الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[14] من قول الله تعالى: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} الآية 104 إلى قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية 110.
تاريخ النشر: ١٦ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3186
مرات الإستماع: 2208

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسر قوله تعالى:

قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ۝ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:104-105] البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن، وما جاء به رسول الله ﷺ.

فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ [سورة الأنعام:104] كقوله: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [سورة يونس:108] ولهذا قال: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا لما ذكر البصائر، قال: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا أي: إنما يعود وباله عليه، كقوله: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحـج:46].

وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ أي: بحافظ ولا رقيب بل أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

وقوله: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:105] أي: وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو هكذا نوضِّح الآيات ونفسرها ونبيّنها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون والكافرون المكذبون: دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارءتهم وتعلمت منهم، هكذا قاله ابن عباس -ا- ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول -تبارك وتعالى: قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ [سورة الأنعام:104] البصائر: جمع بصيرة، وهي نور القلب، فالبصر هو نور العين والبصيرة هي نور القلب، والمقصود بالبصيرة هنا الحجج والبراهين والبينات التي تدل على الحق وتوضحه.

يقول -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] وَلِيَقُولُواْ يمكن أن تكون معطوفة على محذوف، أي: وكذلك نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست.

أو يكون علة لفعل محذوف يقدر متأخراً هكذا: وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا المعنى فاللام تكون للعاقبة أو للصيرورة، وعلى كل حال فهذان المعنيان يرجعان إلى شيء واحد، والله تعالى أعلم، أي سواء كان المعنى: وليقولوا درست صرفناها أو وكذلك نصرف الآيات لإقامة الحجة وليقولوا درست، فعلى المعنى الأول تكون اللام لام التعليل التي تسمى لام كي، وعلى المعنى الثاني يمكن أن تكون للصيرورة، وعلى كل منهما يكون في عاقبة الأمر ونهايته أنهم يقولون: درست.

قال الحافظ ابن كثير: وليقول المكذبون: دارست يا محمد من قبلك، هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير، أي (دارست) من المدارسة، والمفاعلة غالباً تأتي لما كان بين طرفين فأكثر، والمعنى إنك دارست أهل الكتاب ودارسوك.

وعلى قراءة ابن عامر (وليقولوا درَسَت) أي أن الآيات درست بمعنى ذهبت واضمحلت وتقادم عهدها وعفت وانقطعت، وقيل غير ذلك لكن هذا هو الأقرب في تفسير هذه القراءة، والله تعالى أعلم، وهو الذي مشى عليه القرطبي وجماعة، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

وقرأ الباقون وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] وهي بمعنى قراءة (دارستَ) أي درست على غيرك كما قال الله -تبارك وتعالى- أنهم قالوا: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سورة النحل:103] وكما في قوله: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5] والمقصود أن هؤلاء زعموا أن النبي ﷺ كان يدرس على غيره أو كان يتلقى القرآن من غيره.

وهذه القراءات الثلاث قراءات متواترة والمعنى في القراءة الأولى والثالثة يرجع إلى شيء واحد، وأما القراءة الثانية فمعناها يختلف، ومعلوم أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، وخلاصة معنى القراءتين عفت وتقادم عهدها، أو تلقيت هذا القرآن ودرسته وتعلمته من غيرك وليس من الله .

وروى الطبراني عن عمرو بن كيسان قال: سمعت ابن عباس -ا- يقول: دارست تلوت، خاصمت جادلت، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا ۝ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:4-5] وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ۝ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر:18-25].

وقوله: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:105] أي: ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه، فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً الآية [سورة البقرة:26] وكقوله: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [سورة الحـج:53] وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الحـج:54] وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [سورة المدثر:31] وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82] وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين وأنه يضلُّ به من يشاء ويهدي من يشاء.

هذا الكلام يوضح فيه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وجه ما ذكر من أن الله يوضح الآيات ويبينها، أي أن قوله: وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] معناه لكي يقولوا درست، -على القول أن اللام في قوله: وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] لام كي، وهذه الآيات توضح هذا المعنى، فالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهؤلاء الذين هذه صفتهم يكون القرآن وسماع الآيات لهم عمى كما قال الله عنهم: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [سورة فصلت:44].

