، وحلَم بالفتح يعني: في المنام، رأى شيئاً في المنام؛ ولذلك مثل هذا ألف فيه بعض أهل العلم كابن مالك -رحمه الله-: المثلث في الكلام، وكذلك قُطرب، وغير هؤلاء ألفوا في الكلمة التي تقرأ على ثلاثة أوجه، لكل وجه منها معنى، مثل: حلُم، وحلَم، وحلِم، وهذا من سعة اللغة العربية، ودقتها، لا تدانيها لغة من اللغات.

فهذا المعنى الثالث: رؤية الشيء في المنام يقال: حلَم في نومه حُلْمًا بالسكون، ويقال أيضاً -بالضم-: حُلُمًا، فيقال: فلان يَحلُم يعني: في النوم، ويقال أيضاً: حَلَم الصبي يحْلُم حُلُمًا، واحْتَلَم يعني: بَلَغ، إذا رأى في المنام ما يُحكم له معه بالبلوغ، إذا حصل مقتضاه، يعني: الإنزال، فهذا يقال له: يَحْلُم، واحْتَلَم، وفلان مُحْتلِم، والحُلُم على هذا يقال: للإدراك والبلوغ، يقال: فلان بلغ الحُلُم يعني: أدرك، إما حقيقة، وإما حكماً، يعني: حصل له احتلام، وإن لم يحصل له احتلام، فإذا أتم الخامسة عشرة حُكم له بالبلوغ، فيقال: فلان حلُم، يعني: بلغ، يقول تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ النور: 58، يعني: هؤلاء الصغار دون سن البلوغ، هذا في الاستئذان: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ النور: 58، هذا في الاستئذان، هؤلاء ممن يدخلون عليهم من الأولاد، ونحو ذلك، يحتفون بهم من الطوافين عليهم، وليس في الحجاب، كثير من الناس لا يفرق بين هذا وهذا، فلا تحتجب نساؤهم إلا إذا بلغ هؤلاء الأبناء، وهذا غير صحيح، فإن الحجاب ذكره الله بحكم وحال أخرى، فذكر من يُحتجب منه، ولا يدخل على النساء: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ النور: 31، وهذا فُسر بمعنيين: لَمْ يَظْهَرُوا، أحسن ما قيل فيه -والله أعلم-: ما ذكر الحافظ ابن كثير، وقد سبق في التعليق على المصباح، لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ يعني: لا يتفطن لمفاتن النساء، ما يميز أن هذه جميلة، وهذه كذا، وهذه صفة العضو الفلاني كذا، فيستحلي من حسنهن ما يُنبئ عن إدراكه ومعرفته لهذه الأمور، فهذا يُحتجب منه، ولو كان عمره سبع سنين، ومع هذه الوسائل الحديثة أصبح بعض الأطفال في المراحل الأولية في الابتدائي يطلعون على ما لا يطلع عليه آباؤهم أحياناً للأسف، فمثل هذا: إذا كان الواحد يتفطن فإنه يُحتجب منه، وليس البلوغ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.

وبعضهم فسره على: أن الظهور يقال للغلبة، قال: لم يطيقوا الجماع، وإطاقة الجماع لا تتقيد بالبلوغ، قد يطيق الجماع وهو: لم يبلغ، فقد يطيق الجماع وقد بلغ الثانية عشرة، ونحو ذلك، ولم يحتلم، وقد يكون دون ذلك، لكن هذا المعنى ذكره بعض السلف، وبعض المفسرين.

وفسره بعضهم بأنهم: لم يكشفوا عن عورات النساء؛ لجماعهن.

والأقرب أن الظهور بمعنى: الانكشاف والعلم، فالأقرب: ما ذكره ابن كثير من أن هؤلاء لا يتفطنون لمفاتن النساء، ففرقٌ بين هذا وهذا.

