الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(003-أ) من قوله تعالى "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" إلى قوله "فاتقوا النار"
تاريخ النشر: ٠٢ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1969
مرات الإستماع: 1845

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:21-24]. 
"يا أَيُّهَا النَّاسُ، الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف: المؤمنين، والكافرين والمنافقين، أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله، وجاء بالدعوة عامة للجميع؛ لأن النبي ﷺ بعث إلى جميع الناس".

قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: هذا أول أمر في القرآن بحسب ترتيب المصحف، وهو الأمر بعبادة الله تبارك وتعالى، وقد جاء ذلك مع اسم الرب ، وذلك أن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، فهو الذي يستحق أن يُعبد دونما سواه، ولهذا يقال: بأن توحيد الإلهية، توحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية، فالإله المعبود هذا يتضمن أنه هو الخالق الرازق النافع الضار، كما أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، فإذا كان هو الرب الخالق الرازق، بيده النفع والضر، فيلزم من ذلك أن يكون هو المعبود وحده: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.

وقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: وهذا كثير في القرآن، أن يذكر معه كونه الخالق وذلك أن من خلق أحق بالعبادة، فلا تُصرف العبادة إلى غيره مما لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر.

"اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدًا، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركًا، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنًا".

على كل حال لا بأس، ولو أنه أجمل ذلك أيضًا فإن الأمر بعبادته -تبارك وتعالى- لمن كان مؤمنًا بمعنى الإيمان أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136]، فذلك لا يختص بغير المؤمن، لكن المقصود بعبادته تبارك وتعالى: أن يُوحد فلا تصرف العبادة إلى غيره، وأن يُتقرب إليه بألوان الطاعات وأن يُكف عن مساخطه، فإن العبادة فيها معنى الذل، طريق معبد أي: مذلل، فهذا الذل يقتضي الإيمان والطاعة وترك المخالفة، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، ومن كان داخلًا في العبادة فإن ذلك يقتضي أيضًا الدوام والاستمرار، إضافة إلى أنه مأمور بأن يعبد الله -تبارك وتعالى- في كل حين بما أمره الله  به، فالعبادة تتجدد وتتنوع وكان آنذاك وهذه من أوائل السورة المدنية شرائع الإيمان كانت تنزل على رسول الله ﷺ فلهم في كل حال تعبُد، وفي كل حين تشريع جديد ينزل على رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فالمقصود أن يوحد الله وأن يطاع.

قوله:" لَعَلَّكُمْ".

هنا قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يحتمل أن يكون المراد بـ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: يعني أنه خلقكم من أجل أن تتقوه، فيكون متعلقًا بخلقكم، خلقكم من أجل العبادة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهذا المعنى صحيح يشهد له القرآن كما ترون.

الاحتمال الثاني: أن يكون متعلقًا بـ اعْبُدُوا اعبدوه لعلكم تتقون أي: من أجل أن تحصل لكم التقوى، ولا شك أن عبادته -تبارك وتعالى- هي الطريق إلى تحصيل التقوى، فلا يمكن أن يُتقى إلا بأن يُعبد دونما سواه، ويُتقرب إليه بألوان القربات، فهذا المعنى أيضًا صحيح. 

"لَعَلَّكُمْ يتعلق بخلقكم: أي خلقكم لتتقوه، كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أو بفعل مقدّر من معنى الكلام".

هذا هو المعنى الثالث: أو بفعل مقدر من معنى الكلام: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: أي: دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون.

"أي: دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون، وهذا أحسن".

"وهذا أحسن"، أي: الأصل والقاعدة عدم التقدير، يعني إذا دار الكلام بين الاستقلال والتقدير فالأصل الاستقلال، الاستقلال يعني يكون الكلام على حاله بما جاءت العبارة به من غير حاجة إلى مقدر محذوف؛ لأنه خلاف الأصل، ولذلك لو قيل: بأن المعنى -والله تعالى أعلم- ينتظم المعنى الأول والثاني: أن الله -تبارك وتعالى- خلقنا من أجل أن نتقيه : اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].

وكذلك أيضًا: فإن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بالعبادة من أجل تقواه، وهذا هو المتبادر إلى الذهن، الأمر بالعبادة معلل بالتقوى، فإذا أردنا أن نرجح بين المعنيين فكأن هذا هو الأقرب، ولكن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهو أمر لنا بالعبادة لنتحقق التقوى، كما أنه خلقنا من أجل أن يُتقى ويُطاع، فهذه أمور متلازمة: العبادة، والتقوى، والخلق إنما كان من أجل عبادته، وعبادته تكون بتقواه، فالتقوى اسم جامع كما هو معلوم يدخل فيه: الإيمان، والتوحيد، فهذا أعظم ما يُتقى به، بالإضافة إلى ما يتفرع عن ذلك من ألوان الطاعات مع ترك المعاصي.

