الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(013-أ) من قوله تعالى "ولا تأكلوا أموالكم" الآية 187 – إلى قوله تعالى "ولكن البر من اتقى" الآية 188
تاريخ النشر: ١١ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1259
مرات الإستماع: 1616

"وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يأكل بعضكم مال بعض".

قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ هذا يدخل في عمومه كل أخذ للمال بغير وجه حق، ولو طابت نفس صاحبه: كالربا، والرُشا، ونحو ذلك، فهو داخل فيه.

وما ذكره ابن جزي -رحمه الله-: "أي لا يأكل بعضكم مال بعض" بيان للمراد بأكل الأموال في قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ يعني: لا يأكل بعضكم مال أخيه.

وكما ذكرنا في بعض المناسبات بأن النفوس المجتمعة على ملة ودين، تُنزل منزلة النفس الواحدة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54] أي: فليقتل بعضكم بعضًا، وهذا في توبة بني إسرائيل المعروفة، بعد عبادتهم العجل، أُمروا أن يقتل بعضهم بعضًا لا أن يقتل الواحد نفسه، وكذلك هو أحد المعاني في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8] فإن الآية تحتمل أن يكون المراد أنه يقول بعضهم لبعض سرًا، وكذلك أيضًا في مواضع أخرى مشابهة من كتاب الله -تبارك وتعالى- كقوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ فهذا لا يقتصر على الأكل، وإنما عُبر به؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا لو أنه أخذ مال أخيه، ولم يأكله، ولكنه اشترى فيه دارًا، أو مركبة، أو نحو هذا فالحكم سواء، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] فهذا لا يختص بالأكل، فلو أتلفها بأي وجه كان فالحكم واحد.

"بِالْباطِلِ كالقمار، والغصب، وجحد الحقوق، وغير ذلك".

يعني بغير وجه حق، وإن طابت نفس صاحبه، مثل الربا، والمعاملات المحرمة، فهي داخلة في هذا، وإن قال: أنا رضيت بهذا، وموافق عليه، لكنه أخذٌ بالباطل.

"وَتُدْلُوا عطف على (لا تأكلوا)، أو نصب بإضمار (أن)، وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها، والمعنى: نهى عن أن يحتج بحجة باطلة؛ ليصل بها إلى أكل مال الناس، وقيل: نهى عن رشوة الحكام بالأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأول سببية، وعلى الثاني للإلصاق".

وَتُدْلُوا مضى في الغريب الكلام على هذه الألفاظ، قال: أدلى دلوه يعني أرسلها، واستُعير بالتوصل إلى الشيء، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ يقول: "عطف على (لا تأكلوا)" فيكون مجزومًا، فـ(لا) ناهية، والفعل بعدها مجزوم، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَتُدْلُوا فهو مجزوم بهذا الاعتبار، وعليه قراءة أُبَيّ: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا)[1]، فيكون كالأول سواء، فهذه القراءة توضح ذلك، وهذا الذي استحسنه أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[2]، وذلك بتقدير (لا) ناهية محذوفة.

يقول: "عطف على (لا تأكلوا)، أو نصب بإضمار (أن)" كقول الشاعر:

لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيه مثله عار عليك إذا فعلت عظيم[3]

(تأتيَ) يعني و(أن تأتيَ)، فيكون منصوبًا بأن مضمرة.

يقول: "وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها" والمعنى: نهي عن أن يحتج بحجة باطلة ليصل بها إلى أكل مال الناس، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ هذا القدر واضح، نهي عن أكل الأموال بالباطل، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ يعني نهاه عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن أي يحتج بحجة باطلة ليصل بها إلى أكل مال الناس، يعني لا تتوصلوا بحكم الحاكم إلى أكل الأموال بغير حق؛ وذلك كأن يجحد الإنسان الحق الذي عليه، وليس عليه بينه، أعطاه وديعة، أو أمانة، أو نحو ذلك، أو اشترك معه في مال، أو في مضاربة، ثم بعد ذلك جحده، قال: ليس لك عندي شيء، وليس عند صاحب الحق بينة، فهو يجحد الحق الذي عليه، ولا بينة لصاحب الحق، ثم يخاصمه عند القاضي، يقول: بيني وبينك القاضي أو الحاكم، فيدعي ذاك عليه، فينكر هذا ويحلف فيبرأ، فتوصل بحكم الحاكم إلى أخذ مال أخيه، يعني حكم له القاضي بذلك؛ لأن الأول ليس له بينة.

