الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
(010-أ) من قوله تعالى "تقلب وجهك" الآية 143 – إلى قوله تعالى "إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم" الآية 149
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1475
مرات الإستماع: 1911

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين، والمستمعين.

أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي الكلبي عند قوله تعالى:

"تَقَلُّبَ وَجْهِكَ كان النبي ﷺ يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة".

فقد ثبت في الصحيحين في سبب نزول هذه الآية من حديث البراء بن عازب  وفيه:

وكان رسول الله ﷺ يُحب أن يُوجَه إلى الكعبة، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ[1]، فهذا الذي أشار إليه المؤلف -رحمه الله- وهو أنه ﷺ كان يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة.

"شَطْرَ الْمَسْجِدِ جهته".

الشطر الجهة.

"وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ خبر يتضمن النهي، ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين لاستوائهما في البطلان".

خبر يتضمن النهي، بمعنى أنه جاء بصيغة خبرية، ومعناه النهي، يعني لا تتبع قبلتهم، وقد يجيء الإنشاء كالنهي؛ لأن الكلام خبر وإنشاء، فالإنشاء مثل: الأمر، والنهي، فمجيء الإنشاء بصيغة الخبر يكون أقوى وأثبت، يعني كأنه قد تقرر، فصار ثابتًا، مُخبَرًا عنه، هكذا يقولون.

فيكون قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إخبار من الله -تبارك وتعالى- عن نبيه ﷺ وأنه متبع لأمر الله، ملتزم بطاعته، وشرعه، وإخبارٌ عن حاله، وعن ثباته على أمر ربه -تبارك وتعالى- وهذا حاصل ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[2].

قال: "ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين" يعني: للنصارى قبلة ولليهود قبلة "لاستوائهما في البطلان" فهما في حكم واحد، هذا مراده، لكن يحتمل أن يكون هذا، ويحتمل أن يكون غير ذلك، ومثل هذه الفروقات والجوانب البلاغية المتعلقة بالألفاظ هي قضايا ظنية، فما ظهر وجهه لا بأس أن يُذكر، لكن لا يُقطع به.

ويمكن أن يقال: بأن القبلة جنس، ويمكن أن يقال: بأن القبلة هنا مفرد مضاف إلى معرفة؛ وذلك للعموم، فيشمل قبلة اليهود، ويشمل قبلة النصارى، ويمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة غير ما ذكر.

"وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأن اليهود لعنهم الله يستقبلون المغرب والنصارى المشرق".

المعروف أن اليهود يستقبلون الصخرة، وذكرت في بعض المناسبات: أن اليهود كان يستقبلون التابوت، فكانوا يحملونه معهم في مغازيهم وأسفارهم، ويتوجهون إليه، فإذا كانوا قارين ببيت المقدس، وضعوه على الصخرة، فاستقبلوه، فلما رُفع التابوت صاروا يستقبلون ذلك الموضع، وهو الصخرة، فالصخرة معظمة عند اليهود يستقبلونها، ولم تكن هذه القبلة مما شرعه الله لهم، وإنما هي قبلة محدثة.

وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في بعض المواضع من كتبه: أن قبلة الأنبياء هي البيت الحرام.

وذكر في موضع آخر أن قبلة الأنبياء قبل النبي ﷺ كانت بيت المقدس، والله أعلم.

وأما النصارى فكانوا يستقبلون المشرق، وهي قبلة محدثة، خالفوا اليهود لشدة العداوة بينهم، فأحدثوا هذه القبلة، وكان وضعها عن مشورة منهم، وكذلك اليهود كان ذلك عن مشورة منهم، يقولون: لما رُفع التابوت وقع بينهم مشورة، فاتفقوا على أن يستقبلوا الصخرة، هكذا يقولون، والله تعالى أعلم.

لكن كل هذا محدث، وسيأتي في قوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا وعلى القراءة الأخرى أيضًا: هل ولاهم الله هذا أو كان من قِبَل أنفسهم؟

"يَعْرِفُونَهُ أي: يعرفون النبي ﷺ أو القرآن، أو أمر القبلة".

يعرفون النبي ﷺ يعني يعرفون نبوته، أو أمر القبلة، يعني إما تحويلها، أنها ستحول، أن ذلك عندهم مقرر في كتبهم، وهذا قال به كثير من أهل العلم من السلف: كالسُّدي[3]، وقتادة[4]، والربيع[5]، والضحاك[6].

