الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(001-ب) من قوله تعالى "الذين يؤمنون بالغيب" إلى قوله "هم السفهاء"
تاريخ النشر: ٢٨ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 2297
مرات الإستماع: 2237

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

قال الإمام ابن جُزي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فيه قولان، يؤمنون بالأمور المغيبات، كالآخرة، وغيرها، فالغيب على هذا بمعنى الغائب، إما تسميه بالمصدر، كعدل، وإما تخفيفًا في فعيل، كميْت".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور، وهو المُتبادر، فيكون ذلك كما جاء عن أبي العالية -رحمه الله-: يؤمنون بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقاءه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا كله غيب[1]، وجاء نحو هذا أيضًا عن قتادة[2]، فالإيمان بالله غيب، والإيمان أيضًا بالكتب والرسل والجنة والنار إلى آخره، فهذا هو المُتبادر في هذا الموضع، ولكن الآية تحتمل أيضًا معنى آخر وهو ما ذكره بعده.

"والآخر: يؤمنون في حال غيبهم، أي: باطنًا وظاهرًا، وبالغيب على القول الأول يتعلق بـيُؤْمِنُونَ وعلى الثاني في موضع الحال، ويجوز فِي الّذِينَ أن يكون خفضًا على النعت، أو نصبًا على إضمار فعل، أو رفعًا على أنه خبر مبتدأ".

هنا على المعنى الثاني: يؤمنون في حال غيبهم، أي باطنًا وظاهرًا، يعني: المنافق يكون إيمانه إذا كان بحضرة الناس فيدعي الإيمان، ويُظهر التزام شرائع الإسلام، ولكنه إذا غاب لم يكن كذلك وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] وكذلك أيضًا ما يتصل بمراقبة الله ، وحفظ حدوده على المعنى الثاني، كما قال الله -تبارك وتعالى-: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [ق:33]، فالمقصود به إذا غاب عن أعين الناس، يعني: في حال الخلوة، فهذا هو المعنى في آية (ق) لكنه في سورة البقرة هنا في هذه الآية يكون ذلك مُحتملًا، والمُتبادر هو الأول، ويمكن أن يقال: بأن الآية تنتظم المعنيين، يؤمنون بالغيب بما يجب الإيمان به: من الإيمان بالله، وما إلى ذلك، وكذلك إذا كانوا في حال خلوتهم، فإنهم يكونون على حال من ملازمة حدود الله -تبارك وتعالى- ومراقبته، والخوف منه.

قال: "الغيب على القول الأول" يعني: أن الغيب الإيمان بالله، ونحو ذلك، يتعلق بـ يُؤْمِنُونَ يعني يؤمنون بما يجب الإيمان به مما غاب عن الحس، وعلى الثاني: في موضع الحال، يعني: يؤمنون حال كونهم غُيبًا عن أنظار الناس، يكون على الحال بهذا الاعتبار.

"ويجوز في الذين أن يكون خفضًا على النعت" ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] للمتقين، ما صفة هؤلاء؟ نعتهم بقوله: الَّذِينَ فللمتقين، اللام حرف جر، والمتقين مجرور، ويكون الَّذِينَ صفة مجرورة أيضًا، خفضًا على النعت، أو نصبًا على إضمار فعل هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ [البقرة:2-3] أخص الذين، أو أعني الذين يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ والأصل عدم التقدير.

فهذا من جُملة أوصاف المتقين، فذكر أول ما ذكر من أوصافهم: الإيمان بالغيب، وهذا يدل على أهميته.

أو رفعًا على أنه خبر مُبتدأ، هم الذين يؤمنون بالغيب، وكما سبق أن الأصل عدم التقدير.

"قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3] إقامتها عملها، من قولك: قامت السوق، وشبه ذلك، والكمال المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها، وفضائلها، وسننها، وحضور القلب، والخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض، والإكثار من النوافل".

حاصل هذا المعنى الذي ذكره هو المنقول عن السلف  كابن عباس وقتادة ومقاتل بن حيان[3]، وغير هؤلاء يقولون: من أن المقصود بالإقامة يقيمون الصلاة يأتون بها على الوجه المشروع، مستوفية لأركانها، وشروطها، وواجباتها ومستحباتها، بخشوع، وحضور قلب، فهكذا الصلاة ترد دائمًا حينما يُؤمر بها، أو حينما يُوصفون، أو يُمدحون بذلك: أنه يُذكر بلفظ الإقامة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3] ولم يقل في موضع واحد: يؤدون الصلاة، بينما الزكاة: آتوا الزكاة؛ وذلك أن الصلاة لا يُطلب تأديتها فحسب، وإنما الإقامة؛ ولهذا قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر ما نُقيم منها يكون ذلك الأثر، تنهى عن الفحشاء والمنكر بقدر ما يتحقق من هذا الوصف الذي هو الإقامة يكون الحكم المُرتب عليه، وهو: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فيتفاوت الناس في ذلك.

وذكره بعد الإيمان بالغيب يدل على أهمية الصلاة، فالذين يهتدون بالقرآن هم هؤلاء.

"قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوع، والثالث: العموم وهو الأرجح؛ لأنه لا دليل على التخصيص".

يعني هنا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] ذكر القول الأول المقصود: الزكاة بقرينة الصلاة؛ لأنه كثيرًا ما ترد الزكاة مُقترنة مع الصلاة كثيرًا في القرآن، وذكرنا وجهه في مُناسبات سابقة في غير هذا الكتاب، وما ذكره بعض أهل العلم من أن الصلاة صلة بين العبد وربه، والزكاة صلة للمخلوق، وإحسان إلى المخلوق، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين، حُسن الصلة بالله، والإحسان إلى الخلق، أو باعتبار أن الصلاة تُمثل رأس العبادات البدنية، والزكاة تُمثل رأس العبادات المالية، وما تقرب العبد بشيء إلى الله أحب إليه مما افترض عليه، فذكر هذا وهذا، رأس العبادات البدنية، ورأس العبادات المالية، والعبادات إما مالية، وإما بدنية، واختلفوا في الحج، هل هو مُركب منهما، فعلى كل حال تفسير ذلك بالزكاة، قاله ابن عباس -ا-[4].

وكثير من أهل العلم حملوه على الزكاة، والنفقات الواجبة، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[5].

الثاني: أنه التطوع؛ لأنه ذكر الإنفاق، ولم يذكر الزكاة، لكن هذا لا يوجب حمله على صدقة التطوع؛ لأن النفقة تشمل النفقة الواجبة، وتشمل أيضًا المُستحبة، وقد جاء عن بعض الصحابة  وبعض التابعين أن قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] كان قبل فرض الزكاة يعني: أنها نفقة واجبة لكنها غير مُحددة بفرائض مُعينة، وأنصبة، كما هو الشأن في الزكاة المعروفة، فحملوه على هذا، وهذا أيضًا لا دليل عليه، والله تعالى أعلم.

ولهذا قال هنا: "الثالث العموم، وهو الأرجح؛ لأنه لا دليل على التخصيص" يعني يدخل في قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] النفقة الواجبة، والنفقة المُستحبة.

"قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:4] اخُتلف هل هم المذكورون قبل، فيكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:4] من عطف الصفات، أو غيرهم، وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفًا للمغايرة، أو مبتدأ، وخبره الجملة بعده".

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] هذا من جُملة الغيب، يعني الآخرة، وكذلك ما أُنزل من قبل النبي ﷺ، لذلك فإن بعضهم حمل قوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] على طائفة أخرى، وهو من أسلم من أهل الكتاب والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك من قبيل عطف الصفات، فنزل ذلك منزلة تغاير الذوات، فيكون من جُملة أوصافهم مع الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، فخص هذا باعتبار أنه من المطالب المُهمة في الإيمان: الإيمان بجميع الرُسل والكتب، ولا سيما هذا الكتاب، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285] فهذا ذكره في صفة النبي ﷺ، وأهل الإيمان من أتباعه، فيكون قوله: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:4] يعني: القرآن وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] الكتب السابقة.

