الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(21- أ) حرف الطاء من قوله طيب إلى حرف الظاء من قوله الظن
تاريخ النشر: ١٠ / ربيع الآخر / ١٤٣٦
التحميل: 2266
مرات الإستماع: 1686

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(21- أ) حرف الطاء من قوله: طيّب إلى حرف الظاء قوله: الظن

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين.

قال المصنف -رحمه الله-: طيّب: له معنيان: اللذيذ، والحلال.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الطيّب: ذكر له هذين المعنيين، وذكر ابن فارس أنه يرجع إلى أصل واحد، يدل على خلاف الخبيث، وذكر من ذلك: الاستطابة، وهي: الاستنجاء، باعتبار: أن ذلك يحصل به التنزه عن النجاسات والخبث، وكذلك العرب تقول: الأطيبان، وتريد بذلك: النكاح والأكل، وكذلك يقال: الطيب للحلال.

وعلى كل حال: فالطيب يقال لما تستلذه الحواس، والنفس، فهذه المُستلذات يقال لها: طيبات، يقولون: لذ كذا بمعنى: طاب وزكا، وهذا يوصف به الطعام، والشراب، والمكان، والهواء، وغير ذلك من المحسوسات، وكذلك يوصف به أيضاً: الأمور المعنوية، فيقال: هذا كلام طيب، وهذا رأي طيب، وهذا اعتقاد طيب، وهذا فهم طيب، وما أشبه ذلك.

وهذا الذي تستلذه النفوس قد يكون حلالاً من جهة الشرع، فيكون حلالاً طيبًا، قال الله -تبارك تعالى-:كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا البقرة: 168، هذا المعنى الأول الذي أشار إليه ابن جُزي -رحمه الله-، قال: اللذيذ، يعني: ما تستلذه النفوس.

والمعنى الثاني الذي ذكره، وهو: الحلال، فهذا أيضاً يكون طيباً ولا شك، بهذا الاعتبار، وهذا يكون في كل شيء بما يناسبه، فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا النساء: 43، فهنا بمعنى: الطاهر، وعلى هذا أيضاً: التلذذ في مختلف أحواله، والحِل بتنوع صوره، وأشكاله، فحينما يقول الله -تبارك وتعالى-: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ النساء: 3، فهذا يمكن أن يصدق على ما تستلذه النفوس، وتميل إليه، وكذلك أيضاً يدل على: الحِل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ البقرة: 172، الطيبات هي: التي تستلذها النفوس، وفي الوقت نفسه أيضاً: الحلال؛ لأن الله -تبارك وتعالى- طيبه لهم، بمعنى: أباحه، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا المائدة: 88، فهنا فارق بين الحلال والطيب، فصار الحلال هنا بمعنى: الإباحة والحِل، والطيب: ما تستلذه النفوس، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ الأعراف: 32، فهذا يؤخذ منه: الحِل، وكذلك الطيبات هي: التي تستلذها النفوس، وتميل إليها، يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ المؤمنون: 51كذلك، وقل مثل هذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الصف: 12.

وفي قوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف: فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا الكهف: 19، لاحظ هنا: ما ذكر الطيب، بل ذكر الأزكى، والمفسرون -رحمهم الله- لهم في ذلك من الأقوال ما هو معروف، حيث يرجع ذلك إلى قولين:

الأول: أن المراد بقوله: أَزْكَى طَعَامًا يعني: لا شبهة فيه، أي: حلال، بعيد عن الشبهة، أو الحرام، أَزْكَى طَعَامًا.

والمعنى الثاني: باعتبار أن هؤلاء كما يقول بعض المفسرين -ومبناه على المرويات الإسرائيلية-: كانوا من أبناء الملوك، والكُبراء، فكان مقصودهم بذلك: أَزْكَى طَعَامًا يعني: الطعام الجيد المُستلذ، وهذا لا يخلو من بُعد؛ لأن هؤلاء الذين تركوا الدنيا، وتركوا كل شيء رغبة فيما عند الله، وأووا إلى كهف، لا يبحثون عن الأشياء المُستلذة، التي تكون في غاية الكمال، من جهة الطعم، أو النوع، أو نحو ذلك، وإنما يقصدون: الأزكى، بمعنى: الحلال الذي لا شبهة فيه.

قال -رحمه الله تعالى-: طوفان: سيل عظيم.

هناك مادة أخرى أيضاً لها تعلق بهذا، لو نقرؤها هنا، وهي: معنى: طائفين.

قال -رحمه الله تعالى-: طائفين: من الطواف، وطيف من الشيطان: لَمم، وطائف: فاعل منه.

فأصل المادة في هذا: الطاء والواو والفاء، كل هذا يرجع إلى هذا الأصل، وهو: عند ابن فارس يرجع إلى معنى واحد، يدل على: دوران الشيء على الشيء، وأن يُحفَّ به، ثم يقال لما يدور بالأشياء، ويغشِّيها من الماء الكثير يقال له: طوفان، وهكذا الطائفة من الناس، يقول: كأنها جماعة تحيط، وتطيف بالواحد، أو تطيف بالشيء، فهو: عند ابن فارس يدل على هذا المعنى: أنه يطوف، أو يدور على الشيء، ويُحف به، وأن سائر الاستعمالات عنده ترجع إلى هذا.