وأبو جعفر بن جرير -رحمه الله- يقول: بأن القبلة (الكعبة)[7]، هي قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء من بعده، وأهل الكتاب يعرفون هذا، ومع هذا أحدثوا قبلة أخرى، كما سبق.

فقوله هنا: يَعْرِفُونَهُ يعني يعرفون أن هذه القبلة التي وُجهت إليها -وهي الكعبة- أنها هي الحق، وأنها قبلة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أو يعرفون أنك ستُحول إلى هذه القبلة، والمقصود يعرفون أن ذلك حق، وأنه من عند الله -تبارك وتعالى- ويحتمل أن يكون معنى قوله: يَعْرِفُونَهُ أي النبي ﷺ يعرفون نبوته، فالذين قالوا: بأن المراد القبلة، قالوا: لأن السياق في القبلة.

ولا يبعُد -والله تعالى أعلم- أن يكون بين بعض هذه الأقوال ملازمة، فإذا كانوا يعرفون أن هذه قبلة الأنبياء قبل النبي ﷺ وقد عرفوا من صفته ﷺأنه النبي الموعود به، فهم يعرفون ذلك، كما يعرفون أبناءهم، وهذا قد جاء أيضًا في بعض الآثار، كما سيأتي، باعتبار أنهم يعرفون رسول الله ﷺ معرفة محققة، لا يتطرق إليها الخطأ.

فالضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ إذا قلنا: للنبي ﷺ عائد إلى غير مذكور، يكون معلومًا من السياق.

والذي حمل بعض أهل العلم على القول: إن المقصود النبي ﷺ هو أن الضمير جاء مذكرًا، والقبلة مؤنثة، فلو كان المقصود القبلة لقال: يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، لكن هذا ليس بلازم، يَعْرِفُونَهُ يعني هذا الأمر: وهو القبلة، أو تحويل القبلة، وتوجيه النبي ﷺإلى الكعبة، واستقبالها، فالآية تحتمل هذا وهذا، ولا شك أنهم يعرفون النبي ﷺ بصفته الكاشفة، معرفة تامة، ويعرفون تحويل القبلة باعتبار أنها قبلة النبي ﷺ أو قبلة الأنبياء، فيجدون ذلك في كتابهم.

حتى اليهود بينهم اختلافات في القبلة، فليسوا على اتفاق، بعض طوائف اليهود يستقبلون جبلًا في الشام، ويقولون: هذه القبلة التي في التوراة، وعندهم في نسختهم في التوراة المحرفة، مكتوب فيه هذا، ولكن في النسخ المنتشرة بين اليهود، والشائعة بينهم، ليس فيها هذا النص.

فقوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ يدخل فيه اليهود والنصارى، واختلاف اليهود فيما بينهم، هؤلاء لهم قبلة، ويخطؤون هؤلاء، وهؤلاء لهم قبلة، ويخطؤون هؤلاء، وهم طوائف يكفر بعضها بعضًا افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة[8].

كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ مبالغة في وصف المعرفة، وقال عبد الله بن سلام: معرفتي بالنبي ﷺ أشدّ من معرفتي بابني؛ لأن ابني قد يمكن فيه الشك".

هنا نُقل عن البغوي أثر عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : إن الله قد أنزل على نبيه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ فكيف هذه المعرفة؟

قال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته، كما عرفت ابني، ومعرفتي بمحمد ﷺ أشد من معرفتي بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟  فقال: أشهد أنه رسول الله حق من الله تعالى، وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما تصنع النساء -يعني بالنسبة للولد- كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ هو يعرفه أكثر من ولده، بأن امرأته قد تكون قارفت -فالولد ليس له- فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام، فقد صدقت"[9].

لكن هذا لا يصح من جهة الإسناد، بل قد حكم على هذا الأثر بالوضع.

وقال: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ولم يقل: كما يعرفون أنفسهم، قال بعض أهل العلم: إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد مدة من الولادة، ولكن يعرف ابنه مباشرة، منذ خرج إلى الدنيا، والله أعلم.

