الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(008-أ) من قوله تعالى "تسئلوا رسولكم" الآية 107 - إلى قوله تعالى "فثم وجه الله" الآية 114
تاريخ النشر: ٢١ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1895
مرات الإستماع: 2105

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ۝ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ۝ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۝ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:107-115].

تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ، أي: تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأول أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.

قوله تبارك وتعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ، هذه السؤالات الواردة في القرآن أنواع:

النوع الأول: ما يكون من أهل الإيمان يسألون عن العلم، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217]، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222]، ونحو ذلك.

النوع الثاني: هو ما كان على سبيل التعنت بطلب الآيات. يعني المعجزات وهذا كان يصدر عن غير المؤمنين، فكان المشركون يسألون النبي ﷺ عن معجزات يقترحونها عليه، وهكذا كان أهل الكتاب يسألون على سبيل التعنت.

فقوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ هذا الاستفهام للإنكار، ومن ثم فإنه ليس المراد بذلك السؤال عن العلم فإن ذلك لا يُذم، وإنما هي سؤالات التعنت، وهذا كان يصدر من هؤلاء الكفار من المشركين، وكذلك أيضًا من أهل الكتاب. قد حمله الحافظ ابن كثير -رحمه الله- على الطائفتين: المسلمين، والكفار[1]، يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء:153]، فهذا من تعنت أهل الكتاب في سؤالاتهم، اقتراح الآيات بمعنى المعجزات، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153].

هنا أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108]، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153]، فهذه الآية يمكن أن تُفسر بها آية البقرة، فكذلك أيضًا سؤالات المشركين: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90] الآيات، فهذا كله صادر عن هؤلاء وهؤلاء، وتوجيه الخطاب، أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ لا شك أن النبي ﷺ قد أرسل إلى الناس كافة، فيصح أن يتوجه ذلك إلى أهل الكتاب كما يصح أن يتوجه إلى المشركين، كما يصح أن يتوجه لأهل الإيمان.

وفيما يتعلق بأسباب النزول في قوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ جاء في رواية عن ابن عباس عند ابن جرير -رحمه الله- رواية جوّد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إسنادها بسبب أن تسألوا رسولكم، يقول ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله ﷺ: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ[2].

وكان رافع بن حريملة، ووهب بن زيد من اليهود، وسألوا النبي ﷺ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ فسبب النزول قطعي الدخول في العام، وإخراجه بالاجتهاد ممنوع، فإذا صحت هذه الرواية فإن ذلك يدخل فيه اليهود دخولًا أوليًا.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، أي: تمنوا، ونزلت الآية في حيي بن أخطب وأمية بن ياسر وأشباههما من اليهود الذين كانوا يحرصون على فتنة المسلمين، ويطمعون أن يردّوهم عن الإسلام[3].

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كما قال الله : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، وهكذا قال في المنافقين: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، فهذا في المنافقين، فهنا وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هذا خاص في أهل الكتاب، لكن هذا التمني هو واقع من أهل الكتاب ومن المنافقين، ومن المشركين، ولكن هذه الآية في أهل الكتاب، والسياق في الآيات يتحدث عن أهل الكتاب لا سيما اليهود، وفي سبب نزول الآية في حيي بن أخطب وأخيه هي لا تصح من جهة الإسناد، لكن الآية صريحة بأن أهل الكتاب يتمنون ذلك.

حَسَدًا مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والعامل في ما قبله، فيجب وصله معه

يعني: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا، يعني لأجل الحسد الذي تنطوي عليه نفوسكم، وهذا باعتبار أنه مفعول لأجله، أو أنه مصدر في موضع الحال، يعني: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ، حال كونهم حاسدين لكم، مصدر في موضع الحال والعامل فيه ما قبله: يردونكم حسدًا، حسدًا يردونكم. فيجب وصله معه.

وقيل: هو مصدر، والعامل فيه محذوف تقديره: يحسدونكم حسدًا، فعلى هذا يوقف على ما قبله، والأول أظهر وأرجح.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ، فيصح الوقف هنا؛ لأنه ليس بمتعلق بما قبله إنما يتعلق بمقدر محذوف: يحسدونكم حسدًا من عند أنفسهم، والأول أقرب -والله أعلم- وأنه متعلق بما قبله.

مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يتعلق بـ حَسَدًا وقيل: بـ (يودّ).

يتعلق بـ حسدًا يعني أي حسدًا ناشئًا من عند أنفسهم، وقيل: بـ (يود): أي ودوا ذلك من عند أنفسهم، لاحظ كيف يكون المعنى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ حسدًا ناشئًا من عند أنفسهم، أو وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ، يعني: ودوا ذلك من عند أنفسهم، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ، حسدًا من عند أنفسهم، هذا الوداد هو من عند أنفسهم، لكن الذي يظهر أنه يتعلق بـ حسدًا ناشئًا من عند أنفسهم، وهذا يدل على سوء ما انطوت عليه نفوسهم، منطوية على الحسد وأن هذا الحسد ناشئ من أعماق هذه النفوس المريضة.

فَاعْفُوا، منسوخ بالسيف.

هذا يقوله طوائف من أهل العلم، يقولون: كل آية فيها عفو وصفح وتجاوز فإنها منسوخة بآية السيف. وآية السيف هي الآية الخامسة من سورة براءة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، الآية، فيقولون: نسخت (124) آية من القرآن، حتى قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8]، يقولون: نسختها آية السيف. وهذا الكلام غير صحيح ويحتاج إلى مناقشة وغير مسلم، وإنما هذه الآيات لم تنسخ وإنما يُعمل بها في أوقات الضعف، الأمة تمر بأحوال فالعفو، والصفح، والتجاوز، والصبر، وما إلى ذلك كل هذا يُعمل به في أوقات الضعف، وآية السيف يُعمل بها في وقت القوة، فهذا ليس بمنسوخ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.

بِأَمْرِهِ، يعني: إباحة قتالهم أو وصول آجالهم.

وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الآية أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا.

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى جاء بضمير الجمع العائد على الطائفتين: على اليهود، والنصارى، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى و أَوْ هذه ليست للتخيير قطعًا؛ لأن اليهود لا يعتقدون صحة دين النصارى بل يعتقدون أنهم على ضلال، وكذلك النصارى، فاليهود لا يقولون بحال من الأحوال: كونوا نصارى تهتدوا.