فهنا قال ابن جزي -رحمه الله تعالى-: الطوفان هو: السيل العظيم، وهناك ذكر الطائفين قال: من الطواف، وطيف من الشيطان: لمم، وطائف، تقول: أصابهم طائف، قال: الفاعل منه، فهذا كما قال الله -تبارك وتعالى-: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ القلم: 19الشيء الذي -كما سبق- يمكن أن يُغشِّي الشيء، أو يُحيط به، فهذا الذي وقع لهذه الجنة، أحاط بها، وغشاها، فهلكت عن آخرها، فسُمي بذلك: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ القلم: 19، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ الطور: 24فيه معنى: الدوران، فهم يأتون هذا وهذا وهذا، ثم يرجعون إلى الأول، يقدمون لهم الطعام، والشراب، ونحو ذلك، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الرحمن: 44فيه معنى: الدوران، فهم يدورون بين أصناف هذا العذاب، وفي قوله -تبارك وتعالى-: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا البقرة: 158يعني: الصفا والمروة، هذا واضح؛ لأن الذي يسعى يدور ذهاباً وإياباً، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن الخدم، ونحوهم، ممن لم يبلغوا الحُلم: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ النور: 58لمعنى: الدوران، وتكرر الدخول، فهم يحتفون بهم، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ الأعراف: 133، وهو: الماء الكثير الذي يُغشيهم، فصار ذلك يقال لهذا المعنى، كما سبق، وفي قوله -تبارك وتعالى- عن قوم نوح: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ العنكبوت: 14، وهو: الماء الكثير.

وقوله -رحمه الله-: طيف من الشيطان: لمم، والطائف: فاعل منه، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ الأعراف: 201، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ القلم: 19، والعرب يقولون: أصابه طيف، وأصابه طائف، ونحو ذلك، يعني: مثل اللمم، أصابه شيء في عقله، أو عرض له شيء من الجن، كما يقولون، وهذا يذكره العرب كثيراً في كلامهم، وفي أخبارهم، وأسفارهم، ونحو ذلك، يقولونه: لما يعرض للإنسان، فيُغشِّي عقله، ويغطيه، ويحصل له بسبب ذلك التغير، فكل هذه الاستعمالات كما ترون ترجع إلى هذا المعنى، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: طاغوت: أصنام، وشياطين، ويكون مفرداً أو جمعًا، والطاغوت أيضا: رئيس النصارى على قول.

هذه المادة ترجع عند ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد، وهو: مجاوزة الحد في العصيان، هذا في استعمالها بالنسبة للطاغوت في القرآن، ولكن أصل هذه المادة تدل على: مجاوزة الحد، يقال: طغى السيل: إذا جاء بماء كثير، طغى البحر: هاجت أمواجه، يعني: تجاوز الحد المعهود، والمعتاد، وكذلك أيضاً يقال ذلك في الأمور المادية والحسية، يقال: الطَّغْية، وهي: المُستصعب العالي من الجبل، يقال له: طَغْية، وبعضهم يقول: أعلى الجبل، والمعنى مقارب، وبعضهم يربط بين هذا وبين بعض الاستعمالات، كقولهم مثلاً: طغى الماء، بمعنى: ارتفع، وعلا على كل شيء، كأنه بلغ في ارتفاعه إلى أعالي الجبال، فصار يناطح القمم؛ لأنه قد بلغ الطَّغْية، فقيل له: طغى، بلغ الطَّغْية المستعصية، رأس الجبل، ويقال: طغى السيل، وطغى البحر، فكل ما جاوز الحد، والقدر، فقد طغى، طاغية يقال: للمتعالي الجبار العتيد، الذي جاوز حده، والتاء فيه للمبالغة، أصله: طاغٍ، فيقال: طاغية، كما يقال: داعية، فالتاء: للمبالغة.

والطاغوت يقال: للواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، يقال: طاغوت، فذلك: كل ما جاوز حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ ولهذا يطلق الطاغوت على: الكهان، وهنا يقول: رءوس النصارى على قول، وهذا لا إشكال فيه، فالله -تبارك وتعالى- يقول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ التوبة: 31، فحينما صاروا يحرمون الحلال، ويحلون الحرام، يكون هؤلاء قد تجاوزوا حدهم، فصاروا بهذه المثابة، صاروا طواغيت، ويمكن أن يقال: صاروا طاغوتاً؛ لأن الطاغوت يقال: للجمع، تقول: هذا طاغوت، وهؤلاء طاغوت، وهذه طاغوت، وهذا طاغوت، للمذكر والمؤنث، وهذا يقال: للأشياء الحسية، والأشياء المعنوية، كما يقال في الذي قبله، في المادة التي سبقت -الطاء والواو والفاء-، كذلك تقال: في الأشياء الحسية، والأشياء المعنوية، الطَّوْف مثلاً هو: السوار المَلْوي، هذا يقال له: طَوْف، هذا حسي، الثور الذي يدور في دياس الحَبّ، يدور هو، أو يدور حوله البقر، يقال له أيضاً: طَوْف، كل ما كان محيطاً كثيراً مُطيفاً بالجماعة من ماء، أو قتل ذريع، أو موت جارف، يقال له: طوفان، القتل الكثير يقال له: طوفان، لأنه يحيط بالناس، الداء والبلاء والوباء الكثير يقال له: طوفان، فهذا يقع في الأمور الحسية، والأمور المعنوية، وكذلك أيضاً ما نحن فيه هنا من: طغى، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى العلق: 6-7بمعنى: أنه يجاوز الحد في الكبر، والتعالي، والتعاظم، ومنع الحقوق الواجبة لله -تبارك وتعالى- ولخلقه، فيكون قد جاوز الحد، فالكبر لا يصلح له، والتعالي، والتعاظم، إنما ذلك يكون لله -تبارك وتعالى.

قال -رحمه الله تعالى-: طباق: بعضها على بعض، وطبقاً عن طبق: حالاً بعد حال.