ولم يذكر البنات، وإنما ذكر الأبناء، قال بعض أهل العلم: ذلك من باب التغليب، فذكر الأشرف، فيدخل فيه البنات، وبعضهم يقول: إنه ذكر الأبناء لشدة حفاوتهم بالأبناء.

"وَلِكُلٍّ أي: لكل أحد، أو لكل طائفة.

وِجْهَةٌ أي: جهة، ولم تحذف الواو؛ لأنه ظرف مكان، وقيل: إنه مصدر، وثبت فيه الواو على غير قياس".

الوجهة قال: أي الجهة، وهذه (فِعْلة) من المواجهة، وفي معناها: الجهة، والوجه، فالوجه يعني الجهة، تقول: يممت هذا الوجه، أو نحو ذلك، أقصد هذا الوجه، يعني هذه الجهة، والمراد القبلة وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ يعني قبلة، يتوجه إليها، هذا المقصود بالوجهة.

قال: "ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان" يعني لماذا لم يقل: ولكلٍّ جهة؟ فيحذف الواو؟ بل قال: وِجْهَةٌ قال: لأنه ظرف مكان، وقيل: إنه مصدر، وثبت فيه الواو على غير قياس، يعني أنه سماعي.

"هُوَ مُوَلِّيهَا أي: موليها وجهه، وقرئ (مولاها) أي: ولّاه الله إليها، والمعنى: أن الله جعل لكل أمة قبلة".

هنا قال: هُوَ مُوَلِّيهَا (هو) فالضمير يرجع إلى من؟ بعضهم يقول: الضمير راجع إلى كل وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم، يعني أنه يتوجه إليها، كل أحد يتجه إلى قبلته هُوَ مُوَلِّيهَا وهو ظاهر السياق، أن المقصود أن هذا المتوجه يتوجه إلى قبلته.

وبعضهم يقول: هُوَ مُوَلِّيهَا (هو) أي الله، وهذا على هذه القراءة بعيد، فيكون المعنى على هذا: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ يعني قبلة هُوَ أي الله مُوَلِّيهَا يعني موليها إياه، وهذا يحتاج إلى تقدير، والأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الاستقلال والإضمار، فالأصل الاستقلال، وظاهر السياق لا يساعد على هذا، فيكون قوله: هُوَ مُوَلِّيهَا طيب أهل الإيمان؟ هم أيضًا يتوجهون، بمعنى هُوَ مُوَلِّيهَا يعني بحق أو بباطل، فيعود الضمير إلى قوله: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ أي المتوجه، صاحب هذه الوجهة، مُوَلِّيهَا أي: مستقبل هذه الوجهة بحق أو بباطل، كل سيستقبل قبلته، قال: مُوَلِّيهَا وجهه، يعني متوجه إليها، ولكل قبلة هو موليها.

وقال: وقرئ (مولاها) فهنا بُني للمجهول، من الذي وجهه إليها؟ يقول: أي ولاه الله إليها، والمعنى أن الله جعل لكل إمة قبلة، هذه القراءة هي قراءة ابن عامر، والقراءة التي نقرأ بها، هي قراءة الجمهور، يعني مصروف إليها، موجه إليها، ولم يُذكر فاعله.

وكلام ابن جزي -رحمه الله- قال: أي ولاه الله إليها.

لكن الاختلاف الذي بينهم في القبلة المحدثة، هل الله هو الذي وجه النصارى إلى المشرق مثلًا؟ أو وجه اليهود إلى هذا الطور، أو إلى الصخرة؟

طبعًا هو يقصد بـوَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا القبلة الحق، يعني أن الله وجهه إليها، باعتبار أن بيت المقدس قبلة صحيحة، ثم نُسخت، لكن هذا لا يخلو من إشكال، والله أعلم، باعتبار أن هذه القبلة التي يتوجهون إليها أيًا كانت هي قبلة محدثة، حتى على القول بأنها بيت المقدس، فأين هذه من استقبال الصخرة مثلًا؟ أو استقبال المشرق؟ أو استقبال ذلك الجبل لبعض طوائف اليهود؟ فـ(كل) أقوى صيغة من صيغ العموم، فهل هذه الجهات التي يستقبلونها كلها، الله وجههم إليها؟ لا يخلو ذلك من إشكال.

