الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[11] من قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية 91 إلى قوله تعالى: {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} الآية 92.
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3064
مرات الإستماع: 2436

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وفي ذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح -عليهما السلام- على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى إنما ينسب إلى إبراهيم بأمِّه -عليها السلام- فإنه لا أب له.

روى ابن أبي حاتم عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي ﷺ تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام: وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [سورة الأنعام:84] حتى بلغ وَيَحْيَى وَعِيسَى [سورة الأنعام:85]؟ قال: بلى، قال: أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت، فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من دخول أولاد البنات في الذرية يمكن أن يدخل في النوع المعروف عند الأصوليين من أنواع دلالة المنطوق بما يعرف بالإشارة، وهي كما قال في المراقي:

فأول إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد عُلما

بمعنى أن الخطاب ما سيق من أجل تقرير هذا المعنى لكنه يستنبط منه ويفهم منه أي: وإن لم يكن وروده ابتداءً من أجل بيان هذا الحكم، فهذه الآية ذكر الله فيها فضائل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين أنعم عليهم، وذكر أن عيسى ﷺ من ذرية إبراهيم -على أحد القولين أو من ذرية نوح ﷺ على القول الآخر- وعيسى ﷺ ليس له أب يرتبط به نسباً بهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وإنما نُسِبَ عن طريق الأم.

فالذرية هي ما تناسل من الإنسان، ويدخل فيها كل ما تناسل منه من جهة الذكور ومن جهة الإناث، وهذا هو الذي دل عليه القرآن بهذا النوع من الدلالة –دلالة الإشارة- وذلك كقوله -تبارك وتعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187] وسبق الكلام على هذا المثال في سورة البقرة، وذكرنا أن الآية سيقت لبيان جواز الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام بعد أن كان محرماً. 

لكن يستنبط من الآية بدلالة الإشارة أنه يجوز للإنسان أن يصبح وهو جنب، ولا إشكال في ذلك؛ لأنه إذا جاز له أن يجامع في كل جزءٍ من أجزاء الليل حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187] فمعنى ذلك أنه لن يبقى وقت للاغتسال إلا بعد الفجر، فهذا مثالٌ مفرد في دلالة الإشارة، ومعنى مثال مفرد أي أن هذا الحكم يستخرج من دليلٍ واحد، وقد يستخرج من آيتين، أو أكثر كما سبق في قوله -تبارك وتعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] مع قوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14] فإذا خصمت العامان من الثلاثين شهراً فإنه يبقى للحمل ستة أشهر، فيُستنبط من الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فهذا من دلالة الإشارة.

والخلاصة أن هذه الآية دلت بدلالة الإشارة على أن أولاد البنات من جملة الذرية، ولا عبرة بقول الشاعر:

بنون بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد

فهذا قول شاعر لا عبرة به، ولا يقابل بينه وبين كلام الله .

وقوله: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ [سورة الأنعام:87] ذكر أصولهم وفروعهم وذوي طبقتهم وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم، ولهذا قال: وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:87] ثم قال تعالى: ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [سورة الأنعام:88].

من جملة الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآيات إلياس واليسع –عليهما السلام- فإلياس -عليه الصلاة والسلام- هو من الأنبياء بلا شك، لكن بعضهم يقول هو من ولد إسماعيل، وبعضهم يقول: هو من ولد إسحاق، والمشهور أن إسماعيل ﷺ لم يكن في عقبه نبي سوى النبي محمد ﷺ، ولذلك يقول بعضهم: إن إلياس من سبط يوشع بن نون أي من ولد إسحاق فهو من جملة أنبياء بني إسرائيل.

وأما اليسع ففي قراءة أخرى (الليسع)، فبعضهم يقول: هو إلياس، وهذا عجيب وغريب غاية الغرابة؛ لأن الله ذكره بهذا السياق وذكر إلياس فلا يمكن أن يكون ذكره مرتين فهو نبيٌ آخر غير إلياس، وبعضهم يقول: هو صاحب إلياس، وبعضهم يقول: إن إلياس هو إدريس، وهذا أيضاً غير صحيح، وبعضهم يقول: إلياس هو الخضر وهذا غير صحيح أيضاً، والخضر مختلف فيه هل هو نبي أو ليس نبياً، وبعضهم يقول: اليسع هو الخضر، وهذا كله غير صحيح أيضاً.

