"حرف الواو:
وَقود النار -بفتح الواو-: ما توقد فيه من الحطب وشبهه. والوُقود –بالضم- المصدر".
هذه المادة فسَّرها ابنُ فارس -رحمه الله- بأنَّها تدلّ على اشتعال نارٍ[1]، يُقال: وقدت النار، تقد، واتّقدت، وتوقدت.
وأمَّا الوقد فنفس النار، يُقال: وقدت النار، وقدًا، ووقودًا، بمعنى: التهبت واشتعلت: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:6] يعني: المشتعلة، ويُطلق الوقود على التهاب النار، الوَقود بالفتح.
لاحظ: الوُقود يعني: الاتّقاد، والالتهاب، والاشتعال. والوَقود المشهور أنَّه يُقال لما توقد به من الحطب وغيره: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، ويُقال أيضًا لالتهاب النار، يعني: يكون بمعنى: الوُقود بالضم، فيأتي لهذا وهذا؛ الوقود لاشتعالها، ولما توقد به: وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] يعني: أنَّها تُوقد بهم.
وقوله: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [البروج:5] فُسّر بهذا، يعني: أنَّها الحطب الذي تُوقد به، وفُسّر بالثاني: التَّوقد، والتَّوهج، لاحظ: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ يعني: التَّوقد، والاشتعال.
والله يقول: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، وقودها يعني: ما تُوقد به، قيل: الأصنام وحجارة الكبريت؛ لأنَّها شديدة الاشتعال، ويُقال: أوقد النار، بمعنى: أشعلها، وأوقد من الشّجر، يعني: استخرج النارَ منه بقدح الزِّناد المتّخذ منه، يعني: من الشجر، يُقال: في كل شجرٍ، لكن ربما يكون ذلك أوفر في بعض الشجر دون بعضٍ، كالمرخ، والعِفار؛ ولهذا يقولون: في كل شجرٍ نار. واستمجد المرخ والعِفار، يعني: أنَّه يفضل غيره في ذلك.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا [يس:80] فُسّر بهذا؛ أنه يكون كالزِّناد، يُقدح به، فتخرج منه النار، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.
ويُقال: أوقد المصباح؛ أشعله ورفع لهبه: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ يعني: المصباح، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35].
وأوقد على الشَّيء: أشعل النار ليُنضجه، أو لغرضٍ آخر: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17]، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ [القصص:38].
وهكذا يُقال: أوقد نار الحرب؛ أثارها، ودبّر أمرها، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة:64]، فالفتن والحروب يُقال لها ذلك، يُقال: نار الفتن، نار الفتنة، نار الحرب.
استوقد النار: أوقدها، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17]، وأيضًا استوقدها: استدعى اشتعالها وطلبه.
فهذا ما ذكره ابنُ جُزي -رحمه الله-: ما توقد به من الحطب ... إلى آخره.
والوُقود بالضم المصدر، يعني: أوقد وقودًا، مصدر.
"وجه، له معنيان: الجارحة، والجهة. ومنه: وِجْهَةٌ [البقرة:148].
وأمَّا وجه الله: ففي قوله: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272] أي: طلب رضاه، وفي قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، قيل: الوجه: الذَّات. وقيل: صفة كاليدين، وهو من المتشابه".
لاحظوا: الآن الوجه يُقال: له معنيان: الجارحة، والجهة. هو يتحدّث عن أصل الكلمة في اللغة.
ابن فارس -رحمه الله- يقول: أنَّ هذه المادة (الواو والجيم والهاء) أصلٌ واحدٌ يدلّ على مُقابلةٍ لشيءٍ، والوجه مُستقبل لكل شيءٍ.
ومن الباب قولهم: هو وجيهٌ، يعني: بيّن الجاه.
والجاه عند ابن فارس -رحمه الله- مقلوب، جاه مقلوب، يعني: الوُجاه.
والوجهة: كل موضعٍ استقبلته، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148].
على كل حالٍ، يُقال: وجه، يعني: كان ذا شرفٍ ومنزلةٍ، والوصف: وجيه، وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:45]، وجهه لكذا، يعني: جعله في ناحيته وصوبه، وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:79]، وجهت الوجه، يعني: هذا الذي ذكره ابنُ جُزي: الوجه، وجّهه: أرسله، أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، ويرجع إلى معنى الوجه، وله تعلّق بالوجه؛ لأنَّه إذا توجّه إلى شيءٍ فقد جعل وجهه تلقاءه، أو قِبله ونحوه، فهذه المعاني مُترابطة كما ترون.
ويُقال: توجّه تلقاء الشَّيء، بمعنى: قصده، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ [القصص:22]، فهو وجّه وجهه إليها، توجّه إليها بمعنى: أنَّه استقبلها وقصدها.
ويُقال: الوجه للجارحة، يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9] فُسّر بهذا، لكن في بعض المواضع لا يحتمل غير هذا: فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي [يوسف:93]، المقصود به الوجه المعروف، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] هو يرفع رأسه، وينظر إلى السَّماء، يترقب نزول الوحي في تحويل القبلة، أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ [يوسف:96]، هذا لا يحتمل غير الوجه المعروف، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا [الذاريات:29]، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [النساء:47]، هذا الوجه الذي سمَّاه هنا بالجارحة، وهذا لا إشكالَ فيه.
ويُقال: الوجه أيضًا لصدر الشَّيء، ويُقال: أدرك وجه الدَّهر، يُقال لأول الشَّيء: أدركت وجه النَّهار، أتاني فلان وجه النَّهار، يعني: أول النَّهار، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ [آل عمران:72] يعني: في أول النَّهار، والوجه: الشَّيء يتوجّه إليه، كالقبلة.
والوجه: المكان المتوجّه إليه، والنَّاحية، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا.
فلو نظرت إلى هذه المعاني فإنها ترتبط بالوجه المعروف، وذلك أنَّه إذا استقبل ناحيةً -كالقبلة أو نحو ذلك- يكون قد وجّه وجهه إليها.
ومن ثَمَّ فإنَّه حينما يُستعمل ذلك في التَّوجه إلى الشَّيء، أو استقبال الشيء، أو قصد الشيء؛ فهذا كلّه يرجع إلى هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
وهكذا حينما يُضاف يقال: وجه الدَّار، أو نحو ذلك؛ فهو ما يستقبلك منها، ويُقال: وجه النَّهار؛ هو ما يستقبلك منه، أول النَّهار، ووجه الإنسان هو الذي يستقبلك منه، فكلّ هذه المعاني ترجع إليه، ولا يُضاف إلى ما ليس كذلك.
وكلام ابن جُزي -رحمه الله- هنا قال: "وأمَّا وجه الله: ففي قوله: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي: طلب رضاه"، هذا تأويلٌ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني: هذا من لوازم المعنى ومُقتضياته؛ أنَّهم يطلبون رضاه، لكن ليس هذا هو معناه: ابتغاء وجه الله، فإنَّ مُقتضى المعنى ولازم المعنى: أنَّهم يطلبون رضاه.
نعم، لكن ليس معنى وجه الله هو الرِّضا، وإنما ذلك من لازم المعنى ومُقتضاه.
يقول: "وفي قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ"، لاحظ: قال: "قيل: الوجه: الذات"، فسّر الوجه بالذَّات، يعني: عنده أنَّه مجازٌ؛ عُبّر بالبعض وأُريد الكلّ، عُبّر بالبعض يعني: أنَّهم لا يُثبتون لله وجهًا يليق بجلاله وعظمته، وإنما يقولون: أنَّ المقصود الذَّات، مع أنَّ بعض أهل العلم نفى في اللغة أصلًا أن يُراد بالوجه الذَّات، وأنَّ ذلك لم يرد لا في اللغة، ولا في كلام الله، ولا في كلام رسوله ﷺ.