(ولكل وجهة هو مولَّاها) أي يوليه إياها مولٍ، وهو دينه، أو نظره، أو هواه، (هو مولاها) وهذا الذي قاله الطاهر بن عاشور -رحمه الله-[10]، يولها إياه المتبوع رؤساؤهم، الذين شرعوا لهم هذه الضلالات، ونحو هذا، والله أعلم.

لكن لو كان ذلك باعتبار أن الله هو الذي شرّع، ثم نسخ، فهذا يكون: ولكل قبلة وجهة أو جهة، يوجه ويصرف إليها (وجهة هو مولاها) أي موجهٌ إليها، لكن إذا قلنا: إن ذلك محدث، فتكون القراءة الثانية بمعنى القراءة الأولى إلا أنه حُذف الفاعل، في القراءة الأولى: مُوَلِّيهَا أي متوجه هو إليها، وفي القراءة الثانية لم يُذكر مَن وجهه، فإن لم يكن ذلك من الله، فمعنى ذلك أنه من قِبَل نفسه، أو من قِبَل كبار أهل ديانته، أو من قِبَل الشيطان، وجههم إليها، وأضلهم عن القبلة الصحيحة، والله أعلم.

"فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا إلى الأعمال الصالحات".

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعني بادروا أيضًا إلى امتثال ما أمركم الله به من استقبال القبلة، وأخذ منه أيضًا بعض أهل العلم: المبادرة إلى الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها، باعتبار أن الحديث عن القبلة، والقبلة إنما هي في الصلاة وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ يعني بادروا إلى الامتثال فيما أُمرتم به من استقبال القبلة الجديدة، وهي الكعبة، ولما كانت المسألة في تحويل القبلة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ما هي الخيرات المتعلقة بالقبلة؟ المبادرة إلى الصلاة، فهذا بعض ما يدخل فيه، وإلا فاللفظ عام، وإنما ذكروا ذلك باعتبار السياق، فاستبقوا الخيرات مطلقًا، وبادروا إلى الأعمال الصالحات في وقت الإمكان.

"يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ أي: يبعثكم من قبوركم".

أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا أي: يبعثكم من قبوركم، وهذا المعنى ذكر نحوه الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[11]، لكن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- قال: أي يجمعكم من الجهات المختلفة الأقطار، والأماكن المتباينة إلى موقف القيامة، كما تجتمعون من سائر الجهات إلى جهة القبلة، يعني العلاقة في موضوع القبلة وأَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا أنه مهما تباعدت أقطاركم وتباينت، فإن الله -تبارك وتعالى- يجمعكم يوم القيامة، كما تجتمعون من سائر الجهات إلى القبلة، يعني مهما تفرقت بكم الأقطار، فأنتم تجتمعون وتتوجهون إلى القبلة، فكذلك الله -تبارك وتعالى- يجمعكم ليوم القيامة، كما تباعدت أقطاركم، وتباينت دياركم، فكما جمعكم إلى وجهة واحدة على تفرقكم في النواحي، فكذلك يجمعكم للقيامة، ذكر هذا وذكر هذا، وهذا كثير في القرآن، كما سيأتي في قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] وهذا له نظائر أيضًا في كلام الله كما في آيات الحج: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] ذكر الحشر، فهؤلاء الذي يجتمعون في الحج كما في المحشر لكثرتهم ثم يتفرقون ولا يجتمعون ثانية، وإنما الذي يجمعهم بعد تفرقهم هو الله -تبارك وتعالى-؛ لأنهم إذا فارقوا تلك المشاعر لا يمكن أن يجتمعوا مرة أخرى جميعًا، فإن بعضهم لا يرجع إلى الحج، وبعض هؤلاء يموت قبل أن يفارق مكة، وبعضهم يموت في الطريق، وبعضهم يموت في بلده، لا يمكن أن يجتمع نفس العدد في سنة أبدًا، لكن من الذي يجمعهم؟ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ مهما تفرقوا، لا يستطيع أن يجمعهم أحد، ولكن الذي يجمعهم هو الله -تبارك وتعالى- بالحشر، فذكرهم بالجمع والحشر بهذه المناسبة، وكذلك هنا لما ذكر توجيههم وجمعهم إلى قبلة واحدة على اختلاف نواحيهم، ذكر بالأمر الآخر، فهذا الرب -تبارك وتعالى- قادر على جمعهم ليوم القيامة، على تفرق أقطارهم، وبلدانهم، والله أعلم.