"وقيل: يتعلق بقوله: اعْبُدُوا وهذا ضعيف".

لماذا قال ضعيف؟ باعتبار أن عبادته هي تقواه، وكأنه نظر إلى هذا المعنى، اعبدوا لعلكم تتقون، فكيف يكون التعليل بما أمر به، فكأنه تكرار، هكذا كأنه اعتبر هذا، ولكن اعبدوا لعلكم تتقون، تتقون الله، وسخطه، وعذابه، وناره، وهذا لا يتحقق إلا بعبادته، فهنا حينما تُذكر العبادة، وتُذكر التقوى يكون العبادة لها معنى، والتقوى لها معنى آخر، فلا تكرار، فلا يقال لأن عبادته هي تقواه، إذن اعبدوا لعلكم تتقون، لا يقال بأن لعلكم تتقون يتعلق بـ اعْبُدُوا، وإنما بمقدر محذوف، هذا كلام لا يخلو من إشكال، فلا مانع من أن يتعلق لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بـ اعْبُدُوا لكني أُبين لماذا منع من منع، يعني العبادة هي التقوى، إذن كيف يُعلل بها عنده؟ هذا هو وجه المنع، والله أعلم.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن الأليق هو الحمل على المعنيين كما ذكرت[1]، أي: أنه يكون تعليلًا للخلق، وكذا الأمر بعبادته، خلقنا من أجل أن يُتقى، وكذلك أمرنا بعبادته لتتحقق التقوى. 

"وإن كانت (لعل) للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين، جريًا على عادة كلام العرب".

ما هي عادة العرب؟

أولًا: لعل. بعض العلماء يقولون: كل (لعل) في القرآن فهي للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]: أي كأنكم تخلدون، الباقي للتعليل.

على هذا التفسير لا يرد إشكال على (لعل)، خَلَقَكُمْ لَعَلَّكُمْ لعلكم أي: من أجل، فهي للتعليل، من أجل أن يُتقى، اعبدوه من أجل أن تتحقق التقوى، هذا إذا كانت للتعليل. قال تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] لعله: أي من أجل، فهذا معنى لـ (لعل).

ثانيًا: لعل. للترجي، وهو توقع وقوع الشيء من غير جزم به، لكنه قريب الوقوع، بخلاف التمني، التمني يكون للشيء بعيد الوقوع أو المحال، لكن الترجي يكون لما يقرب وقوعه وحصوله، يقول: فإذا كانت (لعل) للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين جريًا على عادة العرب.

بمعنى أن الله لا يقع منه الترجي؛ لأن الترجي إنما يكون مما لا يعلم عواقب الأمور، تقول: لعل زيدًا يأتي. لا تدري هل سيأتي أو لا؟، لعل، لكنه قريب أن مجيئه متوقع فتقول: لعله.

تقول: لعل المطر ينزل. إذا رأيت الأمارات الدالة على ذلك، فهذا للترجي، الله -تبارك وتعالى- يعلم ما كان وما يكون، فعلمه محيط بكل شيء فلا يقع منه الترجي، فإذا جاء ذلك في كلام الله، الله قال: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، الله يعلم أنه لن يتذكر ولن يخشى، فما وجه ذلك؟ يقول: جريًا على عادة كلام العرب. ما هي عادة العرب؟ العرب عندهم أن العظيم يُعبر بمثل هذا للاطماع وهو يقصد التحقيق، ولهذا هنا قال: والأظهر لمقاربة الأمر نحو (عسى) فإذا قالها الله فمعناها اطماع العباد، وهكذا القول فيها حيث وردت في كلام الله تعالى.

"وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو: عسى، فإذا قالها الله: فمعناها اطماع العباد، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى".

عسى أيضًا كذلك هي للإطماع، عسى أن يحصل، وللترجي، فإذا كان ذلك في كلام الله من قوله وليس حكاية عن قول قائل وإنما الله يقول: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، جاء عن ابن عباس -ا- وغيره: أن عسى من الله واجبة[2].

وكذلك جاء في لعل، ما معنى لعل وعسى؟ هما للترجي، لكن إذا قالها الله قالوا: هي واجبة. يعني متحققة الوقوع.

لكن القواعد أغلبية وليست دائمة، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، هنا لم يتذكر ولم يخش، فتكون للتعليل، لكن يقولون: عسى من الله واجبة.

وقالوا أيضًا: لعل من الله واجبة. بمعنى أنها متحققة الوقوع، ففي قوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةًقالوا: آمن أبو سفيان، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وكبراء المشركين الذين حاربوهم في بدر وأحد ويوم الأحزاب، إلى أن صدوهم في الحديبية، وأسلم سهيل بن عمرو العامري، وهو أحد رسل المشركين إلى رسول الله ﷺ يوم الحديبية، كل هؤلاء أسلموا، عسى من الله واجبة.