هذه المادة عند ابن فارس -رحمه الله تعالى- ترجع إلى أصل واحد، يدل على: وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه، فمن هذا يقال: الطبق، تقول: أطبقت الشيء على الشيء، وتقول: طبّقته، طبّقت هذه المعلومات، بمعنى: أني أوقعتها كما هي على ما يُطلب إيقاعها عليه، طبِّق هذه الفكرة، فيكون هذا التطبيق: يكون الأول طَبقاً للثاني، ويقال: مطابقة، تطابق كذا وكذا، ومن هذا قولهم: أطبق الناس على كذا، هذا أمر قد أطبق عليه الناس، الناس مطبقون على كذا، ما معنى ذلك؟ كأن أقوالهم، أو آراءهم قد تساوت، وتطابقت، فلم يوجد بينهم اختلاف، فكأن قول الواحد صار مطابقاً موافقاً للآخر، كأنه صار طَبقاً له، يعني: لو جعُل كذلك لكان صالحاً، لو جُعل طَبقاً له لكان موافقاً من غير زيادة، ولا نقصان، ويقال أيضاً لما على الأرض حتى غطاها: طَبَق الأرض، يقال مثلاً: الإسلام طَبَق الأرض، بمعنى: أنه بلغ الآفاق، وفي كل مكان في مشارق الأرض ومغاربها، وتقول مثلاً: هذه الوسائل في الإعلام الجديد طَبقت الأرض، يعني: أنها دخلت في كل بيت، في كل مكان في أرجاء المعمورة، حتى القرى، والبوادي، والهِجر، ونحو ذلك، فيقال: طبق الأرض، وهكذا فيما أشبه ذلك.

وهذا أيضاً يقال: في الأشياء الحسية، والأشياء المعنوية، الأشياء المادية: الطَّبق، وهو: غطاء كل شيء لازم عليه، غطاء كل شيء: طَبق، وفي استعمال الناس اليوم يقال: الطَّبق، يقولون ويعبرون بذلك -فيما يظهر- عن الإناء الذي يوضع فيه الطعام، وقد يعبرون به عن الطعام الموضوع فيه للملازمة، لكن الأصل أن ذلك يقال: لما يُغطيه، فهذا يمكن أن يكون على وجه صحيح في الاستعمال، إذا كان ذلك فيما يكون له غطاء مطابق، وموافق له بقدره، فيقال له: طبق، ولا يقال لأي إناء: طبق، ولا يقال: للمطعوم أيضاً كذلك على سبيل الإطلاق، ولو لم يكن فيه هذه الصفة التي أشرنا إليها، والله تعالى أعلم، وكذلك أيضاً: ما يساوي الشيء، فهذا فيه هذا المعنى، كما سبق، يقال: طِباق، هذا طِباق كذا، أي: مُطابق له، وهذا طبيقه، ومُطْبِقه، يعني: مطابق له، هذا طبيق هذا، هذا مُطبِق هذا، هذا طِباق هذا، يعني: أنه مُطابق له تمام المطابقة، مساوٍ له، وهكذا، تقول: طابقت بين الثوبين يعني: جعلت أحدهما فوق الآخر، هذه الأشياء طِباق يعني: أن بعضها على بعض، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا: أنه خلق سبع سموات طباقًا، يعني: أن بعضها فوق بعض، كل واحد من هذه الطباق يقال له: طبقة؛ ولذلك تجدون في التراجم: الطبقة الأولى من التابعين مثلاً، والطبقة الثانية، والطبقة الثالثة، وهكذا، فهذا منه.

وكذلك أيضاً يُقال: الطَّبق والطَّبقة: للحال، ففي قوله -تبارك وتعالى-: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ الانشقاق: 19فُسر: لتركبن حالاً بعد حال، فكأنها طبقات، أحوال يكون بعضها فوق بعض، فهذه قيل: إن المراد بــ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ يعني: طوراً بعد طور، وحالاً بعد حال، وبعضهم يُفسر هذا: بالأطوار التي يكون فيها الإنسان، يكون جنيناً، وعلى أطوار، ثم بعد ذلك يخرج إلى الدنيا، ويكون طفلاً، ثم بعد ذلك يشب، ثم بعد ذلك يكون في حال الكهولة، ثم بعد ذلك الشيخوخة، ثم الهرم، ثم بعد ذلك يموت، ويكون في البرزخ، ثم يكون في الحشر، والنشر، والقيامة، ثم بعد ذلك يكون في الجنة، أو في النار، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ الانشقاق: 19، وبعضهم يُفسر هذا: بالأحوال التي يمر بها الإنسان، -وقد مضى هذا في التعليق على المصباح المنير- يمر بأحوال من الرخاء، والشدة، واللذة، والألم، فالله يقلّبهم في هذه الحياة، ويبتليهم بها، فهذا كله يرجع إلى هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

طيب، وفي المثل المعروف: وافقَ شَنٌّ طَبَقة، بمعنى: المساواة، والمطابقة، والموافقة، يقال: للشيئين إذا توافقا تمام الموافقة، لا يوجد بينهما اختلاف وتباين.

قال -رحمه الله تعالى-: طُور: جبل، وهو: الطَّود.

الطور بعضهم يقول: إنها كلمة غير عربية، في الأصل: أنها مُعرَّبة، وإذا كان كذلك فلا مجال للكلام في أصل الاشتقاق، كما هو معلوم؛ لأنها أعجمية، وتجد كثيرًا من الألفاظ التي يُدَّعى فيها أنها أعجمية على خلافٍ في وجود ما يسمى بالمُعرَّب في القرآن، وقد ذكرنا من قبل أن الخلاف إنما هو في الألفاظ المُنكَّرة، وليس في الأعلام، ولا في التراكيب، فهذه ثلاث صور:

أما التراكيب، فبالإجماع: لا يوجد في القرآن تركيب أعجمي؛ لأن الله قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: 195، لا يوجد جملة، ولا شبه جملة أعجمية.