"فَوَلِّ وَجْهَكَ الأمر كرر للتأكيد، أو ليناط به ما بعده".

"أو ليناط به ما بعده" يعني الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[12]: ذكر أن ذلك لتعلقه بما قبله، أو بعده من السياق، يعني لو نظرت في المواضع الثلاثة، التي أمر الله بها بالتوجه إلى بيته الحرام، في هذه الآيات، ثلاث مرات:

ففي المرة الأولى:

كان ذلك إجابة لنبيه ﷺ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ إلى أن قال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا في الأولى.

وفي الثانية:

لما ذكر اعتراض المعترضين، ونحو ذلك، بيّن أن هذا هو الحق، وليس مجرد -أيضًا- الإجابة إلى ما كان يرغبه النبي ﷺ ويرضاه فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا بيّن أن هذا هو الحق أيضًا عند الله -تبارك وتعالى-.

وفي الموضع الثالث:

ذكر ذلك في سياق قطع حجة اليهود، والرد عليهم، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير، لكن غيره يذكرون أمورًا أخرى في توجيه هذا التكرار، وكونه ذكره ثلاث مرات.

السهيلي مثلًا يقول: بأن قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لاحظ هنا الخطاب للنبي ﷺ وعبّر بلفظ الخروج وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ حمله السهيلي هذا الموضع باعتبار أن النبي ﷺ هو الإمام الذي كان يخرج على أصحابه؛ ليصلي بهم، فخاطبه بهذا، وعُبر بلفظ الخروج وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لكن لما خاطبهم جاء بصيغة الجمع، ولم يأت بلفظ الخروج، قال: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فالسهيلي يرى أن الأول للنبي ﷺ والثاني: للأمة، أي في أي موضع كنتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وعلل ذلك بأن منهم من لا يُطالب أصلًا بالخروج للصلاة: كالنساء، وأهل الأعذار من المرضى والزمنى، ونحو ذلك، فهؤلاء حيث صلوا، وكذلك على تباعد النواحي، واختلاف الأقطار والجهات وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ في أي موضع.

لكن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر غير هذا، فهو يرى أن الأول وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لا يختص بالنبي ﷺ وإن جاء بصيغة الخطاب للمفرد، فإن الأمة تخاطب في شخصه ﷺ فيقول: هذا يشمل المبدأ، في المخرج إذا خرج إلى الصلاة، إذا خرج في غزو، إذا خرج في حج، إذا خرج في عمرة، في أي حال كان مخرجه، فإنه مأمور أن يتوجه إلى بيت الله الحرام، فهذا له، ولأمته، في كل مخرج ووجهة يقصدونها فإنهم يتوجهون إلى ذلك.

وأما قوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ قال: هذا في المنتهى، إذا استقروا، واستوطنوا، أو نزلوا، أو أقاموا في مكان، فالأولى في المخرج، والثانية: حيث أقاموا، فهم مأمورون في كل الحالات، في مخرجهم، وحال إقامتهم، ونزولهم، وبلوغهم إلى مقصودهم فهم مأمورون إلى التوجه إلى بيت الله الحرام في كل الحالات هذا حاصل كلام ابن القيم -رحمه الله-.

السهيلي -في هذا التكرار وكونه ثلاث مرات- يذكر بأن ذلك باعتبار أن المعترضين ثلاثة أصناف:

اليهود، والمنافقون، والمشركون.

اليهود: باعتبار النسخ -وهم ينكرون النسخ- قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، والمنافقون: كان هذا أول نسخ، فأرجفوا واضطربوا، والمشركون: باعتبار أنها قبلة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فقالوا: هو ينتسب إلى إبراهيم فكيف لا يتوجه إلى قبلته؟! فلما توجه إليها طمعوا بموافقتهم، فقالوا: وافقنا في القبلة فلماذا لا يوافقنا في ديننا؟ هذا كلام السهيلي.