وعلى القول الآخر أن اللام للعاقبة فالمعنى أن الله قد علم أنهم ليسوا بأهلٍ لفقه هذه الآيات والعمل بها والاهتداء بها، فصار سماع هذه الآيات لا يزيدهم إلا إعراضاً، ولهذا قال بعده: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:105] مع أن القرآن بيان للجميع، ولكنه خص الذين يعلمون؛ لأنهم الذين ينتفعون به كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] مع أنه هدى لجميع الناس، فصح أن يخص به المنتفع به دون غيره مع أنه هدىً لجميع الخلق.

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:106-107].

يقول تعالى آمراً لرسوله ﷺ ولمن اتبع طريقته: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ أي: اقتدِ به واقتفِ أثره واعمل به فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو.

وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:106] أي: اعف عنهم واصفح واحتمل آذاهم حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم، واعلم أن لله حكمة في إضلالهم فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً ولو شاء لجمعهم على الهدى وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:107].

قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:106] بعض أهل العلم يقول: إنه منسوخ بآية السيف، وممن ذهب إلى هذا كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهذا على قاعدة أن كل آية فيها عفو وصفح وإعراض قالوا: إنها منسوخة بآية السيف، فلا صفح ولا إعراض، وهذا غير صحيح والله تعالى أعلم، لكن يقال: هذه الآيات غير منسوخة، لكن في مكة أمر بالإعراض ثم بعد ذلك أمر بالجهاد في المدينة، وهذه أحوال وأطوار، فإذا كانت الأمة في حال من الضعف فعندئذ يتأتى الإعراض والصفح، وإذا كانت الأمة قوية وممكنة فعندئذ يتأتى مجاهدة الكفار بالسيف، ثم إن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

وقوله -تبارك وتعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:106] معناه لا تكترث بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات وليس عليك حسابهم كما قال الله : وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:107] أي: إنما عليك البلاغ، فإذا فعلت ذلك فليس من شأنك الوقوف مع هؤلاء، والله تعالى أعلم.

وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:107] أي: بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:23].

وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [سورة الأنعام:107] أي: حافظاً تحفظ أقوالهم وأعمالهم وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:107] أي: موكل على أرزاقهم وأمروهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [سورة الشورى:48] كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [سورة الغاشية:22] وقال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40].

وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:108].

يقول الله تعالى ناهياً لرسوله ﷺ والمؤمنين عن سبِّ آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبِّ إله المؤمنين وهو الله لا إله إلا هو، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في هذه الآية: قالوا: يا محمد لتنتهينَّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواًَ بغير علم.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسبُّ الكفار الله عدواً بغير علم، فأنزل الله: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ [سورة الأنعام:108] ومن هذا القبيل وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ما جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: ملعون من سب والديه قالوا: يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه[1] أو كما قال ﷺ.

أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ باتباع ما أوحي إليه وجعل هذا هو الواجب عليه، وقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:106] أي: حسابهم ليس عليك كما قال: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8].

ثم قال: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:107] وقال في الآية الأخرى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:112] فالله -تبارك وتعالى- له الحكمة البالغة، لكن المؤمن مأمور بالاتباع ولزوم الحق، فلا يميل مع أهل الباطل لأي سبب من الأسباب ويكون متنازلاً عن الحق مضيعاً له بموافقة هؤلاء المبطلين، ولا تذهب نفسه أيضاًَ حسرات وتصيبه أنواع الأمراض بسبب شدة ما يجد مما يقوله هؤلاء، أو يبينون عنه من شر وافتراء ونفاق، أي: لا يكون المؤمن بهذه المثابة. 