وأما في الأسماء الأعلام فإنها تقال كما هي في اللغات، فهذا موجود، وأكثر الأسماء -كأسماء الأنبياء والملائكة- في القرآن ليست عربية، هذا لا إشكال فيه.

وأما كلام أهل العلم وخلافهم فإنما هو: في الألفاظ المنكَّرة، مثل: إستبرق، ومشكاة، وسُندس، وهنا: طور، عند من يقول بأن أصله: أعجمي، فهذه ألفاظ منُكّرة: طور، ومشكاة، ونحو ذلك، فهذه فيها كلام كثير، وقد نفى هذا الشافعي -رحمه الله-، وابن جرير -رحمه الله- يقول: ليست الأعجمية بأولى بها من العربية، والله قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: 195، وليس الكلام الآن في هذا، ولكن على كل حال: من أهل العلم من يقول: إن طور كلمة أعجمية، ولو فُرض هذا: فإنه يوقف عند هذا الاسم دون أن يُشتغل بأصل مادته، ولكن أهل العلم في الأغلب يذكرون: أنه مُشتق، ويقولون بأنه اسم عربي، وأرجعه ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد، يدل على معنى واحد، وهو: الامتداد في شيء من مكان أو زمان.

طَوَار الدار، يقولون: هو الذي يمتد معها من فنائها، طَوَار الدار، هذا في المكان، يمتد معها من فنائها، لاحظ الربط الآن، ولذلك يقال: فلان عدا طوره، ما معنى: عدا طوره؟ عدا طوره بهذا الاعتبار: يعني: جاز وتجاوز الحد الذي هو له من داره، عدا طوره، تعدى طوره، جاوز حده الذي هو له من داره، ثم توسعوا في الاستعمال، واستُعير ذلك في كل شيء يُتعدى.

ويقال أيضاً: الطور: الجبل، فهذا -كما سبق- يمكن أن يكون اسماً علماً موضوعاً على مكان معين، فهذا يكون الكلام فيه في الأعلام في القرآن، يعني: لا يُتكلم في أصل الاشتقاق، فهو إذن: اسم موضوع لجبل معين في الشام.

ويمكن أن يكون ذلك سُمي به؛ لما فيه من الامتداد طولاً وعرضاً، هذا امتداد الآن: حسي، فيقال للجبل؛ لامتداده في طوله وعرضه، فيقال له: طور، فكل جبل بهذا الاعتبار يقال له: طور، وبعضهم يقيد ذلك بالجبل الذي يكون فيه الشجر.

هذا في الامتداد المكاني، أما في الامتداد الزماني، فحينما يقال: فعل كذا طوراً بعد طور، يقال: الإنسان يمر بأطوار، يعني: مُدد زمانية، يكون نطفة أربعين يوماً، ثم بعد ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون مثل ذلك مضغة، وهكذا حتى يستتم خلقه، يكون أطواراً، ثم بعدما يخرج هكذا -كما ذكرنا سابقاً- يكون في أطوار، فهذا طور.

وهكذا يقال أيضاً في الحشرات، مثلاً: طور البيض، ثم طور اليَرَقة، أو كذا، فهذه أطوار، فهذا في الامتداد الزماني، هذه المدة طور كذا، أطوار المرض، يقال: المرض له أطوار إذا كان كذلك، وهذا كثير في استعمال الناس اليوم، وهذا أصله، والله تعالى أعلم، يعني: يقال: فعل ذلك، أو حصل هذا على أطوار، وقعت هذه القضية على أطوار، فلان تغير وتحول فقد مر بأطوار، معنى ذلك: أنه تغير في مُدد زمنية، من سنة كذا إلى كذا كانت حاله كذا، ثم من سنة كذا إلى كذا، وهكذا في عمله، وفي إنجازاته، أو وظائفه، أو تعلمه، أو نحو ذلك، يقال: مر بأطوار مختلفة، وكذلك في اختلال عقله، أو في غير ذلك من الأمور، يقال: مر بأطوار مختلفة.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ البقرة: 63الجبل، إما أن يقال: هذا علم على جبل معين، أو يقال: إن ذلك لما فيه من معنى: الامتداد، فيقال لكل جبل: طور وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [النساء: 154].

وأما في الامتداد الزماني فقوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14]، حالاً بعد حال، هذا في الامتداد الزماني، وهكذا، وهذا من أنفع الأشياء، هذا يُفتِّق الأذهان، ويُنمي المدارك، وكذلك أيضاً يُنمي الملكة اللغوية التي يظهر أثرها في التفسير، فيكون صاحبها قادراً على التعامل مع الأقوال، ولمّ شعث ما تفرق منها إذا كان ذلك ممكناً، فكما ترون حينما تدرس هذه الألفاظ، بقدر ما تتوسع في هذا، وتُكثر من هذه الدراسة، فإن ذلك يزيد من قدرتك على التعامل مع أقوال المفسرين، وغير المفسرين، كالأشياء التي نستعملها، والكلام الذي يدور، والكلام الذي يقال، ولولا أن الوقت عندنا نحتاج فيه إلى إنجاز قدر كبير، ثم ننتقل منه إلى التفسير؛ لذكرت لكم أمثلة أكثر في واقعنا، واستعمالاتنا، والألفاظ التي نتداولها، وكيف يرجع أصلها إلى ذلك، لكن الدرس ليس لهذا الغرض، لكنه شيء نافع جدًّا.

قال -رحمه الله تعالى-: طَفِقَ يفعل كذا، أي: جعل يفعله.

طفِق هذه كما يقول ابن فارس: كلمة صحيحة: الطاء والفاء والقاف، طفِق يفعل كذا، كما يقال: ظل يفعل كذا، هذا كلام ابن فارس.

