الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
(33- ب) حرف الواو من قوله وسواس إلى نهاية الفصل
تاريخ النشر: ٠٤ / شعبان / ١٤٣٦
التحميل: 1460
مرات الإستماع: 1561

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمُتقين، وصلَّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين.

أما بعد: فيقول الإمامُ ابن جُزي الكلبي:

"وسوس الشيطان إلى الإنسان: ألقى في نفسه، والوسواس: الشيطان".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذه المادة عند ابن فارس -رحمه الله- تدلّ على صوتٍ غير رفيعٍ، يُقال لصوت الحلي: وسواس، ويُقال لهمس الصَّائد: وسواس، وكذلك أيضًا لإغواء الشيطان، كلّ ذلك يُقال له هذا[1].

يُقال: وسوس: تكلّم بكلام خفيٍّ، والوسوسة تُقال أيضًا لحديث النفس، وما يخطر بالبال، ويهجس بالضَّمير، يُقال له: وسوسة، كما يُقال لخواطر الشيطان التي يُلقيها في قلب العبد، ويُزيّن له المنكر والشَّر: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]، يُقال: وسوس الشيطان له، وسوس إليه، وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:16].

ويُقال: (الوسواس) للشيطان الذي يُوسوس لغيره، وهو في الأصل اسمٌ للوسوسة، فأُطلق على الشيطان مُبالغةً: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4-6]، فبعضهم فسّره باعتبار أنَّ قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسيرٌ للوسواس، الوسواس الذي يُوسوس، سواء كان من قبيل شياطين الإنس، أو شياطين الجنّ.

وبعضهم فسّره باعتبار أنَّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، فيكون مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسيرًا للناس، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وفيها كلامٌ قد مضى في التَّعليق على هذه السُّورة في شرح "المصباح المنير"، وما يرد على ذلك من اعتراضات في بعض هذه المعاني.

وابن فارس -كما سبق- جعل ذلك يرجع إلى هذا المعنى: كلمة تدلّ على صوتٍ غير رفيعٍ، ومنه: صوت الحلي والأساور، ونحو ذلك، إذا حرَّكت المرأةُ يدَها يكون لها صوتٌ، فهذا يُقال له: وسوسة، وهكذا صوت الصَّائد لما كان خفيًّا، يتكلم بهمسٍ، فقيل له: وسوسة.

فلمَّا كان ما يُلقيه الشيطانُ بطريقةٍ خفيَّةٍ قيل له: وسوسة، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [طه:120]، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [الأعراف:20].

فهنا ابن جُزي -رحمه الله- يقول: "والوسواس: الشيطان بهذا الاعتبار"، يعني: من قبيل المبالغة أُطلق عليه ذلك، وإلا فأصل المعنى هو ما قد عرفنا، والله أعلم.

"أوحى، يوحي، وحيًا، له ثلاثة معانٍ:

كلام الملك عن الله للأنبياء، ومنه قيل للقرآن: وحي.

وبمعنى: الإلهام، ومنه: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68].

وبمعنى: الإشارة، ومنه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11] أي: أشار".

هذه المادة يقول ابنُ فارس -رحمه الله- أنها تدلّ على إلقاء علمٍ في إخفاءٍ أو غيره إلى غيرك[2].

لاحظ كلمة: (في إخفاءٍ أو غيره إلى غيرك)، فالمشهور في تفسير الوحي أنَّه يُقال للإلقاء السَّريع الخفي، هذا الذي عليه عامَّة أهل العلم في تفسير الوحي: الإلقاء السَّريع في سرعةٍ وخفاءٍ، يجعلون هذين القيدين، وتجد هذا في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية[3]، وغيره، يُقيدونه بالسّرعة والخفاء.

ولو قيل: إنَّ ذلك ليس بلازمٍ، فكأنَّ ذلك هو الموافق لاستعمالاته المتنوعة، فإنَّه قد يكون بسرعةٍ وخفاءٍ، وقد لا يكون كذلك.

ولذلك لاحظ عبارة ابن فارس -رحمه الله- وهو دقيقٌ: "يدلّ على إلقاء علمٍ في إخفاءٍ أو غيره إلى غيرك".

فالوحي: الإشارة، والوحي: الكتاب والرِّسالة، وكلّ ما ألقيتَه إلى غيرك حتى علمه فهو وحيٌ كيف كان.

وأوحى الله تعالى، ووحى، وكلّ ما في باب الوحي فراجعٌ إلى هذا الأصل الذي ذكرناه: الوحي السَّريع، والوحي الصّوت. فهذا كلام ابن فارس -رحمه الله-.

إذًا هو لا يُقيده بالسّرعة، ولا بالخفاء، يُقال: وحى الله كذا إلى أحد عباده، بمعنى: قذفه في عباده، وألهمه إياه، ويكون ذلك في اليقظة، أو في المنام؛ رؤيا.

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51]، هذه أجمع آيةٍ في أنواع الوحي، والوحي بالمعنى الخاصّ؛ لأنَّ الوحي يأتي بالمعنى العام، ويأتي بمعنى خاصٍّ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا، فالوحي هنا يدخل فيه الإلقاء في الروع، والإلهام، والرؤيا الصَّالحة.

وعند مَن فرّق بين الإلهام والإلقاء في الروع؛ بحيث جعل الإلهام هو المعنى الذي يقذفه الله في قلب العبد، والإلقاء في الروع هو المعنى الذي يكون بواسطة الملك، فيكون الإلقاءُ في الروع على هذا التَّفريق داخلًا فيما سيأتي من قوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا، فهذا النوع الأول: إِلَّا وَحْيًا.

أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ هذا التَّكليم المباشر، كما كلَّم اللهُ موسى ، وكلَّم محمدًا ﷺ في ليلة المعراج.

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ملائكيًّا إلى الرسول البشري، وهذه تأتي فيها كيفيات الوحي وصور الوحي إلى النبي ﷺ: فتارةً يأتيه بصورة رجلٍ، كدحية الكلبي، أو كما في حديث عمر : رجل شديد بياض الثِّياب، شديد سواد الشّعر، لا يُرى عليه أثر السَّفر، ولا يعرفه منا أحدٌ[4].