فالحاصل أن إلياس واليسع -عليهما الصلاة والسلام- من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وليس عندنا تفاصيل كثيرة عن نسبهما وحياتهما وما يتعلق بهما، فالله تعالى أعلم، لكنهم من الأنبياء قطعاً، وليس من المشكوك في نبوتهم كما هو الحال في الخضر فإنه مختلف فيه هل هو من الأنبياء أم لا؛ فهؤلاء ذكرهم الله في سياق الأنبياء، وقد قال الله تعالى للنبي ﷺ: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] وأخبر أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة وذلك يرجع إلى جميعهم، والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى: ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [سورة الأنعام:88] إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88].

النبوة -كما هو معلوم- هي منحة إلهية لا تُكتسب مهما كان الإنسان عليه من قُدر وإمكانات وذكاء وصلاح وتقوى، وهذا هو الذي لا يجوز أن يُعتقد سواه خلافاً للفلاسفة الذين يقولون: إن النبوة مكتسبة، فهي منحة إلهية، فعقيدة المسلمين تقوم على أن النبوة يمنحها الله لمن شاء من عباده ممن يعلم أنهم يصلحون لذلك، قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68].

قوله تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88] هذا حكم معلق على شرط وهو لا يقتضي الوقوع، وهذه قاعدة معروفة، أي أن المعلق على شرط لا يقتضي ذلك وقوعه أو جواز حصوله كما في قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81] أي: ولا يمكن أن يكون للرحمن ولد، وهنا: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88] يعني حاشاهم من الشرك، فالمقصود أن هذا التعليق لا يقتضي جواز الحصول وإنما ذكر لبيان حكمٍ وهو أن هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على منزلتهم وشرفهم وقربهم من الله -تبارك وتعالى- واصطفائهم لو وقع منهم الشرك لحبطت عنهم الأعمال الصالحة التي عملوها، فكيف بغيرهم؟ فهو تحذيرٌ من الإشراك.

وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88] تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الآية [سورة الزمر:65] وهذا شرط والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81] وكقوله: لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ [سورة الأنبياء:17] وكقوله: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة الزمر:4].

وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [سورة الأنعام:89] أي: أنعمنا عليه بذلك رحمة للعباد بهم ولطفاً منا بالخليقة.

يقول تعالى: آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [سورة الأنعام:89] المراد بالكتاب هنا جنس الكتاب، وقد أنزل الله منه التوراة والإنجيل والقرآن، وأما الحكم ففسره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- بأنه الفهم بالكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام.

فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء [سورة الأنعام:89] أي: بالنبوة، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على هذه الأشياء الثلاثة الكتاب والحكم والنبوة.

وقوله: هَؤُلاء يعني أهل مكة، قاله ابن عباس -ا- وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد.

السورة كما سبق أنها سورة مكية، فقوله: فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء [سورة الأنعام:89] يعني من مشركي قومك فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89].

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- حمله على هذا المعنى أي فيمن كفر من قومه أصلاً، وقال: ويدخل فيه تبعاً كل من كفر.

فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومليين وكتابيين فقد وكلنا بها قوماً آخرين أي: المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة.

قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا وكلنا بها قوماً أي ألزمنا بالإيمان بها وكلفنا ذلك وحملناهم هذه الرسالة والأمانة والتبعة فقاموا بها خير قيام، وحملوها للناس، ودعوا إليها، ونافحوا عنها، وذبوا عنها غاية الذب، وجاهدوا في سبيل ذلك غاية المجاهدة، وهجروا في ذلك القريب والبعيد من أجل ما يعتقدون، فكان ذلك منهم من القيام بحق هذه النعمة على الوجه المطلوب ومعرفة حقها وقدرها، بخلاف هؤلاء الذين كفروا بها.

وهؤلاء الذين أشار الله إليهم بقوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] قال: هم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، وهذا وجهٌ حسن، وبعضهم يقول هم الأنبياء المذكورون، أي أن قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] يعني إن كفرتم بها أيها المشركون فقد وكلنا بها قوماً وهم هؤلاء الذين عدهم الله -تبارك وتعالى- وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

وبعضهم يقول: هم الملائكة، وهذا في غاية البعد، وبعضهم يقول: هم الصحابة ولا يخص ذلك بالمهاجرين والأنصار وبعضهم يقول: هي في كل مؤمن، وهذا يرجع إلى قول ابن كثير على كل حال حيث قال: هم المهاجرون والأنصار ومن تبعهم إلى يوم القيامة.