هذه المادة: طَفِق، معلوم: أنها من أفعال الشروع، شرع في كذا، طفق يفعل كذا، يعني: شرع بالفعل، وهذا يكون في الفعل الذي يكون في المستقبل خاصة، ويُستعمل في الإيجاب دون النفي، يعني: لا يدخل عليه النفي، ما تقول: لا طفق، ولا يقال منه المضارع: لم يطفَق، أو لم يطفِق، فإن هذا لا وجود له في كلام العرب، وإنما هذا الذي يُستعمل منه، هو من أفعال الشروع، تقول: طَفِق يكتب، وطفق يمشي، وطفق يأكل، ونحو ذلك، ويقول الله -تبارك وتعالى-: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ الأعراف: 22، يعني: شرعا في ذلك، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ص: 33، على القولين -كما سبق- في التعليق على المصباح المنير: الضرب بالسيف، يضربها في قوائمها، أو في أعناقها، أو أن المقصود بذلك: يمسحها كما يفعل أهل الخيل، إذا أخذت شوطاً، أو نحو ذلك، فإنها تعرق -كما هو معلوم-، ثم بعد ذلك يمسحون أعناقها، ونحو ذلك، وهذا معروف، وهما قولان مشهوران في التفسير.

قال -رحمه الله تعالى-: حرف الظاء.

ظهر الأمر: بدا، وأظهره غيرُه: أبداه، وظهير: معين.

هذه المادة: الظاء والهاء والراء، أرجعها ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد، يدل على: قوة، وبروز، تقول: ظهر الشيء: إذا انكشف، وبرز، انتبهوا: وقت الظهر سُمي بذلك بأي اعتبار؟ باعتبار: الظهور والانكشاف، يعني: هو: أجلى أوقات اليوم في الظهور، الشمس تكون في وسط السماء، فيقال: الظهر، والظهيرة، فهذا أظهر أوقات النهار.

ويقول ابن فارس: إن الأصل في ذلك -وكذلك أصل: الظهر، والظهيرة، والظهور، وظهر، ونحو ذلك-: ظَهْر الإنسان، وهو: خلاف البطن، فالذي يقابل البطن هو الظهر، يقول بأنه يجمع البروز والقوة، ومن هنا يقال للرِّكاب -المراكب الإبل-: ظهر، يقال: فلان ليس له ظهر، يعني: ما عنده ما يركب، اشترى ظهراً، بمعنى: اشترى دابة يركب ظهرها، فهذه الدواب التي تُركب يقال لها: ظهر، هل عندك ظهر تركبه؟ بمعنى: دابة؛ لأنه إنما يُركب ظهرها، ويُحمل عليه المتاع، ونحو ذلك، يحمل على الظهور، تقول: ظهرت على كذا: اطلعت عليه، كأنك علوت.

والظهير يقال: للمعين، كأنه أسند ظهره إلى ظهرك، هذا يعين هذا، هذا ظهير لهذا، هذه الإعانة تكون بهذه المثابة، كأنه أسند ظهره إلى ظهرك؛ ولهذا الناس يقولون: فلان له ظهر، بمعنى: سند قوي، كأنه يُسند ظهره إليه، فيتقوى بذلك.

والظُّهور يقال أيضاً: للغلبة، ظهر على العدو، كأنه قد علاه، فيقال: للتغلب، ونحو ذلك.

والظِّهار معروف، هو: مشتق من الظَّهر، فالرجل الذي يُظاهر من امرأته صورته المعهودة أن يقول لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أُمي، فيشبهها بالظهر، مع أنه شرعاً لا يختص بالظهر، فلو أنه شبهها بأي جزء منها قال: يد أمي، أو كرأس أمي، أو كوجه أمي، أو نحو ذلك، فإنه يكون من قبيل الظهار، ولكن ذُكر الظهر بأي اعتبار؟  بعض أهل العلم يقولون: باعتبار أن المرأة كأنها مركوب الرجل، مع أنهم يُوردون على هذا ما يُشكل، يقولون: المرأة إنما يُركب بطنها لا ظهرها، لكن من أهل العلم من قال: إن الركوب هنا معنوي، وليس بحسي، بأي اعتبار؟ باعتبار: أن الرجل يقال: نزل عن امرأته، أي: طلقها، وفارقها، فكأنه كان حينما كانت في حباله، لما كان زوجاً لها، فإنه سيدها وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ يوسف: 25، الرجل سيد للمرأة، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: 228يعني: أنه أعلى منها، وقال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ النساء: 34فهو: فوقها في القوامة، والسيادة، ونحو ذلك، فهنا قيل: الظِّهار، كأن المرأة كانت مركوباً للرجل، فإذا طلقها يقال: نزل عن امرأته، وبعضهم ينظر إلى المعنى، باعتبار: أن الظهر ذُكر لمكان الركوب في الأصل، وإن كان ذلك ليس بحقيقة في المرأة، يعني: من فسره بالركوب الحسي فإن ذلك لا يكون في الظهر، وإنما عُبر به؛ لأن الأصل في الركوب أن يكون موضعه الظهر، فقيل: الظِّهار.

والظِّهْرِيّ: كل شيء جعلته بظهرك، اتخذه ظهريًّا، جعله ظهريًّا، بمعنى: نسيه، كأنه جعله خلف ظهره، وهكذا أيضاً يقال: سلكنا الظَّهر، ماذا يقصدون به؟ طريق البر، سلكنا الظهر، لماذا قيل لطريق البر ذلك؟ لظهوره، وبروزه، قيل له: الظَّهر، يوجد ناحية في الكويت اسمها: الظَّهر، أظن كذا، الظهر، وهي: ناحية متطرفة في البلد، يبدو أنها قيل لها ذلك؛ لأنها في موضع البرية في الأصل، يعني: كانت خارج البلد، يقال لها: الظهر.