ولهذا يقول سبحانه: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:107] أي: أنت مأمور بالاستقامة على أمر الله وتبليغ دين الله وهؤلاء لو شاء الله ما أشركوا، فلله الحكمة البالغة حيث أراد الله إضلالهم فكانوا بهذه المثابة، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [سورة يونس:99] فهذا أصل كبير يحتاج إليه الدعاة إلى الله والمصلحون، وإلا إذا تتبع الإنسان ما يقوله القائلون ويكتبه الكاتبون ويفسده المفسدون فإنه قد يصيبه العجز والعِيُّ من كمد ما يجد ومن كثرته، ومن جراءة أولئك الصنف من الناس على الله -تبارك وتعالى.

ثم ذكر أيضاً قضية مهمة جداً لمن أراد أن يصلح حال الناس أو يدعو إلى الله وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:108] فهذا أصل في المصالح والمفاسد، فالمآلات معتبرة في الشريعة فلا يجوز للإنسان أن يقدم على علم صالح إذا كان يترتب عليه مفسدة أعظم من الصلاح الذي يحصل من جرائه، فهذا العمل يتحول من كونه عملاً صالحاً إلى أن يصير عملاً سيئاً فاسداً يأثم عليه ويكون من معصية الله وهو في الظاهر من الأعمال الصالحة، ولذلك قال النبي ﷺ: لعن الله من لعن والديه[2] حيث إنه لما كان متسبباً بلعن والديه صار بمنزلة من لعن والديه، وهكذا من تسبب في سب الدين أو سب الله فإنه يصير بمنزلة من سب الدين أو سب الله -؛ لأنه قد ارتكب من الحماقات ما أثر هذا التأثير بحيث جعل الناس يتصرفون بهذه الطريقة.

وقوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] أي: وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره.

ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ [سورة الأنعام:108] أي: معادهم ومصيرهم فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:108] أي: يجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

يقول تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] هذا ظاهره العموم، وقد راعى هذا كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- فقال: هذا في الخير وفي الشر، أي: كذلك زينا لكل أمة تعمل عملها إن كانت أعمالاً صالحة طيبة كأعمال أهل الإيمان أو كانت أعمالاً فاسدة سيئة كأعمال الكفار بجميع صنوفهم وطوائفهم.

والذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو أن ذلك يختص بأعمال أهل السوء والفساد والشر من الكفار والمنافقين أخذاً من سياق الآية حيث يقول تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:108] وعلى كل حال فالتزيين لا شك أنه واقع للجميع؛ لأن الله يقول في حق أهل الإيمان: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [سورة الحجرات:7] فالله أثبت الإيمان في قلوب المؤمنين وزين ذلك في قلوبهم، ولذلك بذلوا في سبيل هذا الإيمان النفوس والمهج والأموال، وكذلك زُيِّن لغيرهم أعمالهم السيئة الفاسدة. 

ولذلك تجد أهل الباطل يتوارثون الباطل القرون المتطاولة، بل آلاف السنين حيث يلقنه الجيل لمن يأتي بعده من الأجيال ويتمسكون به، ويبذلون في سبيل نصرة باطلهم ويقاتلون دونه، ويقضي جهده ووقته وماله وهو ينشر هذا الباطل فيكون قد زيِّن له، وهذه قضية عجيبة من صنع الله في الخلق حتى العصاة منهم حيث تستغرب أحياناً فتقول: هذا الإنسان المتدين الذي كان يطلب العلم كيف تحول إلى هذه المثابة فصار يناضل عن الشر ويدافع عنه وينشره ويدعو إليه،؟ كيف تحول من داعية إلى الخير إلى داعية إلى الشر؟

الجواب أنه زاغ قلبه فصار الذي يفعله الآن قد زُيِّن في نفسه ويرى أن هذا شيء جيد لا إشكال فيه، أي أنه قد انقلبت نظرته حتى إنك ترى شكله قد تغير فإذا رأيته قد لا تعرفه وإن كان البدن هو نفس البدن الأول لكن القلب تغير –والعياذ بالله- وتحول هذا الذي كان يحمل هم الإسلام ويضيق صدره لما يرى ويشاهد ويسمع من اعتداء على دين الله وشرعه تحول إلى الفسق ومقارفة الفواحش وترك الصلوات، فأنت لا تقبل أن ترى من يجرؤ على معصية الله كأن يصبح ويمسي على سماع الأغاني أو شيئاً من ذلك لكن هو لا ما يحس في الغالب أن هذا منكر بل يتلذذ بهذا وهو يستمتع قد زُيِّن له هذا العمل كما قال تعالى: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [سورة فاطر:8] فهو لا يجد غضاضة بهذا.