وهنا لم يذكر الوصف الآخر وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، والمقصود: البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وما إلى ذلك، وسُميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، فهذه آيات أربع في صدر هذه السورة، في صفة المؤمنين، ثم تأتي آيتان في صفة الكافرين، وثلاثة عشر آية بعدها في صفة المنافقين.

أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، لم يتعرض لهذا، أُوْلَئِكَ أشار إليهم بإشارة البعيد؛ لعلو مرتبتهم عَلَى هُدًى ودخول (على) هنا يدل على الاستعلاء، وتنكير (الهدى) يدل على كماله، هدى عظيم كمال مِنْ رَبِّهِمْ كائن من ربهم، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فأشار إليهم أيضًا بالبعيد، وإشارة البعيد لعلو مرتبتهم، ودخل ضمير الفصل (هم) بين طرفي الكلام (أولئك) (المفلحون)، فجاء بـ(هم)، فقال: هُمُ الْمُفْلِحُونَ فهذا فيه تقوية النسبة، فتقول: فلان كريم، فلان الكريم، لكن تقول: فلان هو الكريم، فهذا فيه تقوية نسبة الكرم إليه، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، ودخول (أل) على المُفلحين يدل أيضًا على أنهم قد استحقوا الوصف الكامل من الفلاح، تقول: فلان هو الرجل، فلان هو الجواد، فلان هو الشُجاع، غير لما تقول: فلان شُجاع، فلان جواد، وهكذا، والفلاح: تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، كما هو معلوم.

"بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك [البقرة:4] القرآن وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] التوراة والإنجيل، وغيرهما من كتب الله، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] الآية، فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن، كأبي جهل، فإن كان الَّذِينَ للجنس، فلفظها عام، يراد به الخصوص، وإن كان للعهد، فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم، فقيل: المراد من قُتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، اليهوديان".

هذا جواب عن سؤال مُقدر، وهو أن الله -تبارك وتعالى- حكم على الكافرين بأنه يستوي في حالهم الإنذار، وعدم الإنذار، أنهم لا يؤمنون، ومعلوم أن كثيرًا من الكافرين يؤمن، ويدخل في الإسلام، ويهديهم الله ، وكان هذا في زمن النبي ﷺ، وما بعده، فكيف قال هنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] مع أن الواقع أن الكفار منهم من يؤمن، وهم كثير، فهذا هو السؤال الذي يرد في هذا الموضع ونظائره.

والجواب عن هذا: هنا يقول: "فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن" فيكون هذا من قبيل العام المُراد به الخصوص، وهذا غير العام المخصوص، فالعام المخصوص يعني العام الذي جاء دليل، وأخرج بعض الأفراد منه، أما العام المُراد به الخصوص: أن يكون القالب من قوالب العموم، يعني الصيغة صيغة عموم، ولكنه يُراد به معنى خاص ابتداء، يعني لم يرد دليل آخر يُخصصه.

يقول: "فإن كان الَّذِينَ للجنس، فلفظها عام، يُراد به الخصوص" فالذين هنا من صيغ العموم، فهذا لفظ عام أُريد به خاص، وإن كان للعهد الذين يعني كُفارًا مُعينين، فهنا يقول: "إشارة إلى قوم بأعيانهم، واُختلف فيهم هل هم من قُتل ببدر"... إلى آخره، والأول أقرب -والله أعلم-؛ ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مثل هذا الموضع، وما أشبهه: بأن المقصود بذلك من سبق عليه الكتاب أنه لا يؤمن[6]، ومن كان مُصرًا على الكفر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6] يعني: ممن قضى الله عليهم بالكفر قدره عليهم، وحرمهم التوفيق، فهؤلاء مهما جاءهم من البراهين والأدلة والآيات، فإنهم لا يؤمنون.

"سَوَاءٌ [البقرة:6] خبر (إن) وأَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6] فاعلٌ به؛ لأنه في تقدير المصدر، أو سواءٌ مُبتدأ، و(أنذرتهم) خبره، أو العكس، وهو أحسن".

يعني إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:6] فيكون الاسم الموصول هو اسم (إن)، وسواء خبر، وأأنذرتهم فاعلٌ به؛ لأنه في تقدير المصدر، يعني: سواء إنذارُك لهم، أو سواء مُبتدأ وأنذرتهم خبر، إن الذين كفروا سواء أنذرتهم، سواء مُبتدأ، وأنذرته خبره، أو أنذرتهم سواء، أو العكس، وهو أحسن، والذي يظهر -والله أعلم- أن (سواء) هو الخبر، سواء إنذارهم وعدمه، يقول: لا يؤمنون.

لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] على هذه الوجوه: استئناف للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضًا، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة في أَأَنذَرْتَهُمْ لمعنى التسوية، قد انسلخت من معنى الاستفهام".

يعني يستوي إنذارهم وعدمه.

مداخلة: وعلى القول بأنها خبر؟

إذا قلنا: بأنها خبر على الأول، يكون (الذين) اسم الموصول هو المُبتدأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:6] هذا هو الخبر، وهذا هو المُتبادر، والله أعلم.

"خَتَمَ [البقرة:7] الآية، تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز، وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف، ينقبض مع زيادة الضلال إصبعًا إصبعًا، حتى يختم عليه، والأول أبرع".

يقصد أن القول بأنه مجاز أبرع، يعني: باعتبار أنه تصوير لحال هذه القلوب، حيث صارت غير قبالة للإيمان كالشيء المختوم عليه، فهنا يكون مجازًا، وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض، وهذا جاء عن مُجاهد -رحمه الله- بألفاظ مُتقاربة: أن القلب كالكف، كما قال الأعمش: بأن مجاهدًا قبض البُنصر، ثم قبض التي تليها، ثم قبض التي تليها، يقول: كل ما أذنب العبد ذنبًا، انقبض القلب، هكذا، حتى ينقبض، فلا يصير قابلًا للهدى[7]، كما جاء في الحديث: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، يعني: الكوز إذا قُلب فإنه لا يقبل المائع لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر مُنكرًا، إلا ما أُشرب من هواه[8]، فهو كالكف يُقبض منه بكل ذنب أُصبع، ثم يُطبع، كما قال مُجاهد -رحمه الله-. وأصل الختم يقال للتغطية للشيء، والاستيثاق منه، حتى لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء.

وفسره بعض السلف كالسُدي بالطبع[9]، وبهذا قال جماعة: كمُجاهد[10]، وقال مُجاهد: بأن الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك جميعًا[11]، وتكلم ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "شفاء العليل" على هذه الأنواع: الختم، والطبع، والإقفال، والران، وما أشبه ذلك، وبيّن المُراد بكل واحد منها، فيُراجع هناك[12].

فهذا الختم كما أخبر الله ، ولا الحاجة للقول بأنه مجاز، وأن ذلك بمعنى الإضلال، بل ختم على قلوبهم، وإذا خُتم على القلب لم يعُد محلًا قابلًا للُهدى، فلا يصل إليه شيء من الموعظة والتذكير، ونحو ذلك.

"قوله: وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] معطوف على قلوبهم، فيُوقف عليه، وقيل: الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأول: أرجح؛ لقوله: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23]".

هنا يقول: وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه" وهذا هو الراجح الذي عليه عامة أهل العلم خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ فنقف هنا؛ لأن الختم يكون على القلوب والأسماع، يقول: "وقيل: الوقف على قلوبهم" خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] يقول: "والسمع راجع إلى ما بعده" وما الذي بعده؟ الغشاوة على الأبصار، فعلى الوقف على قوله: قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] يكون السمع خبرًا مقدمًا، يعني: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] فغشاوة تكون مُبتدأ، والجار والمجرور وَعَلَى سَمْعِهِمْ في محل رفع خبر، وقوله: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ [البقرة:7] يكون معطوفًا على الخبر.

