الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
[19] تابع قوله تعالى: "فأزلهما الشيطان عنها" الآية 36 إلى قوله تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا" الآية 38.
تاريخ النشر: ٢٠ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 7545
مرات الإستماع: 4127

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- تعالى في تفسير قوله: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ [سورة البقرة:38] أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:38]، أي: في ما يستقبلونه من أمر الآخرة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال تعالى في سورة طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [سورة طـه:123]، قال ابن عباس -ا: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طـه:124] كما قال هاهنا: وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:39] أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، أما بعد.

ففي قوله تعالى في الآية السابقة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:37]، ينبغي التنبيه إلى أن في هذه الآية قراءتين، القراءة الأولى بضم آدم ونصب كلمات، والقراءة الثانية بعكسها، أي: بنصب آدم وضم كلمات، فَتَلَقَّى آدَمَ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٌ فيكون آدم ﷺ هو المتلقى، ويكون الذي تلقاه هذه الكلمات، وهذا مثال على ما لا يصح الجمع فيه بين القراءات؛ إذ الخلط بين القراءات يصح بثلاثة شروط، ومن أهم هذه الشروط: أن لا تكون إحدى القراءتين مرتبة على الأخرى، هذا أهم شرط.

يعني أستطيع أن أقرأ مثلاً في سورة الفاتحة: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4]، وأقرأ في الموضع الثاني: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، بالسين: اهدِنَا السِرَاطَ على القراءة الأخرى، فلا إشكال أن أخلط بين القراءات دون أن ألتزم بقراءة واحدة؛ لأن ذلك من القرآن المنزل فلا إشكال لكن بثلاثة شروط، أهم هذه الشروط ما ذكرت.

لكن لو خلطنا هنا بين القراءتين فقلنا: فتلقى آدمُ من ربه كلماتٌ –برفع الموضعين- فإن المعنى يفسد إذ أين يكون المفعول به هنا، وكذلك لو قرأنا بنصب الموضعين: فتلقى آدمَ من ربه كلماتٍ يفسد المعنى، وأين الفاعل حينئذ؟ فلا يصح أن يخلط بين القراءتين في مثل هذه الصورة.

قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36]: العدو مصدر وهو مفرد والمراد به الجمع، فالعدو يصدق على الواحد والكثير باعتبار أنه مصدر، فمثل هذا الاستعمال يحمل على معنى الجمع، وهذا كثير في القرآن، سواء كان ذلك بالإفراد من غير إضافة أو مع الإضافة إلى الضمير، أو بالإضافة إلى الاسم الظاهر، أو كان ذلك بالجمع مع الإضافة، وأمثلته كثيرة في كلام العرب أيضاً، فمن أمثلة المفرد في القرآن من غير إضافةقوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النــور:31]، فهنايعني الأطفال.

ومثال المفرد المضاف إلى الضمير قوله تعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النــور:61] يعني أو أصدقائكم.

ومثال المضاف إلى الاسم الظاهر قوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ [سورة النحل:83]، أي: يعرفون نعم الله.

وفي قول الشاعر:

 بها جيف الحسر فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

جلد مفرد مضاف إلى الضمير –الهاء- جلدها، والمعنى: وأما جلودها فيابسة، وهكذا توجد أمثلة كثيرة جداً، وهذا أمر شائع معروف.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۝ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:40-41].

يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ومتابعة محمد -عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم افعل كذا، يا ابن الشجاع بارز الأبطال، يا ابن العالم، اطلب العلم ونحو ذلك.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [سورة الإسراء:3].

قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هذا مثال على ما سبق ذكره من الكلام حول المفرد المضاف أنه يفيد الجمع، فالنعمة مفرد مضاف إلى الضمير –الياء- اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ والمعنى اذكروا نعمي عليكم، وهذا الخطاب صريح في أنه موجه إلى بني إسرائيل في تذكيرهم بنعم الله .

بعض أهل العلم -ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقولون: إن كل ما سبق من الحديث عن خلق آدم، وأمر الملائكة بالسجود له، وإسكانه الجنة، وما أشبه ذلك كل ذلك موجه أيضاً لبني إسرائيل يذكرهم بهذه النعم، وأن الله أكرمهم بإكرام أبيهم آدم بأن خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وما إلى ذلك، فهؤلاء العلماء يرون أن ما سبق هو أيضاً موجه إلى بني إسرائيل، مع أن ظاهر ذلك أنه عام، فالله يحكي خبر آدم ﷺ ومن ضمن ذلك تذكير للناس بنعمته عليهم، وتحذيرهم من عدوهم إبليس، ثم تحدث بعد ذلك عن بني إسرائيل.

وعلى قول ابن جرير -رحمه الله- إن ذلك شروع في مخاطبة بني إسرائيل وتذكيرهم بنعمه -تبارك وتعالى- عليهم، ثم صرح باسمهم بعد ذلك، وإلا فالكلام معهم بدأ قبل ذلك.

قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ: أي: اذكروا نعمي، فتدخل في ذلك جميع النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، ولا يختص ذلك بنعمة دون نعمة، وبالتالي ما يذكره السلف في تعداد بعض النعم كله داخل في معنى الآية، والله تعالى أعلم، فمن ذلك أنه أنجاهم من آل فرعون، وأغرق فرعون وقومه، ومن ذلك أنه أنزل عليهم المنَّ والسلوى، وأنه اصطفاهم على عالمي زمانهم، وجعل فيهم الأنبياء، وجعلهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي يمتن الله بها على بني إسرائيل.

اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ: أي: اذكروا نعمي باللسان وبالقلب وبالعمل بالجوارح، بالقيام بوظائف العبودية، فهذا كله داخل في معنى قوله: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.

هذا الخطاب عن النعم يتوجه إلى الأحياء من بني إسرائيل مع أن تلك النعم التي كانت لهم من إنقاذهم من فرعون، وإنزال المن والسلوى، وجعل الملك فيهم وغير ذلك من النعم التي ذكرها الله تعالى إنما كانت لأجدادهم، فكيف صح مخاطبتهم بذلك مع أنهم لم يدركوا تلك النعم ولم يروها، ولم تحصل لهم وإنما حصلت للأجداد؟

الجواب عن ذلك أن يقال: إن القاعدة أن النعمة التي تكون للآباء تتصل بالأبناء والذرية، وبالنسبة للرزايا فإن ذلك يكون متصلاً بذريتهم إذا كانوا على طريقتهم، ولهذا يقول لهم الله وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، مع أن الذين كانوا في زمان النبي ﷺ ما قالوا هذا، لكن لما كانوا على طريقتهم صح أن يوجه إليهم هذا الخطاب، وهكذا في أمثلة كثيرة، وهذا هو الفرق بين المخاطبة بالنعمة وذكر الرزايا التي قارفوها.

فإسرائيل هو يعقوب؛ بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عباس -ا- قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله ﷺ فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟. قالوا: اللهم نعم، فقال النبي ﷺ: اللهم اشهد.

وروى الطبري عن عبد الله بن عباس -ا- أن إسرائيل كقولك: عبد الله.

يقولون: إن إسرائيل هي كلمة أعجمية مركبة الجزء الأول منها بمعنى عبد، والثاني بمعنى الله، ولهذا يقال: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وما أشبه هذا، وهذا أشهر ما فسرت به، وإلا فقد فسرت بأشياء كثيرة غير هذا، منها قول بعضهم: إن المراد بإسرائيل هو أن يعقوب ﷺ أسر الشيطان، فإيل هو الشيطان، وهذا قول غير صحيح، نعم.

وقوله تعالى: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:40] قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك أن فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجاهم من عبودية آل فرعون.

وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل وأنزل عليهم الكتب.

قلت: وهذا كقول موسى لهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] يعني في زمانهم.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا- في قوله تعالى: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه.

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة:40] قال: بعهدي الذي أخذت في أَعناقكم للنبي ﷺ إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم.

وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12].

لعل أحسن ما يفسر به هذا الموضع من كتاب الله أن يفسر بالقرآن، وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فعهد الله  مصرح به في هذه الآية: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة المائدة:12]، ثم بعد ذلك العهد إن وفوا به يكون لهم الجزاء الحسن، لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12]، فهذا عهد الله لبني إسرائيل، والله أعلم.

وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيماً يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد ﷺ فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين.

هذا داخل في قوله تعالى: وَآمَنتُم بِرُسُلِي الذين منهم محمد ﷺ فهذا من العهد الذي أخذ الله عليهم، كما قال الله وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا [سورة آل عمران:81] فهذا من العهد الذي أخذه الله على الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- وأمم وأتباع هؤلاء الأنبياء تبع لهم كما هو مصرح به في هذه الآية: وَآمَنتُم بِرُسُلِي [سورة المائدة:12].

 وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بمحمد ﷺ.

الرازي في التفسير الكبير ذكر من الكتب السابقة طائفة من هذه البشارات، وذكره غيره أيضاً جماعة من المفسرين، فهم حينما يوردون ما ورد في الكتب السابقة من البشارة بمحمد ﷺ يورودنها في هذا المقام، وبعضهم يوردها في مقام آخر، وهو قوله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6]، فتجد مثلاً صديق حسن خان في كتاب فتح البيان أورد نماذج كثيرة من كتب بني إسرائيل التي تصرح بمجيء النبي ﷺ.

وقال أبو العالية: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي [سورة البقرة:40] قال: عهده إلى عباده: دين الإسلام وأن يتبعوه.

وهذا مثال على ما سبق أيضاً من الكلام على المفرد المضاف والذي يؤديه من معنى، وهو أن المقصود أوفوا بعهودي.

وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة:40] قال: أرْضَ عنكم وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي، والضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس.

وقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [سورة البقرة:40] أي: فاخشونِ؛ قاله أبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة.

وقال ابن عباس -ا- في قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.

أي أنه يخوفهم، وكل ذلك من التفسير بما يقرب المعنى، وليس ذلك من قبيل التفسير بالمطابق، وإلا فإن الرهبة تفترق عن الخوف في المعنى الزائد أو قل: في المعنى الخادم، وإن كانت تتفق معه في المعنى الأصلي، فالمعنى الأصلي للرهبة هو الخوف كما فسرت به هنا، ولكنها تفترق معه في المعنى التكميلي، فالرهبة نوع من الخوف هي أخص منه. 