يقول: "وقيل: صفة كاليدين"، يعني: أنَّها صفة غير معنوية، الصِّفات المعنوية مثل: العلم، والعظمة، والمجد، ونحو ذلك، والصِّفات الذَّاتية غير المعنوية: كاليد، والوجه، ونحو ذلك.
يقول: "قيل: صفة كاليدين، وهو من المتشابه"، المتشابه هنا لا يقصد به المتشابه في حقيقته وكُنهه، هنا يقصد المتشابه في المعنى، وهذا الذي يذكره في مواضع من هذا الكتاب كما سيأتي، وأشرتُ إليها في المقدّمات في الكلام على عقيدة المؤلف -رحمه الله-، وأنَّه لا يطّرد على عقيدةٍ واحدةٍ.
وقد رأيتُ كلَّ مَن كتب في هذا الكتاب في دراسات ورسائل، وهي كثيرة جدًّا؛ منهم مَن يكتب في منهجه، ومنهم مَن يكتب في أمورٍ أخرى تتعلق بهذا، بل رسائل مُكررة بعنوانها حول هذا الكتاب، رسائل جامعية: ماجستير، ودكتوراه، حينما يتحدّثون عن عقيدة المؤلف يأخذون بعض العبارات التي في مضمونها أنَّ ذلك من قبيل: نُثبته على ظاهره دون التَّعرض له في معناه، ونحو ذلك، يقصد التَّفويض، هو لا يقصد إثبات الصِّفة، وإنما التَّفويض.
فهو يرى أنَّ ذلك من قبيل المتشابه، والواقع أنَّه ليس من المتشابه، كيف تكون أوصاف الله -تبارك وتعالى- التي هي أهمّ الـمُهمات؛ تُعرف الخلق بالخالق، والعبيد بالمعبود، وذلك أجلّ المعارف، وأعظم المعارف، بها يعرفون وحدانيّته، وعظمته، وإلهيته، وربوبيته؛ كيف يكون ذلك من قبيل المتشابه الذي يحتمل الحقَّ والباطل، ولا يظهر معناه؟! هذا لا يكون إطلاقًا.
والله -تبارك وتعالى- أخبر عن هذا القرآن أنَّه أنزله بلسانٍ عربي مُبين، فكيف يُقال: أنَّ أجلّ ما فيه، وأعظم ما فيه، وأشرف ما فيه، وهي صفات المعبود -تبارك وتعالى-؛ أنها من قبيل المتشابه؟!
هذا –للأسف- تقوله طوائف من أهل الكلام وغيرهم، ولكنَّه غير صحيحٍ.
فالوجه صفة حقيقية ثابتة لله -تبارك وتعالى- على الوجه اللَّائق بجلاله وعظمته، وقد جاء التَّصريح بها في نصوصٍ كثيرةٍ من الكتاب والسُّنة: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، لاحظ: ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ لا يمكن أن يُفسّر هنا بالذَّات، وَيَبْقَى وَجْهُ مرفوعٌ هنا، رَبِّكَ مجرور مُضاف إليه: وَجْهُ رَبِّكَ، ما قال: ذي الجلال، لو قال: (ذي الجلال) لكان ذلك يرجع إلى الربِّ، ولكنَّه قال: (ذو)، فهذا يرجع إلى الوجه قطعًا، وهذا مما يُبطل تفسيره بالذات.
وقد ذكر إمامُ الأئمّة ابن خُزيمة -رحمه الله- هذا المعنى، واستدلّ به على أنَّ الوجه هو الصِّفة المعروفة، وليس الذَّات[2].
بينما في القراءة الأخرى: (ذي الجلال والإكرام)، جاء مخفوضًا، فيرجع ذلك إلى الربِّ -تبارك وتعالى-، فهما قراءتان، والقراءتان بمنزلة الآيتين: يعود إلى الوجه، ويعود إلى الربِّ.
لاحظ: فوجهه موصوفٌ بأنَّه ذو جلالٍ وإكرامٍ، وذاته أيضًا موصوفة بأنَّها ذات جلالٍ وإكرامٍ، والله -تبارك وتعالى- يقول: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78]، فـ(ذي الجلال والإكرام) عائدٌ إلى الربِّ؛ لأنَّه مجرورٌ في هذه الآية، لكن لما كان الجلالُ والإكرامُ صفةً للوجه في الآية الأولى قال: ذُو الْجَلَالِ، وَيَبْقَى وَجْهُ: فاعل، رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، فهذا يدلّ على أنه صفةٌ من صفات الله -تبارك وتعالى-، أعني: صفات الذات، ولا يُقال بأنَّ الوجه -وجه الله- هو الله، يعني: ذات الربِّ -تبارك وتعالى-، ولكنَّها الصِّفة المعروفة، وهذا ظاهر في الآية.
وكذلك أيضًا قال الإمامُ البخاري -رحمه الله- في "صحيحه": (باب قول الله : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88])، وذكر تحت هذا الباب حديثَ جابر لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65]، قال النبي ﷺ: أعوذ بوجهك ...[3] إلى آخر الحديث.
وأخرجه مسلمٌ أيضًا في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسولُ الله ﷺ بخمس كلمات، فقال: إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسط ويرفعه، يُرفع إليه عملُ الليل قبل عمل النَّهار، وعمل النَّهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه[4].
لاحظ هنا: سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصرُه، فذكر البصر أيضًا، فدلّ على أنَّ المقصود الوجه الحقيقي.
وكذلك في الحديث الـمُخرج في "الصحيحين": جنتان من فضّة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن[5].
وكذلك في حديث عمَّار بن ياسر في ذكر الدعاء الذي سمعه من النبي ﷺ، وفيه: وأسألك لذَّة النَّظر إلى وجهك[6]، لذَّة النَّظر.
يقول ابنُ خزيمة -رحمه الله-: "ألا يعقل ذوو الحِجا يا طلاب العلم؛ أنَّ النبي ﷺ لا يسأل ربَّه ما لا يجوز كونه؟ ففي مسألة النبي ﷺ ربَّه لذّة النَّظر إلى وجهه أبين البيان وأوضح الوضوح أنَّ لله وجهًا يتلذذ بالنَّظر إليه مَنْ مَنَّ اللهُ عليه وتفضّل بالنَّظر إلى وجهه"[7].
وقد أبطل الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- القولَ بأنَّ الوجه الوارد في مثل هذه النُّصوص مجاز -يعني: يُقصد به الذَّات- من ستة وعشرين وجهًا، وكان في جُملة ما ذكر: "أنَّ المجاز لا يمتنع نفيه، فكيف يُقال مثلًا: ليس لله وجهٌ، والله يُثبت ذلك؟! وأنَّ هذا خروجٌ عن الأصل والظَّاهر بغير مُوجِبٍ"[8]، وأنَّه "لا يُعرف في لغةٍ من لغات العرب"، هذا كلام ابن القيم: "لغات"، بل يقول: "ولا لغات الأمم وجه الشَّيء بمعنى: الذات والنفس".
لاحظوا: يُنكر هنا تفسير الوجه بالذَّات أصلًا، يقول: "ولا في لغات الأمم"، وأيضًا يقول: "أنَّ الوجه ورد مُضافًا إلى الذات في جميع موارده، والمضاف إلى الربِّ نوعان: أعيان قائمة بنفسها: كبيت الله، وناقة الله، فهذه إضافة تشريفٍ، إضافة مخلوقٍ إلى خالقه، مملوكٍ إلى مالكه. والثاني: صفات لا تقوم بنفسها: كعلم الله، وسمعه، وبصره، فهذه إذا وردت مُضافةً إليه فهي صفةٌ إلى الموصوف بها"[9]، فإذا أُضيف الوجه إلى الله -تبارك وتعالى- فهذا من باب إضافة الصِّفة.