ولا يقولون أيضًا: كونوا نصارى لتدخلوا الجنة. وكذلك النصارى لا يقولون بأن اليهود على هدى: كونوا هودًا تهتدوا، أو كونوا هودًا تدخلوا الجنة. وإنما أَوْ هذه يمكن أن تكون للتقسيم كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135]، أي: كل طائفة قالت ما يتفق مع معتقدها الباطل، فاليهود قالوا: كونوا هودًا تهتدوا، أو كونوا هودًا تدخلوا الجنة. والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا، أو كونوا نصارى تدخلوا الجنة.

هُودًا يعني: اليهود، وهذه الكلمة جمع هايد أو مصدر وصف به، وقال الفرّاء: أصله يهودي فحذفت منه الياء على غير قياس.

قال: وهذه الكلمة جمع هايد. والهايد هو التائب الراجع إلى الحق، هاد بمعنى رجع، ولهذا بعضهم يقول: إن أصل تسمية اليهود من هاد يهود أي رجع، وذلك لتوبتهم المشهورة. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54]، هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]: أي رجعنا إليك. قال: أو مصدر وصف به. عبر به عن الواحد والجمع وَقَالُوا كُونُوا هُودًا [البقرة:135]، وقال الفرّاء: أصله يهودي فحذفت منه الياء على غير قياس. جاء في قراءة أُبي وهي قراءة غير متواترة كما هو معروف بهذا اللفظ (يهوديًا)، (وقالوا كونوا يهوديًا أو نصارى). فهذا يؤيد قول الفرّاء، والله أعلم.

أَمانِيُّهُمْ أكاذيبهم أو ما يتمنونه.

الأماني وما يتمنونه تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ الأصل أن الأماني هي هذه التي تطلبها النفوس وتتمناها لكنها بعيدة المنال، يعني مطالب النفوس وآمال النفوس البعيدة أو المستحيلة يقال لها: الأماني. تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ لكن لما كانت هذه الأماني غير موافقة ولا مطابقة للواقع  وهي أمور غير متحققة، وبعيدة المنال كانت من قبيل الأكاذيب، فما فسره بالأكاذيب فيكون ذلك من قبيل التفسير باللازم، وإلا فالأصل أن الأماني ليست هي الأكاذيب.

هاتُوا أمر على وجه التعجيز، والردّ عليهم، وهو من: هاتى، يهاتي، ولم ينطق به.

ولم ينطق به يعني الأصل هاتى يهاتي لم ينطق به، لكن هاتوا.

وقيل: أصله آتوا، وأبدل من الهمزة هاء.

 

هاتوا هذا فعل أمر وقوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ليس عندهم برهان، فكان ذلك على سبيل التعجيز، طالبهم بأمر لا يتأتى.

بَلى إيجاب لما نفوا أي: يدخلها من ليس يهوديًا، ولا نصرانيًا.

قال: بَلَى إيجاب لما نفوا. وكما هو معروف أن هذه تكون في جواب النفي أي: يدخلها من ليس يهوديًا ولا نصرانيًا، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ.

مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، أي: يدخل في الإسلام وأخلص، وذكر الوجه لشرفه والمراد جملة الإنسان.

ابن جرير فسره بنحو من هذا[4]، يعني: فسره بأنه من أسلم لله بدنه فخضع له بالطاعة جسده. لكن هو لا يقف عند هذا في تفسيره، فإن إسلام الوجه لله تبارك وتعالى هو إسلام للبدن مع إقبال القلب على الله وحده دون من سواه، ولهذا يقول: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له  محسنًا في فعله ذلك.

فجمع بين هذا وهذا، لاحظ هنا قال: أي دخل في الإسلام وأخلص. فسره بالإخلاص كثير من السلف: كأبي العالية، والربيع بن أنس، وسعيد بن جبير، وهذا اختبار ابن كثير، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ أن المراد الإخلاص، فيكون قوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ المتابعة، فجمع بين الإخلاص والمتابعة كما في جملة من الآيات: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، أما ذكر الوجه بخصوصه قال: لشرفه والمراد جملة الإنسان. يعني باعتبار أنه عبر بأشرف الأجزاء والمراد الجملة، لكنه يُعبر كثيرًا بمثل هذا: إسلام الوجه لله بالإخلاص وذلك لا يمنع من إسلام الجسد بكامله لربه تبارك وتعالى، فيشمل إسلام البدن والإخلاص لله، والله أعلم.

وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية سببها: اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة فذمّت كل طائفة الأخرى[5].

هذا أيضًا لا يصح في سبب النزول.

وَهُمْ يَتْلُونَ تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب.

 يعني: حال كونهم يتلون الكتاب فهذا أقبح وأشد فإن صدور ذلك مما لا بصر له ولا معرفة بالكتاب أسهل، وإن كان ذلك من قبيل السوء والشر لكن الشر يتفاوت فصدور ذلك ممن يتلو الكتاب يكون في غاية السوء والقبح، فإنهم لا يجدون في كتابهم هذا وإنما يجدون في كتابهم أن من أسلم وجهه لله وهو محسن، وأن الذي يدخل الجنة هم أهل العبادة الحقة: الذين يجمعون بين الإخلاص والمتابعة، وهم أهل الإيمان والإسلام، وذلك يكون لمن اتبع نبيه قبل أن تُنسخ شريعته، فالذين اتبعوا موسى والذين اتبعوا عيسى قبل مبعث النبي ﷺ وهم على الإخلاص والمتابعة فهؤلاء يكونون من أهل الجنة.

الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ المشركون من العرب؛ لأنهم لا كتاب لهم.

وهذا القول عزاه ابن عطية للجمهور من المفسرين[6]، وسيأتي الموضع الآخر: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] هناك خلاف كثير كما سيأتي في المراد بهم لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ، هل هم أهل الإشراك؟ أو أهل الكتاب؟.

على كل حال فهنا كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ هنا لما ذكر اليهود، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، فذكر الطائفتين كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ من بقي؟

بقي أهل الإشراك وهم أهل الجهالة فهم لا كتاب لهم، وقال بعض السلف كعطاء -رحمه الله-: هم أمم قبل أهل الكتاب[7].