وقد جاء عن ابن عباس -ا-: أن هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصمهم إلى الحكام[4]، وهو يعرف أن الحق عليه، وقد عَلِم أنه آثم آكل حرام، وجاء نحو هذا عن جماعة من السلف: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن زيد، قالوا: لا تخاصم وأنت ظالم[5]، ويدخل فيها، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمة الله عليه-: رشوة القاضي للتوصل إلى أكل أموالهم.

فصار عندنا الآن صورتان:

الصورة الأولى: أي يأخذ مال أخيه بغير حق، ولا يكون لأخيه بينة، فيترافع معه إلى القضاء، فيدعي ذاك عليه، وهذا يُنكر، فتتوجه اليمين إليه، فيحلف فيبرأ ويأخذ مال أخيه، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ تتوصلوا بحكمهم إلى اقتطاعها وأخذها.

الصورة الثانية: أن يُعطي القاضي شيئًا من هذا المال وهي الرشوة؛ ليأخذ الكثير، وَتُدْلُوا بِهَا بالأموال إِلَى الْحُكَّامِ عن طريق الرُشا؛ لتتوصلوا إلى أخذ الأموال بغير حق.

وكذلك أيضًا حينما يدفع هذه الأموال للمحامي، وهو يعلم أنه مبطل، من أجل أن يتوصل إلى أخذ مال أخيه.

وقال بعضهم: بأن وَتُدْلُوا مرتبط بالجملة السابقة وَلَا تَأْكُلُوا فيكون النهي عن مجموع الأمرين: أن يكون النهي خاصًا بهذه الصورة، وهو يكون عن طريق الحكام، إذن صار عندنا معنيان:

المعنى الأول: أن النهي عن كل واحد بخصوصه، على سبيل الاستقلال وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ نهي عن أكل أمول الناس بالباطل، (ولا تدلوا بها إلى الحكام) بهذه الأموال؛ لتتوصلوا إلى أخذ مال غيركم بغير حق، سواء كان ذلك عن طريق حكم الحاكم بالإبراء، حيث لا حجة لصاحب الحق ولا بينة، أم كان ذلك عن طريق الرشوة، فهو نهي عن كل واحد على سبيل الاستقلال، لا تأخذ مال أخيك بغير حق: كالربا، والسرقة، والاختلاس، وسائر الأخذ، عن طريق المعاملات المحرمة، فهذا منهي عن على سبيل الاستقلال.

والأمر الآخر: النهي عن الإدلاء بذلك إلى الحكام، يعني أخذ الأموال عن طريق القضاء برشوة يدفعها، يعني أنه ذكر صورتين، الصورة الثانية: أسوأ من الصورة الأولى، الصورة الثانية: أن يتوصل عن طريق القاضي إلى أخذ مال أخيه، إما برشوة، والرشوة فيها اللعن، وإما بهذا الطريق الذي هو الإنكار والحلف على الكذب، وهو يعلم أنه كاذب، فيأخذ مال أخيه بهذه الطريقة، وهي شديدة.

المعنى الثاني: أنه نهي عن مجموع الأمرين: يعني لا تأكل مال أخيك بالباطل، بحيث تتوصل إلى أخذه عن طريق الحكام بالرشا، أو بالجحد، والإنكار، حيث لا بينة لصاحب الحق، يعني يكون المعنى الثاني أنه نهي عن هذا المركب: أكل أموال الناس بطريق معين، وهو حكم الحاكم، فأكل أموال الناس بالباطل محرم بإطلاق، لكنه خص هذه الصورة؛ لشدة شناعتها وقبحها، وهي ما يُؤخذ من أموال الناس بالباطل عن طريق الحكام، على المعنى الثاني، بإضمار (أن) وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها والمعنى... إلخ.

وقيل: "نهي عن رشوة الحكام بالأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأول سببية" يعني لا تأخذوها بالسبب الباطل، وعلى الثاني: "للإلصاق" هذا كلام المؤلف.

والعبارة في تفسير ابن عطية أوضح إذ يقول: "قال قوم: معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه، مما يكون القول فيه قوله -يعني قول الأمين- فالباء في (بِها) باء السبب، وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها -يعني يدفع عشرة آلاف ليأخذ مائة ألف- فالباء إلزاق مجرد"[6].

يعني إلصاق مجرد عن السببية.