تبقى بعضُ الآيات التي تحتمل: هل هي من الصِّفات، أو لا؟
يعني: كقوله -تبارك وتعالى-: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فهذه الآية اختلف فيها أهلُ العلم من أهل السُّنة: هل هي من آيات الصِّفات، أو لا؟ لكنَّهم يتَّفقون على إثبات صفة الوجه بالنصوص الأخرى، هذا هو الفرق، يعني: غاية ما هنالك أنَّ الـمُخالِف يعدّ ذلك من قبيل الخطأ في التَّفسير فقط، لكن المشكلة حينما تُنفى الصِّفة من أصلها في جميع النصوص، تأوّل هذا هو الإشكال والانحراف.
فهذه الآية اختلفوا فيها على قولين:
الأول: أنَّها من آيات الصِّفات، وأنها تُثبت لله صفةَ الوجه. وهذا ذهب إليه جمعٌ من المتقدمين والمتأخّرين من أهل السُّنة: كالإمام عثمان بن سعيد الدَّارمي، وابن جرير الطَّبري، والحافظ ابن القيم[10]، ومن المتأخّرين الشيخ عبدالرحمن السّعدي[11] -رحمه الله-، واستدلّوا على هذا بأدلةٍ كثيرةٍ.
والقول الآخر: أنَّ الوجه ثابتٌ لله على ما يليق بجلاله وعظمته، لكن هذه الآية ليست من آيات الصِّفات. وهذا الذي ذهب إليه شيخُ الإسلام ابن تيمية[12] -رحمه الله-.
ولاحظوا: أنَّ تلميذه ابن القيم -رحمه الله- يُخالفه في هذا الموضع بقوةٍ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
هم لا يُؤوّلون الآية، لكن الكلام في تفسيرها، وإلا فإثبات صفة الوجه متّفقٌ عليه عند هؤلاء العلماء -رحمهم الله-، فالآية تحتمل المعنيين احتمالًا مُتقاربًا، ولكلٍّ من المعنيين قرينة تدلّ عليه، أو أكثر، لو أردنا أن نُلخّص هذه النِّقاط، فتفسير ذلك بالجهة، أو القبلة، مع أنَّ شيخ الإسلام يُنكر تفسيره بالقبلة، ويقول: لا يُعرف في كلام العرب الوجه بمعنى: القبلة.
والواقع أنَّ الذين قالوا: القبلة، قصدوا الجهة، لكن لما كانت الجهةُ التي تُستقبل في الصَّلاة هي القبلة عبَّروا بها، فلا إشكالَ في هذا، وهذا التَّعبير جاء عن بعض العُلماء من أهل السُّنة، بل جاء عن بعض السَّلف، فهذا كلّه يرجع إلى شيءٍ واحدٍ؛ وذلك أنَّ الجهة التي أُمِرَ بالتَّوجه إليها، سواء كانت استقبال الكعبة، أو حيثما توجّهت به راحلته؛ صلَّى على الراحلة في السَّفر التَّطوع، أو حيث أدَّاه اجتهاده إذا اجتهد، ولو أخطأ؛ فكلّ ذلك هو المشروع في حقِّه، فهي القبلة التي أُمِر المصلي باستقبالها.
لاحظ: المعنى الآن: الوجه: القبلة، الجهة: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ بمعنى: الجهة.
فهنا يقول شيخُ الإسلام -رحمه الله-: أنَّ ذلك مُفسّر بالجهة، وعزاه لجمهور السَّلف، يعني: أنها ليست من آيات الصِّفات أصلًا.
وفي المقابل فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: أنَّ المقصود بها الصِّفة، وأنَّ ذلك قول عامّة أهل الإثبات.
لاحظ: هذا الكلام لا مدخلَ له في التَّأويل، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: لا يوجد نصٌّ واحدٌ عن السلف في تأويل شيءٍ من صفات الله ، وأمهل المخالفين ثلاث سنين في هذا، ولما أوردوا عليه قالوا: يوجد كذا، ذكر لهم الآية: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، قال: المقصود به الجهة، وأنَّ هذه ليست من آيات الصِّفات أصلًا.
وعلى كل حالٍ، الـمُتبادر -والله أعلم- من هذه الآية: أنَّ المقصود بها الوجه، وهذا هو الاستعمال المتكرر في القرآن، يعني: الصِّفة والمعنى، أو بين المعنيين نوع ارتباطٍ لمن تأمّل، والله تعالى أعلم.
فالقول الآخر: أنها الجهة، قد يُفهم من السياق، لكن الـمُراجعات كون ذلك من آيات الصِّفات أكثر، فلو قيل: أنَّ الآية تدلّ على إثبات صفة الوجه، وأنَّ النبي ﷺ أخبر أنَّ المصلِّي حينما يستقبل القبلة فالله -تبارك وتعالى- يكون قِبَل وجهه؛ ولذلك نهاه أن يبصُق جهة القبلة[13]، فهو مأمورٌ بالتَّوجه إلى الجهة التي شرعها الله -تبارك وتعالى-، وهذه الجهة ما هي؟
هي القبلة، حيث يكون قِبَل وجه الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا نكون قد جمعنا بين القولين.
هذه خُلاصة حاولت أن أُقرب بها هذا المعنى، وأربط بين القولين المذكورين في الآية بهذه الطَّريقة، يعني: يمكن أن نُعبّر بمثل هذا التَّعبير، وأن نُلخّصه بهذه العبارة -والله أعلم-، هذا ما يتعلق بهذه الصِّفة.
مُداخلة: قول الله تعالى: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]، أليست هذه الآية أيضًا مما اختُلف فيه؟ هل هي من آيات الصِّفات؟
الشيخ: كيف؟
الطالب: قوله –تعالى-: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أليس مُختلف فيها: كونها من آيات الصِّفات، أم لا؟
الشيخ: لا أعلم هذا، ولكن الكلام في قوله أيضًا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، ما المراد بذلك؟ هل هي من آيات الصِّفات، أو لا؟
يعني: إلا ما ابتُغِيَ به ما عند الله -تبارك وتعالى-، يعني: ما بُذل في هذا السَّبيل: إِلَّا وَجْهَهُ يعني: فيما تُوجّه به إلى الله -تبارك وتعالى-، وعُمِل طلبًا لمرضاته، ونحو ذلك في هذه الآية، فهناك مَن قال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني: ما طُلِبَ به ما عند الله .
والراجح أنَّها من آيات الصِّفات، والله أعلم.
الطالب: قوله يا شيخنا: "الوجه: الذات"، هذا يُعدّ تأويلًا؟
الشيخ: هذا تأويلٌ.
الطالب: أم تحريف؟
الشيخ: التَّأويل هو تحريف، تأويلهم هذا يُعتبر من قبيل التَّحريف، التَّأويل -كما يقول الأصوليون- على ثلاثة أنواع:
تأويل سائغ، الذي يُسمّونه: التأويل القريب؛ صرف الكلام من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح؛ لقرينةٍ، لدليلٍ.
والثاني: هو التَّأويل البعيد.
والثالث: هو الذي قال عنه صاحب "المراقي": "فلعبًا يُفيد"[14]، يعني: أنَّه من قبيل العبث، كقولهم مثلًا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، قالوا: عائشة -رضي الله عنها-. إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] علي وفاطمة -رضي الله عنهما-. فهذا لعبٌ، هذا عبثٌ، هذا لا يقوم على أساسٍ أصلًا، ولا تدلّ عليه اللغة.
وكذلك قول بعض الصوفية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالوا: هي النَّفس تُذْبَح بسكين الطَّاعة. فهذا عبثٌ وتحريفٌ للكَلِم عن مواضعه.