لكن الحافظ ابن القيم: يرى أن الأول ابتداء الحكم، تشريع النسخ في تحويله إلى الكعبة، هذه الأولى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا يكون في الأول، الذي هو لتشريع الحكم، ونسخ الاستقبال الأول، ثم أعاده في سياق أن لكل وجهة هو موليها، فلما ذكر أن كل أهل ملة وطائفة لهم قبلة، أمره أن يتوجه إلى القبلة الصحيحة، التي شرعها الله -تبارك وتعالى- له، ثم أعاد ذلك فيما بعد لما في ضمنه من حكم أو معنى، وهو: أنهم يستقبلونها حيث كانوا وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أنهم في أي موضع كانوا يستقبلون القبلة، هذا كلام الحافظ ابن القيم في سبب هذا التكرار ثلاث مرات، والعلم عند الله .

لكن من أهل العلم -كما قال هنا ابن جزي-: أن الأمر كُرر للتوكيد، يعني لأهمية القبلة ولشأنها، وأنها شعار الملة، ولكثرة ما وقع من الاضطراب والإرجاف بسبب ذلك جاء هذا التأكيد.

فقوله هنا: "أو ليناط به ما بعده" كما سبق في توجيه كلام ابن القيم، يعني بمعنى أن الأول: للنسخ، تشريع استقبال الكعبة، والثاني: ليناط به ما بعده، لما ذكر أن لكل وجهة، فقال: أنتم توجهوا إلى القبلة الصحيحة، والثالث: باعتبار أنهم حيثما كانوا في أي موضع نزلوا، فإنهم يتوجهون إلى الكعبة، هذا معنى "أو ليناط به ما بعده" أي يعلق به، أو ليربط به ما بعده، ولا يوجد في القرآن تكرار محض، وقد ذكرنا هذا في بعض المناسبات، حتى في الآيات التي لربما تتكرر بلفظها: فبأي آلاء فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13، 16، 18، 21، 23، 25، 28، 30، 32، 36، 38، 40، 45، 47، 49، 51، 53، 55، 57، 59، 61، 63، 65، 67، 69، 71، 75، 77] يعني مما ذُكر، ترجع إلى ما قبلها، وكذلك وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49] ترجع إلى التي قبلها، فلا يوجد تكرار محض في القرآن، وهكذا في قصص الأنبياء -عليهم السلام- فإنه يُذكر منها في كل موضع ما يناسب السياق.

"لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ الآية، معناها: أن الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس، فإن أريد بـ(الناس) اليهود، فحجتهم أنهم يجدون في كتبهم أن النبي ﷺ يتحول إلى الكعبة، فلما صلى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين، وإن أريد قريش؛ فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به".

قوله: "أن الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين" وفي نسخة: (ترفع) بدل (تدفع)، وكأن تدفع أوضح.

ابن جرير -رحمه الله- حمله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على أهل الكتاب، وأن المراد ادعاء أهل الكتاب هؤلاء الذين هم اليهود أنهم هدوا المسلمين إلى القبلة باعتبار أنهم سبقوهم إلى هذه القبلة، يعني يكون لهم حجة عليه، كيف توافقنا على قبلتنا وتخالفنا في الدين؟، يعني وافقتنا على القبلة وهي شعار الملة، ثم خالفتنا في الدين!

"فلما صلى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين" يعني يتحقق الوصف الذي يجدونه في كتابهم، فلا يكون لهم حجة.

قال: "وإن أريد قريش، فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به" لكن لم يصح شيء في أن قريشًا نزل فيهم شيء من آيات القبلة، بسبب أنهم اعترضوا، وكذلك لا يصح أنها نزلت بسبب اعتراض المنافقين، فأقوال المفسرين أن ذلك في قريش، أو في المنافقين لا يصح، وبعض المفسرين يبني مثل هذه الأقوال على روايات لا تصح، والله أعلم.

لكن لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ ظاهره العموم، فالمشركون أنهم تسألوا كيف يكون على دين إبراهيم وملة إبراهيم ويترك قبلته؟! واليهود يقولون: وافقنا في القبلة فلماذا يخالفنا في الدين؟، أو يقول بعضهم: بأن قبلته هي الكعبة، في صفته التي يجدونها في كتابهم، فأيًا كان، فأخبر الله أن ذلك التحويل من أجل ألا يكون للناس على المؤمنين حجة، والله أعلم.

"إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: من يتكلم بغير حجة، ويعترض التحوّل إلى الكعبة، والاستثناء متصل؛ لأنه استثناء من عموم الناس.

