الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمُتقين، وصلَّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحابته الطيبين الطَّاهرين.
يقول الإمامُ ابنُ جُزي الكلبي:
السَّرابيل كما قال ابنُ جُزي -رحمه الله-، لكن قيّده بعضُ أهل العلم، أو أنَّ بعض أهل العلم ربما ذكر فيه ما يشرحه، فهنا أطلق بأنَّه القميص، فهو القميص من أي جنسٍ كان، وهذا معنى قول مَن قال بأنَّ السَّرابيل هو ما يُلبس من قميصٍ، أو درعٍ، أو نحو ذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى-: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ [إبراهيم:50]، هذه السَّرابيل هي ما يلبسونه في النار، أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها.
وقال الله -تبارك وتعالى-: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ هذه القُمُص ونحو ذلك، وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل:81] هذه الدُّروع.
فما يُلبس من قميصٍ أو درعٍ يُقال له: سربال، وابن جُزي -رحمه الله- فسَّرها بالقُمُص.
"سبأ" يُقال أنَّه رجلٌ يجمع عامَّة قبائل اليمن، يُنسبون إليه. ويُقال أيضًا: ذلك لاسم بلدهم. فتارةً يُعامل على أنَّه اسمٌ لبلدٍ، وتارةً يُعامل على أنَّه اسمٌ للقبيلة، وتارةً يُعامل على أنَّه اسمٌ للجدِّ الذي يُنسبون إليه، ومن ثَمَّ فإنَّ موقعه الإعرابي يختلف بهذه الاعتبارات.
الراغب يقول: أنَّه اسم بلدٍ تفرّق أهلُه، معروفٌ هذا في اليمن؛ ولهذا يُقال: ذهبوا أيادي سبأ[1]، يعني: صار ذلك يُمثّل به، يعني: تفرَّقوا تفرّق أهل هذا الموضع.
الله -تبارك وتعالى- يقول في سياق ذكر خبر سليمان وما جرى له مع الهدهد: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، وقال: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ [سبأ:15]، لاحظ: هنا سبأ لا يُراد به اسم الجدّ، وإنَّما يُراد به القبيلة: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، فهؤلاء الذين يُنسبون إلى هذا الجدِّ، فصارت القبيلةُ تُسمّى بذلك؛ ولهذا قال ابنُ جُزي -رحمه الله- أنَّ "سبأ" قبيلة.
"السّموم" هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى معنى يدلّ على مدخل في الشيء كالثُّقب وغيره، ثم يُشتقّ منه، قد يُشتقّ منه غيره مما يُذاق، فالسّموم: الريح الحارّة؛ لأنَّها تُداخل الأجسام بقوةٍ.
فهذا الذي يُقال فيما يُذاق مثلًا، أو ربما في أصل المادة الذي ذكره ابنُ جُزي: السَّم، والسُّم، يُقال للثُّقب في الشَّيء: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، يعني: ثُقب الإبرة.
والسُّم مُثلث السين: السُّم، والسَّم، والسِّم. يُقال للمعروف الذي يقتل.
ويقول ابنُ فارس: أنَّه سُمّي بذلك لأنَّه يرسُب في الجسم ويُداخله، يعني: ربطها بهذا المعنى؛ المداخلة في الشَّيء، يُرجعه إلى هذا المعنى ويربطه به.
وعلى كل حالٍ، هو يُقال للثُّقب، يُقيده بعضُهم بالثُّقب الضَّيق، ويُقال أيضًا: مسامّ البدن، يعني: منافذ البدن التي ينفذ منها العرقُ وغيره، فهذه مسام.
والسّموم هي الريح الحارّة، وغالبًا ما تكون في النَّهار، قيل: سُمّيت بذلك لأنَّها تنفذ أيضًا في مسامِّ الجسم، أو أنَّها تُؤثر فيه تأثير السُّم؛ فيتأذّى بها، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، هنا من الحرارة: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ [الواقعة:42]، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، السّموم: الريح الحارّة، الهواء الحارّ، فيح جهنّم[2].
"سلام، له ثلاثة معانٍ: التَّحية، والسَّلامة، والقول الحسن، ومنه: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63].
سلام: اسم الله -تعالى-، معناه: ذو السَّلامة من كل نقصٍ، فهو من أسماء التَّنزيه. وقيل: مُسلِّم العباد من المهالك. وقيل: ذو السلام على المؤمنين في الجنة.
سَلَم –بفتحتين-: انقياد وإلقاء باليد، وهو أيضًا بيع.
سَلْم -بفتح السين وإسكان اللَّام-: صُلح ومُهادنة.
سِلْم -بكسر السين وإسكان اللام- ومعناه: الإسلام.
وفي نُسخةٍ خطيَّةٍ الواو هنا زائدة: وإسكان اللَّام، معناه: الإسلام.
وسُلَّم -بضم السين، وفتح اللام، مُشددة-: هو الذي يُصعد فيه.
أسلم يُسلم له ثلاثة معانٍ: الدُّخول في الإسلام، والإخلاص لله، والانقياد، ومنه: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103]".
هذه المادة (السين واللام والميم) التي ترجع إليها جميع هذه الألفاظ التي ذكرها ابنُ جُزي -رحمه الله-، ذكر ابنُ فارس أنَّ مُعظم الباب يرجع إلى معنى الصحة والعافية، وأنَّ ما يشذّ عن ذلك قليل، عامّته يرجع إلى الصحة والعافية[3].