وبعضهم يخص ذلك بالأنصار، بمعنى أنه قد كفر بها أهل مكة فآمن بها أهل المدينة من الأوس والخزرج، وانتقل النبي ﷺ إليهم.

ومثل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير من أنها في الأنبياء الذين ذكرهم الله أنه صحيح و يدخل فيه من تبعهم من أهل الإيمان، فيدخل فيه من قام بدين الله  ونصره ودعا إليه وذب عنه، وأولى من يدخل بذلك الوصف هم المهاجرون والأنصار - وأرضاهم- وسائر أهل الإيمان داخلون في ذلك تبعاً، ولابن القيم -رحمه الله- كلام جيد في هذا المعنى لعله يحسن قراءته.

قال ابن القيم -رحمه الله:

"وأيضاً فإن تحت هذه الآية إشارة وبشارة بحفظها وأنه لا ضيعة عليها، وأن هؤلاء وإن ضيعوها ولم يقبلوها فإن لها قوماً غيرهم يقبلونها ويحفظونها ويرعونها ويذبون عنها، فكفر هؤلاء بها لا يضيعها ولا يذهبها ولا يضرها شيئاً، فإن لها أهلاً ومستحقاً سواهم، فتأمل شرف هذا المعنى وجلالته وما تضمنه من تحريض عباده المؤمنين على المبادرة إليها والمسارعة إلى قبولها، وما تحته من تنبيههم على محبته لهم وإيثاره إياهم بهذه النعمة على أعدائهم الكافرين وما تحته من احتقارهم وازدرائهم وعدم المبالاة والاحتفال بهم وإنكم وإن لم تؤمنوا بها فعبادي المؤمنون بها الموكلون بها سواكم كثير، كما قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107-108].

وإذا كان للملك عبيد قد عصوه وخالفوا أمره فنظر إليهم وقال: إن يكفر هؤلاء نعمي ويعصوا أمري ويضيعوا عهدي فإن لي عبيداً سواهم وهم أنتم تطيعون أمري وتحفظون عهدي وتؤدون حقي فإن عبيده المطيعين يجدون في أنفسهم من الفرح والسرور والنشاط وقوة العزيمة ما يكون موجباً لهم المزيد من القيام بحق العبودية والمزيد من كرامة سيدهم ومالكهم، وهذا أمر يشهد به الحس والعيان، وأما توكيلهم بها فهو يتضمن توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها ومراعاتها والذب عنها والنصيحة لها كما يوكل الرجل غيره بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه، وبِهَا الأولى متعلقة بـوَكَّلْنَا [سورة الأنعام:89] وبِهَا الثانية متعلقة بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89]، والباء في بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] لتأكيد النفي، فإن قلت: فهل يصح أن يقال لأحد هؤلاء الموكلين أنه وكيل الله بهذا المعنى كما يقال ولي الله؟ قلت: لا يلزم من إطلاق فعل التوكل المقيد بأمر ما أن يصاغ منه اسم فاعل مطلق كما أنه لا يلزم من إطلاق فعل الاستخلاف المقيد أن يقال: خليفة الله؛ لقوله: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ [سورة الأعراف:129].

وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [سورة النــور:55] فلا يوجب هذا الاستخلاف أن يقال لكل منهم إنه خليفة الله؛ لأنه استخلاف مقيد.

ولما قيل للصديق يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله ﷺ وحسبي ذلك.

ولكن يسوغ أن يقال: هو وكيل بذلك كما قال تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا [سورة الأنعام:89] والمقصود أن هذا التوكيل خاص بمن قام به علماً وعملاً وجهاداً لأعدائها وذباً عنها ونفياً لتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وأيضاً فهو توكيل رحمة وإحسان وتوفيق واختصاص لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجة إليه، ولهذا قال بعض السلف: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا [سورة الأنعام:89] يقول: رزقناها قوماً فلهذا لا يقال لمن رزقها ورحم بها إنه وكيل الله، وهذا بخلاف اشتقاق ولي الله من الموالاة فإنها المحبة والقرب، فكما يقال عبد الله وحبيبه يقال: والله تعالى يوالي عبده إحساناً إليه وجبراً له ورحمة بخلاف المخلوق، فإنه يوالي المخلوق لتعززه به وتكثره بموالاته؛ لذل العبد وحاجته، وأما العزيز الغني فلا يوالي أحداً من ذل ولا حاجة.