ويحتمل الانقطاع على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الَّذِينَ ظَلَمُوا هم الذين ليس لهم حجة".

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي من يتكلم بغير حجة، ويقيد بمن يتكلم بغير حجة صحيحة، ومن يتكلمون في هذا وتضطرب أقوالهم وتختلف أنهم يتصورون أن الحجة لا تقال إلا للبرهان، والدليل الصحيح، والواقع أن الحجة في كتاب الله -تبارك وتعالى- كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: تقال: للدليل والبرهان الصحيح، وتقال أيضًا: للباطل، وهذا كثير: كما قال الله : حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى:16] فذكر وصرح ببطلانها، وسماها حجة؛ لأنهم يحتجون بها، الذين يمنعون من هذا يقولون: إنما سماها حجة باعتبار التنزل، مراعاة لنظر المخاطب، هو يعتبرها حجة فسماها حجة، وإلا هي ليست بحجة، والواقع أن كلمة الحجة هي: ما يحتج به الإنسان، سواء كانت صحيحة أم باطلة، فإذا فُهم هذا انحلَّ الإشكال، وتبين ما في كثير من الأقوال من الضعف والاضطراب.

فهنا إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء الذين ظلموا؟ ابن جرير[13]، وابن كثير[14] يحملون هذا على مشركي العرب، يعني أهل الكتاب يعلمون أنها قبلة الأنبياء، أو أنها القبلة التي سيوجه إليها، أنه حق، فمعرفتهم تامة في هذا، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا من هم إذن؟ المشركون من العرب، يحتجون ويتكلمون بلا علم، هذا على قول ابن جرير وابن كثير.

هنا يقول: "أي من يتكلم بغير حجة، ويعترض التحول إلى الكعبة، والاستثناء متصل" يعني إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فالذين ظلموا من جملة الناس، والاستثناء المتصل: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، فهذا الاستثناء متصل، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير، والحافظ ابن القيم، والحافظ ابن كثير، قالوا: إن الاستثناء هنا متصل من عموم الناس.

ويحتمل الانقطاع، وهذا قال به كثير من أهل العلم، وكأنه قول الأكثر: أن الاستثناء منقطع. بأي اعتبار قالوه؟ باعتبار أن الظالم لا حجة له، تصورهم للحجة هو الذي حملهم على هذا، أن الحجة لا تكون إلا صحيحة، فإذا كان منقطع يكون بمعنى لكن لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ لكن الذين ظلموا، لا تلتفتوا إليهم، ولا تخشوهم، ولا تعبؤوا بهم، ولا يقلقكم ولا يزعجكم شغبهم، ومعارضتهم، هكذا قالوا.

يقول: "على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الذين ظلموا هم الذين ليس لهم حجة" ويحتمل أن يكون المعنى حولنا قبلتكم كي لا يحتج عليكم اليهود مطالبين بالموافقة في الدين، كما حصلت الموافقة في القبلة، ولكن على أن الاستثناء منقطع سيبقى حجة للظالمين من المشركين، فسيقولون: ما دمتم تحولتم إلى قبلتنا فاتبعوا ديننا، يعني على القبلة الأولى اليهود يقولون: وافقتمونا في القبلة فوافقونا في الدين، فإذا حُولتم لا يحتج عليكم اليهود بالموافقة، خالفتموهم في القبلة، سيبقى الذين ظلموا -على قول ابن كثير وابن جرير- أن المشركين سيقولون: حولتم إلى قبلتنا إذن وافقونا في ديننا، قبلتنا حق، والقبلة شعار الملة، فوافقونا في الدين، فـإِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا سواء قيل: الاستثناء متصل أو الاستثناء منقطع بهذا التوجيه يكون محمله على المشركين، يعني قُطعت حجة اليهود بالمخالفة في القبلة، لكن سيقول المشركون: إذن وافقتمونا في القبلة، فهلا وافقتمونا في الدين، والله أعلم.