هذه الفائدة عرضاً فأنا أذكر بعض الفوائد؛ لئلا تكون المعاني التي تُذكر جافة هكذا؛ لئلا يكون ذلك جافاً، فيورث السآمة، فيكون في ثناياه من الفوائد، والمعاني التي يُحتاج إلى معرفتها معرفة لربما ينبني عليها أعمال وأحكام مهمة.

على كل حال: هنا في هذه المادة: الحليم، يقول: العقل، وقد يقال بمعنى: العفو، لاحظ: هذا العقل والعفو يرجع إلى أي معنى مما ذكرنا؟ ترك العجلة، لا يُعاجل بالعقوبة، فهذا مقتضى العقل: أن يتأنى، ويترك العجلة، ضد الطيش، والعفو كذلك داخل في هذا المعنى، يقول: والأحلام العقول، يقول الشاعر:

ليست الأحلامُ في حال الرضا *** إنما الأحلامُ في حال الغضب

والناس لا تظهر عقولهم إلا في مقامين -يعني في الغالب-: في الأفراح، وفي المآتم والمصائب، ففي الأفراح لربما ترى من هؤلاء الناس خفة، وطيشاً، وقلة اتزان، ولربما يديرهم ويدبرهم النساء، فيقع منهم من التصرفات العجب، من الإسراف، أو التبذير، أو غير ذلك مما يستحي منه العقلاء، فتظهر عقولهم في حال الأفراح، باللباس، لباس نسائهم، وغيره، فتظهر فيه العقول، وفي المآتم تجد الانكسار، والانهيار، والعويل، وكذا، فهذا الرجل الذي تظنه من أكمل الناس عقلاً لما جاءته المصيبة، وإذا به يفقد صوابه، وعقله، ويتصرف تصرفات لا تليق بالعاقل.

فهنا قال: الأحلام: العقول، والحليم: من أسماء الله تعالى، قيل: الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، وقيل: معناه: العفو عن الذنوب، كل هذ داخل فيه، كل هذا يُفسر به، قال: وأحلام النوم ما يُرى في النوم، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ المائدة: 101، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ البقرة: 263، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ الحج: 59، كل هذا لله، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ الصافات: 101، فهذا يقال: للمخلوق والخالق -تبارك وتعالى-، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا الطور: 32، ما المراد به هنا؟ العقول، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ يوسف: 44، هذا: ما يراه النائم، بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ الأنبياء: 5ما يراه النائم، ولذلك قال العلماء: إنه لم ينزل على النبي ﷺ شيء من القرآن وهو في حال النوم، وتجدون في مثل كتاب: الإتقان للسيوطي في علوم القرآن: الفِراشي والنومي، فهنا: لا يقصد بالنومي يعني: حينما كان النبي ﷺ في حال النوم، وإنما كان ﷺ يعني: يتهيأ لنومه، أو نحو ذلك، وحديث أنس (بينما رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم ضحك، وأخبر أنه أُنزل عليه سورة الكوثر)[5]، هنا فُسر الوحي بالحالة التي كانت تعتريه، وليس النوم، بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ الأنبياء: 5، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: حَبِط: بطل، وأحبطه الله: أبطله.