قال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [سورة الإسراء:111] فلم ينف الولي نفياً عاماً مطلقاً بل نفى أن يكون له ولي من الذل، وأثبت في موضع آخر أن له أولياء بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وقوله: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة البقرة:257] فهذا موالاة رحمة وإحسان وجبر والموالاة المنفية موالاة حاجة وذلّ.

ولما ذكر سبحانه في سورة الأنعام أعداءه وكفرهم وشركهم وتكذيب رسله ذكر في أثر ذلك شأن خليله إبراهيم وما أراه من ملكوت السماوات والأرض، وما حاج به قومه في إظهار دين الله وتوحيده، ثم ذكر الأنبياء من ذريته وأنه هداهم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، ثم قال: فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] فأخبر أنه سبحانه كما جعل في الأرض من يكفر به ويجحد توحيده ويكذب رسله كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك ويصدق بما كذبوا به ويحفظ من حرماته ما أضاعوه، وبهذا تماسك العالم العلوي والسفلى وإلا فلو اتبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ولخرب العالم، ولهذا جعل سبحانه من أسباب خراب العالم رفع الأسباب الممسكة له من الأرض، وهي كلامه وبيته ودينه والقائمون به، فلا يبقى لتلك الأسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها، ولو كان اسم الحليم أدخل في الأوصاف واسم الصبور في الأفعال..." انتهى.

هذا الكلام في غاية النفاسة ولا تكاد تجد مثله في كتب التفسير، ولذلك نقول: من أراد أن ينمِّي ملكته وأن يوسِّع مداركه في التفسير فينبغي أن يدمن قراءة كلام شيخ الإسلام وكلام ابن القيم، وكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وتفسير ابن جرير الطبري، ولا يستغني عن تفسير ابن كثير –رحمهم الله جميعاً- بل عليه أن يكثر من القراءة في هذه الكتب.

لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] أي: لا يجحدون منها شيئاً، ولا يردون منها حرفاً واحداً بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه وإحسانه.

ثم قال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ: أُوْلَئِكَ [سورة الأنعام:89] يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه الَّذِينَ هَدَى اللّهُ [سورة الأنعام:90] أي: هم أهل الهدى لا غيرهم.

قوله: "مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه" يعني بذلك قوله تعالى: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ [سورة الأنعام:87] فالأشباه أو المتشبهون بغيرهم هم إخوان للمتشبه بهم كما هو أحد المعاني في قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27] حيث قيل: يعني أشباه الشياطين؛ لأنهم تشبهوا بهم في هذا، وكل من سار على سنة غيره واتبعه واقتفى أثره أو اشترك معه في العاقبة فإنه يقال له ذلك، والله أعلم.

فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] أي: اقتدِ واتبع، وإذا كان هذا أمراً للرسول ﷺ فأمته تبعٌ له فيما يشرعه ويأمرهم به.

روى البخاري عند هذه الآية أن مجاهداً سأل ابن عباس -ا- أفي "ص" سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [سورة الأنعام:84] إلى قوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] ثم قال: هو منهم، زاد في رواية عن مجاهد: قلت: لابن عباس فقال: نبيكم ﷺ ممن أمر أن يقتدي بهم[1].

بمعنى أن داود ﷺ سجدها فسجدها النبي ﷺ، فهذا جاء عن النبي ﷺ، فيقال يفعل اتباعاً للنبي -عليه الصلاة والسلام.

وقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] بعض أهل العلم حمل ذلك على عبادة الله وطاعته والاستقامة على دينه وما أشبه ذلك.

وبعضهم يحتج بهذه الآية على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم ينسخ، وهذه المسألة فيها قولان مشهوران لأهل العلم، منهم من يقول: هو شرعٌ لنا ما لم ينسخ، وبعضهم يقول: ليس بشرع لنا إلا ما ورد في شرعنا من موافقته وتقريره مثل سجدة "ص".

والواقع أن هذا يكون من قبيل الاتباع للنبي ﷺ وليس من اتباع شرع من قبلنا، وبناءً على هذا استنبط العلماء أشياء كثيرة مما ورد في قصص الأنبياء، ففي قوله -تبارك وتعالى: خَرَقَهَا [سورة الكهف:71] أي: الخضر، قالوا: يؤخذ منه جواز إفساد البعض لإبقاء واستصلاح الكل أو الباقي.