على كل حال كل من يعرف الحق ليس له حجة على صحيحة على أهل الإيمان، لكن المبطل سواء كان من اليهود أم كان من المشركين لن يكون عادمًا لشيء يجادل به، ويشغب به، يعني حتى اليهود في حال التحويل قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] ولبسوا وشككوا، يعني المعنى: إن كنتم على حق في قبلتكم في استقبال بيت المقدس، فأنتم الآن على باطل، وإذا كانت القبلة الأولى بيت المقدس باطلة، وأنتم الآن على حق، فكان عملكم وسيعكم في ضلال؛ ولهذا الله -تبارك وتعالى- قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] كل هذا في سياق الرد عليهم، فالجهات كلها لله يوجه عباده، فالقبلة الأولى هو الذي وجه إليها، والقبلة الثانية هو الذي وجه إليها، فالقبلة الأولى حق حينما وجه إليها، والقبلة الثانية حق حينما وجه إليها، هذا جواب أهل الإيمان، لكن هؤلاء من المبطلين باختلاف طوائفهم لن يعدم الواحد منهم شيئًا يشغب به، لكن مثل هؤلاء لا يُلتفت إليهم، وإنما يُنظر إلى أمر الله، وتشريعه، ورضاه.

"وَلِأُتِمَّ متعلق بمحذوف، أي: فعلت ذلك لأتم، أو معطوف على لِئَلَّا يَكُونَ".

يعني والمعنى: شرّعت لكم استقبال الكعبة لأكمل لكم شرائع ملتكم الحنيفية، ملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فإن استقبال الكعبة من ملته، بل هو شعار ملته.

يقول: "ولأتم متعلق بمحذوف" يعني فعلت ذلك لأتم، قال: "أو معطوف على لِئَلَّا يَكُونَ" يعني: أني شرّعت لكم وجهتكم إلى الكعبة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فيكون هذا التحويل لسببين، هذا تعليل، وأفعال الله مبناها على الحكمة والتعليل، هذا كثير في القرآن، تجد التعليل يأتي مصرحًا به.

"كَما أَرْسَلْنا متعلق بقوله: وَلِأُتِمَّ، أو بقوله: فَاذْكُرُونِي، والأول أظهر".

بينا لكم شرائع ملة إبراهيم الحنيفية، فأمرناكم باستقبال الكعبة، نعمة من الله عليكم، مثل ما أنعم عليكم بإرسال محمد ﷺ منكم، يعني يمكن أن يكون المعنى بهذا التقدير، يعني بينا لكم شرائع ملة إبراهيم التي منها استقبال القبلة، فأمرناكم بهذا الاستقبال، نعمة من الله عليكم، مثل ما أنعم عليكم بإرسال هذا الرسول منكم، بينا لكم الشريعة والملة الصحيحة التي وقع فيها التبديل من قِبَل المشركين، ووجهناكم إلى القبلة الصحيحة، قبلة إبراهيم ﷺ إتمامًا للنعمة عليكم كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ فهذه نعم متتابعة ومتوالية عليكم.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: التقدير: الزموا طاعتي، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم[15]؛ لتنقطع عنكم حجة اليهود، لِئَلَّا يَكُونَ هذه واحدة، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي هذه الثانية، وتهتدوا كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت إليكم رسولًا من أنفسكم، فيكون الكلام بهذا الارتباط.

ويمكن أن يكون المعنى: أي ولأتم نعمتي عليكم إتمامًا كما أرسلنا إليكم رسولًا من أنفسكم، بناء على أن الكاف في موضع نصب لمصدر محذوف، وبعضهم يقول: إن الكاف في موضع الحال، يعني ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، يعني كما أرسلنا حال كون أرسلت إليكم رسولًا منكم، والله أعلم.

والمقصود بيان متعلق الكاف في قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فيقول: متعلق بقوله: لِأُتِمَّ يعني لأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا إليكم رسولًا من أنفسكم، وهذا من تمام نعمته -تبارك وتعالى- أو بقوله: فَاذْكُرُونِي باعتبار أن ذلك يكون شكرًا لهذا الإرسال، ويكون ذكره بالقلب واللسان والجوارح.

 

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان برقم (399) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة برقم (525).
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/461).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/188).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/187).
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/187).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/462).
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/188).
  8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم برقم (3992) وصححه الألباني.
  9. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/357).
  10. التحرير والتنوير (2/43).
  11. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/463).
  12. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/463).
  13. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/200).
  14. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/463).
  15. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/210).

مواد ذات صلة