يقول: فإذا قالها الله فمعناها إطماع العباد. ما معنى إطماع العباد؟ يقولون: العظيم من الناس -هذا جريًا على كلام العرب- يخرج الكلام مخرج الإطماع وهو يقصد التحقيق. فيقول: عسى أن يتحقق لك ما سألت، عسى أن يتحقق لك ما طلبت، عسى أن نحقق لك، عسى أن ننجز لك، لعلنا ننجز لك حاجتك.

إذا سمعها المخاطب من هذا العظيم من الناس: ملك، فإنه مباشرة يحصل عنده الثقة، يجزم أن ذلك سيتحقق لكنهم يخرجون الكلام مخرج الإطماع وهم يقصدون الوعد الثابت، فإذا قال له صاحب الحاجة أو السؤال: عسى أن ننجز لك ما أردت، ما طلبت، ما تصبو إليه. مباشرة يعتبر هذا من قبيل الوعد، فهذا جريًا على عادة العرب.

هناك جواب ثالث يذكر أهل العلم: وهو أن ذلك خرج -يعني تكلم الله به- مراعًا به نظر المخاطب. وهذا أنواع في القرآن، ما هو نظر المخاطب؟ المخاطب فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

المخاطب لا يدري يتذكر أو يخشى فروعي فيه نظر المخاطب، يعني على رجائكما، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، أي: على رجائكما، فهذا الذي يراعى فيه حال المخاطب، أو نظر المخاطب، أو فهم المخاطب، أو إدراك المخاطب، أنواع في القرآن: أحيانًا يكون على سبيل الشك. بإرسال يونس  قال: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، بعضهم يقول: (أو) بمعنى بل هنا للإضراب. انتهى فلا إشكال، وبعضهم يقول: (أو) للشك.

وهل يقع الشك من الله؟! الله يعلم عدد هؤلاء، قالوا: هذا روعي فيه حال المخاطبين. إذا رآه الواحد منكم قال: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.

قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]، بعضهم يقول: (أو) هنا بمعنى بل. فلا إشكال، وبعضهم يقول: هي للشك. أن الناظر منكم النظر إليها وعرف حالها قال: هي كالحجارة أو أشد. فهذا وغيره يجري فيه مراعاة نظر المخاطب بحسب مفهومه وتصوره، فيخرج الكلام بهذه الصورة.

ومن الأنواع على كل حال أنه يسمي أحيانًا هذه الترهات والشبهات التي يقولها المشركون يسميها براهين، ويعاملها بهذه الطريقة، لماذا؟ لأنهم يعتقدون أنها براهين، في اللية الماضية كنا نتحدث في التدبر عن قوله تعالى عن بني إسرائيل: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] سماها ملة، وهم على باطل، ولهذا لما نهاه وحذره: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ [البقرة:120]، فسماها أهواء، ما سماها ملة، فهي ملة باعتبار دعواهم، وباعتبار زعم هؤلاء أنهم على ملة، والواقع أنهم على أهواء، وهكذا أحيانًا في استعمالات الضمائر، والأفعال، والجموع وما إلى ذلك، أحياًنا يأتي بما يكون للعاقل باعتبار مراعًا فيه حال المخاطب، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [الأعراف:195]، أصنام، تعبير عن الجمادات غير العاقل يقال لهم أيد تبطش بها، لكن يَبْطِشُونَ، هذا يقال: للعاقل. فلماذا عامل الأصنام بهذه الطريقة؟ هم يعتقدون أنها آلهة ليست فقط عقلاء فراعى حالهم وتصورهم ونظرهم. هذه بعض الصور فيما يتعلق بخطاب الشارع المراعى فيه نظر المخاطب، وهذا واحد منها وهو ما نحو بصدده (لعل) إذا كانت للترجي. 

"الْأَرْضَ فِراشًا تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء".

وهذا جاء ما هو أبلغ منه وهو أنه سماها مهادًا، والمهاد هو ما يمهد ويوضع للصبي الصغير، ممهدة، فهذا من أجل أن تقوم مصالحهم، وتستقر معايشهم، فهي كالفراش لهم، وهذا كما قال الله  أيضًا سماها بساطًا، وكل ذلك لا يتنافى مع كونها كروية، والعلماء منذ القدم، بل قبل الإسلام كانوا يقررون هذا، ومعروف عند الفلاسفة قبل الإسلام، والمسلمون أيضًا كما قال شيخ الإسلام لم ينكروا هذا[3]، فهو من الأمور المعلومة: كروية الأرض، لا إشكال فيه، القضية مقررة عند المسلمين بلا نكير، لكن الجرم الكبير الضخم لا يتبين فيه التدريج في الكروية بنظر الناظر، فتكون في نظره: كالبساط، كالفراش، هذا باعتبار ما نشاهده، والله أعلم.

}مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأن الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها، والباء في به سببية".

لاحظ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ فـ (من) هذه يمكن أن تكون تبعيضية، أي: أخرج به من أنواع الثمرات، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، يعني أخرج به ماذا؟ هذا المطر الذي ينزل يخرج به الزرع، ويخرج به الشجر، ويقولون: إنه أيضًا ينعقد به اللؤلؤ في بعض الأوقات إذا نزل في البحر.

وكذلك يخرج به الثمر، فتكون لبيان الجنس: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، ليست للتبعيض، وكأن هذا هو الأقرب، والله أعلم، يعني ليس المقصود أنه أخرج به بعض أنواع الثمرات وإنما أخرج به الثمرات، كما قال الله : فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر:27] فهذه الثمرات إنما تخرج بهذا -والله أعلم- وفيه إضافة الشيء إلى سببه، يعني بعض الناس يتحرج أن يُقال: أنبت المطر الربيع. يقولون: الله هو الذي أنبته وهو الذي أخرجه. نعم لكن لا بأس أن يضاف الشيء إلى سببه مع اعتقاد أن المدبر والمتصرف هو الله وحده دونما سواه، لاحظ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ أخرج به: والباء للسببية يعني أخرج بسببه، فالمطر سبب، وإذا شاء الله -تبارك وتعالى- تخلف المسبَب، كما نشاهد ينزل المطر ولا يخرج شيء، كأن الأرض لم تُمطر بهذه السنين الأخيرة.

"أو كقولك: كتبت بالقلم لأن الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى".

أي: كأن المطر أداة يخرج بواسطتها النبات. ولاحظ أن المؤلف -وهذا كثير- يترك ألفاظًا بأي اعتبار؟ في الغالب أنها مضت في الغريب؛ ولذلك قلت لكم اهتموا بموضوع الغريب وراجعوه حين بعد حين واسمعوه؛ لأنه يترك ذلك، وأحيانًا يورد بعض الألفاظ التي مضت في الغريب، وأحيانًا يشير إلى أن ذلك قد مضى في الغريب فلا يتكلم عليه، وأحيانًا يشير إلى معنى مقتضب له اتكالًا على أنه ذكر معناه بصورة أكثر تفصيلًا في الغريب. لاحظ: مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ما تكلم على هذا وهذا كثير مما أغفله المؤلف.

"فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأول أظهر".

هنا فَلا تَجْعَلُوا إذا كانت ناهية هنا فتكون عاملة، أما إذا كانت نافية فليس كذلك، فاحتاج إلى الإضمار والأصل عدم الإضمار، انتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأول أظهر.

"أَنْدادًا يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا".

النّد يقال للنظير، ويقيده بعضهم بالنظير المناوئ، يعني تقول: هذا ند لهذا. غير لما تقول: هذا نظير لهذا. يعني الآن حينما نقول مثلًا: بأن هذه القارورة نظيرة لهذه القارورة، هذا الكتاب نظير لهذا الكتاب، هذه الساعة نظير لهذه الساعة. لكن هل نقول: ند لهذه الساعة؟ الجواب: لا؛ لأن كلمة ند فيها معنى النظير وزيادة، نظير مناوئ، فهذا الند.

فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فهؤلاء الذين جعلوهم آلهة مع الله تبارك وتعالى، صرفوا لهم عبادة وأعطوهم بعض خصائص الإلهية، والله  يقول: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91].

"وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله: )اعبدوا( والأول أظهر".

فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيكون وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ متعلق بـلا تجعلوا، لا تجعلوا له أندادًا معبودات تُعبد من دونه -تبارك وتعالى- وأنتم تعلمون قُبح ذلك، أو وأنتم تعلمون بطلان ذلك، وأنتم تعلمون أنه ليس لها شيء من العبادة، أو ليس لها شيء من الخلق والرزق والنفع والضر وما إلى ذلك، فحُذف هنا المتعَلق والأصل أن حذف المتعَلق يُحمل على العموم النسبي، العموم المناسب في كل مقام وفي كل موضع، فهنا: وأنتم تعلمون قُبح ذلك، وأنتم تعلمون أنه ليس لها شيء من الإلهية، وأنتم تعلمون أنها لا تستحق شيئًا من العبادة، وأنتم تعلمون أنه هو الخالق الرازق الذي بيده النفع والضر وحده دونما سواه، إلى غير ذلك من المعاني الصحيحة التي يمكن أن تُقدر هنا، حذف المتعَلق يدل على إرادة العموم، أو يُحمل على العموم النسبي، يعني العموم المناسب لكل موضع.