يقول اللهقُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ الأعراف: 33، على خلاف فيما ظهر، وفيما بطن.

ما ظهر يعني: إذا كان ذلك علانية، وما بطن ما يكون سرًّا، على أحد الأقوال المشهورة فيه، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ الأعراف: 33، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الروم: 41بمعنى: علا وكثُر، حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ التوبة:48بمعنى: علا، ويكون بمعنى: البروز، ونحو ذلك، والله أعلم.

فعلى كل حال: كذلك يقال: ظهْر الأرض، وبطن الأرض، بطن الأرض خير لفلان من ظهرها، فظهرها: ما يكون بارزاً ظاهراً، وبطنها: القبر، ما يكون في داخلها، وقوله -تبارك وتعالى-: الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 3]، لاحظ هنا: الوزر هو أمر معنوي، فهذا قد يُستعمل في الأشياء المعنوية، كأن هذه الأوزار تثقل ظهر حاملها، أو تثقل ظهر صاحبها، يحمل وزره على ظهره يوم القيامة، فهذا المعنوي يُشبه: بالثقل الحسي، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ النور: 58يعني: وقت الظهر، وَحِينَ تُظْهِرُونَ الروم: 18تدخلون في وقت الظهيرة، والمادتان بعدها يرجعان إلى هذا المعنى، فلا يحتاج إلى التفصيل في ذلك؛ لأنه قد ذُكر في ضمن المادة الأولى.

قال -رحمه الله تعالى-: ظاهر الرجل من امرأته، وتظاهر، وتظهّر، أي: قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، وهو: الظِّهار.

يعني: كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب: 4]يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ المجادلة: 2، وهكذا، وأيضاً في قوله: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ، فيها قراءات متواترة معروفة.

قال -رحمه الله تعالى-: ظهر البيت: أعلاه، وظَهَرتُه أي: ارتفعت عليه، ومنه قوله: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ الكهف: 97.

لاحظ: هذا الآن في الظهور الحسي، يعني: السد، ما استطاعوا أن يعلوه، الظهور عليه، ظهرت على البيت بمعنى: علوته، وكذلك أيضاً في الظهور المعنوي، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا التوبة: 4بمعنى: الإعانة، فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ الشورى: 33على ظهر البحر، يعني: ما ظهر منه، وهو: أعلاه، مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا فاطر: 45أي: الأرض، مِنْ دَابَّةٍ فاطر: 45، وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ الأنعام: 94، تركه وراء ظهره: يعني في هذا الموضع في هذا السياق: ارتحل وتركه، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا البقرة: 189يعني: أنه لا يدخل مع الباب، وإنما يكون بإتيان البيت من ظهره فيعلوه، وهكذا، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ البقرة: 101بمعنى: تخلوا عنه، وتركوه، ونسوه، فكأنهم قد أداروا ظهورهم إليه، إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا الأنعام: 146، يعني: هذا الحمل الحسي، الله -تبارك وتعالى- حينما حرم عليهم الشحوم قيد الحل بأنواع منها: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا الأنعام: 146، كذلك في قوله: وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ التحريم: 3، لما نبّأت بسره ﷺ بمعنى: أطلعه عليه، وهكذا في قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ التوبة: 33، هذا في المعنوي، والله أعلم، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِالأحزاب: 26يعني: أعانوهم.

قال -رحمه الله تعالى-: ظُلْم: يقع في القرآن على ثلاثة معانٍ: الكفر، والمعاصي، وظلم الناس، أي: التعدي عليهم.

هذه المادة أرجعها ابن فارس -رحمه الله- إلى أصلين:

الأول: خلاف الضياء والنور، قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا يونس: 27، وهكذا في قوله: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا البقرة: 20، وفي قوله: فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس: 37]، هذا كله خلاف الضياء، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، فهذا كله يرجع إلى هذا المعنى.

والآخر الذي ذكره، وهو: وضع الشيء في غير موضعه تعدياً، هذا هو الظُّلم، فالظُّلمة: خلاف الضياء، والظَّلَمة: جمع ظالم، والظالم هو: الذي يضع الشيء في غير موضعه تعديًا، هكذا في أصله في لغة العرب، كل من وضع شيئاً في غير موضعه فهو: ظالم، والعرب تقول: ومن يُشابه أبَهُ فما ظلم، يعني: لم يضع الشبه في غير موضعه، لم يذهب بعيداً، فهو موافق لحال أبيه، لكنه قد يُستغرب على خلاف حاله، فيقال: هذا على خلاف حال أبيه، لكن ومن يُشابه أبَهُ فما ظلم، لم يضع الشبه في غير موضعه.

ويُعبر بهذه المادة: الظاء، واللام، والميم عن معانٍ: كالجهل، والشرك، والضلال، فهذه كلها يقال لها: ظُلمات، كما يقال عما يُقابلها بأنه نور، كالعلم، والهدى، والإيمان، فهذا يقال له: نور، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ البقرة: 257ظلمات الجهل، وظلمات الكفر، وظلمات الغي، إلى نور الإيمان، والعلم، والطاعة.

وهكذا أيضاً: في وضع الشيء في غير موضعه ماديًّا، يعني: في الأشياء المحسوسة، يقال له: ظُلم.

وأما المظلومة فالعرب تقول ذلك للأرض التي حُفرت في غير موضع الحفر، تجدون هذا في كلامهم، وأشعارهم، فالمظلومة: الأرض التي حُفرت في غير موضع الحفر؛ ولذلك يقولون لتراب القبر: ظليم، لموضع الحفر، يقال: وضعوه في مظلومة، وهي: الحفرة؛ لأن ذلك لم يكن موضعاً للحفر فحُفر.