لاحظ: الآن في صورة دحية، وفي صورة هذا الرجل الذي يسأل، السّرعة والخفاء، هل هي موجودة هنا؟

غير موجودةٍ، لكن قد يأتيه بصورٍ لا يرونه فيها، مثل: صلصلة الجرس؛ لما سأله الحارث بن هشام: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟[5]، فذكر له أبرز وأشهر الصور، وإذا تتبعت النصوص الواردة في هذا الباب تجد أنَّ الوحي يأتي للنبي ﷺ في صورٍ قد يرتبط بعضُها ببعضٍ، يعني: قد يسمع صلصلةً، ويسمعون عند وجهه ﷺ مثل دوي النَّحل، هذا ما كان يظهر عليه ﷺ ويعتريه من بُرحاء الوحي، من العرق ونحو ذلك مما يظهر على وجهه -عليه الصلاة والسّلام-.

فصارت هذه الآية -آية الشورى- تجمع صور الوحي، أو كيفيات مجيء الوحي بالمعنى الخاص إلى النبي ﷺ، فيقول الله : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، ويقول: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود:37]، وهكذا: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114]، ويُقال: وحى لله كذا إلى مَن يصطفيه من عباده، بمعنى: ألقاه إليه، وبلَّغه إياه عن طريق الملك.

ويُطلق الوحي أيضًا على الموحى، فإنَّ الوحي مصدر؛ تارةً يُراد المعنى -معنى المصدر-، وتارةً يُراد به المفعول، فيُقال: للموحى، من باب إطلاق المصدر على المفعول: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] المقصود به الموحى، وهكذا: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، فالوحي يُقال لنفس العملية التي هي الإيحاء، بمعنى المصدر: الوحي، تقول: النبي ﷺ في حال وحيٍ، يعني: إيحاء، الملك يُلقي إليه، فهذه العملية نفسها يُقال لها: وحي، إلقاء الملك مثلًا، أو التَّكليم المباشر، أو نحو ذلك من الصور.

وكذلك أيضًا يُقال: (الوحي) للمُوحى، يعني: موحى، مثلما تقول: هذه كتابة، وتقصد بها معنى المصدر، بمعنى: نفس عملية الكتابة، وقد تقول: هذه كتابة، يعني: المكتوب، بمعنى: المفعول، تقول: هذا أكل، أي: نفس عملية الأكل، وتقول للمأكول: هذا أكل.

وهكذا حديثي معكم الآن، هذا يُقال له: كلام، ولما تأتني بكلامي وتقول: هذا كلامك، يعني: الـمُتكلم به، بمعنى: المفعول، وهكذا.

ويُقال أيضًا: (أوحى) بمعنى: أشار، وأومأ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا [مريم:11]، فالوحي يأتي بمعنى: الإشارة، سواء كانت الإشارةُ بالعين، أو بشيءٍ كالحاجب، أو تكون باليد، كما قال الشَّاعر:

فأوحى إليها الطرف أني أُحبّها فأثّر ذاك الوحي في وجناتها[6]

يعني: فهمت الإشارة، فظهر أثرُ ذلك حياءً بحُمرة الوجنتين.

يُقال: أوحى إليه كذا، بمعنى: أسرَّه إليه، وأخفاه عن غيره. وهذا يجري أيضًا في الوسوسة في الشَّر، تكون من الشيطان، ومَن يجري مجراه؛ لأنَّها تكون في خفاءٍ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121]، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، هذا وحي الشياطين.

ورُوِيَ عن عبدالله بن الزبير أنَّه قيل له: إنَّ المختار يقول: يُوحى إليَّ. فقال: صدق، إنَّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم[7].

وكذلك يُقال أيضًا: أوحى اللهُ إلى عبده، يعني: ألهمه ذلك، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، قيل: أنَّ الله ألهمها.

ويكون هذا لغير العاقل أيضًا، من الحيوان مثلًا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل:68]، (أوحى إليها) بمعنى: ألهمها، فيكون ذلك إلهامًا لها بما تقوم به مصالحها ومنافعها ومعايشها، وما إلى ذلك، فهذا في الإلهام الغريزي، الفطري.

وكذلك أيضًا هناك وحيٌ لبعض الجمادات، ويُسمّونه: الوحي التَّسخيري: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12].

وتجدون خلطًا في بعض الكتب التي تتحدث عن الوحي، وبعضهم ينقل عن بعضٍ، فتجد حينما يقول: (الإلهام الفطري) يذكر قوله –تعالى-: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ، والفطرة هي خلاف هذا، الفطرة لا تأمرها أن تُلقيه في البحر وهو وليدها الذي تُشفق عليه غاية الشَّفقة، ثم تُلقيه في اليم؟! هذا ليس بفطري.

فتجد أنَّ بعضهم يذكر هذا، ويُسميه: الإلهام الفطري، ويأتي مَن ينقل عنه مثل هذا، وهذا غير صحيحٍ، وإنما يمكن أن يُقال: إنَّ هذا بمعنى: الإلهام.

وقد يكون ذلك عن طريق ملكٍ، وما كلّ مَن جاءه ملكٌ يكون نبيًّا، وتعرفون حديث الثلاثة: الأقرع والأبرص والأعمى، فأرصد الله لهم ملكًا[8].

وكذلك فيمَن عاد أخًا له، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فقال: أين تريد؟[9].

فقد يأتي الملكُ لمن هو ليس بنبيٍّ، وقد يكون هذا الوحي إلى أحدٍ من البشر قبل النبوة، فالله قال عن يوسف وهو صغير: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يوسف:15]، ذهبوا به إلى البئر وهو صغير، فأوحى اللهُ إليه أنَّه سيأتي اليوم الذي تُخبرهم فيه عن فعلهم هذا، وهم لا يعرفون أنَّك يوسف؛ وذلك لما واجههم فيما بعد، حينما جاءوا يقولون: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88] إلى آخره، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:89]، فما كانوا يعرفونه وهو يُحدّثهم ويُخبرهم بهذا، فهذا كلّه من الوحي إلى بعض الأنبياء قبل النبوة، فهذا الوحي بالمعنى الخاصّ.

والوحي إلى الملائكة، وهو نوعان: وحيٌ تكليفيٌّ، يُكلّفهم الله بأشياء: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا الخطاب للملائكة، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].