حينما يقول الله  مثلًا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، هنا حُذف المتعَلق، فلم يقل: فاجتنبوا شربه، أو اجتنبوا بيعه، أو اجتنبوا اهداءه، أو اجتنبوا تخليله، فيحمل على العموم النسبي، لكن هل يدخل فيه فاجتنبوه: اجتنبوا النظر إليه؟ هل هذا مراد؟ الجواب: لا، العموم النسبي، العموم المناسب هنا ما هو؟ هي قضية الإسكار، التعاطي، أو البيع، أو العصر، أو الاهداء، أو نحو ذلك، كقوله ﷺ: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[4]، ما قال: كفتاه من الشياطين.

ولا قال: كفتاه من المخاوف من شرار الناس. ولا قال: كفتاه من الهوام، أو من السباع. وما قال: كفتاه عن غيرها من الأذكار.

فيمكن أن يُحمل على العموم فيقال: كفتاه من كل المخاوف. ويمكن أن يدخل فيه أيضًا: كفتاه من سائر الأذكار مثلًا. لكن هل يقال مثلًا: كفتاه هنا يحمل على العموم، كفتاه من الصلاة المفروضة مثلًا؟ قرأها في ليلة كفتاه؟ الجواب: لا، كفتاه من التوبة؟ الجواب: لا، وإنما يُحمل على العموم النسبي، يعني المناسب له في هذا المقام.

فوائد ثلاث:

الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين؛ أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والثمرات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام، فذكر أولًا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم؛ لأن الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشًا والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات؛ لأن المنعم يستحق أن يعبد ويشكر، وانظر قوله: جَعَلَ لَكُمُ، رِزْقًا لَكُمْ: يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع.

الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلا الله. فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلا الله.

الثالثة: تكرر في القرآن ذكر المخلوقات، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسماوات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار، وذلك أنها تدل بالعقل على عشرة أمور. وهي: أن الله موجود؛ لأن الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له؛ لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17].

قوله: "وأنه واحد لا شريك له؛ لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]": يعني باعتبار كما ذكرنا أن توحيد الربوبية، أن الخالق يلزم أن يكون هو المعبود وحده.

"وأنه حيّ قدير عليم مريد؛ لأن هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها".

ليس هذا فقط يعني قدير، عليم، مريد، إثبات الصفات: كالحياة مثلًا: حي، قدير، عليم، مريد، هذا بالإضافة إلى سائر أوصافه: كالمشيئة وكذلك أيضًا الغنى، القوة، هذه لوازم تلزم من كونه -تبارك وتعالى- هو الخالق.

"وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث"

العلماء يُعبرون ذلك على سبيل الإخبار يقولون: قديم. لكن حينما نأتي للكلام على أوصاف الله -تبارك وتعالى- كما قال النبي ﷺ: هو الأول والآخر، فالأول الذي ليس قبله شيء، لكن القديم يمكن أن يكون مسبوقًا؛ ولذلك التعبير  الذي جاء في القرآن: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3]، وقول النبي ﷺ: اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء[5] هذا أدق، لكن على سبيل الإخبار، والعلماء -حتى من أهل السنة- قد يذكرون مثل هذه اللفظة على سبيل الإخبار، لكن إذا جئنا في الكلام في أسمائه وصفاته فهنا لا يقال: إن من أسمائه القديم، ولا من أوصافه القديم. وإنما يُقال: الأول. 

"وأنه باق؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه"،

قوله: "وأنه باق": كذلك أيضًا يقال: الآخر. اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، هو الأول والآخر.

"وأنه حكيم؛ لأن آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم؛ لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض".

لاحظ الآن مثل هذه الأشياء التي استخرجها يقال بأن العقل يدل على ثبوت هذه الأوصاف في الجملة، يعني من صفات الله  ما دل عليه النقل والعقل، ومنها ما دل عليه أيضًا الفطرة، فالعقل والفطرة من أدلة الشرع، لكنها من الأدلة التابعة، الأصل هو الوحي: الكتاب، والسنة، النقل، ويتبع ذلك العقل والفطرة، فهنا يذكر دلائل عقلية على ثبوت هذه الأوصاف، ونحن نقول مثلًا: صفة العلو مثلًا، دل عليها النقل والعقل والفطرة، وليس كل الصفات كذلك، يعني مثلًا: الاستواء وهو علو خاص، هذا دل عليه النقل، لكن هل هو مدرك في العقل؟ الجواب: لا، هل هو مدرك بالفطرة؟ الجواب: لا، هذا متوقف على النقل فقط.

"وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى أو على وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ على المخاطبين دون الذين من قبلهم، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب: أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمراد الجميع".

يعني: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، خلق الأولين والآخرين لعلنا نحن نتقيه معاشر المخاطبين؟ أم خلق الأولين والآخرين من أجل أن يتقوه جميعًا؟ هو كذلك، لكن هنا لما كان الخطاب موجه إلى هؤلاء الذين أدركوا التنزيل صحّ توجيه الخطاب إليهم، وإلا فهو في المعنى عام للجميع، وهذا لا إشكال فيه، وإلا فمعلوم أنه لم يخلق الأولين والآخرين من أجل أن يتقيه الذين خوطبوا بهذا وقت نزول القرآن، هذا لا يخفى. 