أصل هذه المادة يرجع إلى معنى: البُطلان عند ابن فارس، قال: أو الألَم، ولو قيل بأن هذا الثاني الذي ذكره ابن فارس يرجع إلى الأول لم يكن بعيداً، والله أعلم، فهو يقصد بالألم: الحَبَط، في قول النبي ﷺ: (وإن مما أنبت الربيعُ ليقتل حَبَطاً أو يُلِمّ)[6] يعني: أو يقارب، يوشك، (إلا آكلة الخُضرة)، فالحَبَط هنا في الحديث بمعنى: أن الدابة تأكل كثيراً حتى تَبْشم يعني: ينتفخ بطنها، ثم بعد ذلك لا تُصرِّف ذلك، وأما النوع الآخر الذي ذكره النبي ﷺ في الحديث يُمثل به للدنيا، وما يحصل لبعض من يتعاطى هذه الأمور، ما يحصل له من الضرر، والتلف، والهلاك، قال: (إلا آكلة الخضرة أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتها، استقبلت الشمس، فاجترّت، وثَلَطت...) إلى آخر ما ذكر -عليه الصلاة والسلام-، فهذه تُصرِّف ما تأكل، تأكل ثم تجترّ، فالبهائم ترعى سائر النهار، فهي: تستغل الوقت في الرعي، الأنواع المجترة منها تأكل النبات والأعشاب، فإذا جاءت إلى مرابضها تفرغت لاجتراره، فحينما تأكل هي: تأكل هكذا جُزافاً، فلا يحصل له كمال الهضم، والطحن، ثم بعد ذلك تسترجع هذا الطعام، ثم بعد ذلك تتفرغ لما يسمى: اجترار، فتطحنه بأسنانها وأضراسها، فهذا اجترار منها، تجتر الطعام، فالحَبَط: أن لا يحصل لها هذا أصلاً، فهي: تأكل حتى ينتفخ بطنها، فتهلك؛ ولذلك تجدون في كلام العامة، وهي: لغة فصيحة صحيحة؛ لربما دعت الأم على الولد: بالحبط، إذا حصل منه تلويث، يعني: نجاسة في ثيابه، أو في المكان، أو نحو ذلك تدعو عليه بالحبط، تقول: حَبَط، وهذا لا يجوز، فالحبط بمعنى: أن ينحبس ذلك في بطنه حتى ينتفخ بطنه، ويموت، هي لا تدرك معنى هذا الدعاء، لكن هذا معنى الحبط.

فهنا ابن فارس فسر ذلك: بالبطلان، والألم، الألم هو: هذا الحبط، والواقع: أن هذا الحبط يفضي إلى الألم هذا، الذي يقال له: الحبط في الدابة، أو في البطن، أو نحو ذلك، هو: يفضي به إلى التلف، والبطلان، فإن البطلان بمعنى: الذهاب، ذهاب الشيء يقال له: بطلان؛ ولذلك يقال للمقاتل الذي لا يهاب، يقال له: بطل، يقولون: إن أصله من كونه قد أبطل دمه، يعني: أنه يركب الأخطار، ولا يبالي، ولا يخاف الموت، فقد أبطل دمه، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ البقرة: 217بمعنى: البطلان هنا، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ المائدة: 5يعني: بطل، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب: 19]يعني: أبطلها.

قال -رحمه الله تعالى-: حنيف: مسلم وموحد لله، وقيل: حاج، وقيل: مختتنٌ، وجمعه: حُنفاء.

لاحظ هذه المعاني، ابن فارس -رحمه الله- يرجعها إلى أصل واحد، إلى أصل مستقيم، وهو: الميل، هذا ذهب إليه كثيرون، يفسرون الحَنَف: بالميل، وأم الأحنف بن قيس كانت ترقصه وهو صغير، وتقول:

واللهِ لولا حَنَفٌ في رجله *** ما كان في فتيانكم مِن مِثله

الحنف: تميل إحدى القدمين إلى الأخرى؛ ولذلك لُقب: بالأحنف، فيفسرون الحنف: بالميل، هذا هو المشهور، ولكن هذا المعنى من أهل العلم من أنكره، منهم من أنكره، وفسر الحنف: بالاستقامة، قالوا: ومِن لازمه الميل، يعني: أن المستقيم يكون مائلاً عن الانحراف، قالوا: أصل الحنف بمعنى: الاستقامة، أصله بمعنى: الاستقامة.

فالحنيف هنا يقول: مسلم وموحد لله -تبارك وتعالى-، والذين يفسرونه: بالميل، ويقولون: أصله بمعنى الميل، يقولون: مائل عن سائر الأديان، والذين يفسرونه: بالاستقامة، يقولون: الحنيف هو: المستقيم على أمر الله -تبارك وتعالى- بتوحيده، وطاعته، وعبادته.