وهناك وحيٌ تبليغيّ، يُبلّغون عن الله : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، كجبريل ، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:15-16] وهم الذين بيدهم هذه الصُّحف.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [المائدة:111] هذا وحي إلى غير الأنبياء، هذا قد يكون عن طريق عيسى ، وقد يكون بالإلهام، فالله أعلم.

فالقصد: أنَّ هناك استعمالات للوحي في القرآن، مثل التي سمعتم، وهذا الوحي بالمعنى العامِّ. وهناك وحي بالمعنى الخاص، وهو إلى الأنبياء والرسل -عليهم السلام-.

أمَّا في أصل اللغة: فهو ما تُلقيه إلى غيرك؛ ليعلمه، سواء كان بسرعةٍ وخفاءٍ، أو لم يكن، فيكون بالإلقاء الخفي السَّريع، ويكون بصورٍ أخرى، كما يكون أيضًا بالإشارة، ويكون بالكتابة؛ ولذلك العرب تقول: وحي في حجر، بمعنى: السر المكتوم الذي لا يخرج.

وهكذا فيما يتعلق بالإشارة: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11]، هو قال: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41]، فخرج على هؤلاء، فأوحى إليهم، بمعنى: أشار إليهم، فيكون بمعنى: الإشارة.

"وعى العلم، يعني: حفظه [وفي نُسخٍ خطيةٍ: وعى العلم يعيَ: حفظه]، ومنه: أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة:12].

وأوعى بالألف يُوعي: جمع المال في وعاءٍ، ومنه: وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:18]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى معنى يدلّ على ضم شيءٍ[10]، تقول: وعيت العلم، أعيه، وعيًا، ضم شيء، ولاحظ سائر أنواع الاستعمال، يُقال: وعى الحديث والخبر، بمعنى: حفظه وفهمه: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة:12].

هذا الذي ذكره ابنُ جُزي -رحمه الله-: وعى العلم، يعي، بمعنى: حفظه. وأوعى الشَّيء، يُوعيه، بمعنى: حفظه، وكذلك وضعه في صِوانٍ، يُقال: فلان يُوعي المال، بمعنى: كنزه، دون أن يُخرج منه شيئًا: وَجَمَعَ فَأَوْعَى، ويُقال: المنافق يُوعي، والكافر يُوعي في صدره الكفر، بمعنى: يُضمره، ويُكنّه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:23] بما يُضمرون من الكفر، ونحو ذلك.

والوعاء هو الظرف يُوعى فيه الشيء ويُصان ويُحفظ: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ [يوسف:76].

إذًا هذه الكلمة تدلّ على ضم شيءٍ، فهذا الوعاء يحوي ما بداخله مما يُوضع فيه من الطَّعام، ونحو ذلك، وهكذا الصَّدر يحوي ويُوعي؛ ولذلك يُقال: فلان من أوعية العلم، وهكذا.

"حرف الياء:

يمين له أربعة معانٍ: اليد اليمنى، والجهة اليمنى، وبمعنى: القوة، وبمعنى: الحلف، وأيمن أي: إلى الجهة اليُمْنَى".

هذه المادة ذكر ابنُ فارس -رحمه الله- أنَّها كلمات من قياسٍ واحدٍ، فاليمين: اليد، ويُقال: اليمين: القوة[11]، أراد اليد اليُمنى، واليُمن: البركة، وفلان ميمون، وهكذا اليمين: الحلف، يقول: "وكلّ ذلك من اليد اليمنى"[12]، بأي اعتبار؟

يقول: سُمّي الحلف يمينًا؛ لأنَّ المتحالفين كأنَّ أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه، وقد اختلفوا -على كل حالٍ- في تعليل ذلك، لكن من أهل العلم مَن يقول: أنَّ ذلك باعتبار أنَّ المتحالفين كلّ واحدٍ يؤكد القولَ بالفعل، فيأخذ بيمين صاحبه. فهذا ما ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-.

فاليمين من اليدين معروفة؛ هي اليد التي يسهل بها تعاطي الأشياء وعلاجها، وهي الأقوى، وهي التي تكون للأمور الشَّريفة والرَّفيعة، ونحو ذلك، فهذه أكرم من الأخرى: يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل:48] يعني: جهة اليمين، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:7] هذه اليد اليمنى، وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ [طه:17] اليد اليمنى، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:69] يعني: اليد اليمنى.

وجلس عن يمينه، يعني: جهة اليمين، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ [الكهف:17] يعني: الجهة اليُمنى، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ [الأعراف:17] يعني: جهة اليمين.

ويُقال: فلان من أصحاب اليمين، يعني: أهل السَّعادة والحظّ؛ وذلك أنَّ اليمين يُتيمّن بها، ويُتناول بها الكريم من الأشياء كما سبق: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة:27]، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8].

ويقال: هذا مُلك يميني، أو ملكته يميني، يعني: هو في ملكي، وفي حوزتي، واشتهر هذا في الرَّقيق: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:50]، إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:52]، فهذا في الرَّقيق والمماليك.

ويُقال: هذا في يميني، يعني: في ملكي، وخاضعٌ لي.

وهكذا أيضًا قد تأتي اليمين بمعنى: القُدرة والقُوّة؛ وذلك أنَّ المرء يستطيع بيمينه ما لا يستطيع بشماله، وهو أحد الأقوال في قوله –تعالى-: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة:44-45]، ما معنى قوله: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ؟

بعضهم يقول: هذا يكون صفةً للأخذ: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ يعني: اليمين هنا ليس المقصود بها اليد اليمنى، وإنما صفة الأخذ، الأخذ باليمين، يعني: الأخذ بالقوة، وليست يمين الآخذ، يعني: أنَّه يأخذ ذلك المأخوذ بيمينه، لا، وإنما يُقال: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ يعني: الأخذ القوي، فيكون صفةً للأخذ.

وهذان قولان لأهل السُّنة في تفسير الآية، وليس ذلك من التَّأويل في شيءٍ، يكون صفةً للأخذ، باعتبار أنَّ قوة كل شيءٍ في ميامنه، كما هو معروف.

وبعضهم يقول: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ يعني: يمين المأخوذ، نأخذ بيمينه.

وقالوا: القرينة على ذلك أنَّه ذكر الوتين، وهو نياط القلب، قال: ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:46].