إذا قلنا: إنهم العرب، هل قالوا ليست اليهود على شيء وليست النصارى على شيء؟ هذا ما عُرف عن العرب أنهم كانوا يقولون هذا، بل يعتقدون أنهم أهل كتاب وأنهم أهل علم، فمن هنا جاء الإشكال عند هؤلاء، فقال عطاء: بأن هؤلاء أمم قبل أهل الكتاب. كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، باعتبار أن العرب لم يقولوا هذا في أهل الكتاب، لكن من حمله على العرب: كالسُّدي[8]، قال: المراد أنهم قالوا: ليس النبي ﷺ ومن تبعه على شيء.

اليهود قالوا: ليست النصارى على شيء. والنصارى قالوا: ليست اليهود على شيء. كذلك قال الذين لا يعلمون من العرب: ليس النبي على شيء.

لكن مثل ابن جرير حملها على العموم[9]، فكل من كان موصوفًا بالجهل وادعى دعوى كهذه فهو داخل فيه، فيدخل فيه العرب ويدخل فيه غيرهم ممن صدر عنه ذلك.

 وَمَنْ أَظْلَمُ لفظه الاستفهام ومعناها: لا أحد أظلم منه حيث وقع.

هذا الاستفهام مضمن معنى الإنكار والنفي لا أحد أظلم، وذكرنا في بعض المناسبات بأن مثل هذا يورد عليه السؤال المعروف وهو ما جاء في نظائره من قوله تعالى مثلًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ كما سيأتي، وكذلك وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:93،21] [هود:18] [العنكبوت:68]، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة:22] ففي كل موضع يقول: لا أحد أظلم منه. قلنا: إن هذا يجاب عنه بجوابين معروفين:

الجواب الأول: بأن ذلك يُخرج على القاعدة المعروفة، وهي أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع الزيادة، يعني لا أحد يزيد عليه في الظلم، لكن يمكن أن يستوي معه، فيكون هؤلاء جميعًا قد بلغوا في الظلم غايتهم، لا أحد أظلم ممن افترى على الله، ولا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه وحصل منه الإعراض، فكل هؤلاء قد بلغوا الغاية، أفعل التفضيل تمنع الزيادة، لا أحد يزيد عليه لكن يمكن أن يستوي معه.

الجواب الثاني: أن كل واحدة تختص ببابها، ففي المانعين: لا أحد أظلم ممن منع مساجد، وفي المفترين: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وفي المعرضين: لا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها.

مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، قريش منعت الكعبة، أو النصارى منعوا بيت المقدس أو على العموم.

 لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وهذه الآية عامة في لفظها وظاهرها لا أحد أظلم منه، لكن هنا يقول: قريش منعت الكعبة.

هذا قول؛ وهو رواية عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، واختاره الحافظ ابن كثير[10]، لاحظ السياق في أهل الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ثم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فقال: يعني قريشًا منعت الكعبة. صدوا النبي ﷺ عن المسجد الحرام.

قال: أو النصارى منعوا بيت المقدس. يقولون: بأن النصارى أعانوا بختنصر لما حصل خراب بيت المقدس فوقف النصارى معه ضد اليهود، ثم صاروا يمنعون اليهود من الصلاة في بيت المقدس.

وهذا قال به جمع من السلف فمن بعدهم: كالسُّدي، وقتادة، والحسن البصري، واختاره كبير المفسرين: أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله-: أن هذا في النصارى، واحتج ابن جرير لهذا بأن السياق في بني إسرائيل[11].

أي: ليس السياق في ذكر العرب حتى يقال: بأن المشركين منعوا المسلمين من الكعبة والبيت الحرام.

ومن أهل العلم من حملها على العموم، وأن ذلك إلى يوم القيامة: كابن عطية[12]، قال: هي عامة تشمل النصارى وتشمل المشركين وتشمل كل من صدر عنه ذلك إلى يوم القيامة. بل وسع المعنى أكثر وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ قال: الذي يدخل فيه من أخرب بلاد الإسلام؛ لأنه إذا أخرب بلاد الإسلام فإن ذلك يستتبع إخراب المساجد. إخرابًا حسيًا أو الإخراب المعنوي بمنع الناس من الصلاة فيها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وعلى كل حال الآية عامة والسياق في أهل الكتاب، لكن العموم في لفظها يدخل في كل من صدر عنه ذلك، والله تعالى أعلم.

خائِفِينَ، في حق قريش؛ لقوله ﷺ: لا يحج بعد هذا العام مشرك[13]، وفي حق النصارى ضربهم عند بيت المقدس أو الجزية.

قال: أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ أن يدخلوا هذه المساجد، فإذا كان هذا في قريش فيقول: بأن النبي ﷺ قال: لا يحج بعد هذا العام مشرك فلا يدخل هؤلاء الكفار آمنيين بل يدخلون في حال من الوجل والخوف من أهل الإسلام، وفي حق النصارى قال -باعتبار أنهم منعوا اليهود-: ضربهم عند بيت المقدس.

ضرب النصارى عند بيت المقدس يقول ابن عطية: بأنه كان بعد مدة لما صاروا يمنعون اليهود من الصلاة في بيت المقدس أنه جاء زمان لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أُوجع ضربًا. وهذا ذكره أيضًا قتادة، والسُّدي[14].

أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ بحال من الأحوال أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ فلذلك الذي كان يقع عليهم من الضرب كان تفسيرًا لهذا الخوف الذي وقع عليهم. قال: أو الجزية. باعتبار أن هذه الجزية هي ذل لهم، ويوجه المعنى بهذا الاعتبار كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: بأنه خبر معناه الطلب[15].

أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ، أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية.

وبعضهم يقول: هو بشارة للمسلمين أن الله سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد حتى لا يدخل أحد من المشركين المسجد الحرام إلا خائف.

إنها بشارة في المستقبل، ويحتمل أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك، كما يقول السُّدي: لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه[16].