والخوف على مراتب، كما أن المحبة على مراتب، فالخوف منه ما يكون رعباً، ومنه ما يكون من قبيل الرهبة، ومنه ما يكون من قبيل الخشية، فهو في كل مقام بحسبه، فتارة يكون ذلك مع علم بالمخوف منه، فيكون ذلك من قبيل الخشية وتارة يملأ القلب فيضطرب له القلب ويرتجف فيكون ذلك من قبيل الرعب وتارة يكون مع شيء من التعظيم لهذا المخوف..، إلى غير ذلك مما يصاحب الخوف، فيكون له معنىًِ يخصه.

وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول ﷺ والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ ولهذا قال: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ [سورة البقرة:41] يعني به القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ النبي الأمي العربي بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.

قال أبو العالية -رحمه الله- في قوله تعالى: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم يقول: لأنهم يجدون محمدًا ﷺ مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.

الكتب التي يذكر فيها مناظرة النصارى، والرد على النصارى تجد فيها نماذج كثيرة من هذه النصوص المنقولة عن كتبهم.

انظر مثلاً في كتاب إظهار الحق للكرواني الهندي -رحمه الله- في مجلدين مطبوع، وهو من أفضل ما كُتب في مجادلة النصارى والرد عليهم، تجد فيه نصوصاً كثيرة نقلها من كتبهم، وقد اعتنى بهذا طائفة من المعاصرين الذين تصدوا للرد على النصارى ومجادلتهم ومناظرتهم، وجمعوا أشياء من هذا.

وقوله:وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41]، قال ابن عباس -ا: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.

قال أبو العالية: يقول: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ من كفر بمحمد ﷺ يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.

قوله: من جنسكم أهل الكتاب: هو جواب على إشكال مقدر، وهو كيف وصفهم بهذا الوصف وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مع أنهم سُبقوا إلى ذلك الكفر؛ إذ إن هذا القرآن أول ما طرق إنما طرق أسماع المشركين في مكة، فكفر من كفر من أهل مكة، فكيف خاطبهم بذلك في هذه السورة المدنية؟

فالجواب: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ يعني من أهل الكتاب، فيكونون بذلك قد سنوا سنة سيئة لمن جاء بعدهم ممن هو على دينهم من أهل الكتاب.

ولا شك أن هؤلاء اليهود الذين عاصروا النبي ﷺ أو من جاوره في المدينة هم أول من طرق سمعه هذا القرآن من أهل الكتاب، فلما ردوه وكذبوا به، ووصفوا النبي ﷺ بما وصفوه به كان ذلك إغلاقاً لباب القبول، فتتابع أهل الكتاب على ذلك، وصار عامة اليهود لا يدخلون في الإسلام إلا الواحد بعد الواحد، عبر قرون متطاولة.

واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: بِهِ عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ.

أي أن القول الأول في قوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، يعني بمحمد ﷺ، والقول الثاني بالقرآن.

نص الآية: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41]، فالنبي ﷺ لم يذكر في الآية، فمن قال: إن المراد بقوله: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ إنه القرآن ، قال: لأنه هو المحدث عنه في الآية، وهذا هو المتبادر، والذين قالوا: إن المقصود به النبي ﷺ قالوا: هو الذي جاء بالقرآن فكفروا به، وقالوا بأنه كذاب مفترٍ على الله ، وأي القولين أرجح؟

القول الأول أرجح، وعلى القول الثاني بان المراد به النبي ﷺ يكون هذا من قبيل المثال على ما سبق ذكره، وهو عود الضمير على غير مذكور، والله أعلم..

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: يمكن أن يجتمع المعنيان لما بينهما من الملازمة، وسبق الكلام على ذكر قاعدة أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر وأمكن حملها على الجميع من غير معارض فإنها تحمل عليها؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعنى الكبير.

ومن صور هذه القاعدة -وهو من أجلى صورها التي يحمل فيها هذا على هذا- أن يكون بين المعنيين ملازمة، ولا شك هنا أنه بين المعنيين ملازمة، فالذي كفر بالقرآن لا شك أنه كفر بمن جاء بالقرآن وهو محمداً ﷺ، إذا قال: هذا القرآن كذب، فالذي جاء به كذلك متصف بالكذب. 

ولكن حينما تفسر الآية يذكر هذا على سبيل بيان المعنى باللازم، بمعنى أننا لا نفسر به لأول وهلة ونقف عليه، لا نقول: معنى الآية وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي: بمحمد ﷺ فهذا من قبيل التفسير باللازم، وإنما يذكر هذا للحاجة، وإلا فالأصل أن يذكر المعنى الأصلي المتبادر -بالمطابق مثلاً، فنقول: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي بالقرآن، ونقول: ولازمه، ولا تكونوا أول كافر بمن جاء بالقرآن؛ لأن من كفر بالقرآن يلزم منه أن يكون كافراً بمن جاء بالقرآن.

والنص القرآني يفسر بجميع أنواع الدلالة، يفسر بالمطابق، وباللازم، وبالتضمن، وبالإشارة، وبالإيماء والتنبيه، فهو كلام حق صدر من عليم حكيم لا يخفى عليه شيء ، فيقلَّب الكلام بألوان هذه الدلالات ويستنبط منه المعاني بها جميعاً، فإذا جئنا نوجه الآن قول من قال بأن المقصود بالآية محمد ﷺ نقول: هذا مثال على التفسير باللازم. 