"فإن قيل: هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله: اعْبُدُوا ؟ فالجواب أن التقوى غاية العبادة وكمالها، فكان قوله: لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس".

لاحظ الآن كما ذكرت لكم حينما قال: بأنه يتعلق بمقدر محذوف. هو باعتبار أنه يجعل التقوى والعبادة بمعنى متقارب، فكأنه يكون من قبيل التكرار ولهذا افترض هذا السؤال: هلا قال: لعلكم تعبدون؟ اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تعبدون، أمركم بذلك لعلكم يعني تحققون أمره بالعبادة، لعلكم تعبدون بناء على التقدير الذي ذكره، فالجواب: أن التقوى غاية العبادة، فإذا كانت غاية العبادة وكمال العبادة فيصح أن يكون ذلك تعليلًا للأمر بالعبادة من غير حاجة للتقدير، اعبدوه من أجل أن تتحقق هذه الغاية وهي: التقوى.

"وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ، الآية إثبات لنبوّة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- بإقامة الدليل على أن القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوّة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟"

يريد أن يقول: هم في ريب فلا شك فلماذا قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ؟ هم في ريب فكيف جعله بمنزلة المتوقع بل جاء بـ (إن) وإن هنا لما كان بعيدًا، بخلاف (إذا)، فلم يقل: إذا كنتم في ريب. تقول: إذا جاء زيد أكرمتك.

وتقول: إن جاء زيد أكرمتك. فهذا بعيد المجيء، هذا الفرق بين (إن)، و (إذا)، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ

"فالجواب أنه ذكر حرف (إن) إشارة إلى أن الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ.

قوله: فالجواب أنه ذكر حرف (إن) إشارة إلى أن الريب بعيد عند العقلاء".

تُستعمل (إن) في الشيء البعيد، بعيد الوقوع، إن كنت كذا، وهم في ريب، لم يقل: طالما أنكم في ريب فاعلموا كذا وكذا. بل قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ كأنه باعتبار أن الريب أمر مستبعد من العقل فيما يشاهد ويرى من دلائل نبوته ﷺ، وصدقه، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا، والريب كما عرفنا في الغريب هو: شك خاص، شك مع قلق، شك مقلق، كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا، ولاحظ فيما ذكر هنا قال: الآية إثبات نبوة النبي ﷺ بإقامة الدليل على أن القرآن جاء من عند الله، فما قدم إثبات الألوهية. هكذا فيما يتعلق بالإقناع والحجاج والدعوة لغير الداخلين في الإسلام، أول ما يُبدأ به هو ما يتعلق بإثبات الوحدانية، فإن كان ملحدًا فيحتاج إلى إثبات وجود الله أولًا، لا يخاطب بالوحي والنبوة، وإنما يُتحدث معه أولًا عن دلائل وجود الله  إن كان منكرًا، فإن كان مثبتًا: كما كان المشركون فإنه لا يُشتغل بإثبات وجود الله ، وإنما يُنتقل من هذا الأمر المسلم به إلى ما بعده، فإذا كان يُقر بأن الله هو الخالق الرازق ... إلخ، كما كان المشركون يقولون، فينتقل منه إلى ما بعده وإثبات توحيد الإلهية، أنه الواحد دونما سواه، فيُبدأ أولًا بقضية التوحيد، فإذا أثبت أن الله -تبارك وتعالى- هو الخالق الرازق المحيي المميت، إذا كانوا لا يثبتوها فبعد ذلك تنتقل إلى أنه هو الواحد الذي يستحق أن يُعبد دونما سواه، فإذا أثبت هذا انتقلت إلى قضية الوحي، فإذا أثبت الوحي بعد ذلك يمكن أن تنتقل منه إلى غيره، فالكلام مع المنكر الجاحد لوجود الله، غير الكلام مع من يثبت وجوده ولكن يُشرك معه غيره، والكلام مع من ينكر الوحي والنبوة ويثبت وجود الله أو وحدانيته أو ربوبيته أو نحو ذلك غير الكلام مع من يُنكر هذا، فلاحظ هنا هذه القضايا كيف جاءت بهذه الطريقة.

"عَلى عَبْدِنا، هو النبي ﷺ".

الله -تبارك وتعالى- أثبت أنه هو الواحد: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فلماذا تصرفون العبادة لغيري؟، والنبوة؟ النبوة يقول لهم: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، يعني: هذا التحدي قائم إلى اليوم، فهذا الذي يثبت وحدانية الله ، نقول له: بما يتعلق بالنبوة بيننا وبينك شيء واحد هات سورة واحدة ولو أقصر سورة من القرآن، هات مثلها.