فهذان قولان مشهوران في تفسير الآية، وهما لأهل السُّنة، وإلا فاليمين ثابتة لله : وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].

ويُقال: اليمين أيضًا لجهة الحقِّ والخير: قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات:28] يعني: من جهة الدين، ونحو ذلك.

والحلف أيضًا والقسم يُقال له: يمين؛ لما سبق: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89]، أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]، أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:53].

وكذلك يُقال أيضًا للعهد والحِلْف والتَّحالف بين الناس، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [النحل:94]، هذا مضى الكلامُ عليه في الأمثال المضروبة في القرآن؛ وذلك لما يحصل من النَّكث بحسب ما ذكره الله -تبارك وتعالى-: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92]، وهذا تجده في التَّحالفات والتَّخالفات والخيانات، وما إلى ذلك من العراكات بين الأحزاب السياسية، تجد أنَّ هذا الحزبَ اليوم مع هؤلاء؛ لأنَّه يرى أنَّ أسهمهم مُرتفعة، فإذا رأى أنَّ الرياح قد ولَّت وأدبرت عنهم؛ مباشرةً أدار ظهره، وتحالف مع آخرين، فليس هناك مبدأ، ولا وجه، ولا ذمّة، ولا عهد، يبحث عن مصلحته القريبة العاجلة، من غير عهدٍ، ولا ذمَّةٍ، فيتحالف اليوم مع هؤلاء، وغدًا مع الآخرين.

هذا تجده –للأسف- شائعًا، ذائعًا عند الكفَّار، وعند كثيرٍ ممن ينتسب إلى الإسلام، حتى بعض الأحزاب الإسلامية اليوم تحالفت مع هؤلاء، وغدًا مع هؤلاء، واليوم تسمع تصريحات بأشياء، وغدًا تسمع كلامًا آخر: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، فإذا وجدوا أنَّ هؤلاء أقوى في هذه الأيام مثلًا تحالفوا معهم، فإذا ضعفوا تحالفوا مع غيرهم، ونبذوا هؤلاء.

فهذا حاصل معنى الآية -والله تعالى أعلم-، وهو معنى يغفل عنه الكثيرون.

وهكذا اليمين -كما سبق- تُقال على الجهة: اليمين، خلاف الأيسر: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52]، والميمنة: البركة والسَّعادة، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8]، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد:18]، فالتَّيمن بالشَّيء يُقابل التَّشاؤم به، يُقال: فلان ميمون الطائر. هكذا يُعبّر العرب.

"يسير له معنيان: قليل، ومنه: كَيْلٌ يَسِيرٌ [يوسف:65]، وهين، ومنه: ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]. واليُسر ضد العُسر.

والميسر: هو القِمار في النّرد والشّطرنج، وغير ذلك، وهو مأخوذٌ من يسُر لي كذا؛ إذا وجب.

واليَسَر -بفتح الياء والسّين-: الرجل الذي يشتغل بالميسر، وجمعه: أيسار.

وميسر العرب: أنهم كان لهم عشرة قداح، وهي الأزلام، لكل واحدٍ منها نصيب معلوم من ناقةٍ ينحرونها، وبعضها لا نصيبَ له، ويُجزئونها عشرة أجزاء، ثم يُدخلون الأزلام في خريطةٍ، ويضعونها على يدي عدلٍ، ثم يُدخل يدَه فيها، فيخرج باسم رجل قِدحًا، فمَن خرج له قدحٌ له نصيب أخذ ذلك النَّصيب، ومَن خرج له قِدحٌ لا نصيبَ له غرم ثمن النَّاقة كلّها".

هذه المادة يقول ابنُ فارس أنَّها ترجع إلى أصلين:

الأول: يدلّ على انفتاح شيء وخفّته، ومن ذلك: اليُسر الذي يُقابل العُسر، واليسار بمعنى: الغنى، وتيسر الشَّيء واستيسر كذلك، يعني: لم يعسُر، وإنما صار سهلًا، والميسر هو القِمار. فهذا الأول.

والثاني: وهو العضو من الأعضاء، يقول: من ذلك (اليسار) لليد، ويُقال: تياسروا، إذا أخذوا ذات اليسار، ويُقال: ياسروا أجود، يعني: أحسن من تياسروا، ياسروا يعني: أخذوا ناحية اليسار[13]، أفضل من تياسروا، تقول: ياسر فلان، يعني: أخذ ناحية اليسار، وياسر: أخذ ناحية اليسار، وأنَّ هذا أجود في الاستعمال.

فهذان معنيان: العضو، والثاني يدلّ على انفتاح شيءٍ وخفّته، واليُسر الذي هو السُّهولة، مُقابل العُسْر.

يقال: يسُر الشيء يُسرًا، بمعنى: سهُل وهان، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:3] يعني: ذا يُسر، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] بمعنى: السّهولة والسّعة، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] يعني: سهل، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30].

وقد يُستعمل اليُسر في موضع اليسير، فيُقال: أمر يسير، واسم التَّفضيل من هذا: الأيسر، هكذا في الذكر، وفي الأنثى: اليُسرى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88] يعني: قولًا يسيرًا طيبًا، ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ [يوسف:65] يعني: قليل، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:7] يعني: الطَّريقة التي هي أكثر رفقًا ولينًا، ونحو ذلك، وهي طريق الحقّ.

والقول الميسور يعني: اليسير، السّهل، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28].

والميسَرة والميسُرة يعني: الغنى والسّعة في المال، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].

ويُقال: يسّره تيسيرًا، يعني: سهّله وهيّأه، ومنه: يسر اللهُ فلانًا للخير وللشّر، يعني: هيَّأه له، فوافقه وأتاه.

وأكثر ما يُستعمل التيسير في تسهيل الخير: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ [مريم:97]، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20]، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى.

وقد يُستعمل في الشَّر: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10]، قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، يُقال: تيسر الشيء، بمعنى: تسهل وهان، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، ويُقال: استيسر الشيء أيضًا؛ تسهّل وهان، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196].

وأمَّا الميسر: فهو قمار العرب في الجاهلية، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219].

وهنا يقول ابنُ جُزي -رحمه الله-: "هو القمار في النّرد والشّطرنج، وغير ذلك، وهو مأخوذٌ من يسُر لي كذا؛ إذا وجب".