وهنا قال: وقيل: الحاج، ما علاقة الحاج بهذا الموضوع: الحنيف ما علاقته؟ قلنا: الحَنَف أصله: الميل، أو الاستقامة، على هذين القولين، والحاج: هذا التفسير قال به كثير من السلف، وتجدونه في عباراتهم عند قوله: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ الحج: 31، بعضهم يفسر ذلك: بالحُجاج، لاحظ: بأي اعتبار؟ هذا إذا ربطته بأصل المعنى يقال: باعتبار: أنهم يقتدون بإبراهيم ﷺ الذي هو حنيف، فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يقولون: هو أول إمام لزم الناس في عصره وبعده اتباعه في مناسك الحج، فكل من حج ونسك مناسك إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- على ملته فهو: حنيف مسلم على دين إبراهيم، فحنفاء يعني: حُجاج، ليس هذا أصل معنى: الحنف، والحنيف، لكن لماذا فسره بعض السلف؟، انتبهوا جيداً، يعني: نحن بهذه الطريقة نستطيع أن نوجه أقوال العلماء، فحينما تنظر أحياناً إلى هذا المعنى يقال: الحنفاء يعني: الحُجاج، يقال: هذا معنى بعيد، ما علاقة الحجاج بالحنفاء؟ يقال: أصله باعتبار أنه يقتدي بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فإبراهيم هو: الذي سن مناسك الحج، فمن استن بسنته فهو حنيف، بهذا الاعتبار، فهو: حنيف باعتبار: أن الحج من أخص معالم دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، هو الذي سن هذه المناسك بوحي من الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا الحسن البصري يفسر الحنيفية، يقول: هي: حج البيت، قد تسمع هذا القول لأول وهلة، وتظن أنه في غاية البعد، والواقع: أنه يمكن أن يوجه بهذه الطريقة، فالسلف قد يفسرون بالمثال، وقد يفسرون بأولى ما يدخل في المعنى، وقد يفسرون بجزء المعنى؛ لاعتبار من الاعتبارات، باعتبار: أنه قد يُغفل عن هذا المعنى، أو نحو ذلك؛ ولهذا قال جمع من السلف بأن: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ الحج: 31، قالوا: حُجاجاً، فهذا توجيه ذكر: الحاج، ومعنى قوله: وقيل: حاج.

قال: وقيل: مختتن، مختتن بأي اعتبار أيضاً؟ كما سبق في الحج، باعتبار: أن إبراهيم ﷺ هو: أول إمام سن الختان، فاتبعه من بعده عليه، فكل مختتن فهو: حنيف بهذا الاعتبار، مستن بسنة إمام الحنفاء، فهذه من أخص معالم الحنيفية، ملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: الختان والمناسك، فيُفسر أحياناً بهذه الخصائص، والحنيف يقال: للمخلص الذي أسلم لأمر الله، فلم يحصل منه ميل، وانحراف، والتواء في شيء من دينه.

لاحظ: ابن جرير -رحمه الله- يفسر الحنيف: بالمستقيم، لا يفسره بالميل، وإنما بالاستقامة، يقول: المستقيم من كل شيء، يقول ابن جرير: وقد قيل: إن الرجل الذي تُقبل إحدى قدميه على الأخرى إنما قيل له: أحنف؛ نظراً إلى السلامة، يعني: تفاؤلاً، فابن جرير يقول: الأصل في أصل هذه الكلمة -الحَنَف-: الاستقامة، طيب والحَنَف الذي يكون في الرجلين بمعنى: الميل