يعني بعد فتح المسلمين لها، أو قد أُخيف بضرب الجزية، يعني هم يدخلون في حال من الضعف والذل، أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ، والذي يظهر -والله أعلم- لو قيل: بأن المعنى أن هؤلاء ليس لهم أن يمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أو أن يسعوا في خرابها، بل اللائق بهم ألا يدخلوها إلا في حال من الخوف لا أن يستطيلوا هذه الاستطالة فيمنعوا مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، وإنما اللائق أنهم يكونون في منزلة ومرتبة دون ذلك بكثير فلا يصلون إلى هذا ولا يقربون منه حال يعني كون هؤلاء يتمكنون بيوت الله من أي يذكر فيها اسمه ويخربونها، وإنما اللائق بهم أن يكونوا في حال من الضعف والمهانة فلا يتمكن الواحد من دخولها إلا وهو خائف، والخائف ضعيف بخلاف ذاك الذي يمنع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه، فالكفار اللائق بهم أني يكونوا في هذه المرتبة تحت المسلمين، ولا يرتفعوا إلى هذا الحال والحد الذي يتمكنون فيه من منع بيوت الله من أن يذكر فيها اسمه فيستقوون ويحصل لهم مثل هذا الطغيان والعدوان على بيوت الله، وعلى من يَعْمر هذه المساجد، مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا ما كان ينبغي لهم دخول هذه المساجد إلا حال كونهم في خوف وتحت نظر المسلمين، ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الخلافة أراد أن يزيل ما وضع على المسجد الأموي من الأحجار الكريمة والفسيفساء ونحو ذلك، المسجد قد زين بأنواع من الأحجار والزينة وبذلت فيه أموال طائلة، فأراد أن يزيل ذلك؛ لأن زخرفة المساجد ممنوعة شرعًا، فقيل: له إن تجار المسلمين قد بذلوا فيها الأموال ونقلوها من بلاد الروم -يعني هذه الأحجار- فأمر بوضع الستور عليها، هذه التي يقولون عنها: الزخرفة الإسلامية.

لا يوجد شيء اسمه زخرفة إسلامية، بل هذا وُجد في أوقات الترهل والترف، وإلا فالنبي ﷺ نهى عن زخرفة المساجد، فلا يُشرع زخرفة المساجد ولا المصاحف بل ولا التوسع في عمارة القصور ونحو ذلك، وبذل الأموال في هذا في زخرفة وزينة ونحو ذلك.

الشاهد أنه جاء رجل من كبراء أهل ملتهم النصارى إلى الشام فدخل المسجد الأموي فلما رأى هذا البناء قال: هذا لا يكون إلا لأمة عظيمة. يعني كأنه قد انبهر بما شاهد، فقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: لا أرى هذا إلا غيظًا لأعداء الله.

فأمر بنزع الستور، يعني راعى هنا مصلحة، هو لم يبتدئ بناء هذا وهم بإزالته فلما رأى الأثر غلب هذا الجانب واجتهد فأمر بنزع الستور؛ ليكون ذلك غيظًا لأعداء الله، فهذا نظر، ونحن لا نقول: بأنه تُبنى المساجد مزخرفة من أجل إغاظة أعداء الله؛ لأن هذه القضية وردت فيها نصوص. لكن القاعدة الشرعية أن الدفع أسهل من الرفع، يعني الابتداء أصعب وأشد من الدوام، كما هو معروف في القواعد الفقهية، فلا يُبتدأ هذا لكن ما وجد هل يقال: إنه يزال مثلًا إذا كان في ذلك مصلحة كهذه أو لا؟، فهناك أمور غير المساجد يُطلب أن يوجد شيء من المهابة في نفوس الناس لا سيما إذا خف الدين عندهم، على سبيل المثال: المكان الذي يكون فيه القاضي أو نحو ذلك ينبغي أن يورث مهابة في نفوس الناس، ولا يكون مبتذلًا، وهكذا أهل الحسبة فيكون لهم من المباني والمكاتب ما يبعث على الهيبة في نفوس من يدخل هذه الأماكن، ولا يدخل إلى أماكن ضعيفة وأماكن مبتذلة فيستخف بهؤلاء ويهون الواحد منهم في نظره ويُحتقر، فهذه من الأمور التي تتعلق بالسياسة الشرعية، أما دخول الكفار للمساجد من أجل الفرجة والتصوير ويدخلون أشباه عراة ونحو ذلك فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال، لكن أصل دخول الكافر للمسجد غير المسجد الحرام أن هذا لا يُمنع شرعًا، فله أن يدخل ليرى، ليستمع، ليرى المصلين، إذا كان ذلك فيه مصلحة أو حاجة أو نحو هذا، وقد أسر النبي ﷺ ثمامة بن أُثال رُبط في المسجد، وكذلك أيضًا جاء في غير هذا من النصوص، وأيضًا بعض هؤلاء الكفار أسلم بسبب سماع آية قرأها النبي ﷺ في الصلاة، وجاء نصارى نجران أنزلهم النبي ﷺ في المسجد وهذا قد لا يثبت من جهة الإسناد، لكن دخول الكفار للمسجد جائز لكن بهذه الصفة، لا يدخلون في حال استطالة ومع منكراتهم وفي عريهم بنسائهم ونحو ذلك يصورون هنا وهناك يلتقطون الصور للذكريات ونحو هذا، ويدنسون هذه المساجد، لا، ولكن لو دخل يتعرف على الإسلام فلا إشكال في ذلك، أو دخل في حاجة كأن يكون صانعًا أو نحو هذا فالمسلم أولى، لكن يجوز أن يُتخذ الكافر أجيرًا لعمل في المسجد، يعني يصلح شيئًا، يبني، أو نحو ذلك، والمسلم أولى.

خِزْيٌ في حق قريش غلبتهم وفتح مكة، وفي حق النصارى: فتح بيت المقدس أو الجزية.

 مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ، والخزي يكون بمعنى الذل والمهانة وأن يكون الواحد منهم في حال السفول ونحو ذلك، خزي يقابله العز والرفعة، قال: في حق قريش. باعتبار إذا فُسر ذلك بقريش أنهم هم الذين منعوا مساجد الله.