وللعلم فإننا بهذه الطريقة نستطيع أن نوجه عبارات السلف وهذا أفضل من أن نقول: وفي الآية قولان، القول الأول كذا، والقول الثاني كذا، ثم نمضي، فهذا ليس بتفسير، إنما التفسير أن نناقش هذه الأقوال، فنقول: هذا القول محمول على كذا، وهذا القول محمول على كذا، وهكذا نوجه هذه الأقوال أو نختار منها ما هو أرجح، فلا نقول مثلاً: من قال بأنه محمد ﷺ فقوله هذا باطل، بل نقول: هذا تفسير باللازم..

واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: بِهِ عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ، وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان؛ لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد ﷺ ومن كفر بمحمد ﷺ فقد كفر بالقرآن.

من الأمثلة في التفسير باللازم قوله تعالى: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، قيل: إن الغاسق الليل وقيل: القمر، والقمر والليل بينهما ملازمة؛ لأن القمر هو آية الليل التي في قوله تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [سورة الإسراء:12]، فإذا ذكر القمر ذكر الليل، وإذا ذكر الليل ذكر القمر.

وأما قوله: أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.

وقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:41] يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية.

في أول السورة قال الله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، وقلنا: إنهم ما كانوا يملكون الهدى حتى يشتروا الضلالة، لكن لا يخفى عند من سلمت فطرته وسليقته العربية أن يفهم أن المراد بذلك أنهم استعاضوا بالضلالة عن الهدى.

وقوله: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:41] هذا تعبير دقيق ومعناه لا تعتاضوا أو لا تستبدلوا،   والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، واشتريت الكتاب بثوب، كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك.

 قال بعض الرجاز:

أبدلت بالجمة رأساً أزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا

أي: استعاض عن الإسلام النصرانية ولم يكن نصرانياً قبل ذلك،

وهنا وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً أي: لا تعتاضوا عنها، بمعنى أنكم ترتضون الكفر والبقاء على الضلال والانحراف بسبب إحراز الدنيا، وذلك عن طريق ما كانوا يأخذونه من الرشى فيبدلون بذلك أحكام الله حيث كانوا يجعلونه في قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها، كما قال الله إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:34]، فيأكلون أموال الناس بالباطل بصور شتى، ومنها: الرشى التي يأخذونها، إضافة إلى الأموال الأخرى كالسخرة وغير ذلك مما كانوا يتعاطونه ويفعلونه بهيمنة رجال الدين والكنيسة والرهبان وما إلى ذلك، وتارة ما يأخذونه على أنه يصرف في أعمال البر، وهم يأخذونه لأنفسهم في الحقيقة، إلى غير ذلك من أكلهم أموال الناس بالباطل.

فقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً الرشى داخلة فيه، كما أن الثمن القليل لا يشترط أن يكون مالاً، وإنما قد يكون المحافظة على المنزلة والأتباع والمكانة وما أشبه ذلك، واقرؤوا ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المعلمي –رحمه الله- في أواخر كتاب التنكيل الذي فصل وسمي القائد إلى تصحيح العقائد، فيه كلام في غاية الجودة عن موانع الهدى، يبين فيه ما الذي يجعل الإنسان يصر على الضلال والانحراف ويبقى شيخ طريقة أو رأساً في البدعة، وذكر أموراً كثيرة جداً، ومما ذكر أن منهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة فإذا اهتدى ربما فقد شهرته ومعيشته مما قد يؤدي إلى الرجوع إلى حاله الأول إلا أن يكتب الله له الرجوع الصادق إلى الحق.

ومن أمثلة هؤلاء: كبار الصوفية، وشيوخ الرافضة، وأشباههم ممن يأخذون أموال الناس ولهم في ذلك أتباع، ولهم منزلة عند الناس، فمثل هؤلاء إذا أرادوا الرجوع عن الضلال والانحراف يعلمون أنهم سيفقدون هذه الأمور جميعاً من شهرة ومعيشة، فربما بقوا على ما كانوا فيه من الضلال إبقاء على تلك المنازل والأموال ثمناً قليلاً على حساب دينهم.

ومن أمثلة ذلك أن تجد إنساناً موظفاً في وظيفة محرمة، فيصر على الباطل ويبقى على انحرافه، وذلك إبقاء على هذا الثمن القليل؛ لأنه يعلم أنه إن رجع إلى الحق فسيفقد تلك الوظيفة وما تدر عليه من أموال ونحو ذلك.

وقوله:وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] روى ابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب -، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

بمعنى أن التقوى ليس معناها أن يترك المرء الحرام لعدم رغبته فيه بطبيعته مثلاً، وليست نفسه مما يطلب ذلك ويشتهيه، أو يترك ذلك خوفاً من الناس أو حياءً منهم، وإنما على نور من الله، ترجو ثواب الله، أو تخاف عقاب الله.

ومعنى قوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِأنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:42-43].

يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَفنهاهم عن الشيئين معًا، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك، عن ابن عباس -ا: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب.

وقال قتادة: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون، أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وروي عن الحسن البصري نحو ذلك.

قوله: أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله: معنى ذلك في قوله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67] مشركاً، فإبراهيم ﷺ وموسى، وعيسى وغيرهم من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، حاشاهم من ذلك، وإنما كانوا حنفاء على الإسلام.