هذه المادة يقول ابنُ فارس أنها تدلّ على ترجية بقول الوعد، يُقال: وعدته، أعده، وعدًا، ويكون ذلك بخيرٍ وشرٍّ[15].
لاحظ: ابن فارس يقول: يكون بخيرٍ وشرٍّ، وعد، وعدته، أعده، وعدًا.
فأمَّا الوعيد فلا يكون إلا بشرٍّ، ويقولون: أوعدته بكذا، والمواعدة من الميعاد، والعِدَة: الوعد، وجمعها: عدات، والوعد لا يُجمع.
هذا كلام ابن فارس -رحمه الله-، وأرض واعدة: إذا رُجِيَ خيرها من المطر والإعشاب، ويوم واعد، يعني: أنَّ أوله يعد بحرٍّ أو بردٍ. الناس يستعملون هذا، يُقال: هذا -مثلًا- مشروع واعد، يعني: يعد بخيرٍ، بنجاحٍ، إن كان مشروعًا تجاريًّا أن يكون ناجحًا، مُربحًا، ونحو ذلك، وهكذا، يُقال: فلان له مُستقبل واعد، يعني: يعد بخيرٍ؛ بنبوغٍ، ونحو ذلك.
على كل حالٍ، هذه المادة: الوعد، يقال: وعده، يعده، هي بمعنى: كأنَّه أخبره أنَّه سيحدث له هذا الشيء من خيرٍ، أو شرٍّ، وعد: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم:22]، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ [آل عمران:194]، أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44]، أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ [القصص:61]، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ [الزخرف:42]، وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يونس:46]، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268].
ويُقال: أوعده بكذا من الشَّر، يعني: أخبره أنَّه سينزل به، ويُقال: أوعدته ما يسوؤه: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف:86]، ويُقال: وعده الشَّيء، يعني: وعده إياه: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى [البقرة:51]، وغالبًا يكون ذلك بين اثنين، لكن الـمُفاعلة لا يلزم في كل المواضع أن تكون بين اثنين.
بعضهم يقول: لا تقل: مُلاحظة، قل: ملحوظة؛ لأنَّ ذلك من قِبَل النَّفس، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين.
وهذا ليس بدقيقٍ؛ لأنَّ المفاعلة تكون أيضًا من قِبَل طرفٍ واحدٍ، وهذا له أمثلة: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142]، وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ [طه:80]، وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235].
المواعدة تكون أيضًا غالبًا بمُواطأة بين الطَّرفين، مواطأة، كأنَّه تراضٍ على ذلك بينهما، وتواعد الرجلان، أو الفريقان، يعني: وعد أحدُهما الآخر، وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42].
وأمَّا الوعيد والوعد بالشَّر: التَّهديد به، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ [طه:113]، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
والموعد هو الوعد، والزمن الذي يأتي فيه الشيء الموعود، وكذا المكان الذي يأتي فيه ما وعد: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58]، (موعد) هذا زماني، يعني: وقت مجيء الشَّيء، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف:48] الوقت، وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:59] هذا أيضًا للزمان، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طه:87]، لكن قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه:59] أيضًا كذلك هو في الزماني.
هذا ما يتعلق بهذه المادة.
"ودّ، يودّ، له معنيان: من المودّة والمحبّة، وبمعنى: تمنّى، نحو: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
والوُدُّ -بالضمِّ- المحبّة، وودًّا اسم صنمٍ؛ بضم الواو وفتحها، ودود: اسم الله تعالى، أي: مُحبّ لأوليائه، وقيل: محبوب".
فهذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى معنى المحبّة، ويُقال: وددته، يعني: أحببتُه، ووددت أن كان كذا، يعني: تمنيتُ، وفي المحبّة: الوُدّ: التَّمني، الوِدادة في التَّمني[16].
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ ذلك يرجع إلى معنى المحبّة، يعني: الودّ، والوِدّ بمعنى: المحبّة، أو التَّمني، هذا الذي يتمنى هو في الواقع مُحبّ لوقوع هذا الشَّيء وحصوله، لكنه فيما يُستبعد حصوله يُقال له: تمنٍّ: (ألا ليت الشَّباب يعود يومًا)، أو يكون مُحالًا في مجاري العادات مثلًا، فيكون ذلك من قبيل التَّمني، يعني: محبّة وقوع الشَّيء بعيد الوقوع، أو من المستحيل يُقال له: التَّمني، تمنى الإنسان أن يطير بجناحين، أو يتمنى الشيخ الكبير أن يعود له الشَّباب، أو نحو هذا، فهذا تمنٍّ، لكنه يرجع إلى معنى المحبّة، فهو يُحبّ وقوع هذا الشيء، ويُقال: ودّه، وِدًّا، ووَدًّا، ومودةً، ودّ فلانًا، أحبّه، والفاعل يُقال له: وادّ، والـمُبالغة: ودود.
سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ [النساء:73]، يُقال: ودّ الشيء، تمنّى كونه، وأحبّ وقوعه، يُقال: وددت كذا، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:109] يعني: يتمنون، وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69]، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ [البقرة:96]، كل هذا بمعنى: يُحبّ، وادّه يوادّه بمعنى: أحبّه، مال إليه، ألفه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] المحبّة، والميل القلبي الذي يقتضي إيثاره على غيره، وتقديمه على غيره، ونُصرته، ونحو ذلك، فهذا كلّه داخلٌ فيه.
يقول: "ودًّا اسم صنمٍ، بضم الواو وفتحها"، أمَّا الودود فيقول: "اسم الله تعالى، أي: مُحبٌّ لأوليائه، وقيل: محبوب"، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]، مُحبّ، ومحبوب، وهما قولان للسَّلف؛ بعضهم فسّره بالـمُحبِّ، وبعضهم فسّره بالمحبوب، مع أنَّهم جميعًا يُثبتون أنَّ الله يُحِبّ، وأنَّ الله يُحَبّ؛ خلافًا لطوائف من أهل البدع، الذين يقولون: لا يُحبّ. ويُفسّرون المحبّة بالإكرام، أو إرادة الإحسان، أو نحو ذلك، فهذا تأويلٌ، تحريفٌ.
وبعضهم -نسأل الله العافية- يقولون: لا يُحِبّ، ولا يُحَبّ. وهؤلاء لا أعرف كيف يعبدون ربهم؟!
هذا الاسم لله -تبارك وتعالى-: الودود، فسّره ابنُ جرير -رحمه الله- بذي محبّةٍ لمن أناب وتاب إليه، قال: يودّه، ويُحبّه، ذو محبَّةٍ، يعني: هو الذي يُحبّ، ودود يعني: مُحبٌّ لأوليائه.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر القولين: أنَّه ودود بمعنى: فاعل، الذي يُحبّ أولياءه، ويُحبّ أنبياءه ورسله، وعباده المؤمنين. والثاني: أنَّه بمعنى: مفعول؛ مودود، وهو المحبوب الذي يستحقّ أن يُحبّ[17].
وقال في "النونية":
وهو الودود يُحبّهم ويُحبّه | أحبابه والفضل للمنانِ |
وهو الذي جعل المحبّة في قلو | بهم وجازاهم بحبٍّ ثانِ[18] |
إلى آخر ما قال. وهكذا الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- يقول: "هو الـمُحبّ المحبوب، بمعنى: واد، ومودود"[19]، وهذا هو الأحسن في تفسيره؛ أن يُحمل على المعنيين، ولا مانع من ذلك.
والبُخاري -رحمه الله- فسّره بمعنى: المودود، قال: الودود: الحبيب[20].