فصارت الغشاوة بهذا الاعتبار على السمع والبصر، وهذا لا يخلو من إشكال، وهو ضعيف، والله تعالى أعلم.

وإنما الغشاوة هي التي تكون على الأبصار، كما يدل عليه قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23] فالختم يكون على السمع والقلب، قال: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23] فجاء ذلك مُصرحًا به، فيكون الوقف هكذا خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] فالختم يكون عليهما، أما البصر فيكون عليه الغشاوة وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] وبهذا المعنى يتضح تمامًا.

"غِشَاوَةٌ [البقرة:7] مجاز باتفاق".

ليس باتفاق، إنما باتفاق عند من يثبتون المجاز، والمقصود بالغشاوة هي الغطاء الذي يكون على البصر، بمعنى أنه لا يُبصر الإبصار الذي ينفعه، وكذلك في السمع، فالحاسة موجودة يسمع، لكنه لا يسمع سماع انتفاع، فهو لا ينتفع بما يسمع، أو بسمعه كذلك هو أيضًا لا ينتفع بما يُبصر، أو ببصره.

"وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافًا لمن منعه".

والذي يُنازعه في هذا، يقول على ظاهره: على بصره غشاوة تمنعه من رؤية الأمور على ما هي به، يعني: ليس له بصيرة نافذة، فهو لا ينتفع بما يرى، فيرى الآيات الكونية، ونحو ذلك، ولا ينتفع بشيء من ذلك؛ لأنه على بصره غشاوة.

"ووحد السمع؛ لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع".

هكذا أجاب عن هذا السؤال الذي يرد، وهو: لماذا يرد السمع مُفردًا، والبصر يكون مجموعًا؟ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ [المؤمنون:78] فهنا جاء السمع في هذه الآية موحدًا مفردًا، يقول: لأنه مصدر، والمصادر لا تُجمع، يقال: رجل صوم، فهذا مصدر، ورجال صوم، ورجلان صوم، فجاء الوصف مفردًا؛ لأنه مصدر، والمصادر يقولون: لا تُجمع.

وبعض أهل العلم يقول غير هذا في الجواب في ما يتصل بالمواضع التي ذُكر السمع فيها مُفردًا، وذُكرت الأبصار مجموعة، فبعضهم يقول: بأن ذلك باعتبار أن لكل واحد منهم سمعًا واحدًا، كما يقال: أتني برأس الكبشين، بالإفراد، يعني رأس كل واحد منهما، وبعضهم يقول: هذا على تقدير مُضاف محذوف فيكون (على سمعهم) يعني على حواس سمعهم، لكن هذا لا يخلو من تكلُف، وبعضهم يقول: بأن ما قبل لفظ السمع، وما بعده ذُكر بلفظ الجمع، مما يدل على أن المُراد به الجمع خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] جمع، وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ [البقرة:7] جمع، فذُكر بين جمعين، فهذه قرينة تدل على أن المراد به الجمع، يعني وعلى أسماعهم، والله أعلم.

"قوله: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] أصل الناس أُناس؛ لأنه مشتق من الإنس، وهو اسم جمع، وحُذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفًا.

مَنْ يَقُولُ [البقرة:8] إن كان اللام في الناس للجنس فـ(من) موصوفة، وإن جعلتها للعهد فـ(من) موصولة، وأُفرد الضمير في (يقول) رعيًا للفظ (من)".

يقول: "إن كان اللام في الناس في قوله: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] إذا اعتبرنا أن التعريف في (الناس) بـ(أل) أو اللام؛ لأن بعضهم يقول: إن التعريف باللام، وبعضهم يقول: بأل، كما قال ابن مالك -رحمه الله-:

"أل حرف تعريفٍ أو اللام فقط"[13].

فهذا اختلاف بين النُحاة معروف، فهنا جرى على أن اللام هي المُعرفة، فيقول: "إن كان اللام في الناس للجنس فـ(من) موصوفة، وإن جعلتها للعهد فـ(من) موصولة" يعني: (أل) عهدية، هي في معهودين في المنافقين، وليس (من الناس) عموم الناس، وإنما من عُهدوا وعرفوا بالنفاق، فـ(من) موصولة، "فمن الناس من يقول" يعني: الذي يقول، وأفرد الضمير في "يقول" رعيًا للفظ "من"، (من) لفظها مُفرد، والناس كثير، فالأصل أن يقول: "فمن الناس من يقولون" فقال: "من يقول"، فجاء بالمُفرد مراعاة للفظ (من) حيث إنها من جهة اللفظ مفردة، ولكن هي بمعنى الجمع.

"قوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] هم المنافقين، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج، رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، يُظهرون الإسلام، ويُسرون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك زنديقًا".

يعني هؤلاء ليسوا فقط من الأوس والخزرج، بعضهم من اليهود، كما دل عليه القرآن، وبعض هؤلاء من الأعراب، كما قال الله أيضًا: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة:97] ثم ذكر الآخرين بعدها وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:99] فطائفة من الأعراب كانوا مُنافقين.

وهنا في قوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] جاء نفي الإيمان عنهم بهذه الصيغة، ودخلت الباء هنا تقوية لهذا النفي، وعُبر بالاسم، ولم يقل: وما آمنوا، كأنه أخرج ذواتهم أصلًا عن جُملة المؤمنين، مُبالغة في النفي.

قال: "هؤلاء هم الذين يُظهرون الإسلام، ويُسرون الكفر، ويُسمى الآن من كان كذلك زنديقًا" يعني: باعتبار أن الزنديق هو بإيزاء المنافق، يعني: أن الزنديق والمُنافق بمعنى واحد، وهذا يقول به كثير من أهل العلم، وبعضهم يفرقون بينهما، وقد يوجد فرق في الأصل، ثم بعد ذلك يجتمعان في النتيجة، وإلا فإنه في الأصل كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-، وغيره بأن أصل هذه اللفظة زنديق أنها أعجمية فارسية، عُربت بعد الإسلام، فهي تُطلق عند الفقهاء على المنافق[14].

وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن أبي حاتم السجستاني: أن أصله في الفارسية: زندة كرداي[15]، يعني مكون من لفظتين، ثم عُرب، فقيل: زنديق، يعني: يقولون: هذا يقال للدهرية عندهم، الذين يقولون بدوام الدهر؛ لأن زنده عندهم بمعنى الحياة، وكرد بمعنى العمل.

ثم ذكر الحافظ أن التحقيق ما ذكره من صنف في المِلل: أن أصل الزنادقة أتباع ديصان، ثم ماني، ثم مزدك الأول[16]، يقولون: بقِدم النور والظُلمة، فظهر الإسلام، وهذا يُطلق على من يعتقد ذلك، يعني: بقِدم النور والظُلمة، وأنه ظهر جماعة منهم على كل حال بعد الإسلام لكنهم كانوا يخفون مُعتقدهم خشية القتل، فأُطلق عليهم الزنادقة، يعني: الذين يعتقدون هذه العقيدة، ثم صار ذلك يُطلق على من أظهر الإسلام، وأخفى الكُفر، يقال له: زنديق، يعني مُنافق، فهؤلاء أخفوا كُفرًا خاصًا، وهو قِدم النور والظُلمة، بقوا على أصل دينهم، فقيل لهم: زنادقة، وكان يقال لهم ذلك عند الفُرس، ثم بعد ذلك استمر هذا الإطلاق، وتُوسِّع فيه بعد أن جاء الإسلام، وفُتحت بلاد فارس، فصار يُقال لهؤلاء ولغيرهم ممن أبطن الكفر، وأظهر الإسلام: زنديق، وهذا الذي اختاره أيضًا ابن قدامة -رحمه الله-[17]، وهذا الذي جرى عليه كلام الفقهاء في توبة الزنديق، وحكم توبة الزنديق، وحكم الزنديق، القتل مثلًا، وهل تُقبل توبته أو لا؟ يقصدون به معنى المُنافق.