بعض أهل العلم يستشكلون القول بأن هؤلاء يخلطون الحق بالباطل، ويقولون: إذا خلط الحق بالباطل صار كله باطلاً فكيف قال: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ؟ كما أن هناك استشكال مشابه في آية أخرى ,عن كان لا علاقة لها بالموضوع هنا، وهي قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106]؟

والحقيقة أنه لا إشكال في هذه المعاني إطلاقاً، إذ يمكن أن يجتمع هذا وهذا فيكون الإنسان قد جمع بين الإيمان والكفر، والنفاق والإيمان، والجاهلية والإسلام، ويكون قد جمع بين الحق والباطل؛ فبعض طوائف اليهود أو طوائف النصارى مثلاً منهم من كان يعترف بنبوة محمد ﷺ، بعضهم كانوا يقرون بهذا، ولكنهم يقولون: إنه مبعوث إلى العرب خاصة، ولسنا مخاطبين بذلك، فهذا من لبس الحق بالباطل.

وكذلك حينما يعترفون أنه سيأتي نبي ويذكرون أوصافه فهذا من الحق، ولكن حينما يقولون: إنه ليس بمحمد ﷺ، فهذا من لبس الحق بالباطل، وكذلك حينما كان الواحد منهم يقول لصهره أو لرضيعه أو لقريبه من الأوس أو الخزرج هذا هو النبي الذي بشرنا به، فاثبت على هذا الدين -يعني الإسلام- وهذا حق، ومع ذلك هو كافر بمحمد ﷺ وبما جاء به، ولهذا قال بعده: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44].

فهذا من المعاني الداخلة تحته، يقول: هذا حق اثبت عليه، وهو أبعد الناس عنه، فيمكن أن يجتمع هذا وهذا ويخلط الحق بالباطل، وهذا كثير، وقد شابهتهم هذه الأمة في ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: لتتبعن سنن من كان قبلكم[1].

إذن: يوجد من يخلط الحق بالباطل، ويلبس على الناس الحق فيجمع بين هذا وهذا، وتجد في الكلام الواحد من اجتماع الحق والباطل الشيء الكثير حتى إن السامع لربما يتحير لهذا القائل ماذا يريد أن يقول، فهو يجمع بين أمور صحيحة وأمور باطلة، ولربما كان ذكر الأمور الصحيحة في مقدمة ذلك ومطلعه من أجل الترويض والتهيئة لما سيذكره بعد ذلك من الباطل.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:42]، أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في ما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.

هذا من أجلى صور كتمان نبوة محمد ﷺ، ولكن يدخل فيه أيضاً من الكتمان أشياء أخرى كانوا يكتمونها، كما قال الله وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، ومن ذلك لما سألهم النبي ﷺ عن حد الزنا فأخفوه وذكروا له التحميم، فلما دعا بالتوراة وضع الحبر أصبعه على آية الرجم، وأنكروا أن يكون ذلك في التوراة، وكل هذا من كتمان الحق، فلما قال عبد الله بن سلام ما قال، وأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- الحبر أن يرفع أصبعه ماذا قال الحبر؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فألقمه الله حجراً حيث قال: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91].

قلت: ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيان: الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل.

هذا المعنى الذي ذكره تحتمله الآية، لكن المعنى المتبادر هو أي تقومون بذلك عن علم، ولا يقع ذلك بسبب جهل وخفاء في الحق، وإنما تفعلون ذلك قصداً وعمداً، فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:79]، قال: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ليقرر وليثبت هذه الجريمة عليهم، وهذا من أجلى صور التأكيد.

وفي قوله: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [سورة البقرة:42]، ذكر قضية وهي أنه نهاهم عن أمرين يمكن أن يكون النهي عنهما معاً على قول بعض المفسرين، بمعنى أن الكلام مركب بهذه الطريقة، ولا وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [سورة البقرة:42]، يعني نهاهم عن اجتماع الأمرين.

ولا شك أن كل من لبس الحق بالباطل أنه لا بد أن يكون قد كتم الحق، لا بد من هذا إذ بينهما ملازمة، فالحاصل أن بعض أهل العلم يقولون: نهاهم عن الأمرين معاً، أي: عن كتمان الحق ولبس الحق بالباطل، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ.

وللتوضيح نذكر هذا المثال: لو قلت لشخص: لا تقرأ وتقف، فهل أنت نهيته عن كل واحد من هذين الأمرين على سبيل الاستقلال، بمعنى أنه منهي عن القراءة ومنهي عن الوقوف، أم إنه منهي عن القراءة في حال الوقوف؟

لا شك أنه منهي من القراءة في حال الوقوف، فهذا بين من السياق، وفي الآية، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [سورة البقرة:42] هل يوجد أحد يلبس الحق بالباطل، ويكون مع ذلك غير كاتم للحق؟ لا يوجد، ولذلك فالحاصل أن بعض أهل العلم يقول: النهي هنا متوجه لمجموع الأمرين.

لكن إذا قلنا بأن كل واحد أيضاً منهي عنه على سبيل الاستقلال لا تلبسوا الحق بالباطل، ولا تكتموا الحق، ما الإشكال في هذا؟

لا إشكال؛ وبالتالي فعلى الأول يكون: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ في حال كونكم كاتمين للحق، فهو نهاهم عن شيئين لا شك، لكن لا ندقق في هذا كثيراً؛ لأننا في والواقع إذا قلنا: نهاهم عن لبس الحق بالباطل فقد نهاهم -ولا بد- عن كتمان الحق؛ لأنهم لا يمكن أن يفعلوا هذا إلا بالكتمان، لذا فهو نهاهم عن الكتمان.

وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ أمرهم أن يصلوا مع النبي ﷺ.

وَآتُواْ الزَّكَاةَ أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي ﷺ.

وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد ﷺ، يقول: كونوا منهم ومعهم.

وقوله تعالى: وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة.

قوله: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ سبق الكلام على معنى الإقامة، وأنه إذا أمر بالصلاة أمر بإقامتها، وما معنى الإقامة، ولماذا يجمع بين الصلاة والزكاة كثيراً؟ كل هذا سبق الكلام عنه في أول السورة.

وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] الركوع معروف، وهو يطلق على الركوع المعروف في الصلاة، ويطلق أيضاً على السجود، ويطلق على الانحناء، كل ذلك من الركوع، وكذلك يطلق على الخضوع، فتقول: فلان يركع لفلان بمعنى أنه خاضع له.

والمقصود هنا أن الله أمرهم أن يركعوا مع الراكعين، -كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وهو من أحسن ما تفسر به هذه الآية، والله أعلم.

أي: كونوا مع أهل الإيمان، وشاركوهم في أعمالهم الصالحة الطيبة، ومن أخص ذلك الصلاة المعبر عنها بالركوع، والعبادة قد يعبر عنها بجزء منها كما قال الله وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [سورة الإسراء:78]، يعنى صلاة الفجر أي الفريضة، فعبر عنها بجزء منها شريف، ولا شك أن مثل هذا التعبير يدل على أن ذلك من أركانها، إذا عبر عن العبادة بجزء منها فإن ذلك يدل على منزلة فيها، وأنه ركن من أركانها.

وهذه الآية يستدل بها العلماء كما أشار الحافظ -رحمه الله- على أن صلاة الجماعة واجبة، وهذا الاستدلال في بادئ الأمر لربما يتراءى للإنسان لأول وهلة أنه احتجاج واستدلال قوي، ولكن ماذا يقولون في قوله -تبارك وتعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43]، هل هي مأمورة بصلاة الجماعة، مع أنه لم يذكر الركوع فقط وإنما ذكر السجود أيضاً، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ فلماذا تقولون هنا: هذا ليس أمراً بالجماعة مع أن السياق واحد؟

على كل حال قوله تعالى: وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] لا يكفي في الاحتجاج على وجوب صلاة الجماعة، ولكننا نأخذ وجوب صلاة الجماعة من أدلة أخرى، مثل هم النبي ﷺ أن يحرق على أقوام بيوتهم، وما أشبه ذلك من الأدلة.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فَعَيّرهم الله، وكذلك قال السدي.

وقال ابن جريج: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس، فعيَّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ أي: تتركون أنفسكم وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.

والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [سورة هود:88]، فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.

قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ الهمزة هنا للإنكار، أي: كيف تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، ويدخل فيه كل ما ذكره المفسرون، حيث كانوا يأمرون بعض من يعرفون مثلاً باتباع النبي ﷺ والثبات على هذا الدين، ثم هم لا يتبعونه -عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضاًَ ما كانوا يأمرون به الناس من طاعة الله وهم أبعد الناس عن ذلك، بفسادهم وارتكابهم للموبقات، وأكلهم لأموال الناس بالباطل، وصدهم عن سبيل الله تعالى بأفعالهم قبل أقوالهم.

وهذه الآية موجه لبني إسرائيل، ولكنها لا تختص بهم، فإذا كان هؤلاء قد نهو عن مثل هذا الصنيع، فإن هذه الأمة مخاطبة بذلك من باب أولى، فهذا فعل لا يليق بالعقلاء، فضلاً عن أهل الإيمان، ولذلك قال: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44]، أي: كيف يكون هذا؟ كيف تأمر الناس بشيء وأنت تخالف هذا الشيء، قولك يدلهم عليه وفعلك يصرفهم عنه، بل ينبغي أن تكون قال شعيب ﷺ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [سورة هود:88]، كذلك عليك أن تتنبه لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3].

فالإنسان ينبغي عليه أن يجمع بين ما يدعو الناس إليه وبين الامتثال لذلك في نفسه، ولكن كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: إن التبعة لا تسقط على الإنسان إذا كان غير ممتثل في نفسه، لا تسقط عنه تبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الشريعة فيها واجبات كثيرة منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع، وما أشبه ذلك من بر الوالدين وصلة الأرحام وغير ذلك، فإذا ترك الإنسان واحداً من هذه الأشياء، فإن ذلك لا يعني أنه يترك الآخر، فإنه يجمع إلى هذا التقصير تقصيراً غيره، فيكون ذلك أحط لمرتبته، وأعظم في الذنب والجرم.

فالأمر بالمعروف واجب، والنهي عن المنكر واجب، فإذا اقتصر الإنسان على الأمر بالمعروف فقط دون النهي عن المنكر يكون قد ترك واجباً، لكنه أفضل من الذي لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، والذي يقتصر فقط في النهي عن المنكرات ولا يأمر بالمعروف يكون قد ترك واجباً، وكذلك من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذا قد ترك واجباً، وترْكُ الامتثال كذلك.