ولاحظ إطلاقه على النّرد والشّطرنج من باب التّوسع، يعني: كلّ ما كان فيه مُخاطرة وجهالة بالعاقبة يُقال له: ميسر.

وهنا يقول ابنُ جُزي: واليَسَر: الرجل الذي يشتغل بالميسر، يسر، وأيسار للجمع.

وذكر ميسر العرب: أنهم كان لهم عشرة قِداح، وهي الأزلام التي يستقسمون بها، يعني: يضعونها في وعاء أو كيس، أو نحو ذلك، ويأتون بهذا الذي يأتمنونه، ويكون عدلًا عندهم، وهذا الشّخص الذي يستخرج هذه القِداح يُقال له: الضّريب، وكل واحدٍ من هذه القِداح يكون فيه محزات، ونحو ذلك، فبحسب ما يظهر له، ويكون بينهم الجزور، يجمع فيها العشرة.

وبعضهم يقول: إنَّ هؤلاء الرابحون ما كانوا يأكلون من هذه الجزور، وإنما كانوا يُعطون ذلك لفُقراء الناحية، أو الحي؛ ولذلك يقولون: إنَّهم كانوا يتمدَّحون بالميسر بهذا الاعتبار، ولكنَّه شيء قبيح، وتمدّح بمحرم، وأكل لأموال الناس بالباطل، فهو كالتي تزني وتتصدق، أو يأخذ أموال الناس ويتمدح بأنَّه يتصدق بها، فهذا ليس بشيءٍ يتمدح به الإنسان ويسمو.

ومَن أراد التَّوسع في ميسر العرب يجد ذلك مبسوطًا في مظانِّه.

"يأس من الأمر، ييأس، يائس: انقطع رجاؤه، ومنه: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، وإنه ليؤوس. وأمَّا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد:31] فمعناه: أفلم يعلم، [وفي نسخةٍ خطيّةٍ: ألم يعلم]".

هذه المادة قال ابنُ فارس أنَّها كلمتان:

الأولى: اليأس، وهو قطع الرجاء، وهذا ذكره ابن جُزي كما سمعنا، قال: ويُقال: إنَّه ليست ياء في صدر كلمة بعدها همزة إلا هذه[14]. (يأس) فهذه هي الوحيدة.

الكلمة الأخرى عند ابن فارس -رحمه الله-: (ألم تيأس)، يعني: ألم تعلم، قال في قوله –تعالى-: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: أفلم يعلم.

فهذان معنيان ذكرهما ابنُ فارس، وهما ما ذكره ابنُ جُزي -رحمه الله-، يُقال: يأس من الشيء؛ انقطع رجاؤه، الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة:3] قد يَئِسوا من رحمتي، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق:4] يعني: انقطع رجاؤها من الولد، أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت:23]، واستيئس الشيء يعني: يأس منه، حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ [يوسف:110].

وكذلك أيضًا يُقال: يأس، بمعنى: علم.

فبعضهم يقول: إنَّ استعمال (يأس) بمعنى: علم، هذه لغة لبعض العرب.

وبعضهم يقول: إنَّه من تضمين اليأس للمعنى السَّابق، وهو معنى العلم، فإنَّ مَن يأس من شيءٍ علم أنه لا يكون: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا بمعنى: أنَّهم علموا، وانقطع رجاؤهم من إيمان الكفار؛ أو لما أيقنوا أنَّ الله لو شاء لهدى الناس جميعًا، فييأسون من إسلام جميع الكفَّار، وإنما يُسلم مَن شاء الله إسلامه منهم، أمَّا أنَّ هؤلاء جميعًا يدخلون في الإسلام فهذا أمرٌ لا يتأتى، فييأس.

فعلى هذا الاعتبار يكون (يعلم) يرجع إلى معنى اليأس، الذي هو انقطاع الرجاء؛ لأنَّ انقطاع الرجاء لا يكون إلا بعد العلم، هذا وجهٌ للربط، فيلتئم المعنيان، والله أعلم.

إِنَّهُ لَيَئُوسٌ [هود:9] يعني: كثير اليأس، وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] انقطاع الرجاء.

"يمّ: هو البحر".

اليمّ: البحر، وابن فارس -رحمه الله- جعل هذه المادة تدلّ على قصد الشّيء وتعمّده، يقول: "ومنه: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، قال الخليل: يُقال: تيمّمتُ فلانًا بسهمي ورمحي: إذا قصدته دون مَن سواه"[15].

يقول: "وأمَّا البحر فليس من هذا القياس"[16]، لكن: تيمّمه؛ قصده وتوخّاه، تيمم الصَّعيد: قصده للتّطهر، الطَّهارة البدلية؛ بدلًا من استعمال الماء: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] بمعنى: القصد.

واليم: البحر، لا علاقةَ له بالقصد، فاليمّ يُستعمل للبحر العذب: الأنهار والبُحيرات العذبة، ويُستعمل في الملح، البحر المعروف، كلّ ذلك يُقال له: يمّ، فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف:136]، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39]، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [طه:78]، فهذا اليمّ بمعنى: البحر.

"ينبوع، أي: عين من ماء، والجمع: ينابيع، [وفي نسخة خطية: وجمعه: ينابيع]".

هذه المادة -كما تُلاحظون- تندرج تحت حرف النون: (نبع)، فجاء بها هنا ضمن حرف الياء؛ وذلك أنَّه -كما سبق- يأتي بالمعاني المباشرة، فهذه اللَّفظة (ينبوع) هكذا جاءت في القرآن، فجاء بها بحرف الياء من أجل أنَّك إذا بحثتَ تبحث عن كلمة (ينبوع) بحرف الياء، لكن مَن نظر إلى أصل المادة فإنَّه سيبحث عنها في حرف النون، فموضعها بهذا الاعتبار في حرف النون.

فـ(النون والباء والعين) عند ابن فارس -رحمه الله- كلمتان:

الأولى: نبوع الماء، والموضع الذي ينبع منه يُقال له: ينبوع، ومنابع الماء: مخارج الماء من الأرض.

والثانية: لا علاقةَ لها بهذا المعنى، وليست في القرآن، وهي النّبع، شجر اسمه: النّبع، معروف[17].