                           واللهِ لولا حَنَفٌ في رجله ***

قال: هذا الحنف يقال له: حنف، بمعنى: مستقيم، تفاؤلاً بأنه يستقيم، كما يقال للبيداء: مفازة، باعتبار أنه يفوز بقطعها، لا يهلك فيها، ويقال للديغ: سليم، تفاؤلاً بالسلامة، فهنا هذا الذي فيه الميل يقال له: مستقيم، هو طبعاً لا يقال: مستقيم، يقال: حنيف، فقط حتى تفهم كلمة حنيف عند ابن جرير أن معناها: مستقيم، طيب هو أعوج القدم، أو القدمين؟، يقول: نعم، هو أعوج، وما قيل له: أعوج، قيل له: حنيف، يعني: مستقيم؛ تفاؤلاً بالاستقامة في عاقبته، وما يصير إليه، ومن هنا يقال له: أحنف، يقول: نظراً إلى السلامة، يعني: تفاؤلاً، والمعنى في وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا النساء: 125يقول: نتبع ملة إبراهيم حنيفاً يعني: مستقيماً، يعني: الاستقامة على دين إبراهيم، واتباعه على ملته هي الحنيفية.

طيب فالمشهور: أن الحَنَف هو الميل، هذا عند أهل اللغة، وكثير من المفسرين، وأما ابن جرير فيقول: لا، هو: الاستقامة، والميل من لوازمه، أنه إذا كان مستقيماً فيلزم من ذلك أن يكون مائلاً عن كل طريق آخر، مائلاً عن الانحراف، والسُّبل، والضلال، وما إلى ذلك، والسلف قد يفسرون بلازم المعنى، والتفسير يقع على ذلك جميعاً، فالتفسير يكون: بالمطابق، ويكون: بجزء المعنى -التضمن-، ويكون أيضاً: بلازمه، ويكون: بإيمائه، وتنبيهه، وإشارته، وقد يكون: بمفهومه، إلى غير ذلك من أنواع الدلالة، وكل هذا صحيح؛ ولذلك تجد بعض التفسيرات للسلف، وهي في الواقع تفسير باللازم، فإذا وجدت من يقول بأن الحنيف هو المائل، وأن الحَنَف هو الميل، فهذا عند من يفسر الحنف بالميل، يكون من قبيل التفسير بالمطابق، وعند من يفسره بالاستقامة، كابن جرير، هل يكون عنده ذلك التفسير من قبيل الغلط؟ لا، هو تفسير صحيح، لكنه باللازم، ليس بخطأ، ولكن باللازم، والله أعلم.

فقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ النحل: 120، أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ النحل: 123، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا الروم: 30يعني: مستقيماً، ويلزم منه: الميل عن سائر الأديان، وقوله: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ الحج: 31، في سورة الحج إذا وجدت: حُجاجاً، فلا تعجل في الحكم على تخطئة مثل هذا القول، فإن السلف أعلم وأفقه بمعاني القرآن، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ البينة: 5يعني: مستقيمين، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: مُحصِنين ومحصنات: الإحصان له أربعة معانٍ: الإسلام، والحرية، والعفاف، والتزوج

 

الإحصان له أربعة معانٍ: الإسلام، والحرية، والعفاف، والتزوج

 

، لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ الأنبياء: 80تقيكم.

أصل هذه المادة: الحاء والصاد النون أرجعه ابن فارس إلى أصل واحد، وهو: الحفظ، والحياطة، والحرز، هذا معنى واحد: الحفظ، والحياطة، والحرز.