يقول: "وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل، وأيضًا فإن اللفظتين متناسبتان، تُدْلُوا من أرسل الدلو، والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة -يعني مثل الحبل الذي في الدلو- وتُدْلُوا في موضع جزم، عطفًا على تَأْكُلُوا وفي مصحف أُبيّ (ولا تدلوا) بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد جزم (تُدْلُوا) في قراءة الجماعة، وقيل: تُدْلُوا في موضع نصب على الظرف، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه (أن) مضمرة"[7]، مثل ما ذكرنا في قوله الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله[8]  

ولعل الاحتمالات في معنى الآية واضحة: إما أن يكون النهي عن مجموع الأمرين، والصورة مركبة: بأكل أموال الناس عن طريق الترافع إلى القضاء، إما بجحد، أو رشوة.

الصورة الثانية: أنه نهي عن كل واحد من الأمرين: أكل أموال الناس بأي وجه كان، وخص صورةً من ذلك.

"بِالْإِثْمِ الباء سببية، أو للمصاحبة، والإثم على القول الأول في (تدلوا) إقامة الحجة الباطلة كشهادة الزور، والأيمان الكاذبة، وعلى القول الثاني: الرشوة".

الباء سببية، وعلى هذا تتعلق بقوله: لِتَأْكُلُوا، أو للمصاحبة، فتكون حالًا من الفاعل في لِتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوف أي: لِتَأْكُلُوا متلبسين بالإثم، فعلى الأول بسبب الإثم الذي هو الرشوة مثلًا، والأيمان الكاذبة، أو يكون ذلك باعتبار أنه للمصاحبة، يعني أن تكون حالًا من الفاعل لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي: لتأكلوا حال كونكم متلبسين بالإثم.

"وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: تعلمون أنكم على الباطل، وذلك مبالغة في المعصية والجرأة".

لأن الإنسان إذا أخذ مال أخيه، وهو يعلم أنه على الباطل، فهذا لا شك أنه في غاية السوء.

"يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ سببها: أنهم سألوا عن الهلال، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس؟ والهلال ليلتان من أول الشهر، وقيل: ثلاث، ثم يقال له قمر".

الأهلة هنا جاءت بصيغة الجمع، فيحتمل أن يكون ذلك باعتبار هلال كل شهر، أو كل ليلة، أحوال الهلال في الليلة الأولى، وفي الليلة الثانية، وفي الليلة الثالثة، تنزيلًا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال سبق في بعض المناسبات: أنه اسم لما يبدو في أول الشهر، وفي آخره، حتى يستتم.

وقال بعضهم: يقال له هلال إلى أن يُنير ليلة السابع، ومعروف أن الهلال في أول الشهر، وفي آخر الشهر لا يُنير، ولكنه في ليلة السابع يُنير؛ ولذلك الناس الذي كانوا يسافرون في الوسائل القديمة على الدواب يعرفون الأيام التي يسيرون فيها ليلًا؛ وذلك حينما يُنير الهلال ليلة السابع.

وأما تسميته بالهلال، فمن الإهلال، قيل: لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه بالإخبار عنه، ثم يقال في الإهلال في النسك رفع الصوت بالتلبية، أهلّ بالحج، وأهلّ بالعمرة، ولبيك حجة، ولبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، ونحو ذلك.

هنا قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ذكر أن سببها: أنهم سألوا عن الهلال وعن فائدة ومخالفته لحال الشمس، يعني باعتبار لماذا الأهلة يكون لها هذه الأحوال، يبدو صغيرًا حتى يستتم، فيكون بدرًا، ثم بعد ذلك يبدأ بالنقصان، ويضمحل، حتى يصير إلى المحو، فلماذا لم يكن كالشمس؟ لا يحصل لها مثل هذا، هكذا يقول بعضهم: أن السؤال كان عن هذا، وأنه لم يجبهم عنه، وإنما أجابهم عما يحتاجون إليه من التوقيت بها، ويسمون هذا بالجواب الحكيم، يعني: أعرض عن الجواب عن سؤال السائل إلى أمر ينفعه.

وبعضهم يقول: كان سؤالهم عن هذا، ولم يسألوا عن أحوال الهلال، من حيث أطواره، ونحو هذا، لكن السؤال كان عن فائدة الأهلة، فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ.

قوله: وما فائدة محاقه، يعني حيث لا يُرى في أول الشهر، وآخر الشهر، فهذا أليق بكلامه وكلام المفسرين عادة في مثل هذا الموضع: أنهم سألوا عن الهلال، أي: عن أحواله، لماذا يصير إلى حال من الكمال أو الاضمحلال، وما يحصل له من الأطوار في بدوه حتى يُنير، ثم بعد ذلك يكون بدرًا.