ومن صور ذلك أن المرأة المتبرجة لا تجد غضاضة بتبرجها، لكن لو أعطيت المرأة المحجبة الصالحة التقية ملء الدنيا ذهباً على أن تنزع حجابها وتخرج بصورة تلك المرأة السافرة النافشة لشعرها وما أشبه ذلك لتمنت الموت دون أن تفعل هذا، لكن من تغيَّر حاله فإنه يرى الأمور الحسنة سيئة والسيئة حسنة، نسأل الله العافية، فهذه قضية مهمة جداً في معرفة نظر الإنسان واستحسانه للعمل الطيب أو السيئ، ولذلك ينبغي أن يدعو الإنسان ربه دائماً: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؛ لأنه إذا تغير قلبه تغير نظره للأعمال وتقييم الأشياء، فينظر بمنظار آخر تماماً، نسأل الله العافية والسلامة.

كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] أي: ابتلاء وامتحاناً واستدراجاً أيضاً لهؤلاء الكافرين فيموتوا على كفرهم وباطلهم، وإلا لو لم يزين لهم العلم السيئ لزهدوا فيه ولما بذلوا في سبيله، أو في أقل الأحوال إذا لحقهم به مشقات تركوه ومع ذلك تجد أهل الباطل عتاة في التمسك بباطلهم ونصرته والذب عنه، وتعينهم الشياطين من الجن ليقرروه ويثبتوا دعائمه وأركانه، ولا يألون جهداً في محاربة الله ورسوله قد زُيِّن لهم عملهم، نسأل الله العافية.

وبقيت هنا قضية تحتاج إلى تنبيه وهي أنه في قوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] أضاف التزيين إلى نفسه -تبارك وتعالى- مشيئة وخلقاً، فالله خالق كل شيء، وفي الآية الأخرى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [سورة النمل:24] أضافه إلى الشيطان، وذلك من باب إضافة الشيء إلى سببه، فسبب ميل قلوب هؤلاء الناس إلا هذا الباطل، ومحبته أن الشيطان زينه لهم وغرهم فيه وبهرجه حتى صار في صورة تنجذب نفوسهم إليه، صاروا يهوونه ويحبونه وربما يجدون لذة في مقارفته وتعاطيه، فلما جرى هذا التزيين على يد الشيطان أضيف إليه.

وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:100-110].

يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، أي: حلفوا أيماناً مؤكدة لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ [سورة الأنعام:109] أي: معجزة وخارقة لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا [سورة الأنعام:109] أي: ليصدقنها.

يقول تعالى: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [سورة الأنعام:109] الجَهد –بالفتح- هو المشقة، والجُهد –بالضم- هو الوسع، تقول: بذلت جُهدي يعني بذلت وسعي، وتقول: هذا غاية الجُهد يعني غاية الوسع فلا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا، وتقول: بلغ مني الجَهد يعني المشقة، ومن أهل العلم من يقول: المعنى واحد سواء كان بالفتح وبالضم. 

وقوله: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [سورة الأنعام:109] أي: مجتهدين غاية الاجتهاد فيحلفون أشد الأيمان التي يقدرون عليها أنهم إذا جاءتهم آية يعني من الآيات التي اقترحوها وإلا قد جاءتهم آيات كانشقاق القمر، بل انشقاق القمر كان آية ظاهرة حيث شاهدوها ومع ذلك لم يؤمنوا، وهذا القرآن أعظم آية، لكنهم كانوا يقترحون الآيات كتحويل الصفا إلى ذهب وما إلى ذلك، فهم أقسموا على هذا الأساس.

لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا [سورة الأنعام:109] أي: ليصدقنها قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ [سورة الأنعام:109] أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتاً وكفراً وعناداً لا على سبيل الهدى والاسترشاد إنما مرجع هذه الآيات إلى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم.

وقوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] قيل المخاطب بما يشعركم المشركون، وإليه ذهب مجاهد، وكأنه يقول لهم: وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها، وعلى هذا فالقراءة (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) بكسر إنها على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان.

هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) أي هم اقترحوا الآيات وأقسموا أنها إذا جاءتهم الآيات فإنهم سيؤمنون بها، فالله  يخاطب المشركين فيقول: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] أي: تقولون: إنكم تؤمنون إذا جاءت وما يشعركم؟ ثم بدأ بكلام جديد يقرر فيه حقيقة غيبية فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وهذا مثل قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28] فهم طلبوا الرجعة فأخبر الله أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وهنا يقول: لما اقترحوا الآيات وأقسموا أنهم سيؤمنون بها قال: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] يعني وما يدريكم، ثم بيّن ما سيكون في المآل لو جاءت الآيات فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وعلى هذا يكون الخطاب وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] للمشركين، ثم جاء بجملة جديدة يقرر فيها مسألة غيبية فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون).

وعلى هذا فالقراءة (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) بكسر "إِن" على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عند مجيء الآيات التي طلبوها، وقيل: المخاطب بقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] المؤمنون، أي: وما يدريكم أيها المؤمنون، وعلى هذا فيجوز في قوله: أَنَّهَا الكسر كالأول والفتح على أنه معمول.

على القول الثاني يكون المخاطب بقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] هم المؤمنون، وقد جاء به الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بصيغة التمريض وكأنه يضعفه وإن كان هذا هو قول كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، وبه قال الفراء أيضاً، أي أن الخطاب لأهل الإيمان باعتبار أن المؤمنين تمنوا نزول آية من أجل إيمان هؤلاء الكفار، وذلك أنه لما أقسم الكفار الأيمان المؤكدة أنها إذا جاءت آية سيؤمنون تمنى أهل الإيمان لو نزلت آية من أجل أن يؤمن هؤلاء الناس الذين حلفوا هذه الأيمان المغلظة، يعني كأنهم يقولون: ليت آية تنزل من أجل أن يؤمنوا فالله على كل شيء قدير، فردَّ الله عليهم فقال: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] يعني وما يدريكم؟ ثم قال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وعلى القراءة الأخرى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109].

وقراءة الفتح هذه هي قراءة أهل المدينة وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر، وبعضهم -كالخليل بن أحمد الفراهيدي- فسر أَنَّهَا بفتح الهمزة بمعنى التعليل، أي بمعنى "لعلها" فيكون المعنى وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون" وهذا صحيح في أصل اللغة، ويوجد ما يدل عليه من الشواهد في كلام العرب، وهذا تحتمله الآية على قراءة فتح الهمزة، والمعنى الآخر وما يدريكم أن ذلك إذا وقع لا يحصل المقصود وهو إيمانهم؟ والله أعلم.

فتكون لاَ في قوله: أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] صلة كقوله: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [سورة الأعراف:12] وقوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء:95].

يقول: "فتكون لاَ في قوله: أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] صلة" يعني وما يشعركم يا معاشر المؤمنين أنها إذا جاءت يؤمنون، فـلاَ هذه قال: إنها صلة، ويقصد أنها زائدة، فهم يعبرون بصلة تأدباً، ويقصدون بقولهم: زائدة أي إعراباً، وإلا فهي لمعنى وهو التأكيد، ومنه قول طائفة من المفسرين في قوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] أي: أقسم بهذا البلد، وقولهم في قوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1] أي: أقسم بيوم القيامة -على أحد المعاني- وذكر –رحمه الله- هنا قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] أي أن معناها وما منعك أن تسجد، وعلى هذا بل يُفهم أن "لا" هنا نافية بل هي صلة كما قال.