"وهم في الآخرة مخلدون في النار".

هذا باعتبار النفاق الاعتقادي، النفاق الأكبر المُخرج من الملة، وإلا فإنه يوجد نفاق آخر، الذي هو النفاق العملي، والنبي ﷺ ذكر أوصاف المنافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان[18]، فهذا في النفاق العملي.

"وأما في الدنيا فإن لم تقم عليهم بينة، فحكمهم كالمسلمين في دمائهم، وأموالهم".

يعني هذه أحكامهم في الظاهر، أنهم يُعاملون معاملة المسلمين، كما كان ذلك في زمن النبي ﷺ، وتوكل سرائرهم إلى الله.

"وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك القتل، دون الاستتابة".

لماذا القتل دون الاستتابة؟ يقولون: هذا لا طب فيه؛ لأنه يتلون، هو يُظهر أصلًا الإسلام، ويُبطن الكفر، فما بالك بالتوبة، فهو سيقول: أنه تاب، ولا يُتحقق من توبته؛ لأنه ليس له مبدأ، ولا مذهب، فبهذا الاعتبار قالوا: لا توبة له؛ لأنه لا يوثق بتوبته، فهو يتلون.

"ومذهب الشافعي الاستتابة، وترك القتل، فإن قيل: كيف جاء قولهم: آمَنَّا [البقرة:8] جملة فعلية وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] جملة اسمية؟ فهلا طابقتها؟

فالجواب: أن قولهم: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أبلغ وأوكد في نفي الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا".

التعبير بالاسم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] ولو يقل: وما آمنوا، ذلك من قبيل المُبالغة في نفي الإيمان عنهم، كأنه أخرج ذواتهم من جملة المؤمنين، وأكده بالباء كما سبق للمُبالغة في نفي الإيمان عنهم، ولاحظوا هنا تسلط النفي على اسم الفاعل وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] ولم يُقيد ذلك بزمان؛ ليشمل النفي جميع الأزمان، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل.

"فإن قيل: لم جاء قولهم: آمَنَّا [البقرة:8] مُقيدًا بالله، واليوم الآخر، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] مطلقًا؟

فالجواب: أنه يحتمل وجهين: التقييد، فتركه لدلالة الأول عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان".

يعني حذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، لم يقل: وما هم مؤمنين بالله، أو وما هم بمؤمنين بالرسول ﷺ، وإنما أطلق ذلك؛ ليشمل كل ما يتصور، أو يدخل تحته، مما يصلح في هذا الموضع، حذف المتعلق يعني المُقدر المحذوف، يفيد العموم النسبي، هذه قاعدة من قواعد التفسير، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ما قال: اجتنبوا شُربه، أو اجتنبوا بيعه، أو اجتنبوا إهداءه، أو اجتنبوا تخليله، أو اجتنبوا ادخاره، أو نحو ذلك، وإنما قال: فَاجْتَنِبُوهُ فيشمل ذلك جميعًا.

وهنا قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فسلب عنهم الإيمان بكل صوره.

"قوله: يُخَادِعُونَ [البقرة:9] أي: أي يفعلون فعل المخادع، ويرومون الخِداع بإظهار خلاف ما يُسرون، وقيل: معناه: يخدعون رسول الله ﷺ، والأول أظهر".

لاحظ لماذا يأتي بالمعنى من هذين الوجهين، ويترك المعنى المُتبادر، يقول: يخادعون أي: يفعلون فعل المُخادع، ويرومون الخِداع (يُخادعون) أصل مبنى اللفظ (يُخادع) يُفاعل، مبني على المفاعلة، والمفاعلة في الأصل تكون من طرفين، فهذا يستشكله البعض: كيف يقع ذلك مع الله ، والله لا يُخادع؟!

فيقولون: يفعلون فعل المُخادع، يعني: هم لا يُخادعون حقيقة، مع أنه لا مانع من إجراءه على ظاهره، فهم يُخادعون في زعمهم وظنهم، ولكن ذلك في الواقع يعود عليهم بالوبال، فهنا بنى كلامه على أن المُفاعلة لا تكون إلا من طرفين، فأشكل عليه هذا، مع أن الواقع -وهذه فائدة-: أن المُفاعلة لا يلزم أن تكون بين طرفين، هي الأصل أن تكون بين طرفين، لكنها قد تأتي من طرف واحد، وهذا له نظائر، وأمثلة ليست قليلة، التجاهل ليس من طرفين، والتغافل، والتغابي، والتصابي، تقول: فلان يتصابى، لا يوجد طرف ثاني، وإنما يفعل ذلك بنفسه، وهكذا التحالم، يتحالم، يتكلف الحلم، يتعاظم، ويتعالم، والتهافُت والتثاقل، اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38]، والتفاني، وكلمة سافر، على وزن فاَعَلَ، فهذه لا تقتضي اشتراك طرف آخر، فليس دائمًا المُفاعلة تكون بين طرفين.

هنا يقول: "يفعلون المُخادع، ويرومون الخِداع" يعني: يطلبون ذلك، بإظهار خلاف ما يُسرون، وقيل: معناه يخدعون رسول الله ﷺ، والله  يقول: يُخَادِعُونَ اللَّهَ [البقرة:9] وهنا يقول: "وقيل: يخدعون رسول الله ﷺ"وهذا باعتبار أنه لا يمكن مُخادعة الله ، لكن كيف ساغ لهذا القائل بأن ذلك محمول على مُخادعة النبي ﷺ مع أن الآية صريحة وواضحة يُخَادِعُونَ اللَّهَ [البقرة:9]؟ يمكن لهذا القائل أن يُجيب: بأن مُخادعة النبي ﷺ تكون مُخادعة لله، فعاد إلى المعنى الذي فر منه، بهذا الاعتبار، يعني: مُخادعة الله  مخادعة لرسوله ﷺ، وعلى كل حال هم بفعلهم هذا يريدون مُخادعة الله، والله -تبارك وتعالى- يُخادعهم، فيُعاملهم بنقيض قصدهم، ومطلوبهم، فيكون ذلك تلك المُخادعة عائدة على أنفسهم.

"وَمَا يُخادعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] أي: وبال فعلهم راجعٌ عليهم، وقُرئ: وَمَا يَخْدَعُونَ [البقرة:9] بفتح الياء، من غير ألف، من خدع، وهو أبلغ في المعنى؛ لأنه يُقال: خادع إذا رام الخداع، وخدع إذا تم له".

هاتان القراءتان متواترتان، بضم الياء يُخادعون فهذه قراءة متواترة، لبعض السبعة، وكذلك أيضًا القراءة الأخرى: يَخدعون[19].

والمُخادعة -كما سبق- أنها أصل هذه المادة يدل على مُفاعلة بين طرفين وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة:9] أي: أن ذلك يرجع عليهم.

وذكر هنا أن القراءة وما يَخدعون بفتح الياء، من غير ألف أبلغ في المعنى؛ لأنه يقال: خادع إذا رام الخِداع، وخدع إذا تم له" خادع مُفاعلة، يعني: أنه قام بمزاولات وأعمال يُريد بها الخداع، لكن إذا خدعه بمعنى أوقعه في شركه وخِداعه، فحصل مطلوبه، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] فقال: فهذه أبلغ من وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَا أَنْفُسَهُم فالقراءتان إن كان لكل قراءة معنى، فالقاعدة أنهما بمنزلة الآيتين، فكأنهما آيتان، فهذه المزاولات هي في الواقع موجهة إليهم وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَا أَنْفُسَهُم وكذلك أيضًا القراءة الأخرى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَا أَنْفُسَهُم فهذا واقع وحال بهم، والله  لا يبلغ العباد ضره إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[20].

"وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] حذف معموله، أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف، وغيره، وأن يكون مجازًا بمعنى الشك، أو الحسد".

الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا المرض هو مرض النفاق، وليس المقصود به الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وإنما هو مرض النفاق، وهو حقيقة، وليس بمجاز؛ لأن المرض يُقال لاعتلال مزاج البدن، كما يقال أيضًا لاعتلال مزاج الروح بالضلال والانحراف والشهوات، وعامة المواضع في كتاب الله  إذا ذُكر فيها مرض القلب، فالمقصود به النفاق، وقد يُقال للميل المُحرم إلى النساء، كما في قوله -تبارك وتعالى-: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] ويحتمل: أن يكون المراد به في بعض المواضع ضعف الإيمان، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:12] باعتبار أن العطف هنا لتغاير الذوات، فالمنافقون طائفة، والذين في قلوبهم مرض طائفة، وهم ضُعفاء الإيمان، ويحتمل أن ذلك يرجع إلى موصوف واحد، وهم المنافقون، فوصفهم بالنفاق، ووصفهم أيضًا بأن في قلوبهم مرضًا، لكن في عامة المواضع هو النفاق، والشك، والكفر بالله .

"فَزَادَهُمُ [البقرة:10] يحتمل الدعاء، والخبر".

المُتبادر أنه من قبيل الخبر، والجزاء من جنس العمل، وأما أنه يحتمل الدعاء فيكون بمعنى أنه يدعو عليهم بزيادة المرض، لكن هذا خلاف المُتبادر، والله أعلم، ويحتمل الدعاء والخبر معًا، يعني: أن الصيغة صيغة خبرية، مُضمنة معنى الدعاء؛ لأن الدُعاء إنشاء، وهو قسيم الخبر.

"قوله: يَكْذِبُونَ [البقرة:10] بالتشديد، أي يكذبون الرسول ﷺ، وقُرئ بالتخفيف، أي: يكذبون في قولهم: آمنا".

قوله: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] يعني: في دعواهم الإيمان، بما كانوا يكذّبون أيضًا بما يجب الإيمان به، أو بما كانوا يكذّبون من الدعاوى من دعوى الإيمان، وغير ذلك، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:1-2] فهم كثيرة أيمانهم، والنفاق إنما مبناه على الكذب، سواء كان ذلك النفاق الاعتقادي؛ لأنه يُظهر خلاف ما يُبطن، أو النفاق العملي، فـإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف[21]، قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: كيف تعرف الكذابين؟ قال: "بمواعيدهم"[22]، فإخلاف المواعيد هو كذب في الواقع، وكذلك إذا أؤتمن خان، هذا يرجع إلى الكذب؛ ولذلك فإن من أهل العلم من قال بأن حقيقة الكذب في القول أن يُخبر عما يكون مُخالفًا ومُغايرًا لما في نفسه، يعني ولو كان مُطابقًا وموافقًا للواقع، يعني: لو سُأل أين زيد؟ وهو يعتقد أنه موجود، فقال: مُسافر، ولم يعلم أنه قد سافر فيكون كاذبًا بهذا، مع أن الخبر جاء موافقًا للواقع؛ لأنه خالف ما في نفسه، فهذا هو الكذب، وهو أن يُخبر عما هو خلاف ما في نفسه، وهاتان القراءتان على كل حال أيضًا متواترتان (يُكذبون) و(يَكْذبون) فدل ذلك على أن الكذب سبب للعذاب، وهو أصل النفاق.

"قوله: لا تُفْسِدُوا [البقرة:11] أي: بالكفر والنميمة، وإيقاع الشر، وغير ذلك".

بجميع الإفساد، والكُفر إفساد، وهو من أعظم الإفساد، الكفر والشرك والنفاق، وكذلك أيضًا التحريض، والتثبيط، والمعصية لله  كل ذلك من الإفساد؛ ولذلك فإن السلف  لما تكلموا على هذا الإفساد الصادر من المنافقين، ذكروا هذه المعاني، من الكفر بالله، والنفاق، والإفساد بين المؤمنين، والمعاصي، وكل هذا من الإفساد، وهذا الذي اختاره أيضًا المُحققون، كابن جرير[23]، وابن كثير[24]، وأمثال هؤلاء.

"قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يحتمل أن يكون جحودًا للكفر؛ لقولهم: آمَنَّا أو اعتقاد أنهم على إصلاح".

يعني أنهم حصروا أنفسهم هنا في الإصلاح إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] مُبالغة منهم في وصف أنفسهم بالإصلاح، ونفي ما وجّه إليهم، فيقول: "يحتمل أن يكون جحودًا للكفر لقولهم: آمَنَّا أو اعتقادًا أنهم على إصلاح"، فالكفر هو رأس الإفساد، وهم يقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يعني: ينفون عن أنفسهم ما يوجه إليهم من النفاق والكفر، أو أنهم يعتقدون على أنهم على إصلاح بأفعالهم القبيحة هذه، بكونهم مثلًا يُدارون الفريقين، فهم يُصانعون أهل الإيمان، ويُصانعون أهل الكفر؛ ليتخذوا عند هؤلاء يدًا، وعند هؤلاء يدًا؛ ولذلك في الأحزاب كانوا يثبطون عن الرباط في الخندق، كما قال الله : وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18] فبعض العلماء يقولون: هلُم إلينا، بمعنى أننا نوفر لكم حماية، وإذا دخل الأحزاب المدينة، فإنكم لا ينالكم ما ينال الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن معه؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنهم سيسحقون، ويقتلون، فيقولون: هلُم إلينا، يعني تكونون في جمعنا وصفنا، فتسلمون من هؤلاء الأحزاب؛ لأنهم يعلمون أن المنافقين معهم وبينهم تواصل، ولهم أيدٍ على هؤلاء الكفار، ويدلون على عورات المسلمين، فيثبطون الناس عن رسول الله ﷺ، فيقولون: هلُم إلينا من أجل أن تتحقق لكم السلامة، وتُحقن دماؤكم، ونقول: هؤلاء معنا، وانحازوا عنه، وتركوه، فيُعرضون عنكم.

وبعض أهل العلم يقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يعني: بين الفريقين، بين أهل الكتاب، أو المُشركين، وأهل الإيمان، يعني لماذا هذا التلون؟ كالشاة العائرة، كما قال النبي ﷺ: مثل المنافق، كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة[25]، فتجده مع الكفار، ومع المؤمنين، فلا يسلك جادة صحيحة مستقيمة، فيقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يعني: نحن عندنا عقل، وأُفق واسع، ونظر بعيد، فنحسب للمستقبل، فقد يتغلب الكفار، فنحن نكون على صلات وثيقة معهم، ومع المؤمنين نحن أيضًا على صلات معهم، فمن غلب فنحن نضمن في المستقبل أننا نسلم، فهذا كان غاية مطلوبهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يعني: نحن نُفكر بطريقة صحيحة، وعندنا نظر وأُفق واسع، لا نُضيع مستقبلنا، ونكون في كفة الرسول ﷺ، ثم بعد ذلك قد تكون الدائرة عليهم، فنخسر كل شيء، هذا التفكير والنظر البعيد عند هؤلاء المنافقين.