فالسَّلامة أن يسلم الإنسانُ من العاهة والأذى، فالله -تبارك وتعالى- هو السّلام؛ لسلامته مما يلحق المخلوقين من العيب والنَّقص والفناء: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ [يونس:25]، فُسِّر هنا السَّلام بأنَّ المراد به الله -تبارك وتعالى-، وداره هي الجنة: دار السلام، مع أنَّه يحتمل المعنى هنا أن تكون دارُ السلام يعني: دار السلامة من الآفات، ليست فيها آفة.
ومن الباب مما ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-: الإسلام، وهو الانقياد. ما علاقة هذا بالعافية والسَّلامة الذي جعله أصلًا؟
قال: لأنَّه يسلم من الإباء والامتناع، يعني: يُعافى من ذلك، والسَّلام بمعنى: المسالمة.
ومن باب الإصحاب والانقياد: السَّلَم، الذي يُسمّى: السَّلف، بأي اعتبارٍ؟ ما علاقته بأصل المعنى؟
يقول: كأنَّه مال أُسْلِمَ، ولم يُمتنع من بذله أو إعطائه. يعني: هكذا جاء ضبطها، يعني: كأنَّه مال أُسْلِمَ -حتى يتَّضح المعنى-، ولم يُمتنع من إعطائه.
ويمكن أن تكون الحجارةُ سُمّيت: سِلامًا؛ لأنَّها أبعد شيءٍ في الأرض من الفناء والذَّهاب.
سِلام: حجارةٌ من نوعٍ خاصٍّ، أو بصفةٍ خاصَّةٍ، يُقال لها: سِلام؛ لبُعدها عن الفناء، أو لشدّتها وصلابتها[4].
أمَّا السَّليم؛ وهو اللَّديغ، ففي تسميته قولان ذكرهما ابنُ فارس:
الأول: أنَّه أُسلم لما به، يعني: أنَّه في حالٍ من الخطر، وبعد إصابته باللَّدغ أو نحو ذلك مما يطاله من ذوات السموم أُسلم لما به، قيل له: سليم.
والقول الآخر: أنَّهم تفاءلوا بالسَّلامة، وهذا هو المشهور، هذا اللَّديغ يُقال له: سليم تفاؤلًا، كما يُقال للبيداء والصّحراء الـمُهلكة: مفازة؛ تفاؤلًا بقطعها، وهذا معروفٌ وكثيرٌ في كلام العرب، فقد يُسمّون الشيء بأسماء في التَّفاؤل والتَّطير.
والسُّلَّم معروفٌ، ما علاقته بما سبق من السَّلامة والعافية؟
ابن فارس -رحمه الله- يربطه أيضًا بهذا المعنى من السَّلامة، يقول: لأنَّ النازلَ عليه يُرجى له السَّلامة.
والسّلم: الصُّلح؛ لما يحصل به أيضًا من السلامة من الشرور التي تكون بين الناس.
فهذه المعاني التي ربطها ابنُ فارس -رحمه الله- بأصل هذا المعنى الذي يرجع إلى الصحة والعافية والسّلامة ونحو ذلك، يُقال: سَلِم، يسلم، سلامًا، وسلامةً: إذا نجا وخلا من العوارض والموانع، فهو سالمٌ، وهم سالمون: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:43]، يعني: أصحّاء، خالون من العوارض والموانع.
والقلب السَّليم: الخالص من دغل الشِّرك والذنوب: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89]، سلم من الشِّرك والكفر والشَّك، وسلم أيضًا من الغلِّ والحسد وسائر الآفات.
والسِّلم والسَّلم بمعنى: الأمان والنَّجاة وعدم الحرب: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، فُسّر بطريق الأمان والنَّجاة، الـمُتبادر أنَّ المراد به: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: الإسلام، والله يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61]، والمقصود به المسالمة؛ ولهذا يُقال: السّلم: الصُّلح والمهادنة: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:90]، وكذلك يُقال للخضوع والاستسلام: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل:28]، (ألقوا السلم) بمعنى: أنَّهم استسلموا، خضعوا.
وهكذا يُقال: هو سلمٌ له، أي: خالص الملكية له: وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29]، في مقابل ذاك الذي فيه شُركاء مُتشاكسون، فهذا سلمًا للرجل، يعني: لا يشركه فيه أحد.
والسلام -كما سبق- من أسماء الله -تبارك وتعالى- كما في آخر سورة الحشر: السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23]، فهو من أسمائه -تبارك وتعالى-.
وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في "بدائع الفوائد" في معنى (السلام) تفصيلًا طويلًا، فذكر في معنى التَّحية (السلام عليكم) خمسين سؤالًا، وفصَّل في الجواب عنها، تجدونه في المجلد الثاني من صفحة (130) إلى صفحة (197)، يعني: أكثر من (60) صفحة، ذكر فيه تفاصيل مهمة ومُفيدة، أُشير إلى رؤوس منها بعد أن أنتهي من الكلام على فروع هذه المادة.
فالسَّلام يُقال للنَّجاة والأمان من الشُّرور والآفات: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ [هود:48]، (بسلامٍ) يعني: سلامة من الآفات والشُّرور والمخاوف.
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]، ليلة القدر، يعني: أنَّها سالمة، على اختلافٍ في تفسير ذلك؛ فبعضهم يقول: (سلام) هي بمعنى: التَّحية، أنَّ الملائكة تُلقي التَّحية، ويكثر تنزلهم في تلك الليلة.
وبعضهم يقول: (سلامٌ) بمعنى: أنَّه لا يلقى فيها شهاب تلك الليلة.
وبعضهم يقول: أنَّه لا يحصل فيها ولا تنزل فيها الآفات ونحو ذلك. إلى غير هذا مما ذُكر.