وبالنسبة للكلام على الزيادة هل يصح أن يعبر بها في القرآن، مع العلم أن المقصود بالزيادة هي الزيادة إعراباً، فهذا قال به طائفة من أهل اللغة مثل الكسائي والفراء، وردَّه آخرون مثل الزجّاج والنحّاس فقالوا: هذا كلام غير صحيح وإنما هذا من باب الاكتفاء، أي أن قوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] أي: أو يؤمنون، لكن هذا القول أضعف من القول الذي قبله؛ لأن المقصود هنا هو أن الله يقرر لهم أنه حتى لو نزلت الآية فإنهم لن يؤمنوا، هذا هو الأقرب في معنى الآية، والله تعالى أعلم، كما قال الله : وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [59سورة الإسراء:].

أي: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، وحرام أنهم يرجعون، وتقديره في هذه الآية: وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك حرصاً على إيمانهم أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون.

وقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] قال العوفي عن ابن عباس -ا- في هذه الآية: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر.

وقال مجاهد في قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] ونحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.

وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه.

وقال: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [سورة فاطر:14] جل وعلا، وقال: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56] إلى قوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الزمر:58] فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى، وقال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28].

وقال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] وقال: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.

يقول تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] الأفئدة هي القلوب، والمقصود بالأبصار هنا نظر القلب، فمن قُلِبَ فؤاده فقد انطمست بصيرته ولا يرى الحق حقاً بل يرى الأشياء على غير حقيقتها، فيرى الباطل حقاً والحق باطلاً.

وهذا التقليب في قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] المتبادر أنه ما ذكر الحافظ ابن كثير هنا، أي: أن الله يصرّف قلوبهم وأبصارهم فلا تؤمن بالحق ولا تبصره -نسال الله العافية- وهذا المعنى أصح خلافاً لمن قال: إن المراد أن هذا التقليب يكون بالنار في الآخرة عقوبة لهم، بمعنى أن قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي كما لم يؤمنوا به في الدنيا.

وقوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] هذه الكاف يمكن أن تكون للتشبيه ولكنها مشعِرةٌ بالتعليل، فإن لم نقل: إنها للتعليل فيبقى فيها من معنى التعليل، ويكون المعنى يحتمل أمرين:

الأول: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي أنهم في أول مرة طرق أسماعهم فلم يؤمنوا به، وكذلك في آخر الأمر لن يؤمنوا، وحتى لو جاءتهم الآيات التي اقترحوها سيحصل نفس الموقف السابق القديم، أي كحالهم في أول مرة حينما سمعوا هذا القرآن.

والمعنى الثاني: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي أن ذلك وقع لهم جزاء وفاقاً بمعنى أنهم لما أعرضوا عن الحق وكابروا غاية المكابرة أزاغ الله قلوبهم مجازاة وعقوبة لهم، فعلى هذا يكون قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ [سورة الأنعام:110] مشعراً بالتعليل والمكافأة، أي فكافأهم على كفرهم الأول وإعراضهم ومكابرتهم، فحتى لو رأوا الآيات فإنهم لن يؤمنوا؛ لأنهم كفروا أول مرة، والخلاصة أن الآية تحتمل المعنيين، أي إما أن يكون ذلك من باب المجازاة على الكفر الأول أو أنه يقرر هذا المعنى فيقول: هم باقون على كفرهم حتى لو نزلنا الآيات فهم كحالهم أول مرة، والقول بأنه مجازاة لهم استحسنه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وإن لم يصرح بترجيحه لكن قال: وهو معنى حسن، فالله أعلم.

وقوله: وَنَذَرُهُمْ أي: نتركهم فِي طُغْيَانِهِمْ قال ابن عباس -ا- والسدي: في كفرهم، وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة: في ضلالهم.

يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] قال الأعمش: يلعبون، وقال ابن عباس -ا- ومجاهد وأبو العالية والربيع وأبو مالك وغيره: في كفرهم يترددون.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب لا يسب الرجل والديه (5628) (ج 5 / ص 2228) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (90) (ج 1 / ص 92).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي - باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله (1978) (ج 3 / ص 1567).

مواد ذات صلة