وابن القيم -رحمه الله- مع أنَّه ذكر المعنيين، لكنَّه في بعض المواضع من كتبه قال: أنَّ الأول أظهر، الذي هو أنَّه مُحبّ[21]، لماذا؟
قال: لاقترانه بالغفور، قال: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، وبالرحيم في قوله: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ، فكلّ ذلك صادرٌ عن الله، أنَّه صفة له: رحيم، وكذلك غفور.
يقول: "فالودّ أصفى الحُبّ وألطفه"، هذا الفرق بين المودّة والمحبّة، يعني: المحبّة على مراتب، كما أنَّ الخوف على درجات، والبُغض والكراهية على درجات، فالود: هو أصفى الحُبّ.
وفي موضعٍ آخر يقول: "الودود: هو المتودد إلى عباده بنعمه، الذي يودّ مَن تاب إليه، وأقبل عليه، وهو الودود أيضًا أي: المحبوب"، وذكر قول البخاري أنَّه الحبيب، قال: "والتَّحقيق أنَّ اللفظ يدلّ على الأمرين: على كونه وادًّا لأوليائه، ومودودًا لهم، فأحدهما بالوضع، والآخر باللزوم، فهو الحبيب الـمُحبّ لأوليائه، يُحبّهم ويُحبّونه، ودود، أحدهما بالوضع، والآخر باللزوم"[22].
هذا الذي ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، ولعله يكفي في تفسير هذا الاسم الكريم.
هذه المادة: (ويل) يقول: "كلمة شرٍّ، وقيل: إنَّ الويل وادٍ في جهنم"، هذان قولان مشهوران، وتفسير ذلك بأنَّه وادٍ في جهنم هو اختيار ابن جرير -رحمه الله-: أنَّه وادٍ في جهنم[23] وقد جاء ذلك في بعض الروايات، لكن المشهور الذي عليه عامَّة أهل العلم هو أنَّ الويل كلمة عذابٍ، ودعاء بالشَّر، تُقال لمن يستحقّ الهلكة؛ لسوء فعله. وهذا الذي قال به ابنُ عباس -رضي الله عنهما-، واختاره الحافظ ابن كثير[24]، ومن المعاصرين: الشَّنقيطي، والشيخ عبدالرحمن بن سعدي: أنها كلمة عذاب[25]، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1]، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1].
والويلة كلمة تفجُّع، تُنْبِئ عن التَّحسّر لضرٍّ نزل: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [المائدة:31]، يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ [الكهف:49]، وهكذا حينما يقول الإنسان: يا ويلي، ونحو هذا، فهي كلمة تدلّ على التَّحسر والتَّفجّع، وهي ترجع إلى المعنى المشهور الذي ذكروه، أنا لا أقصد الوادي الذي في النار، لكن المعنى: كلمة عذاب، أو نحو ذلك، فهذا كأنَّه يقول لشدّة ما نزل به، ويُكابد، ويُعاني من الألم، هو يقول: يا ويلي، ونحو ذلك، وهكذا يُقال لمن يتوعد بالشَّر: ويلك، يا ويلك، ونحو هذا.
هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى معنى: سقوط الشيء، ووقوع الشيء، ثم تتفرع عن ذلك استعمالات ومعانٍ، قال: "وجب البيع، بمعنى: حقَّ ووقع، وجب الميت: سقط"[26]، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا، فهذا معنى الوجوب، يعني: يقول هنا ابن جُزي: من وجوب الحقِّ، وبمعنى: سقط الكلام.
الأصوليون في الواجب يذكرون هذه المعاني، ووجب الشَّيء بمعنى: ثبت، والوجوب هو السُّقوط؛ ولذلك لما سمع النبي ﷺ وجبةً، يعني: صوتَ سقوط الشَّيء، صوت وقوع الشيء، أو سقوط الشيء، فهنا هذه تدلّ على سقوط الشَّيء ووقوعه، فكأنَّ هذا الذي وجب ثبت، كأنَّه قد نزل وسقط، أو نحو ذلك، ثبوتًا مُتحققًا.
فالواجب بمعنى: الثابت مثلًا بهذا الاعتبار، وَجَبَتْ جُنُوبُهَا سقطت، ثبتت على الأرض، فذلك كأنَّه يرجع إلى شيءٍ واحدٍ، والله أعلم.
هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى معنًى يدلّ على العدل: أنها تدلّ على العدل، ونحوه، نصف، يُقال: أعدل الشَّيء، أوسطه، ووسطه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني: عدولًا، خيارًا، وهو أوسطهم حسبًا، إذا كان في واسطة قومه أرفعهم محلًّا[27]، ونحو ذلك.
فهنا يُقال: وسط الشيء، وسطه، يسطه، وسطًا، وسِطة، يعني: كان بين طرفيه. هذا المعنى الذي أشار إليه ابنُ جُزي -رحمه الله- بين الطرفين، تقول: وسطت الطريق، وسطت القوم: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:4-5]، فهذا يكون في الأمور الحسيّة، وكذلك يكون في الأمور المعنويّة.
الأوسط: اسم تفضيلٍ من وسط، أُنثاه: الوسطى، قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم:28]، هنا الأوسط قد يكون في السنِّ، وقد يكون الأعدل؛ أخيرهم، أعقلهم، ونحو ذلك.
فالأوسط يأتي بمعنى: الأقرب إلى الاعتدال، والقصد، والأبعد عن الغلو في الجودة، والرداءة، ونحوها.
لاحظ: هذا بين طرفين في الأمور المعنوية: الوسط، مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، الآن في الكفَّارة ما الذي يُخرج؟
بعض الناس يحرص على أن يُخرج الكفَّارة في بلادٍ فقيرةٍ، من أجل ماذا؟
من أجل أنَّ الطعام هناك رخيص، فإذا كانت قيمةُ الطعام هنا لعشرة مساكين مئة ريال مثلًا، يمكن أن يُخرج ذلك في تلك البلاد بعشرين ريالًا، فيقول: أنا عليَّ عشر كفارات، يمكن أن أُخرج ذلك بمئتي ريال، بدلًا من ألفٍ هنا. وهذا غير صحيحٍ؛ لأنَّ الله قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، فما هو الذي يُطعم أهله هنا بعشرين ريالًا؟!
كذلك أيضًا بعض الناس يبحث عن الأقلّ جودة، يعني: هنا يُخرج مثلًا من القوت، يريد أن يُخرج في الكفَّارة مثلًا الأرز، أو التمر، أو نحو هذا، فيبحث عن أرخص ما يجد في السوق مما لا يأكله هو، والله قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، أوسط فُسّر بالأفضل، وفُسّر بالأعدل، يعني: ليس الأجود البالغ الجودة، ولا الأقل جودة.
وهذا كما يُقال في الكفَّارات يُقال أيضًا في غيرها، فيما يُخرجه الإنسان في الزكاة، فإنَّه لا يُخرج الرديء، ولا يُخرج كذلك الأجود مما يملك إلا إذا طابت به نفسه، لكن الذي يأتي ويأخذ الزكاة من الناس من العاملين عليها لا يأخذ خيار الأموال؛ فيكون قد ظلمهم، إلا إذا طابت نفوسهم بهذا.
وكذلك أيضًا بما يكون في زكاة الفطر ونحوها؛ لا يبحث عن أرخص أنواع الأرز ويشتريه، وإنما يُخرج الأعدل، إمَّا أن يُخرج الأفضل، وإمَّا أن يُخرج المتوسط: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، والله تعالى أعلم.
والوسطى تأتي بمعنى: الواقعة بين شيئين، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فهي وسطٌ بين هذه الصَّلوات؛ لاحظ: بين صلاتي الصبح والظُّهر، والمغرب والعشاء، هذا باعتبار أنَّها وسطٌ بينها، أو بمعنى: الفُضلى؛ أنها أفضل هذه الصَّلوات، والوسط للشَّيء: ما بين الطرفين -كما سبق-.