فلن يستطيع، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فما بقي إلا: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ لا تكن من جملة هذا الوقود، إن كنت تكابر وتجادل في هذه الحقيقة وهي النبوة والوحي فعندنا هذه المعجزة للنبي ﷺ هو هذا القرآن الذي فيه إثبات الوحي، ونبوة النبي ﷺ في آن واحد، هات سورة واحدة فإن لم تستطع فينبغي أن تُقر وتُذعن، فإذا أثبته وكان يُنكر بعض الأمور ويقول: إنه حُرّف، أو زيد فيه ونُقص. فيقال: إذا أثبت بأن هذا هو كلام الله .

فالله يقول: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، إذا قال: أنا أثبت نبوة النبي ﷺ لكن للعرب خاصة. كما يقول بعض أهل الكتاب. تُذكر له الآيات التي تدل على عموم رسالته من نصوص الكتاب والسنة، إذا يقال: هو صادق عندك إذن فهذه هي نصوص الدالة على عموم البعثة. وهكذا يكون الجدال والحجاج مع هؤلاء بحسب حالهم.

"والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص".

على كل حال عَلَى عَبْدِنَا هنا العبودية الخاصة، فالإضافة تقتضي التشريف. 

 "وهي من أشرف أوصاف العباد. ولله در القائل:

يعني من حيث جلى هذا المعنى ووضحه، من هذه الناحية، أما المضمون والمعنى فهو ليس بجيد. 

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

لا تدعني إلا بيا عبدها: هذه العبودية تكون لله  ولا يكون عبدًا لامرأة يعشقها، لكن هنا لا يقصد الثناء على المعنى، وإنما يقصد أنه قد جلى المراد وأوضحه، ولو أنه ترك مثل هذه العبارة في مقام وكلام قد تضمن معنى باطل لكان أولى.

"فَأْتُوا بِسُورَةٍ أمر يراد به التعجيز مِنْ مِثْلِهِ الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن، ومن لبيان الجنس، وقيل يعود على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمن على هذا: لابتداء الغاية ومعناه: من بشر مثله".

يلاحظ الآن ابتداء الغاية فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: الراجح أنه يعود إلى القرآن وهذا هو المتبادر، المثل جنس القرآن؛ لبيان الجنس من مثله، وإذا كانت لابتداء الغاية مِنْ مِثْلِهِ يعني: من بشر مثله قيل: أي لا يقرأ ولا يكتب، يعني بعضهم يقول: من بشر مثله. أي بشر: يقرأ ويكتب أو لا يقرأ، عالم، جاهل، هاتوا من بشر سورة، وهذا أبلغ. وبعضهم يقول: من بشر مثله لا يقرأ ولا يكتب.

أمي ويأتي بمثل هذا القرآن، والمعنى الأول أبلغ أنه من بشر، قيل: إنها لابتداء الغاية: من بشر مثله، البشرية وحدها تكفي، أنه يعجز عن هذا، ولو كان أعلم الناس وأفصح الناس، لكن الأقرب في تفسيرها -والله أعلم- فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: يعني مثل القرآن وليس مثل النبي ﷺ بشر.

 "والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود".

ذلك في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38]: هنا لا يحتمل أن يرجع ذلك إلى النبي ﷺ، وإنما مثل القرآن، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:38]، فهذا واضح، والقرآن يُفَسر بالقرآن، وكذلك في هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، فهذا تفسير للقرآن بالقرآن.

"وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة".

هذا يدخل ضمنًا، لكن فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38]، هنا في ألفاظه وتراكبيه وفصاحته وبلاغته ويدخل تبعًا المضامين، ما تضمنه من الهدايات ونحو ذلك، وبعضهم يقول: إن الضمير فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعود على التوراة والإنجيل باعتبار أنها تتضمن ما يدل على صدقه، لكن هذا بعيد، مِنْ مِثْلِهِ، يعني: من مثل القرآن، وهذا بعيد يعني إذا أتيتم بها فإنها تصدق ما فيه، كما قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۝ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:43-44]، فاسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب: الذين أُنزل عليهم الذكر والكتاب، فأُخذ من عموم اللفظ سؤال العلماء عما أشكل، وإلا فسياق الآية في ما هو أخص من هذا.

شُهَداءَكُمْ، آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم.

الشهداء جمع شهيد، ويقال للحاضر، يقال: فلان شهد الواقعة. ونحو ذلك، شهد هذا الحديث، يقال للحاضر، ويقال أيضًا للقائم بالشهادة، كذلك يقال للمعاون، يقال له ذلك، وعلى هذا تدور عبارات السلف، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ، يعني: أعوانكم، أو من يشهد لكم بهذا، الذين يشهدون بذلك، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، من يشهد لكم، أو ادعوا الأعوان، قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].

مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي: غير الله، وقيل: هو من الدين الحقير، فهو مقلوب اللفظ.

يعني كلمة (دون) بمعنى غير، قيل: هو من الدني الحقير فهو مقلوب اللفظ. دون، تقول: فلان دون. يعني أنه لا شأن له، مِنْ دُونِ اللَّهِ، والأول هو المتبادر، والله أعلم.

وَلَنْ تَفْعَلُوا، اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة، وهو إخبار بغيب ظهر مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى.

قوله: وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى: يعني معجزة أخرى، الأولى: أنه معجز في نفسه: بفصاحته وبلاغته.

المعجزة الأخرى: أنه قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا ولم ينبري أحد لكسر هذا الإخبار، حيث قطع أنه لن يحصل ذلك، ولن يفعل أحد، فما قال أحد: أنا أفعل.

نحن نفعل، أو اجتمعوا جميعًا، فلم يحصل ذلك، فبقوا معلنين عجزهم، وهذا إعجاز آخر باعتبار أنه أخبر عن أمر غيبي فكان كما أخبر، ولو كان من عند غير الله  فإنه لا يجترئ من قد حدقه الناس ورموه عن قوس واحدة بالعداوة، يبحثون عن ذلة أو شيء يكذبونه به أن يخبرهم عن أمر مستقبل يتعلق بهم وبإرادتهم ويقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا لن تستطيعوا، هم بعد ذلك يبقون في حال من عجز والانقطاع فهذا إعجاز، إخبار عن أمور غيبية.

وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين:

أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح.

وهذا هو الذي لا يصح العدول عنه أصلًا، أنه معجز في نفسه.  

والثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه"

الآن يقول: القول الثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه. هذا الذي يسمى الصرفة، القول بالصرفة، ما هو القول بالصرفة؟ يعني أن الله صرف همم العرب عن معارضته، وإلا فهو من جنس كلامهم، وهم بقدرتهم أن يأتوا بمثله، ولكن صرف دواعيهم وهممهم عن معارضته والإتيان بمثله، هذا قول بعض المعتزلة، وهذا باطل، فالقرآن أبلغ من كلامهم ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولم يكن عجزهم؛ لأن الله صرف دواعيهم؛ بل لأنهم لا يستطيعون أن يرتقوا بكلامهم إلى هذا الحد في الفصاحة والبلاغة، هذا هو قول السواد الأعظم وهو قول أهل السنة قاطبة، وأما هؤلاء من المعتزلة فإنه لا عبرة بخلافهم، ولا ينبغي أن يُذكر قولهم في مثل هذا في جملة الخلاف، فلو أنه أعرض عن هذا ولا يحتاج أن يقول على قولين، فكان هذا هو اللائق، والله أعلم.  

والإعجاز حاصل على الوجهين" وقد بيّنا سائر وجوه إعجازه في المقدمة.

يقصد إنه إذا كان في نفسه معجزًا فهذا واضح، وإذا قيل: بأن الله صرف دواعي العرب فهذا الصرف في حد ذاته عن القرآن ومعارضته فهو معجزة، لاحظ: يعني الكل يقولون: هنا معجزة. لكن أهل العلم من أهل السنة وغيرهم يقولون: بأنه معجز في نفسه. وهذا هو الذي عليه طوائف أهل الكلام غير هؤلاء كالنّظام من المعتزلة، يعني حتى الأشاعرة والماتردية يقولون: معجز في نفسه.

والباقلاني في كتابه (الانتصار لنقل القرآن) وهو كتاب فيه أشياء مفيدة كثيرة، يرد على الطاعنين في القرآن، رد على القول بالصرفة برد مفصل أحسن فيه وأجاد، والكتاب مطبوع، له أكثر من طبعة، وله مختصر أيضًا مطبوع، طبعًا هو من علماء الأشاعرة المتكلمين، فالذي يقرأ ينتبه لهذا.

فَاتَّقُوا النَّارَ، أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف.

فَاتَّقُوا النَّارَ، يقول: عبر باللازم عن ملازمه. يعني هو كيف يستطيع أن يتقي النار؟ لا يستطيع أن يتقيها، يتقيها بماذا؟ بيده؟ وإنما تُتقى بماذا؟ بالإيمان والعمل الصالح، يقول: عبر باللازم عن ملازمه. فإذا آمن وعمل صالحًا فيحصل من جراء ذلك اتقاء النار، عبر باللازم عن ملازمه، تُتقى بالإيمان والعمل الصالح، فقال: فَاتَّقُوا النَّارَ، ويمكن أن يقال: فاتقوا النار بالإيمان والعمل الصالح.

  1. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:196).
  2. تفسير القرطبي (8/91).
  3. مجموع الفتاوى (5/150).
  4. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، رقم: (5009)، ومسلم، باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، رقم: (808).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، رقم: (2713).

مواد ذات صلة