لكن الأولى، وهي ما يتعلّق بنبع الماء، يُقال: نبع الماء، ينبع، وينبُع، نبوعًا، يعني: خرج من العين، والينبوع: العين يخرج منها الماء.

وذكر بعضُهم أنَّ الينبوع يُقال للعين التي لا ينضب ماؤها: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ [الزمر:21]، ويُقال: (الينبوع) للجدول الذي يجري فيه الماء.

انتهينا من الغريب.

وهنا بعض التَّنبيهات والإضافات:

عبارة: "سيء بهم":

سُئلت مرةً عن عبارة: "سيء بهم"، قال ابنُ جُزي: "فُعِلَ بهم السُّوء". وهذا المعنى قد يكون واضحًا في قوله –تعالى-: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك:27] يعني: فُعِل بهم السُّوء، فظهر على وجوههم ما وجد في بواطنهم من الغمِّ والكآبة، ونحو ذلك، لكن "سيء بهم" قال هنا: "فُعِل بهم السُّوء".

ابن جُزي نفسه عند تفسير الآية في ثنايا التفسير، وليس في الغريب، قال: سِيءَ بِهِمْ [هود:77] أصابه سوء وضجر. وهذا معنى مشهور، ومن أشهر معانيه: سِيءَ بِهِمْ يعني: استاء بمجيئهم؛ لأنَّه لا يستطيع أن يدفع قومه عنهم، وخاف عليهم إن تركهم أن يصل إليهم هؤلاء الفجرة.

وابن جرير -رحمه الله- له عبارات عند تفسير هذه اللَّفظة، يقول: "ساءه مجيئهم"[18]. هذا معنى قاله كثيرٌ من المفسّرين، وهو مُوافقٌ لكلام ابن جُزي عند تفسير الآية، فعبارة ابن جُزي: أصابه سوء، بمعنى: ساءه مجيئهم.

وذكر المعنى الآخر: سِيءَ بِهِمْ ساءه، يعني: صار هو الفاعل، ساء ظنًّا بقومه.

الأول: أنَّه وقع عليه الاستياء بسبب مجيء هؤلاء الأضياف.

والمعنى الثاني: وهو منقولٌ عن ابن عباسٍ وجماعةٍ من السَّلف : أنه ساء ظنًّا بقومه[19]، سِيءَ بِهِمْ مُوجّه هذا لقومه، وليس للأضياف.

وقال ابنُ جرير في موضعٍ آخر: "ساءته الملائكةُ بمجيئهم إليه". وذكر كلامًا، ثم قال: "فعل بهم من ساءه بذلك"[20]، فهذه مُوافقة للعبارة التي ذكرها ابنُ جُزي في الغريب، والمعنى: أبدى لهم ما يدلّ على استيائه بمجيئهم؛ خوفًا عليهم من هؤلاء القوم.

فعبارة ابن جُزي: "فُعِل بهم السوء"، يعني: كأنَّه أبدى لهؤلاء الملائكة شيئًا يدلّ على الاستياء من مجيئهم؛ خوفًا عليهم؛ لأنَّه لا يعلم أنَّهم ملائكة.

وجاء في "حاشية البيضاوي" في بعض حواشيه الخفاجي يقول: "ساءه، سوء، ومساءة، فعل به ما يكره فاستاء"، إلى أن قال: "والضَّمير فيه للوط -عليه السلام-، أي: أحدث له مجيئهم المساءة، ومجيئهم هو الفاعل في الأصل"[21].

وجاء أيضًا في كتاب "الكُليات" للكفوي: "فعل بهم السّوء"[22]، هذه مُوافقة لعبارة ابن جُزي، فتبين الآن توجيه هذه العبارة.

هذا ما يتعلق بهذا الموضع.

أيضًا هناك بعض التَّنبيهات القليلة المتعلقة بالعقيدة:

لفظة (كيد):

في صفحة (139) لفظة: كيد، قال: "هو من المخلوق احتيالٌ، ومن الله مشيئة أمرٍ ينزل بالعبد من حيث لا يشعر"، فهذا تأويل، فتفسير الكيد بأنَّه مشيئة أمرٍ ينزل بالعبد من حيث لا يشعر، هذا يكون من مُقتضياته ولوازمه، وإلا فالكيد معروفٌ؛ فيكون بإيصال الضَّرر والشَّر بطريق خفيٍّ، هذا في الغالب، وقد يكون بغير ذلك، يعني: بغير إيصال الشَّر؛ ولذلك فالكيد يكون محمودًا إذا كان بمَن يستحقّ، يُقال: كاده، وكاد له: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]، فهذا يكون كمالًا إذا كان بمَن يستحقّ، ولا يُشترط أن يكون بمقابلٍ في اللَّفظ، كما ذكرنا سابقًا: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، فهذا قابله في اللَّفظ، وبعضهم قال: هذا من قبيل الـمُشاكلة. وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ المشاكلة عند طائفةٍ من قبيل المجاز، وهذه ليست من المجاز، فالمشاكلة اللَّفظية كقول:

قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلتُ: اطبخوا لي جُبَّةً وقميصا[23]

الجُبّة والقميص لا تُطبخ، لكن الكيد صفة حقيقية، لا تكون مدحًا بإطلاقٍ، وإنما تكون مدحًا إذا كانت بمَن يستحقّ، ولا يُشترط أن تكون بمقابلٍ في اللَّفظ: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ، لكن إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا قابل كيدَهم بهذا الكيد، فهو يكون كمالًا إذا كان بمَن يستحقّ.

لفظة (علا):

الموضع الآخر في صفحة (153): (علا)، يقول: علا يعلو: تكبّر، ومنه: قَوْمًا عَالِينَ [المؤمنون:46]، عَلَا فِي الأَرْضِ [القصص:4]. يقول: والعلي اسم الله، والمتعالي.

ونحن قلنا: المتعالي لا يثبت لله ، وإنما العلي والأعلى.

قال: من العلو، بمعنى: الجلال والعظمة. فهذا تأويلٌ، العلو الثابت لله هو علو الذات، بمعنى: أنَّ الله -تبارك وتعالى- عالٍ على خلقه، فهو مُتَّصفٌ بالعلو فوق سماواته، على عرشه.