يقول: هي غلبتهم وفتح مكة. على كل حال هؤلاء الذين يمنعون مساجد الله أيًا كانوا سواء كانوا من قريش أم كانوا من الهندوس أم كانوا من اليهود أم كانوا من النصارى أو نحو هذا هؤلاء متوعدون بالخزي في الدنيا يعني هذه من الأشياء التي جاءت فيها العقوبة المعجلة في الدنيا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ فإذا رأيت من يمنع مساجد الله من أن يُذكر فيها اسمه فبشره بالخزي سواء كان هذا من اليهود أم من النصارى أم من غيرهم، حتى بعض من ينتسب إلى الإسلام إذا سعى في خراب المساجد فهو متوعد بالخزي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ مع عذاب الآخرة، فهذا الخزي بمهانته وسقوطه وحقارته وذله بعد العز الذي كان فيه، ويُحتقر ويُبتذل ويُهان هذا هو اللائق بهم، وفي حق النصارى فتح بيت المقدس أو الجزية. لا شك أن المسلمين لما فتحوا بيت المقدس صار النصارى أهل ذمة وأخذ الجزية منهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وما ذُكر من أن هذا في النصارى وأنهم منعوا اليهود من الصلاة في بيت المقدس كان ذلك على سبيل العدوان والظلم والبغي من النصارى فهذه طوائف منحرفة ضالة يصدر عنها مثل هذه المظالم وتعطل وتخرب بيوت الله تبارك وتعالى، لكن ما يتعلق بما يقع اليوم من دخول اليهود في المسجد الأقصى والفساد الذي يعيثون فيه بأنواعه، مثل هذا هو كفعل النصارى معهم حينما يفعلون ذلك مع المسلمين.

ومثل هؤلاء كما قال الله : أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ فلا يدخلون بهذه الاستطالة وبهذه الصفة ويقيمون باطلهم وشركهم وضلالهم في بيوت الله فبيوت الله ينبغي أن تطهر الطهارتين: الطهارة الحسية من الأقذار والأنجاس، والطهارة المعنوية من البدع والضلالات والأهواء والكفر ونحو ذلك، فهؤلاء يقيمون كفرًا والذي يصدر عنهم هو ظلم لا شك فيه، فدخلوهم بهذه الصفة هو ظلم وإقامة للكفر فما كان ينبغي لهؤلاء أن يدخلوها إلا خائفين، لو كان لأهل الإسلام عز، وللمسلمين مهابة وقوة لما تمكن هؤلاء من هذا العبث وهذه الجرأة، لكن حينما يقابلون بغير الإسلام، يقابلون باعتبار أن الطرف الذي يواجههم يتحدث عن عروبة أو نحو هذا فهذا لا يمكن أن يحقق شيئًا ولا أن ينال نصرًا أبدًا، وهذا نعبر به بأقوى صيغة نم صيغ النفي: لن يحقق شيئًا، ولن ينال مطلوبًا وإنما هو ذلك يعقبه مهانة يعقبه سقوط وتلاشي كما هو مشاهد، في كل يوم خسائر جديدة، لكن هؤلاء يقابلون بالحق وليس بباطل لربما هو أعظم من باطلهم.

فَأَيْنَما تُوَلُّوا في الحديث الصحيح: أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت[17].

قوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، لاحظ هذه الآية مع ما قبلها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ابن جرير -رحمه الله- يربط آيات هذه السورة ويقرر أن ذلك في أهل الكتاب في بني إسرائيل، وربط بين هذه الآية والتي قبلها يعني وَمَنْ أَظْلَمُ من النصارى كما يرجّح أنها في النصارى حينما منعوا اليهود من بيت المقدس وَمَنْ أَظْلَمُ من النصارى الذي منعوا مساجد الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ لاحظ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ اليهود اليوم لا يذكرون فيها اسم الله، وإنما يذكرون كفرًا وباطلًا، الذي يفعلونه هو من الإخراب المعنوي والحسي، يقول ابن جرير: ومن أظلم من النصارى الذي منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.

منعوهم قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وجوهكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، يعني اذكروه ولا يمنعكم تخريب بيت المقدس أن تذكروا الله حيث كنتم، القضية لا تتوقف على مكان بعينه فالله يُعبد ويُذكر ويُصلى له في كل مكان، هذا لا يختص بموضع دون موضع، فإذا مُنعتم من موضع فاذكروه حيث كنتم، فابن جرير يربط بين هذا وهذا، يعني بين الآية والتي قبلها، هذه يسمونها المناسبة، ما علاقة هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أن ذلك يرتبط بالمنع من الصلاة ببيت المقدس عنده، وعلى القول بالعموم: أن هذا يشمل المشركين منعوا المسلمين من بيت الله الحرام، ويشمل هؤلاء النصارى، ويشمل كل من صدر عنه ذلك، فتكون الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أنكم حيث كنتم فاعبدوا الله -تبارك وتعالى- ولا يمنعكم من ذلك أن مُنعتم من بعض بيوت الله أن تذكروا اسمه فيها، يعني: يكون هذا المثال من جملة الأمثلة في ذكر السبيل والمخرج والطريق، أو البديل، أو نحو ذلك عن شيء قد تعذر أو تعثر، فهذا في القرآن له أمثلة واضحة لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة:104]، إما أن يكون ممنوع مما منع شرعًا أو قدرًا، وهناك أمثلة غير صريحة لكن مثل هذا، على هذا القول: أن الآية مرتبطة بما قبلها.

ومن لا يربط بين هذه الآية وما قبلها بهذه الطريقة يقول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هذه الآية لا علاقة لها، وإنما نزلت بسبب.

ظاهر هذه الآية قد يُفهم منه وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أنه لا يجب على الإنسان أن يستقبل القبلة، ولهذا اختلفت أقوال المفسرين في توجيهها، فهنا يقول: في الحديث الصحيح: أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت.

هذا صحيح عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي ﷺ فنزل:  فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][18].

هذا صحيح في أسباب النزول، وسبب النزول -كما سبق- هو قطعي الدخول في العام، فتكون الآية نازلة بسبب الاجتهاد في استقبال القبلة في السفر، فإذا أخطأ ليس عليه الإعادة، قلت: في السفر؛ لأن من الفقهاء من يمنع من الاجتهاد في البلد. يقول: في البلد يستطيع أن يعرف، ويستطيع أن يسأل، ويستطيع أن ينظر إلى المحاريب. فإن غاب عليه العلامات التي في السماء بسبب الغيم ونحو هذا فإنه يستطيع أن يتوصل إلى هذا بأمور أخرى فيخرج وينظر إلى محاريب المساجد، فبعض أهل العلم يمنع من الاجتهاد في البلد مطلقًا ويقول: كل اجتهاد في البلد في القبلة أخطأ فيه فإنه مفرط فعليه الإعادة. وبعضهم يقول: يبقى على اجتهاد في البلد فالإنسان قد يخرج وينظر إلى المحاريب فإذا دخل في بيته أو في الشقة الجديدة التي نزلها مؤقتًا أو بصورة مستديمة قد يحصل له لبس ويظن أن الجهة التي رأى فيها المحراب من هنا والواقع أنها من جهة أخرى تمامًا، ويخطئ كما هو مشاهد، وقد يبقى شهورًا وهو على هذه الحال، وقد يضع بوصلة وتخطأ هذه البوصلة، فمثل هذا يقول بعض أهل العلم: إذا بذل وسعه رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت[19].