لكن لو كان هكذا: وما فائدته، فيكون هذا هو المعنى الثاني الذي ذكره بعض أهل العلم، ما فائدة الأهلة، فيكون أجابهم عما سألوا عنه.

"مَواقِيتُ جمع ميقات لمحل الديون والأكرية وانقضاء العدد، وغير ذلك، ثم ذكر الحج اهتمامًا بذكره، وإن كان قد دخل في المواقيت للناس".

يعني أن ذكر عطف الخاص على العام يدل على الاهتمام به، ومنزلته، هي مواقيت للناس في كل شيء: في الحج، والصيام، والعدد، والآجال، والديون، ونحو هذا، لكنه خص الحج لأهمية ذلك فيه، فالحج أشهر معلومات، فيحتاج إلى عناية وضبط؛ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37] وفي القراءة الأخرى: (يُضِل به الذين كفروا)[9]، يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37] فكان النسيء في الأشهر الحرم، فيقولون مثلًا: الشهر الحرام بدلًا من محرم يكون في صفر، وهكذا، وقد ذكر بعض أهل العلم: إن قول النبي ﷺ في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض[10]، ذُكر في معناه أقوال معروفة، منها: أنهم كانوا ينسؤون الأشهر، فكانت تتحول وتتغير، فرد النبي ﷺ الأمر إلى نصابه، الأشهر الحرم في وقتها، والحج في وقته الذي شرعه الله تعالى، فذكر الحج لتأكد ذلك؛ ولما كان يقع منهم من النسيء، والنسيء من نسأ الشيء أخره، كان الرجل يقوم في الموسم إذا رجعوا إلى منى، ويتكلم بكلام أنه لا يُجارى ولا يبارى، ولا راد لما يقول، يقول: "وقد جعلت محرم في صفر" أو نحو ذلك، ويجري على الناس.

وقوله: "وانقضاء العدد" مثل عدة المتوفى عنها زوجها، والمطلقة التي تعتد بثلاثة أشهر، كالآيسة والصغيرة التي لم تحض، وهكذا آجال الديون، ونحو ذلك.

"وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، كان قوم إذا رجعوا من الحج لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، وإنما يدخلون من ظهورها، ويقولون: لا يحول بيننا وبين السماء شيء، فنزلت الآية إعلامًا بأن ذلك ليس من البر، وإنما ذكر ذلك بعد ذكر الحج؛ لأنه كان عندهم من تمام الحج، وقيل: المعنى ليس البر أن تسألوا عن الأهلة وغيرها مما لا فائدة لكم فيه، فتأتون الأمور على غير ما يجب، فعلى هذا (البيوت)  و(أبوابها) و(ظهورها) استعارات؛ يراد بـ(البيوت) المسائل، وبـ(ظهورها) السؤال عما لا يفيد، و(أبوابها) السؤال عما يحتاج إليه".

قوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ هذه كانت من مزاولاتهم واعتقاداتهم في الجاهلية، على اختلاف في الروايات، والتفصيل الوارد في هذه الموضع، لكن المؤدى: أنه كان عندهم في الجاهلية في بعض العرب، وجاء أن ذلك أيضًا في أهل المدينة في الأنصار: أن الواحد منهم إذا رجع، وفي بعضها: أنه إذا أحرم، لا يستظل، ولا يدخل بيتًا من بابه، فإذا احتاج فإنه يدخل من ظهره.

وأعمال الجاهلية، ومناسك الجاهلية، واعتقادات الجاهلية في الإحرام والنسك كثيرة، ومن أراد أن يقف على أحوالهم بالتفصيل في كل قبيلة، وفي كل جانب، مما يتعلق بالإحرام، أو التلبية، أو المحظورات، أو نحو هذا، ومواضع الذبح، والأصنام التي كانوا يأتون إليها، ويتقربون عندها، منهم من يأتيها قبل الحج، ومنهم من يأتيها بعد الحج، كل هذا تجدونه مفصلًا في مثل كتاب (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وهو كتاب حافل بهذه القضايا.

وهذه الآية جاء من حديث البراء بن عازب أنه قال: نزلت هذه الآية فينا[11].

وقد عرفنا أن قول الصحابي: نزلت فينا، أن هذا مما يكون له حكم التفسير، لكن قد يأتي في آخر الرواية أحيانًا التصريح بسبب النزول، يعني يذكر عبارة صريحة، فهنا يقول: نزلت هذه الآية فينا، وهو أنصاري، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا -يعني: رجعوا من الحج- لم يدخلوا من قِبَل بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيّر بذلك، فنزلت[12]، وهذه صريحة في آخر الرواية بكونها سبب النزول.