ويُستعمل الوسط أيضًا في الفضائل إذا كانت وسطًا بين الرذائل، يعني: الكرم –مثلًا- وسطٌ بين البُخل والتَّبذير، الشَّجاعة وسطٌ بين التَّهور والجُبن، ثم جُعِل الوسط وصفًا للمُتَّصف بالفضائل، فصار معناه: الخيّر الفاضل، من شأن هذا أن يكون عدلًا في قضائه وشهادته: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، والله أعلم.
حينما يُفسّر بهذا المعنى: أنَّ الوسط هو ما يكون محمودًا في الأمور المعنوية، فالمقصود به الذي يكون في حالٍ من الخيرية والاعتدال، ونحو هذا؛ ولذلك مسألة التَّوسط، والوسطية، ونحو ذلك، الكل يدَّعي أنَّه وسط.
ولا يُطلب أن يكون الإنسانُ دائمًا وسطًا، يعني: بين الطرفين مطلقًا في كل حالاته، يعني: بعض الناس يرى حالًا من انحرافين، فيُريد أن يكون وسطًا بينهما، كما يُقال: يُمسِك العصى من الوسط، فيكون أيضًا على حالٍ غير مرضيّة، وإنما يكون ذلك باتِّباع الحقِّ ولزومه.
فالذين يقولون مثلًا: أنَّ المرأة كالرجل تمامًا، والذين يقولون: أنَّ المرأة ليست كالرجل، وإنما فاوت اللهُ بينهما في أمورٍ: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، وشهادة المرأتين بشهادة رجلٍ، ونحو ذلك. فلو أراد أحدٌ أن يتوسط بين هذا وهذا؛ فإنَّه يكون مُنحرفًا.
فليس دائمًا كون الإنسان بين الطَّرفين معنى ذلك أنَّه على الحقِّ، وإنما يلزم الحقّ، ويتبعه مطلقًا.
يُقال: إنَّ أصل دين السّيخ ...، والسّيخ هؤلاء من أشدّ الناس عداوةً للمسلمين وأذًى لهم في القارة الهنديّة، حقدهم مُنقطع النَّظير، وقد قتلوا في المسلمين، وأعملوا فيهم الجرائم؛ كقتل الأطفال، ومَن نظر وتصفح في الشَّبكة وجد من الصور أمورًا مُؤلمةً، هؤلاء يُقال: إنَّ أصل ديانتهم: أنَّ رجلًا من الهندوس كان يعمل عند تاجرٍ مسلمٍ، فأُعجب بأخلاقه وأمانته، وأحبّه محبةً شديدةً، فكان ينزع إلى دينه، وأيضًا يجذبه دينُ قومه، وما هم عليه، فهو مُتردد بين هؤلاء وهؤلاء، ويُؤلمه ما يقع بين المسلمين والهندوس من المذابح، فأراد أن يجمع بين الطَّائفتين بدينٍ وسطٍ بين الهندوس والإسلام، بين الهندوسية والإسلام، فجاء بهذا الدِّين الذي خلط فيه من الدِّيانتين ومزج، فجاء بدينٍ جديدٍ: السّيخ، أشدّ عداوةً على المسلمين من الهندوس، فهذا التوسط بزعمه، وهو متوسط الآن.
المنافقون يُريدون التَّوفيق بين المسلمين، والإسلام، وشرائع الدِّين، وما عند الكفَّار: يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [النساء:150]، يقولون: نحن نتوسط بين الطائفتين، ونحاول أن نُوفّق: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62]، فنتوسط بين الفئتين، بين الطائفتين؛ لحلّ الإشكالات، ودفع الشُّرور، تتوسط بين مَن ومَن؟ بين المسلمين والكفَّار! بين الإسلام والكفر!
فهؤلاء أهل النِّفاق يقولون: نحن في نقطة وسط، نحن على مسافة وسط بين هؤلاء وهؤلاء: وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151].
فما كل توسط يكون صحيحًا، التَّوسط بين الإسلام والكفر يُساوي النِّفاق، هذا معناه.
"وَسِع، يسع، سعة، من الاتِّساع، ضدّ الضّيق، والسَّعة: الغنى، والواسع: اسم الله تعالى، أي: واسع العلم، والقُدرة، والغنى، والرَّحمة.
وقيل: واسع: جواد، موسع، غني، أي: واسع الحال، وهو ضدّ الـمُقتر: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] أي: أغنياء. وقيل: قادرون، و إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233] طاقتها".
هذه المادة يقول ابنُ فارس: أنها تدلّ على خلاف الضّيق والعُسر. يقال: وسع الشيء، واتَّسع، والوُسع: الغنى، والله الواسع، أي: الغني.
هذا كلام ابن فارس -رحمه الله-، والوسع: الجدة، والطَّاقة، والجِدَة بمعنى: أن يكون واجدًا، يعني: أن يكون غنيًّا، وهو يُنفق على قدر وسعه: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7]، وأوسع الرجل: إذا كان ذا سعةٍ[28]، يُقال: السّعة، وسِع الشَّيء، يسعه، سعةً، وسِعةً؛ استوعبه، ولم يضق به. تقول: هذا الوعاء يسع هذا المتاع، حلم فلان يسعني: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7].
واشتهرت السّعة في اليسار في المال والغنى: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، فُسّر بالغني كما سبق في كلام ابن جُزي -رحمه الله- وكلام ابن فارس أيضًا، وهو أحد المعاني الدَّاخلة تحته كما سيأتي.
ويُقال: أرض واسعة، لا تضيق بمَن يأوي إليها: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97].
والوُسع، والوَسع: جُهد المرء وطاقته، وما يستطيعه من مالٍ، أو قُدرةٍ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152].
ويُقال: أوسع الشَّيء، يعني: جعله واسعًا، غير ضيقٍ، أوسع الرجل: كان في سعةٍ من المال، غنيًّا، أو كان قادرًا، في وسعه ما يريد، والوصف: موسع: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [البقرة:236] يعني: الغني، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ يعني: فُسّر بأنَّ الله -تبارك وتعالى- جاعل هذه السَّماوات: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ يعني: بقوةٍ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، الأيدي هنا غير اليد، ليست جمع يد، الأيدي: القوة، غير الأيدي.
فهنا: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ يعني: جعلوها واسعةً، غير ضيقةٍ، وقيل: مُوسعون ما بين السَّماء، أو مُوسعون يعني: قادرين على ما نُريد.
هذا غير ما يقوله أصحابُ الإعجاز العلمي، يقولون: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ هذا وعدٌ في المستقبل أنها تتوسع، وأنَّ الكون يتَّسع، وما إلى ذلك من الكلام الذي يُقال، وهذا غير مُرادٍ بالآية، والله تعالى أعلم.
هذا معنى السّعة، والله -تبارك وتعالى- هو الواسع، هنا ذكر المعنى الأول، قال: "واسع العلم، والقُدرة، والغنى، والرحمة"، وقال أيضًا: "جواد".
وعلى كل حالٍ، الواسع يشمل ذلك كلّه، فهو الذي وسع غناه كل فقيرٍ، ووسعت رحمته كل شيءٍ، ووسع علمه جميع المخلوقات، ووسعت قُدرته جميع المقدورات، ووسع إحسانه وإنعامه كل خلقه.