وأدلة العلو وأنواعها في القرآن كثيرة، تزيد على العشرين نوعًا، وانظر على سبيل المثال ما أورده الذَّهبي -رحمه الله- في كتابه "العلو للعلي الغفار"، ذكر نصوصًا كثيرةً من الكتاب والسُّنة، ودلائل الفطرة، والعقل، وكلام السَّلف فمَن بعدهم، بل حتى أورد من حال البهائم: أنَّها تعرف أنَّ ربها -تبارك وتعالى- مُتَّصفٌ بالعلو.

فهنا تفسيره بالجلال والعظمة هكذا غير دقيقٍ، فيُقال: العلو للذَّات، وهناك علو القدر والمنزلة، وهناك علو القهر، فكلّ هذه الأنواع وهذه المعاني في العلو ثابتة لله -تبارك وتعالى-.

لفظة (سُبحان):

أيضًا هناك موضع آخر صفحة (160)، لعلي نبَّهتُ عليه، قال: "سُبحان: تنزيه، وسبّحتُ الله، أي: نزّهته عمَّا لا يليق به من الصَّاحبة والولد والشُّركاء والأنداد وصفات الحدوث"، فـ"صفات الحدوث" هذه عبارة مُحتملة، فأهل الكلام يُطلقون ذلك ويُريدون به الصِّفات المتعلقة بالإرادة والمشيئة، فينفونها، ويقولون: إنَّ ذلك يقتضي حلول الحوادث بذات الله -عزَّ وجلَّ-؛ ولذلك تجد الأشاعرة يُفسّرون الكلام بالكلام النَّفسي، فيقولون: لا تعاقب فيه ولا انقضاء، "بسم الله" السين لا تكون بعد الباء، والميم لا تكون بعد السين، ولفظ الجلالة ليس بعد "بسم". كل هذا يقولون: لأنَّه إذا جاءت هذه بعد هذه، فمعنى ذلك أنَّه في أزمان مختلفة، وفي أوقات مختلفة، ومعنى ذلك أنَّ الحوادث حلَّت بذاته.

يقولون: الله يتكلم كلامًا يليق بجلاله وعظمته، يتكلم متى شاء، وكيف شاء.

فالصِّفات المتعلقة بالمشيئة والإرادة لا يُثبتونها على الوجه الصَّحيح، فبعض المتكلمين –كالأشاعرة- يقولون: نحن نُثبت الكلام. لكن الواقع أنَّهم لا يُثبتونه؛ لأنَّهم يُثبتون كلامًا لا حقيقةَ له، فهو عندهم معنى قائم في النفس، وليس بالألفاظ؛ ولذلك تجدهم في كتبهم يتكلمون عن كلام الله وألفاظ القرآن، فيقولون: مخلوقة، فهم يُوافقون المعتزلة في حقيقة قولهم، فيقولون: مخلوقة، خلقها اللهُ في الهواء، أو تلقّفها جبريلُ تلقّفًا روحانيًّا من الله، يعني: يتلقّف المعنى، ثم عبّر عنه جبريل، فهو كلام جبريل عندهم!

وبعضهم يقول: إنَّه كلام النبي ﷺ، فجبريل ألقى المعنى في قلب النبي ﷺ، وكلّ هذا من أجل ألَّا يُثبتوا لله كلامًا، ومبنى هذا على مسألة حلول الحوادث.

وأيضًا يقصدون بهذا المعنى "صفات الحدوث" الصِّفات الذَّاتية غير المعنوية، مثل: الوجه، واليد، ونحو ذلك، يقولون: هذه من صفات الحوادث. فيُنزّهون الله عمَّا وصف به نفسه، فهذه العبارة فيها إجمال، وتحتمل، فلا نُعبّر بمثل هذا.

عبارة: "وجه له معنيان: الجارحة، والجهة ...":

يقول أيضًا في صفحة (166): "وجه له معنيان: الجارحة، والجهة، ومنه: وِجهة، وأمَّا وجه الله، ففي قوله: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272] يعني: طلب رضاه، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] قيل: الوجه: الذات، وقيل: صفة كاليدين، وهو من المتشابه".

هو لا يُفسّر الوجه بالذات كما سبق، ولكنه صفة حقيقية ثابتة، غير معنوية، وليس من المتشابه، إن قصد أنَّه مُتشابه في كُنهه وحقيقته فهذا صحيحٌ، فإنَّه لا يطلع على حقائق الصِّفات وكُنهها وكيفياتها إلا الله -تبارك وتعالى-، وإن قصد من جهة المعنى فهذا غير صحيحٍ؛ فإنَّ الوجهَ معروفٌ في كلام العرب، والله خاطبنا بما نعقل ونفهم، بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ.

قد سأل الإخوانُ في البداية لما رأوا ترتيب الأحرف هنا على غير ما عهدوا: لماذا جاءت بهذا الترتيب؟

فأذكر خلاصةً في هذا، وهي: أن ترتيب الحروف عند النَّحويين يرجع إلى اعتبارات؛ فهم إمَّا أن يُراعوا أشكال الحروف، وهذا الذي يُعرف عندنا بالترتيب الألف بائي، وإمَّا وفق الترتيب الأبجدي، وإمَّا وفق مخارج الحروف، فهو صوتي. فصارت عندنا ثلاثة أنواع في ترتيب الحروف.

الترتيب الألف بائي هو ترتيب الحروف من 28 حرفًا، وهذا الترتيب الألف بائي يقولون: إنَّ الذي وضعه هو نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبدالملك بن مروان. وهذا الترتيب مبني على المشابهة بين الحروف في الشكل والرسم، والتَّقابل بين الإعجام والنَّقط.

أمَّا الترتيب الأبجدي: تُرتّب هذه الحروف أبجديًّا في البلاد المشرقية: ألف، باء، جيم، دال ...، وأبجد هوز حطي ... إلى آخره، ويرتبط بها ما يُسمّى: بحساب الجُمّل، يعني: كلّ حرف له قيمة عددية، الألف واحد، والباء اثنان، وهكذا، بعد ذلك نصير إلى العشرات، ثم المئات، فالكاف قيمته عشرة، واللام قيمتها عشرون، وهكذا، والمئات بدأت بحرف الراء، إلى أن يصل العددُ إلى الألف مع حرف الغين.