وليس المقصود بذلك أنَّه لا تحصل فيها معصية أو جريمة أو منكر، ليس هذا هو المراد: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة:16]، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، (بردًا وسلامًا) من السَّلامة، ومن السَّلام بمعنى: الأمان.
جاءت التَّحية (السلام عليكم)، فإنَّ هذا مما يدخل في المعنى -والله تعالى أعلم-، كأنَّه يُطمئن غيره بالنَّجاة والأمان منه، يعني: لا يصل إلى هذا الـمُسلَّم عليه من قِبَل الـمُسلِّم مكروه، لا يصل إليه شيء يكرهه: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام:54]، وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94]، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33]، وهكذا لما دخلت الملائكةُ على إبراهيم : قَالُوا سَلَامًا [هود:69].
ويأتي أيضًا (السلام) بمعنى: الاستسلام، ودار السلام -كما سبق- هي دار الأمان؛ الجنة: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:127]، ويقول الرجلُ لغيره: بيننا سلام، أو أمري معك سلام، يعني: لا شأنَ لي بك، وأمرنا مُتاركة، العلاقة التي بيننا سلام، يعني: أنت في حالك، وأنا في حالي، فأسلم منك، وتسلم مني. كأنَّه سلام توديع ومُفارقة: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، على اختلافٍ في تقديره وتفسيره.
وهكذا أيضًا يُقال: (سلّم) بمعنى: ألقى السلام، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، هذا المقصود به التَّحية، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، نُسلّم عليه كما علمنا -عليه الصلاة والسلام-: (السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته).
وهكذا أيضًا يُقال: (سلَّم) بمعنى: انقاد وأذعن، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، معناها: الإذعان والانقياد، ويُقال أيضًا: (سلَّمه) بمعنى: نجَّاه، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ [الأنفال:43].
وهكذا يُقال: سلَّم الشَّيء، بمعنى: أوصله، إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، ليس المقصود هنا التَّحية، لكن أصل المعنى الذي ذكره ابنُ فارس يمكن أن تُربط به هذه جميعًا، الذي يُسلّم الشيء معناه: أنَّه يصل من غير نقصٍ، ولا عيبٍ، ولا آفةٍ، واسم المفعول يُقال: مُسلَّم، وهي مُسلَّمة: مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71]، ليس فيها عيوب، ولا نقائص، وقيل غير ذلك.
وهكذا يُقال: أسلم إسلامًا، بمعنى: انقاد، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:83]، يعني: انقاد، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، يعني: الانقياد، انقاد لأبيه، وانقاد لأمر الله -تبارك وتعالى-، فذلك مُضافٌ إليهما: إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-.
تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16]، فُسّر بمعنى: الانقياد، والإسلام هو الانقياد ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، باعتبار أنَّ هؤلاء الأعراب كانوا من المنافقين على قول بعض المفسّرين، لكن يمكن أيضًا أن يكون ذلك بمعنى: انقاد وأخلص ودخل في الإسلام حقيقةً: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20]، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:66]، وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71]، فهذا بمعنى: الانقياد والإخلاص، هكذا فسّره بعضُ أهل العلم.
ويقال أيضًا للدخول في الإسلام: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا [آل عمران:20]، يعني: دخلوا في الإسلام، والإسلام: الانقياد لله -تبارك وتعالى-، ولما جاء به من الشَّرائع والأحكام، هذا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ [آل عمران:19]، فهو الدِّين الذي شرعه: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ [الحجرات:17].
والمسلم كذلك هو الذي انقاد لله -تبارك وتعالى- وأذعن له ولشرعه: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، المسلم مُنقاد ومُذْعِن، فحينما يقول الإنسانُ: أنا مسلم، معناها أنَّه مُستسلم لربِّه -تبارك وتعالى-، لا يُحاد ربّه، ولا يجترئ على معصيته، ويتبجّح بذلك مُدَّعيًا أنه حُرٌّ طليقٌ من كل قيدٍ، يفعل ما يشاء، هذا خلاف حقيقة الإسلام الذي ينتسب إليه ويُعلنه، فإنَّ الإسلام يقتضي الاستسلام لله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب:35]، ويُقال: استسلم بمعنى: طلب السَّلامة، ثم صار الاستسلامُ يُستعمل في معنى: الانقياد والخضوع؛ لأنَّه لازمٌ لطلب السَّلامة: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:26].
وهكذا أيضًا يُقال كما ذكر ابنُ فارس -رحمه الله- في السُّلَّم، يعني: هو الذي يتوصل به إلى الأماكن العالية -كما هو معروف-: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور:38]، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ [الأنعام:35].
هذه جملة من الاستعمالات في هذه المادة، وكما سبق أنَّها ترجع إلى هذا الأصل عند ابن فارس.
فيما يتعلّق بما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أذكر بعض الجمل من كلامه، ويمكن الرجوع إلى ذلك مفصلًا[5]، فهو ذكر في السؤال الأول ما يتصل بحقيقة هذه اللَّفظة (السلام)، وأنَّ ذلك يرجع إلى البراءة والخلاص والنَّجاة من الشَّر والعيوب، فإطلاق السَّلام على الله –تعالى- باعتبار أنَّه من أسمائه، وأنَّه أحقّ بذلك من كل مُسمّى؛ لسلامته من كل عيبٍ ونقصٍ من كل وجهٍ، فهو سالمٌ حقيقةً بكل اعتبارٍ، أمَّا سلامة المخلوق فهي نسبيَّة، فالله سلامٌ في ذاته من كل عيبٍ ونقصٍ، وسلامٌ في صفاته، وسلامٌ في أفعاله، بل هو السَّلام من كل وجهٍ، وبكل اعتبارٍ، فهو الأولى بذلك، سلامٌ من الصَّاحبة والولد، وسلامٌ من النَّظير والكُفء والسَّمي والمماثل، ومن الشَّريك، وغير ذلك من العيوب والنَّقائص.