فهذا من الخطأ المغتفر، فإذا اجتهد لا إشكال ما لم يكن مفرطًا. يعني مفرطًا بحيث لا يعرف شيئًا ويقول: أتوقع من هنا ويصلي.

فهذا لا يصح بهذه الطريقة: أتوقع من هنا، وإنما يتحرى ويسأل، يخرج ينظر في المساجد أو في ما حوله، إذن قوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ يكون فيمن اجتهد في القبلة في السفر فأخطأ كما يدل عليه سبب النزول.

وقيل: هي في تنفل المسافر حيث ما توجهت به دابته[20].

هذا جاء في حديث ابن عمر -ا- قال: رأيت النبي ﷺ يعني في طريقه من مكة إلى المدينة يعني عكس القبلة يصلي على راحلته تطوعًا حيثما توجهت به، ثم قرأ ابن عمر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

لاحظ هذا ليس بسبب نزول وإنما قرأ الآية، يعني أن ابن عمر رأى أن هذه الآية تنطبق على الصلاة على الراحلة على غير القبلة في النافلة في السفر، فهذا يدخل فيها فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ التنفل في السفر على الراحلة، يصلي حيثما توجهت به راحلته، وكذلك أيضًا في الرد على اليهود لما اعترضوا على القبلة قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ[21].

فتكون ردًا على اليهود وهذا ثابت وصحيح في أسباب النزول، والآية قد تنزل على أسباب متعددة يعني حصل أكثر من سبب، هذا إذا كانت هذه الأحداث متقاربة، يعني اعترض اليهود، وحصل اجتهاد من بعض الصحابة في ليلة مظلمة فصلوا وأخطأ بعضهم في الاجتهاد، فنزلت بعد هذه الحوادث، فيكون ذلك جميعًا هو سبب النزول، فإذا كانت هذه الحوادث متباعدة فتكون نزلت في أحدها ثم بعد ذلك نزلت الآية مرة ثانية تذكيرًا بالحكم، وأن الحكم فيها كما في الآية التي نزلت قبل ذلك على سبب آخر، فيكون تذكيرًا، تنزل الآية مرتين وقد تنزل أكثر من ذلك، والله أعلم، فتكون هذه الآية نازلة على جملة من الأسباب: اعتراض اليهود، وأيضًا اجتهاد بعض الصحابة في القبلة، وتكون أيضًا يدخل فيها صلاة النافلة في السفر على الراحلة، ويدخل فيها أيضًا من تعذر عليه استقبال القبلة كالمريض الذي لا يستطيع أن يتوجه، وكذلك أيضًا لو أنه حُبس في مكان، أو رُبط في شيء بحيث لا يستطيع أن يتحرك ويتوجه إلى القبلة فإنه يصلي فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فيدخل في ذلك جميعًا، ولا يُفهم بحال من الأحوال أن المقصود أن المصلي يتوجه إلى أي جهة كان ولا يلزمه استقبال القبلة فهذا لا يصح ولا تصح صلاته؛ لأن استقبال القبلة من جملة الشروط، والله يقول: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فلا تُضرب هذه النصوص بعضها ببعض.

وقيل: هي راجعة إلى ما قبلها: أي: إذا مُنعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم، وقيل: إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة.

مع أنه صح الحديث في هذا في سبب النزول، ما يقال: وقيل.

فهي كقوله بعد هذا: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية والقول الأول هو الصحيح، ويؤخذ منه أن من أخطأ القبلة فلا تجب عليه الإعادة، وهو مذهب مالك.

فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، المراد به هنا كقوله: ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أي رضاه.

هذا تأويل بلا شك، فالوجه لا يُفسر بالرضا، لا يُعرف هذا لا في كلام العرب ولا في لسان الشرع.

وقيل: معناه الجهة التي وجهه إليها.

فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: على هذا المعنى الجهة، أنها ليست من آيات الصفات أصلًا، وإنما الوجه يعني بمعنى الجهة، وهذا قول معروف لبعض السلف، أن الآية ليست من آيات الصفات يعني هم لم يؤولوها، وشيخ الإسلام -رحمه الله- في المناظرة في الواسطية لما قال: أمهلكم ثلاث سنين ائتوني بشاهد واحد أن السلف تأولوا صفة من صفات الله . فبحثوا في المجلس الآخر في المناظرة قال له أحدهم: وجدته. فقال شيخ الإسلام: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ؟

قال: نعم، قال: هذا ليس من ذلك. يعني هو ليس من آيات الصفات أصلًا، يعني يكون المعنى حيث توجهتم في صلاتكم نحو الجهة التي شرعها الله فَثَمَّ وَجْهُ تقول العرب: أريد هذا الوجه. يعني هذه الجهة، فالسلف اختلفوا هل هذه من آيات الصفات أصلًا صفة الوجه؟ أو أنها تتحدث عن شيء آخر ليس من صفات الله وإنما الوجه بمعنى الجهة؟، أريد هذا الوجه، يممت وجه كذا يعني جهة كذا، فهذا معنى معروف قال به بعض السلف والآية تحتمل هذا، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية[22]، وبعضهم قال: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: قبلة الله.