فالناس على مراتب، منهم من يترك الامتثال، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية، هذه مرتبة، وأحط من هذا من يترك الامتثال وينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر، يليها أن يفعل المنكر ويترك المعروف، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه مرتبة فوق التي قبلها -أعلى منها- وهذا أحسن حالاً من الذي قبله في الانحراف، ثم يأتي بعد ذلك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكنه لا يمتثل، ثم يأتي بعد ذلك من يمتثل في نفسه ولكنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ثم الذي أحسن منه حالاً هو من يمتثل ولا يأمر ولا ينهى، ثم الذي أحسن منه حالاً هو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويكون ممتثلاً في نفسه.

وقضية الامتثال مطلوبة في الجملة ولكن ذلك متعين في الأمور الواجبة والمحرمة، فيجب أن نفرق بين هذه الأمور.

هناك أشياء واجبة وأشياء محرمة، وحدود الله لا يجوز أن تنتهك، فيجب على الإنسان أن يقف عندها، سواءً كان يأمر أو ما يأمر فإذا ضيعها فإن ذلك لا يسوغ له تضييع واجب آخر، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا من تضييع حدود الله .

يبقى القدر المستحب من الامتثال فهذا أمر يتفاوت الناس فيه غاية التفاوت وهو لا يجب على الإنسان ابتداءً، ولا يستطيع الإنسان أن يحيط بكل ما جاءت به الشريعة فيعمل هذه الأمور جميعاً، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا غضاضة عليه أن يأمر بلون من ألوان المعروف والطاعة المستحبة وإن كان هو لا يفعل هذا، كالذي يحث الناس مثلاً على لون من العبادة مستحبة وهو لا يفعلها لسبب أو لآخر، فهو مشتغل بعبادات أخرى، كالذي يحث الناس على إغاثة الملهوف، والقيام على الأرملة واليتيم، وهو لا يفعل هذا، لكنه مشتغل بأمور أخرى من العبادات قد استحوذت على جهده واهتمامه ووقته، فلا يجد وقتاً لمثل هذا.

والذي يحث الناس على أن يعلم الناس الخير وهو لا يعلم الناس بمعنى أنه لا ينتصب للتعليم، فهذا قد لا يكون ملوماً؛ لأنه قد يكون مشغولاً بأمور أخرى أهم من هذا.

فالمستحبات لا يستطيع الإنسان أن يحيط بها، أما الواجبات فيجب عليه أن يلتزم بها، وكذلك عليه أن يترك المحرمات، وبالتالي هذا اللوم يتوجه إلى المفرطين القاعدين عن طاعة الله المرتكبين لحدوده ومحارمه، لكن هذا التفريط والمعاتبة التي جاءت في حق هؤلاء، لا تعني أن الإنسان يتخلى عن هذه الواجبات جميعاً، ويقول: أنا لن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر لأني أنا غير ممتثل أصلاً، بل التقصير عام عند الجميع، وكل إنسان مقصر، فيجب على الإنسان أن يأمر وينهى وإن كان مقصراً حتى إن بعضهم يقول: يجب على أصحاب الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، وهذا أمر لا بد منه وإن كان الإنسان غير ممتثل.

قال الإمام أحمد: عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان -؟ فقال: إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من افتتحه.

هؤلاء الناس يقولون لأسامة لأن عثمان بن عفان كان يقربه، كما كان النبي ﷺ يقربه ويدنيه، يقولون: ألا تكلم عثمان بن عفان يعني في أمور أخذوها عليه -، يعني ألا تنصح عثمان.

فأسامة يبين لهم أنه قد فعل، وقد قام بهذا الواجب ونصحه، وبين لهم أن نصحه له لا يعني تعيير عثمان بذلك وأن هذا النصح لا بد  من إظهاره للآخرين، فإن النصح يختص بعثمان وقد حصل، فهو يقول: هل تريدون مني إذا نصحت عثمان أن آتي وأشنع عندكم وأقول قلت له كذا، وأجابني بكذا، إلى آخره.

المقصود أنه يقول: قد نصحته، هل تريدون أن أخبركم عن ذلك؟! هل تريدون أن أظهر لكم ذلك؟! إذ لو كانت النصيحة بهذه الطريقة لصارت فضيحة، ليست نصيحة، وهذا هو الفرق بين النصيحة والفضيحة.

إلا أن هذا الفرق لا يعتد به في عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمنكرات الظاهرة يجب أن تنكر علناً؛ إذ ما ظهر علناً يجب أن ينكر علناً، إلا إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، فلا يصح الاحتجاج بمثل هذا وتقرير قواعد منه غير صحيحة، وإلزام الناس بها، وامتحانهم بذلك، فإن ذلك كما هو ظاهر إنما هو في النصيحة، فالنصيحة لا تكون تعييراًِ، ولا تكون تشهيراً، فإذا نصح الإنسان يحتسب ذلك عند الله ، ويرجو الإصلاح بهذا النصح، ولا يأتي بعد أن ينصح فيشنع بهذه النصيحة، أو يتخذ من هذه النصيحة سبباً لنفوقه عند الناس أو لشجاعته وبطولته، وأنه نصح الخليفة وقال له، ورد عليه، وأجابه، لا، بل هذه بينك وبينه، أنت نصحته تريد أجرك من الله ، فهذا يختلف عن قضية إنكار المنكر الظاهر، فلذلك علينا أن نجمع بين النصوص ولا نقف عند نص واحد.