أمَّا ما يتعلق بالسلام الذي يُقال في التَّحية فذكر فيه قولين:
الأول: أنَّ المعنى: اسم السلام عليكم، إذا قلت لإنسانٍ: السلامُ عليكم، فبعضهم يقول: المقصود بذلك اسم الربِّ -تبارك وتعالى-، وهو السَّلام، والمعنى: نزلت بركةُ اسم الله عليكم، وحلَّت عليكم، ونحو هذا من المعاني: (السلام عليكم) فأنت تذكر هذا الاسم الكريم على مَن تُحييه بالسلام، واختيار هذا الاسم بالذات، يعني: لماذا لم نقل مثلًا: الله عليكم، أو الرحمن عليكم؟ باعتبار أنَّ هذا السلام يحمل معنى السَّلامة، وقد جاء في الحديث: لا تقولوا: السلام على الله، فإنَّ الله هو السلام، ولكن قولوا: السَّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[6].
فنهاهم النبيُّ ﷺ أن يقولوا: السلام على الله؛ لأنَّ السلام هو للـمُسلَّم عليه دعاء له وطلب أن يُسلّم، حينما تقول ذلك لغيرك، والله -تبارك وتعالى- هو المطلوب منه، لا المطلوب له، وهو المدعو، لا المدعو له، فلا يُسلّم عليه، بل هو الـمُسلِّم على عباده، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181]، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:109]، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات:79]، وهكذا في سائر الآيات، ويُسلِّم يوم القيامة على أهل الجنة: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].
فالسلام يكون من الله ، ولا يُسلَّم على الله، يقول هؤلاء: فإذا قال الـمُسلِّم: سلام عليكم، كان معناه: اسم السلام عليكم.
القول الآخر في هذه التَّحية: أنَّ السلام مصدر بمعنى: السَّلامة، وأنَّ ذلك هو المطلوب والمدعو به عند التَّحية، قالوا: بدليل أنَّه يُذكر بلا ألف ولام، فيقول الـمُسلِّم: سلام عليكم، ولو كان الـمُراد: اسم الربِّ -تبارك وتعالى- لم يُستعمل كذلك.
وكذلك يقولون: أنَّ عطف الرحمة والبركة عليه في قوله: (سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته) يدلّ على أنَّ المراد به المصدر، فعطف عليه مصدرين كذلك.
ويقولون: لو كان السلامُ هنا بمعنى: الاسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- لم يستقم الكلام إلا بإضمارٍ وتقديرٍ يكون به مُقيدًا، ويكون المعنى: بركة اسم السلام عليكم، فإنَّ الاسم نفسه ليس عليهم، ولو قلت: اسم الله عليك، كان معناه: بركة هذا الاسم، ونحو ذلك من التَّقدير.
فهؤلاء يقولون: أنَّ هذا التَّقدير خلاف الأصل، يعني: الأصل عدم التَّقدير، وأنَّه لا دليلَ عليه، كذلك يقولون: ليس المقصودُ من السَّلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسَّلامة خبرًا ودعاءً؛ ولهذا كان السلامُ أمانًا لتضمّنه معنى السَّلامة، وأمن كل واحدٍ من الـمُسلَّم والرادِّ عليه من صاحبه.
فهؤلاء يقولون: المقصود به السَّلامة التي هي المصدر، وليس الاسم من أسماء الله -تبارك وتعالى-.
يقولون: حُذِفت تاء السَّلامة؛ لأنَّ المطلوب هذا الجنس -جنس السَّلامة-، لا المرة الواحدة، والتَّاء تُفيد التَّحديد.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن يُقال بمجموع القولين، وأنَّ مع كل قائلٍ حقًّا، وأنَّ مجموعهما هو الأقرب، وذكر أنَّ مَن دعا الله –تعالى- بأسمائه الحُسنى فإنَّ اللائقَ أن يسأله في كل مطلوبٍ، ويتوسل إليه بالاسم الـمُقتضي لحاجته -كما هو معلوم-، كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى في الدُّعاء بها، فيتوسل بهذا الاسم، يقول: فإذا ثبت هذا، فلمَّا كان هذا مقام طلب السَّلامة التي هي أهمّ ما عند هذا الإنسان الـمُسلِّم أتى في لفظها بصيغة اسمٍ من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وهو السلام الذي تُطلب منه السَّلامة، فتضمن لفظ (السلام) معنيين:
الأول: ذكر الربِّ -تبارك وتعالى-.
والثاني: طلب السَّلامة، وهو مقصود الـمُسلِّم.
هذا الذي ذهب إليه الحافظُ ابن القيم –رحمه الله-.