وفي قوله تعالى في قتل الغلام: فَقَتَلَهُ [سورة الكهف:74] ثم بين ذلك وعلله بأن الغلام له أبوان على الإيمان فقال: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] فهنا هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، بمعنى أن القاضي إذا كان يعرف أن هذا الإنسان سيء وسارق وفاجر فهل يحكم عليه بناء على هذه المعلومات التي عنده أم لابد أن يسمع البينات وكلام الشهود، ثم يحكم بناءً على ما يسمع؟

على كل حال إن جاء في شرعنا ما يوافق شرع من قبلنا فهذا لا إشكال في أنه يعمل به، وإن جاء في شرعنا ما يخالفه فهذا لا إشكال أنه لا يعمل به، لكن يبقى النظر فيما لم يأت في شرعنا ما يوافقه أو يخالفه هل يعمل به أم لا؟

وقوله تعالى: قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [سورة الأنعام:90] أي: لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجراً أي أجرة، ولا أريد منكم شيئاً.

هذا يؤخذ منه أنه إذا كان هذا قاله الله لنبيه ﷺ فكذلك الدعاة من بعده لا يأخذون أجراً على دعوتهم وما يقدمونه للناس، لا مباشرةً ولا بطريقٍ غير مباشر عملاً بقوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ [سورة سبأ:47] فالدعوة تقدم وتبذل للناس مجاناً دون أن يطلب من المدعوين مقابلاً على ذلك، فالداعية إلى الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يكون أمره لله في كل شؤونه، لا ينتظر من الناس شيئاً، ولا يأخذ على دعوته أجراً لا مباشرةً بأن يطلب مقابل على هذا ولا بطريق غير مباشر كأن يكلف الناس أشياء تحتاج إلى نفقات وما أشبه ذلك من أجل أن يتفضل عليهم بدرسٍ أو محاضرةٍ أو دورة أو نحو هذا فهذا لا يليق، وكذلك الأمر أيضاً حينما يذهب معهم في حجٍ أو نحو ذلك لا ينبغي يطلب منهم شيئاً، أو يشترط عليهم شيئاً، وإذا أعطي شيئاً لا يليق به أن يأخذه بحالٍ من الأحوال.

وهكذا أيضاً لا يصلح أن يبيع ما يبذله ويقدمه من محاضرات وأشرطة؛ فذلك يؤدي إلى أن تنطفئ نور الكلمة ويذهب أثرها وتبقى الكلمات ميتة تخرج من فم الإنسان ولا أثر لها ولا نفع -نسأل الله العافية- فالدعوة تبذل للناس مجاناً لا يؤخذ عليها مقابل وإلا فإن هذا يعني نهاية الداعية وذلك بأن يقبر وهو حي، بمعنى أنه يتكلم ويلقي، لكن كلامه لا يجاوز الأسماع ولا يكون فيه بركة ولا نفع مهما تأول في ذلك، نسأل الله العافية.

إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:90] أي: يتذكرون به فيرشدوا من العمى إلى الهدى ومن الغي إلى الرشاد ومن الكفر إلى الإيمان.

وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ۝ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة الأنعام:91-92].

يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم، قال ابن عباس -ا- ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش، وقيل نزلت في طائفة من اليهود قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] كما قال: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ [سورة يونس:2].

قوله: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [سورة الأنعام:91] أي: ما عظموه حق تعظيه؛ لأنهم قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فمن عرف الله حق المعرفة وعرف حكمته وكمال عدله فإنه يحكم بأن الله -تبارك وتعالى- حكيم في غاية الحكمة، وأن مقتضى عدله أن يرسل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأن ينزل الكتب، وهذا أيضاً من كمال رحمته بالخلق.

يقول تعالى: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] من نظر إلى أن السورة مكية وأن السياق السابق كان في المشركين، وأن السورة نزلت جملة واحدة، قال هذه الآية في المشركين من قريش، وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- قاله لهذا السبب، والله تعالى أعلم.

والقول الآخر إنها في اليهود، وهذا يؤيده سبب النزول الذي جاء عن ابن عباس -ا- من طريق ابن أبي طلحة -وقد عرفنا أن هذا الإسناد إسناد جيد- وفيه أن اليهود قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فأنزل الله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ [سورة الأنعام:91] وهذا القول يشكل عليه أن السورة مكية، فكيف تكون نزلت بسبب قول اليهود؟ كما أن القول بأنها نزلت في المشركين يشكل عليه ما ذكر بعده: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] فالذي فعل هذا هم اليهود قطعاً وليس مشركو قريش.