فالسّعة هذه تُضاف إلى العلم إذا اتَّسع، وإلى الإحسان إذا كثُر، وإلى القُدرة إذا أحاطت، وإلى النِّعمة إذا فاضت، وإلى الرحمة إذا شملت، فالله واسع الملك، والقُدرة، والعلم، والرحمة، والإحسان، والإنعام، والمغفرة، فهو الواسع المطلق في كل شيءٍ من الكمالات، وكل شيءٍ في الوجود له نهاية وحدّ، لا بدَّ أن ينتهي إلى طرفٍ، والذي لا حدَّ لجوده، وإحسانه، وإنعامه، ولا حدَّ لعلمه، ومع ذلك لا يُحاط بذاته، ولا بأسمائه، ولا بصفاته؛ هو الله -تبارك وتعالى-.
وهذه المعاني، وهكذا ما يُقال: بأنَّه الذي لا حدودَ لمدلول أسمائه وصفاته، كلّ ذلك مما يدخل في هذا؛ في معنى الواسع، وقد مضى الكلامُ عليه في شرح الأسماء الحسنى.
"ولَّى له معنيان: أدبر، وجعل واليًا.
وتولّى له ثلاثة معانٍ: أدبر، وأعرض بالبدن، أو بالقلب، وصار واليًا، واتَّخذ وليًّا، ومنه: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:56].
ولي: ناصر، والوالي: اسم الله، قيل: ناصر. وفي نُسخةٍ خطيةٍ: والولي: اسم الله، قيل: ناصر".
هذا أحسن: "الولي: اسم الله"؛ لأنَّ الوالي -كما سيأتي- لا يثبت لله .
"والولي: اسم الله، قيل: ناصر، وقيل: متولي أمر الخلائق.
مولى له سبعة معانٍ: السيد الأعظم، والنَّاصر".
الشيخ: السيد، والأعظم. كذا، أو: السيد الأعظم؟
الطالب: السيد الأعظم.
الشيخ: في النُّسختين هكذا: السيد الأعظم؟ .....
هذه المادة، وهي (الواو واللام والياء)، يقول ابنُ فارس -رحمه الله-: تدلّ على قربٍ. هذا في الولي، تدلّ على قربٍ. يقول: من ذلك: الوَلْي بإسكان اللام، الوليُ يعني: القُرب، يُقال: تباعد بعد ولي، ولي اللام ساكنة، ولي يعني: قُرب، جلس مما يليني، أي: يُقاربني.
ومن الباب: الـمُعتق[29]: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [الأحزاب:6] يعني: لما نُسخ التَّوارث بالمؤاخاة، على خلافٍ في تفسير الآية، فقيل: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا يعني: ما بينك وبينه مُؤاخاة أن تُوصي له مثلًا، لكنَّه لا يرث، وقيل غير ذلك.
فهنا الـمُعتق إذا وجد من قرابة الميت، من ذوي النَّسب؛ فإنَّه مُقدّم عليه، يعني: على التَّوارث بالولاء، فالـمُعْتِق يرث الـمُعْتَق إن لم يكن له من ذوي نسبه مَن يرثه، فإذا كان من ذوي نسبه مَن يرثه فعلى أحد المعاني: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا يعني: أنَّه يُوصي له، أو نحو ذلك، لكنَّه لا يرثه.
وهكذا الـمُعتق يُقال له أيضًا: ولي، والصَّاحب، والحليف، وابن العمِّ، والنَّاصر، والجار، كل هؤلاء من الولي الذي هو القُرب.
يقول ابنُ فارس: وكل مَن ولي أمرَ آخر فهو وليه، وفلان أولى بكذا، يعني: أحرى به وأجدر[30].
لاحظ: هنا بمعنى: القُرب، أقرب إلى ذلك، وأمَّا قولهم: أولى لك، يقول: فعن ثعلب أنها تهدد ووعيد، وعن الأصمعي معناها. لاحظ العبارة التي قالها الأصمعي، قال الأصمعي: معناها: أي قاربه ما يُهلكه، أي: نزل به.
لاحظ: ربطها بمعنى: القُرب، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة:34-35] قاربه ما يُهلكه، أي: نزل به.
وهذا المعنى الذي قاله الأصمعي استحسنه ثعلب -رحمه الله-، وقيل: إنَّ معنى: أَوْلَى لَكَ تحسيرٌ له على ما فاته.
والولاء: الموالون، والولاء أيضًا ولاء المعتق؛ وهو أن يكون ولاؤه لعتقه، كأنَّه يكون أولى به في الإرث من غيره إذا لم يكن الـمُعتق وارث نسبٍ كما سبق[31]، يقال: وليت بين الشيئين، إذا عاديت بينهما، ولاءً، وأفعل هذا على الولاء، يعني: مُرتّبًا.
والباب كلّه يرجع عند ابن فارس إلى معنى القُرب، كلّه يرجع إلى معنى القُرب، تأمّل، يُقال: وليه وليًا: قرُب منه في المكان، أو النَّسب، أو غير ذلك: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] يعني: الأقرب إلى بلادكم، لا تذهب إلى الأبعد، يُقال: وليه، يليه، ولايةً، يعني: نصره، هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف:44]، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:72] فُسّر بالنُّصرة، وبالإرث أيضًا، يُقال: ولي أمر فلان، قام بأمره، وكان في صلاحه: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282].
والولاية تُقال للنُّصرة، وكانت بين المهاجرين والأنصار في مبدأ الهجرة -كما هو معروف- مُؤاخاة وولاية، وكانت هذه الولاية تُوجب التَّوارث فيما بينهم، فصارت الولايةُ بمعنى: التوارث في ذلك الحين، يعني: تُطلق الولايةُ أحيانًا ويُراد بها التَّوارث، وكأنَّ هذا من قبيل تفسير الشيء ببعض مُقتضياته، يُقال: (أولى) اسم تفضيل من (الوَلْي) بإسكان اللام، وهو القُرْب، يُستعمل في القُرب المعنوي، يُقال: هو أولى الناس بك، أي: أخصّهم بك، وأقربهم إليك في المنزلة، ويُقال: هو أولى بكذا، يعني: أحقّ -كما سبق-: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، أولى الناس به، يعني: أحقّ وأقرب، فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135] أي: أحقّ. هكذا فسَّره بعضُهم.
مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ [المائدة:107] التَّثنية للأول: الأوليان، يعني: الأحقّ والأقرب للميت الذي هو صاحب الوصية في السَّفر.
ويأتي (أولى) في الدُّعاء بالويل كما ذكر ابنُ فارس، الدعاء بالويل والهلاك، وهو من الولي أيضًا بمعنى: القُرب، وسبق كلام الأصمعي، وأقرّه عليه ثعلب.
ويُذكر في مقام التَّهديد والوعيد: أولى لفلان، دنا من الهلكة: فَأَوْلَى لَهُمْ [محمد:20] التَّهديد، وقيل: بمعنى: أحقّ لهم طاعة وقول معروف.
وكذلك أيضًا يُقال: ولَّاه كذا، يعني: جعله واليًا له، مـمكنًا منه، وبهذا فُسّر قوله -تبارك وتعالى-: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115] يعني: نُمكّنه مما تولّى. هكذا فسّره بعضُ أهل العلم، وليس المقصود هنا تحقيق المعنى، ولكن التَّمثيل والتَّقريب لهذه المعاني.
يُقال: ولَّاه فلانًا، جعله نصيرًا له، ومن حزبه: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129].
ويُقال: ولّى العدو دُبره، يعني: انثنى عن قتاله ورجع؛ لأنَّه إذا فرَّ وانهزم فإنَّه يُعطي العدو قفاه ودُبره، وهذا معروفٌ؛ ولذلك ابن الزُّبير كان يتمثل بهذا البيت لما أصابه شيءٌ من الحجارة –المنجنيق- وشُجَّ وجهه ، فوجد حرارة الدم، قال:
ولسنا على الأعقاب تُدمى كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدّمِ[32] |
بمعنى: أنَّ الـمُنهزم ينزف، وجروحه تسيل ودماؤه من الخلف؛ لأنَّه يُضرب ويُصاب وهو مُنهزم، قد أعطى ظهره، وأمَّا الشُّجاع فإنَّه يُقبل، فتكون الدِّماء تنزل على قدميه، وليس على عقبيه، يستقبل العدو بوجهه.