ومما ذكر في هذه المسألة أيضًا: ما يتعلق بالحكمة من تسليم الله -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورُسله، والسلام هو طلب ودعاء، فكيف يصدر ذلك من الله -تبارك وتعالى-؟ إذا قلنا بأنَّ السَّلام هو طلب السَّلامة، فكيف نُوجِّه تسليم الربِّ -تبارك وتعالى- على عباده؟
فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يُجيب عن هذا باعتبار أنَّ الطلب يتضمن أمورًا ثلاثةً: طالبًا، ومطلوبًا، ومطلوبًا منه. وأنَّ حقيقته لا تقوم إلا بهذه الأركان الثلاثة، وأنَّه إذا كان الطالبُ يطلب شيئًا من غيره، كما هو الطَّلب المعروف، مثل: مَن يأمر غيره وينهاه، يستفهم منه، فإنَّ ذلك يكون ظاهرًا في هذا التَّغاير، وأمَّا إذا كان طالبًا من نفسه فهنا يكون الطالبُ هو المطلوب منه، ولم يكن بهذا الاعتبار إلا رُكنان: طالب ومطلوب، والمطلوب منه؟
المطلوب منه هنا هو الطالب نفسه، فيكون مُريدًا من نفسه، يطلب من نفسه، ويقول: هذا أمرٌ معقولٌ يعلمه كلُّ أحدٍ من نفسه، والإنسان قد يأمر نفسه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40].
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم |
وهذا شواهده كثيرة، فإذا كان الإنسانُ يأمر نفسَه، والأمر والنَّهي طلبٌ، مع أنَّ فوقه آمرًا وناهيًا، فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناهٍ أن يطلب من نفسه فعل ما يُحبّه وترك ما يبغضه؟
يقول: إذا عُرِفَ هذا عُرِفَ سرّ سلامه -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله، وأنَّه طلب من نفسه، فهو لا يطلب ذلك من غيره؛ فانتفى الإشكال.
ومما ذكره أيضًا الكلام على الحكمة في اقتران الرحمة والبركة والسلام، ويمكن أن يُراجع هذا؛ لأنَّه لا يتّصل بتفسير السلام نفسه.
وعلى كل حالٍ، ذكر أشياء مُفيدة يمكن أن تُراجع في هذا الموضع الذي أشرتُ إليه.
ابن فارس -رحمه الله- في كتابه الآخر "الـمُجمل" فسّر السَّعي: سعى إذا عدا. وفسّره بالمعنى الآخر الذي هو العمل والكسب[7].
ابن جُزي -رحمه الله- زاد على هذا المعنى الأخير، وهو الإسراع في المشي، أمَّا ما يتعلق بالعمل فإنَّ ذلك يُقال له: سعي، قال الله -تبارك وتعالى-: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]، يعني: عمل في الإفساد، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [الحج:51]، (سعوا) يعني: عملوا، لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15]، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات:22]، يعمل –يعني- في ردِّ ما جاء به موسى، وإبطال هذه الآية التي بهرتهم.
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:33]، كذلك العمل في الإضلال والإفساد بأنواعه، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102] فُسّر بالعمل، يعني: صار في مرحلةٍ من مراحل العمر يستطيع أن يكتسب ويعمل مع أبيه.
أمَّا ما يتعلق بالمشي: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20]، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة:260]، وقوله -تبارك وتعالى-: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، هنا قال: مشى، فجعله منه، أعني: ابن جُزي -رحمه الله-، والأقرب -والله أعلم- أنَّه ليس معنى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ المشي إليها بمجرده، وإنما أحسن ما يُفسّر به -والله أعلم-: العمل على حضورها، كما يقول الحافظُ ابن كثير[8] -رحمه الله-.
وهذا موضع سؤالٍ، وهو: أنَّ النبي ﷺ نهى عن السَّعي الذي هو الإسراع في المشي، وهنا قال: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ما المقصود به؟
العمل على حضورها، وترك الاشتغال عنها، وذكر الله هنا المقصود به: الخطبة والصَّلاة؛ لأنَّه إذا نُودي للصَّلاة من يوم الجمعة، فهذا النِّداء الذي يكون بين يدي الخطيب: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فيشمل ذلك سماع الخطبة، بالإضافة إلى الصَّلاة، فَاسْعَوْا يعني: اعملوا على حضورها، لكن السَّعي الذي هو الإسراع في المشي بعضهم حمل الآية على ذلك، كما فعل ابن جُزي -رحمه الله-.
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20]، هذا بمعنى: الإسراع، مع أنَّ بعضهم فسَّره بالمشي أيضًا، قال: (يسعى) بمعنى: يمشي.
على كل حالٍ، بعضهم يذكر معنيين: المشي، ولم يذكر الإسراع، هذا بالإضافة إلى المعنى الآخر الذي هو العمل.
على كل حالٍ، يُقال أيضًا للإسراع: المسعى؛ باعتبار أنَّه مكانٌ للسعي، المشي بين الجبلين، وحينما نقول: تقبّل اللهُ سعيَكم، يعني: عملكم، شكر الله مساعيكم، يعني: أعمالكم.
هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على خلاف الاضطراب والحركة[9]، فالسَّكن يُقال للأهل الذين يسكنون الدار، والسَّكن أيضًا: كلّ ما سكنت إليه من محبوبٍ. والسّكين؟
السّكين ابن فارس -رحمه الله- يربطها بهذا المعنى، يقول: لأنَّ هذه السّكين تُسكن حركةَ المذبوح.
والسَّكِينة يعني: الوقار، من السُّكون، يعني: الذي يكون كثير الحركة، كثير الاضطراب لا يكون في حالٍ من السَّكِينة، إذا نزلت بالنَّاس مُصيبة فاضطربوا لها فهذا خلاف السَّكِينة، وهكذا في حال الخوف في الحرب ونحو ذلك، فيُقال: سَكَنَ بمعنى: قرَّ وثبت وهدأ بعد حركةٍ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13]، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس:67] من السُّكون، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا [الفرقان:45].