لاحظ: حينما نربط هذه المعاني التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله-، وما لم يذكره، هذا المعنى الذي جعله ابن فارس أصلاً: انظر استعمالات هذه المادة، وما تفرع عنها، يقال: الحِصن: للمكان المحمي والمنيع، والتحصين يقال: حصّنه، وفلان مُحصَّن، وحصّنه تحصيناً، وحصن البناء، وحصن البلد، يعني: جعله منيعاً، وحصيناً، لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ الحشر: 14، يعني: حصينة، وأحصنه إحصاناً: جعله في المواضع الحصينة التي تجري مجرى الحصن، قد لا يكون وضعه في حصن، لكن جعله في موضع أمين يجري مجرى الحصن، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ الأنبياء: 80، لتحصنكم هنا: ما دخل في حصن، لكن هذه الصنعة: اللبوس، المقصود بها: الدروع؛ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ يعني: يكون الإنسان في مأمن من أن يصيبه شيء من السلاح، وإن لم يكن في حصن، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ يوسف: 48، ليس المقصود: أنه يوضع في الحصون، ويوضع عليه الحرس، ونحو ذلك، وإنما معنى: تُحْصِنُونَ: أنه يوضع في أماكن يحفظ فيها، ويقال: أحصن فرجه، لاحظ: كل ذلك يرجع إلى معنى: الصيانة، والحفظ، والاحتراز للشيء، فقولهم: أحصن فرجه بمعنى: صانه بالعفة، وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا الأنبياء: 91، وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا النور: 33، الفتيات هنا: الجواري، والإماء، والآية نزلت بسبب عبد الله بن أُبي، كان له جاريتان أسلمتا، فكان يُكرههن على البغاء، البغاء هو: الزنا بأجرة -كما سبق-، فهنا الله -تبارك وتعالى- نهى عن ذلك، وقال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا النور: 33يعني: صيانة النفس بالعفة، أو الزواج.

الآن طبِّقْ هذا على عموم الآيات: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ النساء: 24، ما المقصود به؟ لما ذكر المحرمات: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ النساء: 23، إلى أن قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ النساء: 24يعني: المتزوجات، وفي قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ النساء: 24متزوجين، فالقضية تكون: بعقد صحيح، بزواج صحيح، وليست بسفاح، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ المائدة: 5يعني: العفائف، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ النور: 4يعني: العفائف، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ النساء: 25، فُسر: بالعفيفات، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ النساء: 25، هنا: الحرائر، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ يعني: الإماء، فَإِذَا أُحْصِنَّ يعني: تزوجن، فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ النساء: 25يعني: نصف ما على الحرائر، وهكذا، إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور: 23]يعني: العفائف، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ الحشر: 2، الحصون: القلاع، ونحو ذلك مما يتحصنون به، وهكذا.

فالمعاني التي ذكرها ابن جُزي، وهي قوله: الإحصان: له أربعة معانٍ، هي ترجع إلى هذا.

قال: الإسلام، وهو يرجع إلى معنى: الحفظ، والحرز، إلى آخره، باعتبار: أن الإسلام يحصل به الإحصان: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث..)[7]، فإذا أسلم يكون قد أُحرز، وأُحصن، وحفظ، وصان دمه، وماله.

قال: والحرية، يقال لها: إحصان، وليست بالحرية التي يطالب بها بعضهم، جعلوها شعاراً يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، لكن المقصود هنا بالحرية: التي تقابل الرق، فالحرية يقال لها: إحصان، بأي اعتبار؟ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ هذا المعنى المباشر، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ النساء: 25فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ يعني: الحرائر، فَإِذَا أُحْصِنَّ يعني: تزوجن، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ النساء: 25.

قال: والعفاف، وهذا واضح، كقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ النور: 4، وهذا كله يرجع إلى معنى: الحفظ، حفظ الشيء، ونحو ذلك، والحياطة له، فالعفاف يحصل به: حفظ النفس، والفرج من المدنسات، ومواقعة الفواحش.

قال: والتزوج، وهو كذلك، وقال: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ الأنبياء: 80يعني: تقيكم، كل ذلك يرجع إلى أصل هذا المعنى، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.



[1] أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، رقم: (395).

[2] أخرجه مسلم، مقدمة الإمام مسلم، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.

[3] أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، رقم: (1409)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه، أو غيره فعمل بها وعلمها، رقم: (816).

[4] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه، رقم: (17).

[5] أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة، رقم: (400).

[6] أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، رقم: (6427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم: (1052).

[7] أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَالمائدة: 45، رقم: (6878)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، رقم: (1676).

مواد ذات صلة