وهكذا أيضاً: الذي يضرب لَبَنَه قبل أن يروب، يقول الشاعر:

وقائلةٍ ظلمتُ لكم سِقائي *** وهل يخفى على العَكدِ الظليمُ

العَكد: عصب اللسان، فإذا حصل الاستعجال في ضرب اللبن فهو: ظليم؛ ولذلك يقولون: إن الظلم يكون أيضاً بإتيان الشيء قبل أوانه وإبّانه، هذا وَضْع له في غير موضع، فهذا الذي يضرب لبنه قبل أن يروب، أو قبل أن يستخرج ويستحصل زُبده، ونحو ذلك يكون ظليماً، وقائلةٍ: يعني: ورُبّ قائلةٍ، ظلمت لكم سقائي: سقاء اللبن، وهل يخفى على العكد الظليم.

وكذلك أيضاً يقال في الأشياء المعنوية، بالنقصان، أو الزيادة، أو العدول عن وقته، أو مكانه، فيكون مجاوزة الحق، هذا يقال له: ظلم، سواء كان بين العبد وربه، فهذا ظلم، قال الله -تبارك تعالى-: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لقمان: 13؛ لأن هذا الإنسان قد وضع العبادة في غير من خَلَق، تجدون في كثير من نصوص القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ البقرة: 21، يربط بين العبادة والخلق، فالذي خلق هو الذي يستحق العبادة، فإذا وضعت العبادة في غير من خلق، فهذا من أظلم الظلم، وأفحش الظلم، وحينما يكون الشكر باللسان، أو القلب، أو الجوارح لغير المُنعِم، فالله يُنعم، ويعطي، ويتفضل، ثم تُصرف العبادة لغيره، فهذا من أفحش وأقبح الظلم، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لقمان: 13، فعصيان العبد لربه، وعبادة غير الخالق -- هذا كله من قبيل الظلم بين العبد وربه.

وكذلك يكون مع نفسه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فاطر: 32، ويكون أيضاً مع المخلوقين: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ الشورى: 42، وقوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ص: 24، فهذا ظلم واقع على الآخرين، ويقول الله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ أَظْلَمُ يعني: لا أحد أظلم، مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا البقرة: 114، فلا أحد أظلم من هذا، فهذا وضع الشيء في غير موضعه.

انتبهوا: أهل السنة يفسرون بهذا، وهو الموجود في كلام العرب، واستعمالهم، الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالله نفى عن نفسه الظلم، فالله -تبارك وتعالى- لا يضع الشيء في غير موضعه، فيضع الهداية في موضعها، وأيضاً الجزاء الحسن في موضعه، والعقوبة في موضعها، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ آل عمران: 182، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا يونس: 44، وقال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)[1]، فوضع الشيء في غير موضعه هو الظلم، فالله -تبارك وتعالى- حينما يهدي من يشاء، ويُضل من يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فهذا كله وضع للشيء في موضعه، هذا تفسير العدل والظلم عند أهل السنة والجماعة.

وحينما يُفسَّر الظلم -كما يقول بعض المتكلمين، أهل الكلام ممن خالفوا أهل السنة والجماعة في الاعتقاد- بأنه التصرف في ملك الغير، أو التصرف في حق الغير بغير إذنه، انتبهوا: هذا تجدونه بكثرة في الكتب في شروح الحديث، وكتب التفسير، وغير ذلك، وكتب الاعتقاد التي كُتبت على غير اعتقاد أهل السنة والجماعة، يقولون: التصرف في حق الغير، أو التصرف في ملك الغير بغير إذنه، ليس هذا معناه عند أهل السنة والجماعة، وهذا يترتب عليه أشياء وأحكام في الاعتقاد: التصرف في حق الغير بغير إذنه، هؤلاء ينفون الحكمة والتعليل أصلا في أفعال الله، فيقولون: لو عذب المؤمنين الطائعين الأتقياء لما كان ذلك من قبيل الظلم، ولو خلد أهل الإيمان وأهل الطاعة في النار لم يكن ذلك من قبيل الظلم، هكذا يقولون، بأي اعتبار؟ باعتبار: أن هؤلاء هم ملك لله، فالتصرف في ملكه لا يكون ظلماً، أيًّا كان هذا التصرف.

وأما أهل السنة فيقولون: لا، الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالله -تبارك وتعالى- لا يعذب من أطاعه واتقاه، ثم يُنجي ويُنعم ويتفضل ويُحسن إلى من عصاه، ليس كذلك.

لاحظوا: الفرق بين التعريفين، وما يترتب عليه، فهم لأنهم ينفون الحكمة والتعليل في أفعال الله قالوا ذلك، يقولون: لا يوجد حكمة أصلاً.

ما ثَمَّ غيرُ مشيئةٍ قد رَجّحتْ *** مِثلاً على مِثلٍ بلا رُجحانِ

وهذا اعتقاد فاسد، وتجد مثل هذا التعريف ذائعاً في كثير من الكتب، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: ظن: له ثلاثة معانٍ: التحقيق، وغلبة أحد الاعتقادين، والتُّهْمَة.

ظنَّ: أرجع ابن فارس هذه المادة إلى أصل، أو قال: أُصيل صحيح يدل على معنيين مختلفين:

الأول: الظن بمعنى: اليقين، وهذا كثير في القرآن، وفي لغة العرب أيضاً، انظر الآن: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ البقرة: 46، هل يمكن هنا أن يكون الظن بمعنى عدم التحقق من الشيء؟ لا، وإنما هو بمعنى: اليقين، يظنون أي: يوقنون أنهم ملاقوا ربهم، وكما قال الشاعر:

فقلتُ لهم ظُنوا بألفيْ مُدجَّجٍ *** سَراتُهُمُ في الفارسيّ المُسَرَّدِ

ظُنوا بألفي مُدجج: هو يهددهم، يعني: أيْقِنوا بألفي مُدجج بالسلاح، فهذا بمعنى: اليقين.