وفي قصّة يوسف ، وهذا مما يُحمد: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [يوسف:26]، إن كان القميصُ شُقَّ من الأمام فمعنى ذلك أنَّه هو الذي هاجمها، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ [يوسف:27]، معناه أنَّه كان يفرّ منها، وهي تتبعه، فجذبت قميصه؛ فانشقَّ.
وهكذا يُقال لمن انهزم: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ [الأحزاب:15]، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16]، ونحو ذلك، هذا في الهزيمة، يُقال: ولَّاه عن الشَّيء، بمعنى: صرفه عنه، مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] يعني: ما صرفهم عنها؟
وولّى على دبره، يعني: رجع ونكس. وولّى إليه: قصده واتَّجه إليه، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:57] يعني: قصدوه، وليس المقصود هنا انهزموا، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] يعني: التَّوجه والقصد، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] اتّجه إليه، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] يعني: استقبال المشرق، أو المغرب.
ويُقال: ولّى بمعنى: ذهب وانصرف، وقد يُقال: ولّى مُدبرًا، وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل:10]، لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا [الكهف:18]، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر:33].
وتولى الشَّيء: قام به وفعله، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ [النور:11] يعني: مُعظمه، وكان يستوشيه ويُذيعه.
ويُقال: تولَّاه، يعني: أحبَّه ومال إليه. وبعضهم فسّر بذلك قوله –تعالى-: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ [الحج:4].
وكذلك أيضًا يُقال: تولّى صديقه، بمعنى: نصره وقام بأمره، لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الممتحنة:13].
ويُقال: تولّى عنه، بمعنى: أعرض عنه، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] يعني: أعرضوا عن الحقِّ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246] يعني: عن النُّهوض بأعبائه، والقيام به، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [البقرة:83] يعني: أعرضتم.
وتولّى يأتي بمعنى: أدبر وذهب، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا [البقرة:205]، وفسّره بعضُهم (تولّى) أي: صار واليًا، يعني: إذا صارت له ولاية وسلطة أفسد في الأرض، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] يعني: ذهب.
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:60]، يُقال: تولَّاه، قام بشأنه، وكان أميرًا عليه، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ [محمد:22] فسّره بعضُهم: كنتم وُلاةً. وفسّره بعضُهم -وهذا المتبادر- إِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني: أعرضتم أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.
ويُقال: تولّى إليه: قصد إليه، وأقبل عليه، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:24] يعني: قصد وتوجّه إلى الظلِّ.
والولي هو الـمُحبّ والصّديق: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ [البقرة:107].
طبعًا هنا ليس المقصود فيه صفة الله: الصّديق، لكن أقصد في أصل اللغة، وإلا فهنا: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الناصر، وكذلك ما ذُكِرَ من المعاني اللَّائقة: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ [البقرة:120]، فالولاية تأتي بمعنى: المحبّة والنُّصرة، ونحو ذلك.
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] هنا يمكن أن يُقال: الصّديق الذي تُحبّه محبّةً شديدةً، فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45].
والولي للإنسان: مَن يلي أمره، ويقوم مقامه: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ [الأنفال:34] يعني: الحرم.
ولي المرء -كما سبق-: الذي يقوم أيضًا بعد وفاته من قرابته: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:5-6]، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ يعني: المقتول سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33].
وكذلك أيضًا الولي: الذي يُهيّئ للإنسان ما يبغيه من الخير، وينفعه: وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا [النساء:75].
والمولى للمرء هو الذي يقوم بأمره أيضًا، ويُعينه، ويُظاهره: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يُسددهم، ويُهيّئ لهم سُبُل الخير، وينصرهم، ويُعينهم، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ [الأنفال:40]، والآية الأخرى: لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج:13].
والمولى للمرء: مَن يتّصل به بقرابةٍ، أو صداقةٍ، أو غير ذلك؛ كابن العمِّ، وقرابته.
والـمُتبنّى: الذي لا يُعلم له أبٌ يُدْعَى: مولى، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [الدخان:41]، وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:33] يعني: ورثة من ذوي القرابة، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ [مريم:5] يعني: القرابات؛ أبناء العمِّ، ونحو ذلك.
وأمَّا الذي لا يُعلم له أبٌ: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]، تقول: مولاي، أخي، وهكذا.
وكذلك المولى للعاجز؛ كالأبكم، ونحو ذلك: مَن يقوم بشؤونه، وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ [النحل:76] يعني: يمكن أن يُفسّر بسيده، ونحو ذلك.
هنا قال في المولى: "والولي: اسم الله، وقيل: ناصر، وقيل: مُتولي أمر الخلائق".
"الولي" ثابتٌ بالاتفاق أنَّه من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وكذلك "المولى" أثبته كثيرون، وهو ثابتٌ أيضًا في كتاب الله -تبارك وتعالى-، أما "الوالي" فأثبته بعضُهم في جُملة أسماء الله ، ولكنَّه لا يثبت، لا دليلَ عليه.
والله -تبارك وتعالى- هو المولى، بمعنى: الناصر والمعين، فهو يتولى الخلق عامّة بالقيام على أمورهم، وشؤونهم، ويتولّى المؤمنين خاصّة بالنَّصر والتَّأييد، وهو يُحبّهم، ويُحبّونه، ويُوفّقهم، ويُصلح شُؤونهم، وما إلى ذلك.
والله -تبارك وتعالى- أيضًا هو الولي: مالك الأشياء جميعها، المتصرف فيها، فالولاية تُشعر بالتَّدبير، والقُدرة، والفعل، وما إلى ذلك، والله أعلم.
- انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/132).
- انظر: "كتاب التوحيد وإثبات صفات الربِّ -عزَّ وجلَّ-" (1/51).
- أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الآية [الأنعام:65]، برقم (4628).
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، بابٌ في قوله -عليه السلام-: ((إنَّ الله لا ينام))، وفي قوله: ((حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه))، برقم (179).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، برقم (4878)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم -سبحانه وتعالى-، برقم (180).
- أخرجه النسائي في "سننه": كتاب السّهو، باب نوع آخر، برقم (1305)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2497).
- انظر: "التوحيد" لابن خُزيمة (1/29).
- انظر: "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم (ص408).
- انظر: "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم (ص412).
- انظر: "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم (ص408)، و"تفسير الطبري" (2/536).
- انظر: "تفسير السعدي" (ص63).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (3/193).
- انظر: "صحيح البخاري" (1/90)، و"صحيح مسلم" (1/388).
- انظر: "الأصل الجامع لإيضاح الدرر" للسيناوي (2/29).
- انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/125).
- انظر: المصدر السابق (6/75).
- انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص315).
- انظر: "متن القصيدة النونية" لابن القيم (ص208).
- انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للسعدي (ص242).
- انظر: "صحيح البخاري" (9/124).
- انظر: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن القيم (ص47).
- انظر: "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم (ص93).
- انظر: "تفسير الطبري" (2/269).
- انظر: "تفسير ابن كثير" (1/312).
- انظر: "تفسير السعدي" (ص915)، و"العذب النَّمير من مجالس الشَّنقيطي في التفسير" (1/168).
- انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/89).
- انظر: المصدر السابق (6/108).
- انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/109).
- انظر: المصدر السابق (6/141).
- انظر: المصدر السابق (6/141).
- انظر: المصدر السابق (6/141).
- انظر: "الشعر والشعراء" (2/634).