وهكذا يُقال: سكن إليه، يعني: اطمأنَّ إليه ومال إليه: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21]، فالنفس تهدأ وتطمئن لوجود الزَّوجة، هذا أمرٌ يُدركه الإنسان بوجدانه، ويُقال: سكن الدَّار، وسكن بها، وسكن فيها، بمعنى: أقام فيها، يُقال: هذه الدار مسكونة، وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [إبراهيم:45]، اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35]، وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف:161]، بمعنى: الإقامة، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ [القصص:58]، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور:29]، يعني: ليست محلّ إقامةٍ لأحدٍ من الناس، وإن كانت آهلةً.
والفرق بين المسكونة والآهلة ما هو؟ يعني: الآن الأسواق آهلة، أليست كذلك؟ يعني: يوجد فيها ناس، لكن هل الأسواق مسكونة؟
الجواب: لا، فقوله -تبارك وتعالى-: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يعني: من غير استئذانٍ من أهلها، فتدخل فيه البيوت الخرِبة المهجورة، وتدخل فيه البيوت الخالية التي لم تُسكن أصلًا، تحت الإنشاء مثلًا، فيجوز للإنسان أن يدخل من غير استئذانٍ، وتدخل فيه أيضًا البيوت المأهولة، وإذا أراد أن يدخل متجرًا، أو سوقًا، أو يدخل مُستشفى، أو يدخل مؤسسةً من المؤسسات، أو غير ذلك، فإنَّه لا يحتاج إلى استئذانٍ؛ يقف في خارج المبنى ويستأذن: أأدخل؟ يذهب إلى السوق ويقف خارج الباب ويقول: أأدخل؟ ليس ذلك بمطلوبٍ، لكن البيوت المسكونة لا يدخلها إلا باستئذانٍ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، فالاستئناس فسّره الجمهور بالاستئذان، وهو تفسيرٌ له بلازمه، وليس بتفسير مُطابق، وإلا فإنَّ الاستئناس يأتي لمعنيين:
الأول: يُقابل الاستيحاش.
والثاني: الاستئناس بمعنى: الاستعلام.
فلمَّا كان هذا المستأذن يجد شيئًا من الوحشة فإنَّه لا يدري ماذا يُقابل به؟ كذلك أيضًا هو مُستعلم: هل يُؤذن له، أو لا يُؤذن له؟
ففي هذه الحالة كان الاستئذانُ هو المفتاح الذي تزول به الوحشة، ويحصل به أيضًا الاستعلام، ففسَّروه بهذا الاعتبار، وليس ذلك مما يُطابق المعنى.
يقال أيضًا: أسكنه، جعله يقرّ ويثبت ويهدأ بعد حركةٍ: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ [المؤمنون:18]، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ [الشورى:33]، يُقال: أسكنه إسكانًا، جعله يُقيم في الدار والمكان: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:37]، وكذلك في قوله: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم:14]، وهكذا في الأمر: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6].
ويقال أيضًا ذلك للسَّكن باعتبار معنى: السُّكون والطُّمأنينة: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام:96]، تسكن إليه النفوس وتهدأ بعد الانتشار والحركة والتَّقلب في المصالح والمعايش في النهار؛ ولذلك أيضًا يُقال لما تسكن إليه النفس من الأهل ونحو ذلك: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]، فالإنسان يسكن في بيته ويطمئن ويتخفف من ألوان الكُلَف؛ ولهذا شُرع الاستئذان من أجل أن لا يحصل للناس قلقٌ وتوجسٌ وترقبٌ لدخول الدَّاخلين في كل لحظةٍ، فيكون الإنسانُ في بيته على حالٍ من الاسترخاء والراحة ونحو ذلك، تُقال: (السَّكينة) للطُّمأنينة التي تكون في القلب، وفُسّرت بخشوعه وهدوئه ونحو ذلك: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248]، فُسّر بمعانٍ، هذا من أشهرها، وهو ما يتّصل بهذا الموضع الذي نتحدّث عنه مما يجمع معانيه، يعني: فيه ما تسكن له قلوب هؤلاء وتطمئن: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:4]، وهكذا حينما أنزلها الله -تبارك وتعالى- في الحرب: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:26].
وأمَّا المسكنة فتُقال للذلِّ والخضوع: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112]، حتى المسكين والفقير: أسكنه وأخضعه ذُلُّ الفقر؛ ولهذا يُقال: فلان مسكين، فلان مُتمسكن، تمسكن فلان، ونحو ذلك، فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4].
وكل ذلك مما يرجع إلى هذا المعنى في أصله، هذا –يعني- أسكنه ذُلُّ الحاجة والفقر، أمَّا السّكين فسبق ربط ابن فارس -رحمه الله- المعنى فيها: وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف:31].
السَّائغ يُقال ذلك -كما يقول ابن فارس- لمعنى سهولة الشَّيء واستمراره في الحلق خاصَّةً[10]، يعني: أصله في هذا المعنى، ثم يُحمل على ذلك، يُقال: ساغ الشَّراب في الحلق سوغًا، يعني: سهُل مدخلُه في الحلق، فهو سائغ، يُقال: ساغ فلان الطَّعام أو الشّراب يسوغه، أو يسيغه سوغًا، وأساغه أيضًا يُسيغه إساغةً، يعني: استسهل مدخله في حلقه، يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17]، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66] يشربه بسهولةٍ، يستسيغ شربه، وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ [فاطر:12].
فالشراب أحيانًا يكون فيه ما يُكدّره، ومعلومٌ عند العرب في أشربتهم وما كانوا يتعاطونه أنَّ من الشراب ما يعلق بالحلق، يكون أحيانًا في الشَّراب بعض ما يُلابسه ويُخالطه من دُويبةٍ ونحوها، فإذا شرب الإنسانُ أو البهيمةُ فإنَّ ذلك يعلق في حلقه؛ فيجد أذًى من جرَّائه.
هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى معنى يدلُّ على تمام الشَّيء وكماله: (سبغ)، يُقال: أسبغت الأمر، وأسبغ فلانٌ وضوءه[11]، وأسبغ اللهُ عليه نِعَمَه، رجل مُسبغٌ، يعني: عليه درعٌ سابغة، فهذا يُقال في النِّعمة الضَّافية، التَّامة، السَّابغة، وكذلك في الوضوء الذي أسبغه صاحبُه، بمعنى: أتمّه، جاء على وجه التَّمام والكمال، فكلّ ذلك يرجع إلى هذا المعنى، يُقال: سبغ؛ تمَّ، واتَّسع، وطال، هذا يُقال في الدِّرع، مثلًا: الدُّروع السَّابغات التي تُغطِّي اللابس لها بصورةٍ وافيةٍ: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سبأ:11] يعني: دروع سابغات، ويقال أيضًا: أسبغ الثوب، يعني: جعله سابغًا تامًّا، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ [لقمان:20] يعني: أتمّها وأكملها.
الأساطير، أساطير الأوَّلين، هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى معنى يدلّ على اصطفاف الشَّيء: كالكتاب، والشَّجر، وكل شيءٍ اصطفَّ، هذا في أصل المادة، لكن الأساطير هذه –اللَّفظة- يقول: كأنَّها أشياء كُتبت من الباطل، فصار ذلك اسمًا لها، مخصوصًا بها.
يعني: عند ابن فارس -رحمه الله- أنَّ (السين والطاء والراء) ترجع إلى هذا الأصل الذي هو الاصطفاف، السّطر، مثلًا: السّطور، لكن الأساطير عنده كأنَّها تخرج عن هذا الأصل -والله أعلم-، يُقال: سطر فلان علينا؛ إذا جاء بالأباطيل، فلان يُسطر على الناس، يعني: يأتي بمُختلقات ونحو ذلك، واحدها: إسطار، وأسطورة، وإسطارة، وإسطير، وإسطيرة، وأسطور واحد: الأساطير، والمقصود بها الأحاديث التي لا نظامَ لها، أو الأباطيل.
وإذا أردنا أن نُرجع هذا إلى الأصل الذي ذكره ابنُ فارس في مادة (السين والطاء والراء)[12]، فيُقال: ما سطره الأوَّلون، يعني: مما يُقال: سطر الشيء، يسطره، سطرًا، وسطره تسطيرًا، بمعنى: صفَّه، سطره، يسطره، سطرًا: خطَّه وكتبه: وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] يعني: يكتبون، اسم المفعول: مسطور، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء:58].
فالسّطر: الصفّ من الكتابة والشَّجر، وحتى الناس، الصفّ منهم يُقال له ذلك: استطره، سطره، واسم المفعول: مُستطر: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:53]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25].
كما سبق في الأصل الذي ذكره ابنُ فارس في (السين والطاء والراء)، وذكر مما شذَّ عن الباب: الـمُسيطر، وهو المتعهد للشَّيء، المتسلّط عليه[13]، مُسيطر يُقال: تسيطر فلانٌ على كذا، سيطر عليه، إذا أقام عليه قيام سطرٍ، كما يقول الراغبُ الأصفهاني، يقول: لست عليهم بقائم. هكذا فسَّره، يعني: يقول أنَّ استعمال المسيطر هنا كاستعمال القائم في قوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، وحفيظ في قوله: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام:104]، وذكر معنًى نحو هذا، يعني: لست عليهم بحفيظٍ. هنا بعضهم يقول: بقائمٍ. وبعضهم يقول: لست عليهم بحفيظٍ.
فيكون المسيطر كالكاتب في قوله: وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] يعني: يُحصون أعمالهم، ويحفظون ما صدر عنهم، وأنَّ هذه الكتابة هي المذكورة في قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].
ويمكن أن يكون ذلك الكتاب -وهو الأقرب والله أعلم- هو اللوح المحفوظ في هذه الآية، لكن -على كل حالٍ- المعنى الذي ذكره ابنُ جُزي -رحمه الله-: المسيطر يعني: الـمُسلّط، كأنَّه هو المعنى الـمُباشر، يُقال: سيطر على الشيء، يعني: تسلّط عليه؛ ليتعهد أحواله، ويُشرف عليه، فهو مُسيطر.
وصيطر –بالصاد- هي سيطر، بإبدال السين صادًا؛ لأجل الطَّاء بعدها: صيطر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22]، أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ.
السُّندس –بالضم- بعضهم يقول: أنَّه نوعٌ من رقيق الدِّيباج، مُعرّب، يعني: أنَّ أصله ليس بعربيٍّ، بل ذكر الراغبُ أنَّ ذلك بلا خلافٍ، وهذا لا يخلو من إشكالٍ؛ باعتبار أنَّ بعض أهل العلم يُنكر الـمُعرّب من أصله.
تعرفون كما سبق في مناسبات في غير هذه المجالس، أو ربما في المقدّمات الأولى ذكرتُ حاصل كلام أهل العلم في الـمُعرّب، فأمَّا الأسماء الأعجمية -أسماء الأعلام- فهذه تُقال كما هي، وإن كانت العربُ تتصرف فيها بعض التَّصرفات مما يتّفق مع ألسنتها، فإنَّ العرب لا تنطق كما تنطق الأعاجم، فيلوون ألسنتهم بالكلام كما تلوي الأعاجم ألسنتها. فهذا النوع الأول: الأعلام، فأكثر الأعلام الواردة في القرآن ليست عربيةً.