فالشاهد أنهم كانوا يتقربون بهذا، كانت القضية لها تعلق بالنسك، فذُكرت بعده، فذكر ذلك في آية الحج، وأما ما ذكره هنا من المعنى الآخر، وهو قوله: "المعنى: ليس البر أن تسألوا عن الأهلة وغيرها... إلخ" فليس هذا معنى الآية، ولكنه يؤخذ من الآية بطريق الاعتبار، يعني يشبه هذا أن يكون من باب أن الشيء بالشيء يذكر، أو ما يُسمى بالتفسير الإشاري، فإتيان البيوت من أبوابها المنهي عنه هنا هو ما كانوا يفعلونه مما سبق ذكره حقيقة، لكن يؤخذ من هذا الموضع أمر بإتيان البيوت من أبوابها بطريق الاعتبار أن ذلك يشمل سلوك الطرق الموصلة إلى المطلوب، فإذا أراد الإنسان تحصيل أمر من الأمور فعليه أن يسلك الطريق الصحيحة الموصلة إليه، فيأتي البيت من بابه، وهذا صار يُستعمل كالمثل، هذه بعضهم يسميها بالأمثال المرسلة، يعني عبارات وردت في القرآن صارت تُستعمل استعمال الأمثال، فإذا رأيت أحدًا يريد أن يتوصل إلى مطلوب من غير وجهه، قيل له: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فإذا أراد أنه أن يتعلم الفقه مثلًا فعليه أن يأخذ ذلك عن طريق فقيه، وأن يذهب فيدرس في كلية الشريعة، ولا يصح أن يطلب الفقه فيدرس في كلية اللغة العربية، فيقال له: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا لا يدرس الفقه عند حجام أو نجار أو حداد، أو نحو ذلك لا بصر له بالفقه، وإذا أراد أن يتعلم النجارة جاء إلى هذا النجار، وهكذا وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا إذا أراد خطبة امرأة فإنه يذهب إلى وليها، ولا يكون ذلك بتكوين علاقة معها بحجة أنه يريد خطبتها، وأن يتعرف على شخصيتها، ونحو ذلك، وإنما نقول له: وأتوا البيوت من أبوابها، وهكذا في المطالب الدينية والدنيوية، وهذا المعنى ذكره بعض أهل العلم كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-[13] فهم وإن لم يصرحوا أن هذا من قبيل التفسير الإشاري إلا أن الواقع أنه منه، وهذا من الصور الصحيحة فيه، فإذا أُمر الناس أن يأتوا البيوت المادية الحسية المعروفة من أبوابها، فهذا أيضًا في الأمور الأخرى في سائر المطالب، تؤتى من أبوابها، فهي وإن لم يكن لها أبواب حقيقة إلا أن ذلك يُعبر به، كما هو معلوم، يأتي الشيء من بابه، ويتوصل إلى المطلوب.

"الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تأويله: مثل (البر من آمن)".

وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177] هذا سبق الكلام فيه، (ولكن البر) إما أن يكون ذلك على تقدير: ولكن البر بر من آمن، أو أنه عبر بالمصدر عن الفاعل (البار)، ولكن البار من آمن، على سبيل المبالغة، فسماه بالبر يعني البار، فهنا: ولكن البر بر من اتقى، أو ولكن البار من اتقى، يعني البار هو التقي، والمقصود أن مثل هذه المزاولات من دخول البيوت من ظهورها، ونحو ذلك مما لم يأمر الله تعالى به، وليس ذلك من البر، وليس من الطاعة والمعروف، ولكن البر الحقيقي هو بتقوى الله -تبارك وتعالى- في طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه.

  1. معاني القرآن للفراء (1/115).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/280).
  3. البيت نسبه في لسان العرب (7/447) للمتوكل الليثي، أو لأبي الأسود الدؤلي.
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/277).
  5. تفسير ابن أبي حاتم (1/321).
  6. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/260).
  7. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/260).
  8. البيت نسبه في لسان العرب (7/447) للمتوكل الليثي، أو لأبي الأسود الدؤلي.
  9. إعراب القرآن للنحاس (2/118) وهي قراءة: الحسن وأبو رجاء.
  10. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين} برقم: (4662) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم: (1679).
  11. أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب قول الله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} [البقرة:189] برقم: (1803) ومسلم في أوائل كتاب التفسير رقم: (3026).
  12. أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب قول الله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} [البقرة:189] برقم: (1803) ومسلم في أوائل كتاب التفسير رقم: (3026).
  13. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:88).

مواد ذات صلة