في حديث أبي سعيد الخدري لما أراد مروان أن يخطب قبل صلاة العيد أخذه أبو سعيد بثوبه أمام الناس، وقال له: الصلاة أولاً، وكذلك قصة ابن عمر مع الحجاج وهو على المنبر أمام الناس، رد عليه بمحضر الناس في صلاة الجمعة.

وهذا الأسلوب في النصيحة يصح إذا لم يترتب عليه فتنة أو مفسدة أعظم، فالمنكر الظاهر يجب أن ينكر ويعرف الناس هذا الإنكار حتى لا يلتبس عليهم الحق بالباطل، وحتى لا يأتي ملبس بعد مدة ويقول: الشيخ الفلاني رأيته جالس والعمل الفلاني يُفعل ولم ينكره، فهذا يدل على الجواز، وهذا كثير ما نسمعه يُردد من بعض من يتكلم وهو ليس بأهل أن يتكلم ويقول على الله بغير علم، فلذلك لا بد أن نفرق بين هذه المقامات، والنصوص يجب أن تجمع جميعاً ثم بعد ذلك يستخرج منها الأحكام، فلا يقتصر على بعضها أو يكون ذلك بطريقة انتقائية، فإنما يحصل ذلك الخلط بسبب الجهل بالنصوص الأخرى وليس بسبب الهوى.

فقال: إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن سمعت رسول الله ﷺ يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه[2][ورواه البخاري ومسلم].

هذا الوعيد لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولم يمتثل، فما ظنكم بمن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، ولم يمتثل ألا يكون أشد عقوبة من هذا؟ فما ظنكم بمن ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر ولا يمتثل، ولا يرفع لهذه الأمور رأساً؟!

وهنا تنبيه وهو أن مثل هذه الآية وهذا الحديث قد يكون سبباً لقعود بعض الناس عن هذا الواجب، وهذا خطأ، وإنما ينبغي للإنسان أن يتقي الله في نفسه وأن يأمر وينهى قدر استطاعته، ولا يتحمل من البلاء ما لا يطيق، ولا يدخل في أمر لا يعرف المخرج منه، وكما قال النبي ﷺ في الحديث الذي إسناده حسن: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه فسئل عن هذا، فقال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق[3].

فمن الناس من يتكلم بقوة، ويعجب به كثير من الناس، ثم بعد ذلك يبتلى فينقلب رأساً على عقب، فيقال: ليتك ثم ليتك ما تكلمت، ولا أمرت، ولا نهيت، وهذا كثير، ولو فتشت في حال كثير من الناس اليوم ستجد أنه كان في يوم من الأيام في الجهة المقابلة تماماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44].

وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3].

وقوله إخباراً عن شعيب: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [سورة هود:88].

المقصود بالقصص هنا وعظ الناس وتذكير الناس بجذبهم وترقيق قلوبهم، وتذكيرهم بحيث يغلب على ذلك بإيراد الأخبار والقصص، والحكايات مع شيء من الوعظ، فيقال: قصص، ويقال: القُصَّاص، وقد جاء عن جماعة من أهل العلم ذم ذلك ومن يقوم به ويتعاطاه، وجاء عن الحسن الثناء عليه، وبهذا نعرف الفرق متى يكون المدح ومتى يكون الذم، فالذم للقصاص الذين يريدون شد أسماع الناس والتأثير عليهم، والتكثر منهم، ولفت أنظارهم ولو باختلاق القصص أو إيراد ما هب ودب ودرج من غير تحقق ولا تثبت، ففيورد القصص المختلقة المكذوبة، وكل ذلك فقط من أجل أن يعرض مادة على هؤلاء الناس تشد انتباههم وتستهويهم أو ترقق قلوبهم أو ما أشبه ذلك ولو باختلاق الكذب فهذا هو المذموم، وأما من يتحرى الصدق ويتثبت وينقل الأشياء الصحيحة ونحو ذلك فهذا لا إشكال فيه، وهو الذي أثنى عليه الحسن -رحمه الله، والله جعل لكل شيء قدراً، والناس وزع الله بينهم هذه المواهب والهمم، وصار منهم من يشتغل بهذا، ومنهم من يشتغل بهذا، فينفع الله بهذا وهذا وهذا، وقد يكون هذا لا يحسن هذا، ولم يفتح عليه فيه، وهذا لم يحسن هذا، ولم يفتح عليه فيه، وهكذا.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 
  1. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم (6889) (ج 6/ص 2669)، ومسلم في كتاب: العلم – باب: باب اتباع سنن اليهود والنصارى (2669) (ج 4/ص 2054).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: صفة النار وأنها مخلوقة (3094) (ج 3/ص 1191) ومسلم في كتاب: الزهد والرقائق - باب: عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله (2989) (ج 4 / ص 2290).
  3. أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن - باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (2254) (ج 4/ص 522)، وابن ماجه في كتاب: الفتن - باب:  باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ  [سورة المائدة:105] (4016) (ج 2/ص 1332)، وأحمد (ج 5/ص 405)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7797).

مواد ذات صلة