والنوع الثاني: هو التراكيب، الكلام المركّب، فهذا بالإجماع لا يوجد في القرآن، والله -تبارك وتعالى- وصف القرآن بأنَّه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء:195].
والنوع الثالث هو محل الخلاف: وهو الـمُنكّر، مثل: سُندس، ومشكاة، وإستبرق، ونحو ذلك من الألفاظ، فقد جمع بعضُ أهل العلم ذلك في مُصنَّفٍ خاصٍّ، ومن أوسع ما كُتِبَ فيه مما حوى كثيرًا مما ذكره المتقدّمون: كتاب "الـمعرب" للسيوطي -رحمه الله-، وهو مطبوع، زاد على ما ذكره مَن سبقه.
وهذه الألفاظ والكلمات الـمُعرّبة التي يختلفون فيها المقصود بها: الألفاظ المنكّرة، غير أسماء الأعلام:
ما استعملت فيما له جا العرب | بغير ما لُغتهم مُعرّب |
ما كان منه مثل: إسماعيل | ويونس قد جاء في التَّنزيل |
إن كان منه ...[14] |
لكن مثل الأعلام لا إشكالَ، أمَّا في التراكيب فبالإجماع لا يوجد، والشَّافعي نفى هذه، قال: لا يوجد في القرآن من هذا الذي يُقال له: الـمُعرّب، بالنسبة للنوع الآخر الذي هو الـمُنكّر[15]، الذي هو موضع الخلاف، وكذلك نفاه ابنُ جرير -رحمه الله-.
فعلى كل حالٍ، هنا الراغب يقول: أنَّ السُّندس ليس بعربيٍّ في أصله. ويقول: بلا خلافٍ[16]. وهذا لا يخلو من إشكالٍ كما سبق.
وعلى كل حالٍ، يقول ابنُ جُزي عن الإستبرق أنَّه ثياب الحرير، يقول: "سندس وإستبرق ثياب حريرٍ، وقيل: السُّندس -في التَّفريق بينهما-: رقيق الدِّيباج، والإستبرق: صفيقه".
"رقيق الدِّيباج" الحرير المنسوج يتلون ألوانًا، يُقال له ذلك: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان:21]، فهي ثياب من حريرٍ، لكن البعض يُفرّق بينه وبين الإستبرق: بأنَّ الإستبرق غليظ، والسُّندس رقيق، وهذا يدلّ على كمال النِّعمة والتَّرف، فيلبسون رفيع الثياب من رقيق الحرير وغليظه، فكلّ ما ترغبه النفوس تجده في الجنة من ألوان الملاذِّ والنَّعيم، من المأكول، والملبوس، وما إلى ذلك: يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ [الدخان:53]، يلبسون هذه الثياب، ويتقابلون في حالٍ من الراحة والأُنس، فإنَّ المجالس إنما تكمُل وتطيب بمثل هذا.
هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلين:
الأول: البُعْد، السُّحق: البُعْد، سُحْقًا: بُعْدًا، ويُقال للنَّخلة الطَّويلة التي لا تنالها الأيدي: سحوق؛ لبُعد أعلاها عن الأرض.
المعنى الثاني الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-: إنهاك الشَّيء حتى يبلغ به إلى حدِّ البِلَى، سحقت الشيء، السّحق: الثوب البالي، يُقال: سحقه، بمعنى: دقّه وأبلاه، تقول: سحقت الحجر مثلًا، وهكذا، فهو يدلّ على بِلًى[17].
ابن جُزي -رحمه الله- هنا ذكر المعنى الذي يتعلق بالقرآن: بُعْدًا، المكان السَّحيق يعني: البعيد، يُقال: سُحقًا له، يعني: بُعْدًا له، أو أبعده الله بُعْدًا.
هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على اشتعال الشَّيء واتِّقاده وارتفاعه، يُقال: السَّعير، سعير النار، واستعارها: توقّدها. والـمِسعر يُقال للخشب الذي يُسعّر به. والسُّعار: حرّ النار.
ومن هذا الباب: السُّعر، وهو الجنون؛ لأنَّه يستعر في الإنسان، حتى إنَّه ربط بذلك السِّعر؛ سعر الطَّعام، وأسعار الأشياء، يقول: هو من هذا؛ لأنَّه يرتفع ويعلو، فهو يرجع إلى معنى الارتفاع الذي أشار إليه[18].
وعلى كل حالٍ، السَّعير يُقال للموقد، نار سعير، يعني: مُوقدة، مُهيجة، السَّعير: الموقد، الـمُهيج، ويُراد بالسَّعير جهنم -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها-: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4].
والسُّعر جمعٌ للسَّعير: إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر:24]، وفُسّر بالجنون: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر:47]، جمع سعير، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، يعني: النار، وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:55]، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ [التكوير:12] يعني: أُوقدت.
- "المفردات في غريب القرآن" (ص369).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/62).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/90).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/91).
- انظر: "بدائع الفوائد" (2/361).
- أخرجه البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (800).
- انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص461).
- "تفسير ابن كثير" (8/120).
- انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص461).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/116).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/129).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/72-73).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/73).
- "مراقي السعود" (ص142).
- انظر: "الرسالة" للشافعي (1/34).
- انظر: "ما وقع في القرآن بغير لغة العرب" (ص34).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/139).
- انظر: "مقاييس اللغة" (3/75-76).