والترتيب الأبجدي للحروف العربية في المغرب هو هكذا: أبجد هوز حطي كلمن، وهكذا إلى آخره.

وسبب هذا الاختلاف بين المشارقة والمغاربة في الترتيب الأبجدي للحروف العربية هو: أنَّ المغاربة يروون الترتيب الأبجدي عن الأمم القديمة -كما يقال-، وبخاصة الأمم السَّامية، على غير ما يرويه عنهم المشارقة.

وهناك الترتيب الصوتي: يقولون: إنَّ الذي فعله ورتّبه هذا الترتيب هو الخليل بن أحمد، الإمام المعروف، تبدأ هكذا: بالعين والحاء والهاء والخاء والغين ... إلى آخره، فهذا باعتبار الأصوات.

وهناك ترتيب صوتي بعد الخليل بن أحمد بدأ بالأصوات الشَّفوية، وانتهى بأصوات الحلق، بينما كان ترتيبُ الخليل مبتدأً بالحلق، ومُنتهيًا بالشِّفاه.

وابن جني أيضًا رتّب الأصوات العربية ترتيبًا آخر؛ حيث رتّب هذه الحروف باعتبار الصّوت ابتداءً من الواو، ثم الميم، ثم الباء، ثم الفاء، ثم الثاء، وهكذا.

وفي هذا العصر أيضًا رتّب بعض المعتنين الحروف صوتيًّا، ابتداءً من الباء، ثم الميم، ثم الواو، ثم الفاء، ثم الثاء، ثم الذال ... إلى آخره.

والترتيب الصّوتي له اعتبارات مُتعددة بحسب اختيار هؤلاء، وما راعوه في هذا الترتيب.

هكذا يختلف ترتيب الحروف الهجائية، فإذا جئنا إلى الترتيب الألف بائي في المشرق مثلًا، هكذا: ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء، دال، ذال، راء، زاي، سين، شين، صاد، ضاد، طاء، ظاء، عين، غين، فاء، قاف، كاف، لام، ميم، نون، هاء، واو، ياء. هذا الألف بائي في المشرق.

أما الألف بائي في المغرب فهو: ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء، دال، ذال، راء، زاي. لاحظ: هذا متّفق، ثم بعد ذلك: طاء يُقابل السين هناك، وظاء يُقابل الشين هناك، وكاف يُقابل الصَّاد هناك، وهكذا: لام، ميم، نون، صاد، ضاد، عين، غين، فاء، قاف. وتظن أنَّ الغريب سينتهي مع ابن جُزي -رحمه الله-، ثم ترجع إلى حرف السين، ثم الشين، ثم الهاء، ثم الواو، ثم الياء، بهذا الترتيب، فابن جُزي مشى على طريقة المغاربة في الترتيب.

وهناك ترتيب أبجدي في المشرق: ألف، باء، جيم، دال، هاء، واو، زاي، حاء، طاء، ياء، كاف، لام، ميم، نون، ثم بعد ذلك يبدأ: سين، عين، فاء، صاد، قاف، راء، شين، تاء، ثاء، خاء، ذال، ضاد، ظاء، غين. فآخر شيءٍ حرف الغين.

الترتيب الأبجدي في المغرب يتّفق معه إلى حرف النون، ثم بعد ذلك يبدأ في الاختلاف، ففي مُقابل السين عند المشارقة في الأبجدي هنا صاد عند المغاربة، ثم عين، ثم فاء، ثم ضاد، ثم قاف، ثم راء، ثم سين، وتاء، وثاء، وخاء، وذال، وغين، وآخر الحروف هو حرف الشِّين.

للترتيب الصوتي -كما سبق- أكثر من طريقةٍ؛ عند الخليل بن أحمد: العين، والحاء، والهاء، والخاء، والغين، والقاف، والكاف، والجيم، والشين، وضاد، وصاد، وسين، وزاي، وطاء، ودال، وتاء، وظاء، وذال، وثاء، وراء، ولام، ونون، وفاء، وباء، وميم، وواو، وألف، وياء، وبعد ذلك الهمزة، فهذه طرقٌ في الترتيب.

بدأنا في الغريب في 1/ 1 عام 1436هـ، واليوم 5/ 8 عام 1436هـ، فاستغرق سبعة أشهر، في سبعةٍ وأربعين مجلسًا، باعتبار أنَّ كل سبت مجلسان، في (602) لفظة.

ودراسة الغريب هي جديرة بهذه المدة، وهي جديرة بالعناية، وهذا من أنفع ما يكون -كما سبق- لطالب العلم، والحاجة إليه ماسّة، ومن ثَمّ يكون الانطلاق.

والله أعلم.

  1. "مقاييس اللغة" (6/76).
  2. "مقاييس اللغة" (6/93).
  3. "مجموع الفتاوى" ت: الباز والجزار (13/342).
  4. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة، برقم (8).
  5. متفق عليه: أخرجه البخاري: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ برقم (2)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي -صلى الله عليه وسلم- في البرد وحين يأتيه الوحي، برقم (2333).
  6. "تزيين الأسواق في أخبار العشّاق" (ص184) بروايةٍ أخرى: "وأوحى إليها الوهمُ أني أُحبّها *** فأثَّر ذاك الوهمُ في وجناتها".
  7. "الجامع لأحكام القرآن" (7/77(.
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3464)، ومسلم: في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2964).
  9. أخرجه مسلم: كتاب البر والصّلة والآداب، باب في فضل الحبِّ في الله، برقم (2567).
  10. "مقاييس اللغة" (6/124).
  11. "مقاييس اللغة" (6/158).
  12. "مقاييس اللغة" (6/158).
  13. "مقاييس اللغة" (6/155).
  14. "مقاييس اللغة" (6/153).
  15. "مقاييس اللغة" (6/152).
  16. "مقاييس اللغة" (6/153).
  17. "مقاييس اللغة" (5/381).
  18. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (15/407).
  19. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (15/408).
  20. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (20/32).
  21. "حاشية الشّهاب على تفسير البيضاوي = عناية القاضي وكفاية الراضي" (5/117).
  22. "الكليات" (ص523).
  23. البيت في "الكليات" (ص843) بلا نسبةٍ لقائلٍ.

مواد ذات صلة