والمعنى الثاني الذي ذكره ابن فارس، وهو: الشك، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ التكوير: 24، يعني: بمُتهم، الضنين: المُتهم، هذه قسمة إجمالية: العلم، ويقابله: الشك، وإلا فإن ما يقابل العلم يجعلونه عادة على ثلاث مراتب، ما يقابل العلم لا أعني به الجهل، وإنما أقصد: النسبة في العلم وخلافه، يقال: العلم، ويقابله: ثلاثة أشياء، يعني: ما لم يُتيقن، خلاف المُتيقن، يقولون: العلم هو: إدراك الشيء على ما هو به إدراكاً مطابقاً للواقع، هذا هو: العلم، فهذا العلم يكون معه: الجزم، واليقين، والذي يقابل العلم -يعني ما لم يُتيقن- على ثلاث مراتب:

المرتبة الأعلى: وهي: طرف الرُّجحان، يقال له: الظن، يعني: الظن الغالب.

والطرف المرجوح، يقال له: الوهم، فلان يتوهم، هذا وهم، فلان واهم، فلان يتوهم كذا.

والطرف المتوسط الذي لا يترجح فيه طرف على طرف، استوى فيه الأطراف، يقال له: الشك، ما ترجح عنده شيء، فهو في حال من الشك، استواء الطرفين.

فالراجح يقال له: ظن، هذا يُعمل به في ما لم يرد فيه نص، والقضايا الاجتهادية مبناها على: الظن الغالب، أي: الرجحان، فالعمل بمقتضى هذا لا يكون مذموماً، وأما الشك فيكون في حال من الاعتدال والتوسط، فلم يترجح لديه شيء، والوهم هو التخمين الذي لا يكون مبناه على علم أصلا، وهذا الذي ورد فيه الذم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ الأنعام: 116، أوهام، وتخرصات، وأباطيل لا حقيقة لها.

فلاحظ هنا: ابن جُزي -رحمه الله تعالى- ذكر المعنى الأول، وقال: التحقيق، هذا بمعنى اليقين، هذا المعنى الأول.

والثاني قال: غلبة أحد الاعتقادين، هذا في الأطراف الثلاثة التي ذكرتها، وهو: طرف الرجحان، يقال: الظن، قال صاحب المراقي:

والوهمُ والظنُّ وشكٌّ ما احتَمل *** لراجحٍ أو ضِده أو ما اعتدل

فقوله: لراجح، أو ضده، يعني: الذي يقابله، وهو: المرجوح، أو ما اعتدل، الذي هو: الشك، هذه الأقسام الثلاثة.

الثالث هنا: ذكر معنى: التُّهمة، هذه ليست في القسمة الثلاثية التي ذكرتها لكم، ومجموع ذلك يرجع إلى أربعة أنواع: علم، ويقابله: الظن المنقسم إلى ثلاثة أقسام، أو يقابله: ما يكون على ثلاثة أقسام، لكن هنا: التُّهمة، كما ذكرت سابقاً: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍالتكوير: 24يعني: بمتهم.

ونلاحظ في استعمال القرآن للظن على ضرب من اليقين، إذا قُصد به اليقين في القرآن، أن تُستعمل بعده، أي: بعد لفظة الظن: "أنَّ"، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ البقرة: 46معناها: يوقنون، هذا بالاستقراء، وقد يقال الظن -على كل حال- على ما ترجحت أماراته كما سبق، لكن المذموم في القرآن كما قلت هو الوهم، والتخرص، والقول بلا علم، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ يونس: 36، فهذا هو: المذموم، لا يتبعون علماً، ولا يقيناً، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32]، وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الجاثية: 24يعني: ما هم إلا يظنون، وهكذا: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ آل عمران: 154، فهذا كله مذموم.

إذن: قد تجد ذلك في القرآن بمعنى: العلم، وقد يكون بمعنى: اتباع الأوهام، ونحو ذلك، قال الله -تبارك تعالى-: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ الجن: 12يعني: علمنا، وتيقنا، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا الجن: 5، هذا يحتمل أن يكون غلبة ظن عندهم، وقد يكون ذلك باعتبار أنهم كانوا يتيقنون ذلك، ويجزمون به، ومعنى الآية كما ذكرنا في التعليق على المصباح المنير: أن هؤلاء من الجن لما سمعوا الوحي، وما تضمنه من الدعوة إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، ذكروا هذا، يقولون: هذا الذي تواطأ عليه الإنس والجن في عبادة الأصنام، والآلهة الباطلة، ما كنا نظن أنهم يتواطئون على هذا الباطل، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا الجن: 5، لا يبلغ الأمر أو لا يجرؤ أحد على قول: إن هؤلاء تواطئوا على كثرتهم عبر القرون والعصور على باطل، فيعبدون غير الله، فهم يتعجبون، أي: هؤلاء الجن الذين آمنوا لما سمعوا الوحي يقولون: كنا في عماية، ما كنا نظن أنه يقع هذا التواطؤ على الباطل من قِبل الإنس والجن، كنا نظن أن هذا أمر مُسلَّم، وأن هذه معبودات حقة، كيف تواطئوا عليها، وكيف تتابعوا جيلاً بعد جيل على كثرتهم؟!، فهذا معنى في غاية الأهمية: أن الناس قد يتواطئون على باطل، ينشأ عليه الصغير، ثم بعد ذلك يظن أن هذا هو الحق.

والله المستعان، هذا ما يتعلق بالظن، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.



[1] أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2577).

مواد ذات صلة