وهذا كله يذكِّر بما ذكرناه في أول السورة أن بعض أهل العلم استثنى بعض الآيات وقال: إنها مدنية نظراً لمثل هذا كما أنه يمكن أن يقال -كما سبق أيضاً- أن الآية قد تنزل مرتين.

وابن جرير -رحمه الله- كان يقرأ بالقراءة الأخرى (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً) فعلى هذه القراءة يكون السياق حكاية عن اليهود هكذا: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس يجعلونه قراطيس يبدونها) وعلى هذه القراءة تكون الآية نازلة في المشركين دون إشكال، لكن قد عرفنا أن تعدد القراءات ينزَّل منزلة تعدد الآيات فإذا كان للآية أكثر من قراءة فهما بمنزلة الآيتين أو الآيات المتعددة.

ولهذا فإن ابن القيم -رحمه الله- في ظاهر كلامه يرى أن هذه الآية في كل من قال ذلك أي قاله المشركون وقاله اليهود فيدخل فيه هؤلاء وهؤلاء.

وأجاب -رحمه الله- عن الإشكال في قوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] بأن هذا من باب الاستطراد، أي أن الله تعالى ذكر هذا لإيضاح قضية حيث استطرد من شيء إلى نظيره وشبيهه وما أشبه ذلك بمعنى أنه قال: إذا كان قوله: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] في المشركين فمعنى ذلك أنه رد عليهم بهذا؛ لأنهم قد لا ينكرون بأن الله أنزل على موسى كتاباً، فالمشركون من قريش يعرفون هذا، فهو احتج عليهم بما يعرفونه وما يسلمون به فقال: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91]، وعلى فرض أنهم لا يؤمنون بهذا أو لا يرفعون له رأساً فالمعنى أنه يقول لهم: أنتم جهلة فاسألوا أهل الكتاب الذين لهم رسوخ في هذا ويعرفون الكتب والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91]؟ ثم استطرد في ذكر اليهود فقال: تجعلونه أيها اليهود قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً.

وقال ابن القيم –رحمه الله: إن هذا الأسلوب من الكلام موجود في القرآن ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ [سورة المؤمنون:12] أي آدم ﷺ فالكلام في هذه الآية عن آدم الذي هو أصل الخلق، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [سورة المؤمنون:13-14] فالمقصود هنا ليس آدم ﷺ وإنما المقصود ذريته، وبمثل ذلك يقال في آية الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً [سورة الأعراف:189-190] فالحديث في البداية عن أصل الخلق آدم –عليه الصلاة والسلام- لكن قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا [سورة الأعراف:190] فهنا بدأ يتحدث عن ذرية آدم وليس المراد آدم نفسه.

ومن أمثلة الاستطراد الذي يشبه هذا قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [سورة الزخرف:9] ثم استطرد في ذكر صفته فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا [سورة الزخرف:10] فكان يسألهم من خلق السماوات والأرض ثم يحتج عليهم بذكر صفة هذا الخالق -- والخلاصة أن الحافظ ابن القيم يرى آية الأنعام يدخل فيها أهل الإشراك ويدخل فيها اليهود.

وكقوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ۝ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94-95] وقال هاهنا: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91].

قال الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91] أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91] أي: ليستضاء بها في كشف المشكلات، ويُهتدى بها من ظلم الشبهات.

هم نفوا نفياً مطلقاً أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً من الوحي إذ قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فـ"شيء" نكرة في سياق النفي، وأُكِّدت بـ"من" التي تنقلها من حيز الظهور في العموم إلى حيز التنصيص الصريح في العموم، وفي باب الجدل والمناظرة يقال: أُبطل هذا الادعاء أو الاحتجاج بما يسمى بالنقض فهم لما قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] نقض الله –تبارك وتعالى- عليهم هذا بقوله: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91]. 

والمعنى أن هذه قضية سالبة أعني قولهم: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فهو نقضها عليهم بقضية موجبة فقال: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91]؟ وبعبارة أخرى يقال: إن قولهم: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] رُدَّ بقوله: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91] فإن نفوه كفروا بكتابهم الذي يؤمنون به، وإن قالوا: إن الذي أنزله هو الله تكون مقولتهم الأولى كاذبة أعني قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء، ولهذا فإن من وجوه الجدل والمناظرة التي وردت في القرآن النقض، ولذلك إذا استطعت أن تثبت شيئاً خلاف ما أنكره الخصم فإنك تكون قد أبطلت قوله ودعواه، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة الأنعام (4356) (ج 4 / ص 1695).

مواد ذات صلة