المعنى الثاني: أنهم يقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يعني: نوازن بين الفريقين، الكفار أو أهل الكتاب، ومع المسلمين، فنحاول أننا نتخذ طريقًا وسطًا، لا نكون مع هؤلاء تمامًا، ولا مع هؤلاء تمامًا وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [النساء:150] فهو يريد أن يكون متوسطًا بين المؤمنين والكافرين، وهذا لا يتأتى؛ ولذلك مسألة الوسط، فالوسط لا يُطلب دائمًا، ولا يكون محمودًا في كل الحالات، وإنما يكون مطلوبًا في بعض الأحوال، فهذا الإنسان الذي قال: أنا وسط بين الإيمان والكفر، هذا ماذا يكون؟ يكون منافقًا، ليس بمؤمن، وليس بكافر، يُظهر الإيمان، ويُبطل الكُفر، فلا يتأتى الوسط هنا، والوسط لا يُطلب دائمًا، يُقال: توسط، وتوسطوا، وأنا متوسط، فالآن الله  ذكر طوائف هذه الأمة الثلاث: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] أيهما أفضل؟ هل يقال: الوسط هو الأفضل، هو المقتصد؟ هذا لا يقول به أحد، وإنما السابق بالخيرات، هذا الذي دلت عليه نصوص القرآن، فالتوسط لا يُطلب في كل الحالات، ولا يكون محمودًا في كل الحالات، وإنما يكون تارة يكون محمودًا وتارة غير ذلك، لكن الوسط الذي جاء في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي عدولًا خيارًا، وليس الذي يكون متوسطًا بين الطرفين بدرجة يستوي فيها كل طرف من هذه الناحية وهذه الناحية، فهذا ليس هو المقصود، يقال: توسط بين البُخل والكرم، هذا ليس بمُراد، توسط بين التقوى والفِسق، هذا غير صحيح، وتوسط بين العلم والجهل، كل ما نلت من العلم فهذا أكمل وأفضل.

هذا استطراد، يقال: بأن السيخ في الهند، أن أصل الديانة: أن رجلًا كان من الهُندوس، يعمل عند تاجر مُسلم، فأُعجب بأخلاقه وأمانته ونزاهته وتعامله، فكان ينجذب إلى هذا كثيرًا، وأيضًا لا يستطيع أن يُفارق ما عليه قومه من الديانة، فكان يتجاذبه دين قومه، مع ما يراه من هذا المسلم، ويرى ما يقع بين المسلمين والهندوس من العداوة والحرب بين حين وآخر، فأراد أن يتخذ بزعمه طريقًا وسطًا، يجمع فيه بين الديانتين؛ لتكون ديانة مُتحدة، وينتهي النزاع والشِقاق، فجاء بدين هجين، بين دين الهندوس، ودين المسلمين، فظهرت فرقة جديدة اسمها السيخ، وهؤلاء السيخ هم الآن أشد عداوة للمسلمين من الهندوس، ويقومون بمذابح شديدة للمسلمين، يذبحون الأطفال بالسلاح الأبيض، وترى على مد البصر الأطفال ممُددين قد قتلهم هؤلاء، فهذا الدين الجديد الذي جاء به بزعمه يُريد أن يُنهي هذا النزاع والحروب، فجاء بكفر جديد أشد من الكفر الأول، وهو في ظنه يريد أن يأتي بوسط، فلا يوجد توسط بين الإيمان والكُفر، وبين الهُدى والضُلال، يأتي شخص ويقول: لا أريد الهدى، ولا أُريد الضلال، يريد أن يكون رمادي كما يقال، هذا غير صحيح.

"قوله: كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] أصحاب النبي ﷺ، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه، أو للتعليل، وما يحتمل أن تكون كافة مُهيأة، كما هي في (ربما) وأن تكون مصدرية".

يقول هنا: كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] أصحاب النبي ﷺ، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه" يعني: آمنوا كإيمان الرسول ﷺ ومن معه، أو للتعليل: آمنوا كما آمن الناس، تقول: أعطني كما أعطيت زيدًا، يعني: لأنك أعطيت زيدًا، آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] فالناس آمنوا، فآمنوا أنتم، فتكون الكاف للتعليل، كما تدين تُدان، و(ما) يحتمل أن تكون كافة للكاف عن العمل، فهذه الكافة.

ومُهيأة لماذا؟ (كما) فهذه (ما) تكف هذه الحروف التي دخلت عليها عن العمل، يعني: لا يكون لها أثر إعرابي، يعني: (رُب) تفيد الجر، و(رُبما) لا يكون لها هذا الأثر من الخفض، وتُهيأها في الوقت نفسه للدخول على ما لم تكن داخلة عليه لولا مجيء (ما)، يعني تكون مُهيأة، مثل رُب كذلك، ونحوها، فلو قلت: رُب رجلٍ، فرجل هنا مجرور، وإذا قلت: رُبما رجلٌ جاءك، فانتفى الإعراب والأثر الإعرابي من (رجل) لما دخلت (ما) فهذا الأثر الأول، الأثر الثاني: أن رُب حرف جر، ومن علامات الاسم الجر، الجر يختص بالأسماء، ولا يدخل على الأفعال، فلا يصح أن تقول: رُب يقوم رجل؛ لأن حروف الجر لا تدخل على الأفعال، لكن لو دخلت عليها (ما)، رُبما يقوم زيد، صح ذلك؛ لأن (ما) قد هيأت رُب للدخول على الفعل، فرُب أصلًا لا تدخل على الفعل، لكن لما جاءت (ما) هيأتها للدخول على الفعل، فهي مُهيأة لدخول هذه الأدوات على ما لم تكن داخلة عليه لولا مجيء (ما).

فلاحظ هنا كَمَا آمَنَ [البقرة:13] الكاف هذه لو حذفنا (ما) هل يصح دخول الكاف على آمن وهو فعل، كآمن الناس؟ لا يصح؛ لكن لما زيدت (ما) صارت كافة للكاف عن العمل، وهو الجر، وهيأتها للدخول على الفعل؛ لأن حروف الجر ما تدخل على الأفعال، وإنما تدخل على الأسماء، وآمن فعل، فلو حذفت (ما) صارت: كآمن الناس، وهذا ليس له معنى، وليس من كلام العرب، فجاءت (ما) فشُلت الكاف من عملها، فلم تؤثر الجر، أو الخفض، وأيضًا سوغت لها الدخول على الفعل، ولم يكن بإمكانها أن تدخل على الفعل لولا مجيء (ما)، هذا معنى قوله: "و(ما) يحتمل أن تكون كافة" يعني للكاف عن العمل، "مُهيأة كما هي في رُبما" كما قلنا: "رُبما يقوم زيد" فجاءت مع الفعل لما دخلت عليها (ما).

وأن تكون مصدرية، كما آمن الناس، يعني: آمنوا كإيمان الناس، فـ(ما) هذه مصدرية، مؤولة، وما بعدها من الفعل (آمن) بمصدر، والتقدير: آمنوا كإيمان الناس، ولعل هذا هو الأقرب، والله أعلم، ومعنى: آمنوا كإيمان الناس، يعني: لا تتلونوا، ودعوا عنكم هذا النفاق، فآمنوا كإيمان الرسول ﷺ، ومن معه.

قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] يعني: إنكار منهم وتقبيح، يعني: أنؤمن، فهم يستنكرون، فيقولون: نؤمن مثل هؤلاء السفهاء، آمنوا كما آمن الناس، يعني: ألزموا الإيمان الصحيح ودعوكم من هذا النفاق والتلون واتخاذ يد عند هؤلاء ويد عند هؤلاء، ومحاولة التوسط بين الإيمان والكفر، ونحو ذلك باعتبار أن هذا بُعد نظر، وأنه يعني تفكير بعيد، وفيه نظر إلى العواقب البعيدة، وما أشبه ذلك، فيقولون: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] هؤلاء الذين جعلوا مستقبلهم محصورًا في طريق واحد، فقد يخسرون، وهذا في نظرهم، وفي زعم هؤلاء المنافقين، فيرون أن هذا سفه، يعني لزوم الإيمان الصحيح واتباع النبي ﷺ، وبعضهم يقول: كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] يعني: النساء والصبيان، لكن هنا في هذا الموضع لا دليل عليه؛ لأنهم يشيرون إلى أصحاب النبي ﷺ.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] فلاحظ أن الرد جاء بهذه القوة (ألا) الدالة على التنبيه، وجاء بـ(إن) المؤكدة، وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام (هم) لتقوية النسبة، ودخول (أل) على السُفهاء يعني كأنه لا سفيه إلا هم، هؤلاء الذين استجمعوا الوصف الكامل للسفه، ويظنون أنهم على شيء، وأنهم أصحاب نظر، وأُفق واسع، وهكذا المُنافق دائمًا يعتقد في أهل الإيمان أنهم ضُعفاء في التفكير، وأنه هو الذي ينظر بنظر صحيح.