وبعض أهل العلم أنكره وقال: الوجه في اللغة لا يقال: للقبلة. ليس من معاني الوجه القبلة، وممن أنكر هذا ابن جرير، لكن يمكن أن يقال: لما كانت الوجهة التي وجهوا إليها هي البيت الحرام يقال لها القبلة؛ لأن المصلي يستقبل الكعبة فكان ذلك تفسيرًا له بالتسمية التي تقال فيه، الذي يتوجه إليه الناس هو البيت الحرام فيقال له قبلة، فمن قال: بأن فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: القبلة، قبلة الله، القبلة التي أمركم باستقبالها فهذا معنى بهذا الاعتبار لا يقال: إنه غير صحيح. والله أعلم؛ لأن الجهة هي القبلة التي أُمروا باستقبالها والتوجه إليها هي البيت الحرام، فهو القبلة فيكون فسره بهذا الاعتبار كأنه من قبيل التفسير باللازم، فمنهم من فسره بالقبلة، ومنهم من فسره بالصفة: صفة الله الوجه، الذي هو صفته على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هل المصلي يستقبل وجه الله؟ الله فوق سماوته فوق عرشه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فصح عن النبي ﷺ في نهي المصلي أن يبصق إلى القبلة، وإنما عن يمينه أو عن شماله، وعلل النبي ﷺ ذلك بأن وجهه يكون قِبَل وجه المصلي وهو فوق عرشه، فالله لا يُقاس بالمخلوقين، ومن ثم فإن الجمع بين الوجهة والصفة يمكن في هذه الآية تكون جمعًا بين أقوال السلف، فيمكن أن يقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي: حيث توجهتم في صلاتكم نحو الجهة التي شرعها الله فإنكم تتوجهون إلى الله تعالى؛ لأن المصلي إذا توجه إلى القبلة فقد استقبل وجه الله حقيقة، وليس معنى ذلك أن الله تعالى وتقدس يكون في سُفل، وإنما هو فوق عرشه، لكن النبي ﷺ أخبر عن هذا.

وأما قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويردّ علمه إلى الله.

هذا ليس من المتشابه فإن الصفات الصريحة التي ذكرها كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27]، بالنسبة للآية الأولى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أيضًا أهل السنة اختلفوا هل هي من آيات الصفات أصلًا أو لا؟، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ هذه من آيات الصفات، والنصوص الصريحة الواضحة في الوجه التي لا تقبل التأويل كثيرة، فلا يصح أن يقال: إن هذا من المتشابه يعني من جهة المعنى بحال من الأحوال فإن أعظم ما في القرآن وأجل ما في القرآن هو الحديث عن الله وتوحيده وصفاته وأسمائه وأفعاله، التعريف بالمعبود بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته: هذا أجل ما في القرآن وأعظم ما في القرآن، فكيف يقال: إن هذا من المتشابه؟! والله -تبارك وتعالى- خاطبنا بهذا القرآن بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]، فخاطب العرب بما يعهدون وما يفهمون، فكيف يكون الحديث عن الله وصفاته من قبيل المتشابه الذي لا يُعرف المراد به سواء قيل: لا يعرف مطلقًا. كما يقوله غلاة المفوضة، أو يقولون: إن له معنى يحتمل أن يكون على ما قال أهل التأويل ويحتمل غير ذلك نحن نتورع فلا نخوض فيه، هكذا يقول بعضهم، فأهل التفويض طوائف ومذاهب وكل هذا باطل، فصفات الله من المحكم وليست من المتشابه، ومعانيها معروفة لكنها من المتشابه من جهة الكنه والكيفية، فكما قال الإمام مالك -رحمه الله-: الاستواء معلوم -يعني معلوم من جهة المعنى- والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب[23].

ولذلك كانت عقيدة أهل السنة والجماعة هي إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله ﷺ من غير تكييف، فلا نقول: كيف وجهه؟، كيف ينزل؟ لا يجوز، ولا تمثيل: لا نمثل أوصاف الرب -تبارك وتعالى- بأوصاف المخلوقين، ولا تعطيل: فننفي عنه صفة الوجه ونؤولها بالرضا، أو نؤولها بغير ذلك، أو نؤولها بالذات كما هنا في القول الأخير الذي نقله عن الأصوليين قال: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود.

هذا غلط لكن يمكن أن يقال: ومن لازم ذلك إثبات الذات مثلًا. بقاء الذات، لكن أن يفسر الوجه بالذات هذا غير صحيح، هذا تأويل، أو يفسر بالرضا أو نحو هذا، هذا غلط، فهذا مذهب أهل السنة، والآية هذه اختلفوا فيها كما سبق على قولين، ليس في تأويلها ولكن هل هي من آيات الصفات أو ليست من آيات الصفات، ولو جُمع بين هذا وهذا، بين كون الوجه يراد به الوِجهة التي يتوجه إليها وما دلت عليه السنة من أن الله يكون وجهه قِبَل وجه المصلي، ونحن نثبت ما ثبت بالكتاب والسنة ولا نتعرض لتأويله ولا نحرف ولا نمثل أوصاف الرب بأوصاف المخلوقين، الله أجل وأعظم من ذلك كله.

لاحظ يقول: من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف ويرد علمه إلى الله. المشكلة أن الذين يتحدثون عن هذا الكتاب وعن عقيدة المؤلف -رحمه الله- التي ذكرها فيه، يقولون: كان من أهل السنة. ويوردون مثل هذه العبارات يظنونها أنها هي مذهب أهل السنة، وهذا قصور والجالب له هو هذه التخصصات في العلوم الشرعية التي لا تتأتى بهذه الطريقة، أن يكون الإنسان بمعزل عن دراسة العقيدة، أو دراسة ما يُحتاج إلى معرفته فيتخصص في جزئية من العلم أو نحو ذلك، فإذا جاءت مثل هذه في كتب التفسير وقضايا العقيدة ظن أن عقائد المتكلمين أنها هي عقائد أهل السنة.

وقال الأصوليون: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود.

من يقصد بالأصوليين؟ هم يقسمون الدين إلى أصول وفروع، فالذين يتحدثون عن الأصول يعني يتحدثون عن العقائد، وكذلك الذين يتحدثون عن الدلائل الإجمالية: أصول الفقه، ولو نظرت وتتبعت في كلام هؤلاء تجد أنهم حينما يذكرون الأصوليين يذكرون الجويني والباقلاني وأمثال هؤلاء ممن يتكلمون في قضايا الاعتقاد وأيضًا في أصول الفقه، المقصود أن الحديث هنا: وقال الأصوليون. يعني الذين يتحدثون عن قضايا الأصول وليس الفروع، فيدخل في الأصول قضايا الاعتقاد، والدلائل الإجمالية للفقه: كالكتاب والسنة والإجماع والقياس، دلائل الفقه إجمالًا هذه هي أصول الفقه، فهؤلاء ألفوا في هذا وهذا، يعني ألفوا في ما يسمونه بعلم الكلام الذي هو العقائد، يسمونها علم الكلام، وألفوا في أصول الفقه، فهو يقصد أمثال هؤلاء، قال الأصوليون. يعني: كالباقلاني، والجويني، والغزالي، وأمثال هؤلاء من أئمة المتكلمين، هو يقصدهم، قال الأصوليون: هو عبارة عن الذات.