"قوله: أَنُؤْمِنُ إنكار منهم، وتقبيح، وقوله: هُمُ السُّفَهَاءُ رد عليهم، وإناطة السفه بهم، وكذلك هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] وجاء بالألف واللام؛ ليُفيد حصر السفه والفساد فيهم، وأكده بـ(إن) وبـ(ألا) التي تقتضي الاستئناف، وتنبيه المخاطب".

السفيه يقال للجاهل، الضعيف الرأي، الذي لا يُحسن التدبير، وقليل المعرفة، ومواضع المصالح والمفاسد، فالسفه يدل على الخفة في العقل، وفساد التدبير، فهؤلاء يعتقدون أن هؤلاء من المؤمنين سفهاء، فالله  يقول: المنافقون هم السفهاء؛ لأن المنافق ينظر بنظر قصير، لا يجاوز أنفه في الواقع، فهو ينظر إلى لذات منقضية، ويبيع آخرته من أجلها، ويظن أن الله -تبارك وتعالى- لا ينصر دينه وأولياءه، ولا يُعز جُنده، وأنه يخذلهم ويُسلمهم إلى عدوهم، يكفي هذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

أسئلة:

س: ما نوع الوقف على الحروف المُقطعة؟ هل هو حسن أم تام؟ وما إعرابها الصحيح؟

ج: بحسب الإعراب، فإذا قلنا: إنه لا محل لها من الإعراب، فيمكن الوقف عليها بهذا الاعتبار، ويكون الوقف تامًا.

س: لماذا لا تصلح قسم، والله  أقسم بالشمس؟

ج: الله أقسم بالشمس بصيغة معروفة معهودة وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:1-2]... إلى آخر ما أقسم الله  به، لكن هنا: الم [البقرة:1] ما الدليل على أن هذا قسم؟ وليس ذلك بمعهود في كلام العرب، لا يوجد ما يدل على القسم، لا اللام الداخلة على الجواب، ولا حرف القسم، ولا فعل القسم.

فالقسم نوعان: قسم ظاهر، وهو ما ذُكر فيه فعل القسم، أُقسم، وحرف القسم بالله، الباء، والمُقسم به، فهذه ثلاثة أشياء.

أو ذُكر أحدُها، كأن تقول: أُقسم أن زيدًا مُسافر، أو يُحذف فعل القسم، ويؤتى بحرف القسم، والمُقسم به "والله إن زيدًا مُسافر" فهذا قسم ظاهر، والقسم المُضمر: ما حذُف منه هذه الثلاثة، فعل القسم، وأداة القسم، والمُقسم به، كقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27] فهنا لتدخُلن، والتقدير: والله لتدخُلن، فهذا يُسمى القسم المُضمر، لكن الم [البقرة:1] لا يوجد شيء من هذا، لا القسم الظاهر، ولا القسم المُضمر.

س: كيف الجمع بين قولنا: القرآن هدى للجميع، وبين قوله: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]؟

ج: ليس هناك تعارض، يعني: القرآن هُدى بمعنى أنه يدل على الحق، لكن الانتفاع به مُنتف عن هؤلاء، فهو عليهم عمى بهذا الاعتبار، وإلا القرآن هُدى للناس، القُرآن هادي لجميع الخلق هداية إرشاد ودلالة، كما أن النبي ﷺ هادٍ لجميع الخلق، لكن من الذي ينتفع بذلك؟ يعني في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] فالإنذار من جُملة الهدى.

س: هل يجوز أن نقول: هذه القراءة أفضل من هذه مثل (ملك) و(مالك) بناء على البلاغة مثلًا، وإن كان لا، فلم جاز التفاضل بين آيات القرآن، ولم يجز التفاضل بين القراءات، آية الكرسي أفضل آيات القرآن، والإخلاص ثلث القرآن... إلى آخره؟

ج: الضابط في هذه المسألة -والله أعلم- والقاعدة فيها: أنه لا يجوز التفضيل بين القراءات بطريقة تُشعر بالحط من إحدى القراءات، أو غمطها، أو التهوين منها، وتوهينها، فالقراءات المتواترة الثابتة لا يجوز الترجيح بين القراءات إذا كان ذلك يُشعر بغمط القراءة، أو تهوينها، أو الحط منها لا يجوز؛ لأن هذا كلام  الله تعالى، لكن التجريح بين القراءات بما لا يُشعر بذلك، كأن نقول مثلا:ً قراءة (ملك) أبلغ من قراءة (مالك) فهذا لا إشكال فيه، وقد جرى عليه العمل عند أهل العلم، وكُتب التفسير مليئة بهذا، وكتب توجيه القراءات مليئة بذلك، هذا لا إشكال فيه، وهذا من جهة الإعراب والمعنى، وكثرة المعاني الداخلة تحته.

أما ما يتعلق بالتفاضل بين آيات القرآن، فهذا موقوف على النقل، فالنبي ﷺ هو الذي أخبرنا أن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد [الإخلاص:1]، تعدل ثلث القرآن[26]، فتلمس العلماء لهذا أسبابًا، كون هذه مثلًا تتحدث عن صفة الله ، كذلك آية الكُرسي هي أعظم آية، فهذا لا إشكال فيه، هذا القرآن يتفاضل، وكون القرآن يتفاضل لا يعني أن المفضول ناقص، وإنما الكل قد بلغ في الكمال غايته، ولكن مراتب الكمال تتفاوت.

س: هل حلاوة الإيمان للمؤمن تكون مستمرة أو عارضة؟

ج: قد يحصل عند الإنسان أوقات يضعف فيها إيمانه، أو يعصي، ثم لا يجد لذة الإيمان، إنما هذه اللذة يجدها إذا حلق عاليًا، وارتفع إيمانه، فيجد مثل هذه اللذة، لكن مع معافسة الحياة، وشؤونها، والزوجات، وما إلى ذلك، كالذي شكا من الصحابة إلى النبي ﷺ، وهو حنظلة، فقال: "نافق حنظلة يا رسول الله" فقال رسول الله ﷺ: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة[27]، فالحال التي يكونون عليها عند النبي ﷺ هذه تُسمى كأنهم يرون الجنة والنار، لكن المقامات هذه الأشياء الثابتة مثل الخوف من الله، والمحبة، والصبر، ونحو ذلك على خلاف بين الأعمال القلبية التي هي الأحوال أو المقامات.

س: يقول: الاجتهاد في تلمس معاني للحروف المُقطعة من خلال السورة؟

ج: هذا ذكره بعض الناس في هذه الأوقات المتأخرة، وهو من التكلفات في ظني، ولا يمكن لهؤلاء أن يتوصلوا إلى معاني غابت عن السلف - وأرضاهم- وبقيت الأمة في أجيالها لم يقف العلماء على هذا المعنى، ويأتي هذا ويقول بأنه يوجد ارتباط بين هذا الحرف، وما ذُكر في السورة، فيذكرون تكلفات.

الم [البقرة:1] ماذا عسى أن يُقال من التكلفات لربطه بمضامين السورة، فهذا لا يخلو من تكلف، والتكلف غير محمود، ولا يصح للإنسان أن يتقحم مثل هذا، فيكون قائلًا على الله بلا علم، وصح عن عمر : "نهينا عن التكلف"[28]، وهذا له حكم الرفع، الذي نهاهم هو النبي ﷺ، وهذا في الصحيح في البُخاري، فالتكلف في العلم، وكذلك التكلف في العمل، والله أعلم.