هؤلاء هم أهل التأويل: كالرازي ونحو هؤلاء، المتكلمون من الأشاعرة، عامة المتقدم منهم كان يغلب عليهم جانب التفويض، يعني هم يقولون: ليست على ظاهرها لكن -والله أعلم- لا نستطيع أن نحدد معنى. ولهذا لاحظ أنهم يقولون: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم. هم يقصدون السلف منهم سلفهم؛ لأنهم هم فهموا عقيدة السلف أصلًا بأنها التفويض، يقولون: مذهب السلف أسلم لا تحدد معنى معين، تقول: الوجه بمعنى الرضا، أو الاستواء بمعنى الاستيلاء، وإنما قل: بأن ذلك ليس على ظاهره، والله أعلم المراد به. 

فحينما يقولون: مذهب السلف أسلم. هو سلفهم أو على فهمهم، وإلا فمذهب السلف الصالح أسلم وأعلم وأحكم؛ لأنهم يقولون: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم. الخلف أمثال: ابن فورك، والرازي، والجويني، والباقلاني، والغزالي، وأمثال هؤلاء، هذا مذهب الخلف يعني أهل التأويل أعلم وأحكم، يقولون: السلف لم يتفرغوا لهذه الأشياء وتورعوا وجاء هؤلاء فوضعوا هذه على ما يليق بجلاله وعظمته وحملوها على المحامل اللائقة، والواقع أنهم حرفوا هذه الصفات.

وقال بعضهم: هو صفة ثابتة بالسمع.

هذا مذهب السلف أن الوجه صفة ثابتة بالسمع، وعلى كل حال، هذه الآية على الخلاف الذي ذكرته بين أهل السنة، فبعضهم عدّها من آيات الصفات، ممن عدّها من آيات الصفات: الإمام عثمان بن سعيد الدارمي[24]، وكذلك أيضًا كبير المفسرين ابن جرير الطبري[25] والحافظ ابن القيم[26]، ومن المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن بن السعدي[27]، عاملوها على أنها من نصوص الصفات فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إثبات صفة الوجه لله خلافًا لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وشيخ الإسلام عزا القول الذي تبناه وهو أنها ليست من آيات الصفات للجمهور من السلف، مع أن الحافظ ابن القيم خالفه في هذا، فهو يرى أنها من آيات الصفات وعزا هذا لعامة أهل الإثبات، وممن قال بأنها من آيات الصفات إمام الأئمة ابن خزيمة -رحمه الله-، هؤلاء عدّوها من آيات الصفات، وممن نُقل عنه أنها ليست من آيات الصفات أصلًا كقول شيخ الإسلام من السلف: مجاهد، ومن الأئمة: الشافعي -رحمه الله-[28]، إذن هذه الآية لم يختلف أهل السنة في تأويلها وإنما اختلفوا في محملها أصلًا هل هي من آيات الصفات تتحدث عن صفة الوجه؟ أو تتحدث عن الوجه بمعنى الجهة التي يتوجه إليها المصلين؟ والجمع بين القولين أحسن، والله أعلم.

شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذهب إلى أن ذلك التوجه فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إلى أي جهة، مما يُفهم من ظاهر الآية أنه قد نُسخ في حق المفترض الذي يصلي الفرض العالم الذي يعرف القبلة يعني يُغتفر في حق الجاهل والتطوع كما سبق في السفر، فيرى شيخ الإسلام أنه نسخ جزئي في حق المفترض العالم القادر، يعني ليس كالمريض العاجز ونحوه.

هذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال كما هي القاعدة المعروفة، فحمل الآية على ما سبق من أن ذلك في السفر، وكذلك فيمن خفيت عليه القبلة، وأنها جاءت في سياق الرد على اليهود لما اعترضوا على تحويل القبلة فالله يقول لهم الجهات كلها لله فهو الذي شرع لكم استقبال القبلة فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا سواء إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة، إلى بيت المقدس قبل النسخ، أو إلى الكعبة بعد ما حولتم إليها فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وتحتمل الآية عند بعض أهل العلم أن ذلك في صلاة الخوف حال المسايفة؛ فالواقع أنه لا يستقبل القبلة في حال الالتحام فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فيكون ذلك مما يدخل في معناها، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وبعضهم يقول: هذا في الدعاء لا يشترط استقبال القبلة. فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا في الدعاء فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

ابن جرير عمم الآية لتشمل ذلك جميعًا أنها في حال المسايفة، وفي حال الدعاء، وفي حال الصلاة على الراحلة في السفر غير الفريضة، وفي حال خفاء القبلة، وما إلى ذلك. وهذا جيد.

  1. تفسير ابن كثير (1/381).
  2. تفسير ابن كثير (1/381).
  3. تفسير الطبري (2/499).
  4. تفسير الطبري (2/510).
  5. تفسير الطبري (2/513- 514).
  6. تفسير ابن عطية (1/199).
  7. تفسير الطبري (2/517).
  8. تفسير الطبري (2/517).
  9. تفسير الطبري (2/517).
  10. تفسير ابن كثير (1/388).
  11. تفسير الطبري (2/520-521).
  12. تفسير ابن عطية (1/199).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك، رقم: (1622)، ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وبيان يوم الحج الأكبر، رقم: (1347).
  14. تفسير ابن عطية (1/199).
  15. تفسير ابن كثير (1/389).
  16. تفسير ابن كثير (1/389).
  17. أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، رقم: (345)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، رقم: (1020).
  18. أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، رقم: (345).
  19. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} [البقرة:284]، رقم: (126).
  20. عن ابن عمر، قال: " كان رسول الله ﷺ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت
    {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة:115]. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، رقم: (700).
  21. تفسير ابن كثير (1/392).
  22. مجموع الفتاوى (2/429).
  23. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/326).
  24. انظر: رد الإمام الدارمي على بشر المريسي العنيد (21).
  25. تفسير الطبري (2/536).
  26. مختصر الصواعق المرسلة (392).
  27. تفسير السعدي (ص:76).
  28. مجموع الفتاوى (3/193).

مواد ذات صلة