س:...

ج: على كل حال الزمخشري وغير الزمخشري بعضهم يعمد إلى بعض القراءات، فيوهنها عند الترجيح، وبعضهم يردها من أجل الإعراب، أو من ناحية لغوية تتصل بالبلاغة، أو غيرها، وهذا غير صحيح، وغلط والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هؤلاء، وذكر أن القرآن والقراءة سُنة مُتبعة، وأنه لا يصح أن يُحاكم إلى قواعد النحو، ولو كانت مائة قاعدة، وهذه القواعد مبناها على الاستقراء أصلًا لكلام العرب، وهم لربما يحتجون بكلام شاعر، لا يُعرف، ويقولون هذه لُغة، فإذا جاءت القراءة لرُبما وهنها بعضهم، وقال: هذا لا يصح في العربية، فإذا ثبتت القراءة، فإنه لا يرُدها، قاعدة من تلك القواعد التي يذكرونها، والزمخشري طبعًا يطعن في سلف الأمة، وفي فهمهم في كشافه هذا.

س: ما حكم قراءة كتب أهل العلم بالترتيل كقراءة القرآن؟

ج: هذا سهل، يعني تزيين الكلام بالقراءة لا أعلم له أصلًا، ولكن لا إشكال فيه.

س: هل هذا الترتيل أفضل أم القراءة العادية؟

ج: الأمر سهل، لم يرد فيه شيء، نحن مأمورون بترتيل القرآن، ما عدا القرآن لو زين الصوت بالقصائد لا إشكال في هذا، لو زُين بغير القصائد كقراءة الحديث النبوي، أو غيره من الكلام لا إشكال في هذا، الأمر واسع.

س: أنت تسأل عن قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] هل هذا من قبيل الشرط والمشروط أو الشرط أنه مرتب الثاني على الأول ترتيب المشروط على شرطه؟

ج: لا، ليس كذلك، وإنما هما خبران، وجُملتان مستقلتان، وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:282] هذا أمر بالتقوى، ثم عُطف عليه فعل آخر، وهو فعل مُضارع وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] فهذا خبر معطوف على أمر، فهما جُملتان فعليتان وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:282]، انتهى وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] فليس هذا مرتبًا على هذا، لكن دلت أدلة أخرى على أن التقوى تكون سببًا للعلم، لكن ليس هذا الموضع يدل عليه إلا من وجه آخر، وليس على ما فهمه بعضهم من أنه من قبيل الارتباط بين الشرط والمشروط، وإنما من جهة المُقاربة والمُناسبة، يعني: حينما ذكر الأمر بالتقوى، وذكر تعليمه بعد ذلك، وهذا ما يُسمى بالمُناسبات، يعني وجه الارتباط بين الجُملتين، قلنا: ليست هذا من قبيل ارتباط المشروط بشرطه، ولكن حينما أُمر بالتقوى، وذُكر بعدها التعليم، دل على أنه يوجد هناك مُناسبة وارتباط بين تعليم الله  للعباد وبين التقوى، فإذا حصلت لهم التقوى كان ذلك سببًا لنيل العلم، بهذا الاعتبار، وهو المُناسبة، وعلم المُناسبة لا يُبنى عليه حكم، وقد قلنا -كما ذكرنا في المجالس التي بعد العشاء في الكلام على التدبر والهدايات التي تُستخرج من الآيات-: بأن مثل هذه النواحي البلاغية واللطائف، وما أشبه ذلك مما يتصل بالمُناسبات والجوانب البلاغية أنها أولًا ظنية، يعني: ليست بقطعية.

والثاني: أنها من قبيل مُلح العلم، وليست من صُلب العلم، وإنما هي لطائف؛ ولذلك بعضهم أنكر المُناسبات كالشوكاني، فقد شدد في إنكار المُناسبات، مع أنه ملأ كتابه فتح القدير في الواقع منها، وأنكر الاشتغال باللطائف جماعة مثل الشاطبي -رحمه الله-، باعتبار أن ذلك يفوت المعنى المقصود من نزول الآية، والهدايات التي نزلت الآية من أجلها، فيُشتغل بهذه المواضع الدقيقة والملاحظ البلاغية، فيُنسى المعنى الأصلي المقصود من نزول الآية، فأنكروه، والواقع والصحيح: التوسط بأن يُذكر المعنى الأصلي الذي نزلت من أجله الآية، ثم تُذكر المعاني التفصيلية، وهذه اللطائف لا إشكال بشرط أن لا تكون مُتكلفة؛ ولذلك نحن نقول بالمُناسبات: ما لم تكن مُتكلفة، فهذا لا إشكال فيه، فوجه الارتباط هنا هو المُناسبة، وهذه من مُلح العلم، وهي قضايا ظنية.

والأمر الثالث: أنه لا يصح الاشتغال بها إذا كانت متكلفة.

والأمر الرابع: وهو أن هذه المُلح واللطائف ليست لكل أحد، هي تحتاج إلى آلة، يعني: نحن نقول: تدبر القرآن لكل أحد كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فالجميع مُطالب بالتدبر، لكن إذا أقبل الناس على استخراج هذه بالمناقيش، ويظنون أن هذا هو التدبر، نقول: هذا غير صحيح، هذا أحد الأنواع، وإنما يصلح لمن كان متحققًا في علوم الآلة، ويستطيع أنه يستخرج مثل هذه الدقائق؛ ولذلك كثير من الناس يحاولون التدبر، ويظنون أن التدبر هو استخراج هذه الدقائق، فيأتون بالغرائب، والفهوم المتكلفة، ويحملونها القرآن، وهذا كثير للأسف.

يكفي أن يتدبر عامة الناس ما ذكره الله  في كتابه من ذكر أوصافه، وما ذكره من صفات المؤمنين، وصفات الكافرين، وما ذكره من محابه، وما ذكره أيضًا من قصص الأُمم والرُسل -عليهم السلام-، ويتدبر الإنسان ما يتعلق بالآخرة، وأهوال القيامة، والجنة والنار، فيكفي هذا القدر، ويُلين قلبه ويُرققه ويُعالجه، ويعرض نفسه على صفات المؤمنين، وصفات غيرهم، فهذا هو المطلوب، لكن أن يتحول التدبر إلى تتبع الجوانب البلاغية واللطائف والنكات من غير تأهل، فهذا غير صحيح، وكأن الذي أورث كثيرين هذا، هو أنه كانت تأتيهم هذه الرسائل في التدبر وفي جوال تدبر، وهو جيد، وأحيا التدبر عند الناس، لكن كان غالب هذه الرسائل هي من هذا النوع من اللطائف، فظن كثيرون أن التدبر هو هذا، فصاروا يحاولون المُحاكاة من غير قُدرة على ذلك؛ لعدم وجود الآلة.

  1. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (1/36).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/242).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/168).
  4. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (9/2991).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/169).
  6. منهاج السنة النبوية (3/103).
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/258).
  8. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين برقم: (144).
  9. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/174).
  10. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (1/41).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/259).
  12. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1/85).
  13. ألفية ابن مالك (ص:16).
  14. بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص:338).
  15. فتح الباري لابن حجر (12/270).
  16. فتح الباري لابن حجر (12/270).
  17. المغني لابن قدامة (6/370).
  18. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59).
  19. معاني القراءات للأزهري (1/133).
  20. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم: (2577).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59).
  22. أدب الإملاء والاستملاء (ص:40).
  23. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/299).
  24. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/180).
  25. أخرجه صحيح مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم برقم: (2784).
  26. أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي ﷺ برقم: (6643) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد برقم: (811).
  27. أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا برقم: (2750).
  28. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه برقم: (7293).

مواد ذات صلة