الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(015-ب) قوله تعالى "ءاتنا في الدنيا" الآية 198 إلى قوله تعالى "نفسه ابتغاء مرضات الله" الآية 205
تاريخ النشر: ٠٣ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 1730
مرات الإستماع: 1626

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: آتِنا فِي الدُّنْيا كان الكفار إنما يدعون بخير الدنيا خاصة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة.

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا، يعني: أن الدنيا تكون هي غايته فيسأل الدنيا دون الآخرة، وقد جاء عن ابن عباس -ا- قال: "كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث -سؤال الدنيا- وعام خصب، وعام ولاد حسن -يعني: المواليد- لا يذكرون من أمر الآخر شيئًا، فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"، فيكون هذا سبب النزول، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، فأنزل الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[1]، وهذا يدل على أن قوله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ أن الإشارة ترجع إلى المؤمنين؛ لأن المفسرين اختلفوا في هذا، فبعضهم قال: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا سواء كان ذلك من طلاب الدنيا أم من طلاب الآخرة، يعني من الأوليين الذين يقولون: آتِنَا فِي الدُّنْيَا، أو ممن يقول: آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، هذا قول لبعض المفسرين، لكن هذه الرواية تحدد أن المراد بذلك هم من يقول: آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، ولهذا مدح من يسأله الدنيا والآخرة، فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح -هذا في الدنيا يعني: المطالب الدينية والمطالب الدنيوية- ومركب هنيء وثناء جميل ..."[2] وهذا أيضًا قال به ابن جرير -رحمه الله-: أن الحسنة في الدنيا تشمل ذلك[3].

يقول ابن كثير: "إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا"، يعني: أنه من قبيل التفسير بالمثال، كالذي يقول مثلًا: الزوجة الحسناء، أو يقول: المال، أو يقول: الخصب أو نحو ذلك هذا كله داخل فيه، وهكذا من قال: الحسنة في الدنيا العلم النافع. فهذا داخل فيه.

يقول: "وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام"، -ونقل عن القاسم بن عبد الرحمن-: من أُعطي قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وجسدًا صابرًا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار؛ ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء، روى البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي ﷺ يقول: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[4].

وروى أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رجلًا من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله ﷺ: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله، لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال: فدعا الله فشفاه[5]. انفرد بإخراجه مسلم.

ثم قال: روى الحاكم في مستدركه عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم أفيجزي ذلك؟ قال: أنت من الذين قال الله لهم: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[6].

قوله: حَسَنَةً قيل: العمل الصالح، وقيل: المال، وقيل: المرأة الصالحة.

وكما سبق أن هذا من قبيل التفسير بالمثال، فيشمل ذلك جميعًا. 

قوله: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الجنة.

في الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي ﷺ: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[7].

قوله: نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يحتمل أن تكون (من) سببية، أي: لهم نصيب عند الله من أجل ما كسبوا من الحسنات.

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا (من) يعني: بسبب الحسنات التي اكتسبوها باعتبار أن قوله: أُولَئِكَ الإشارة يرجع إلى الفريق الثاني الذي يدعو بالحسنتين: في الدنيا وفي الآخرة، وهذا اختيار ابن جرير[8]، ويدل عليه سبب النزول الذي ذكرته آنفًا، وبعضهم يقول: يرجع إلى الفريقين. والأول أقرب، والله أعلم.

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يعني: من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب.

قوله: وأن تكون لبيان الجنس، أي: لهم نصيب من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب.

لأن (من) تحتمل هذين المعنيين، تكون سببية، وأن تكون بيانية.

قوله: سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وجهان؛ أحدهما: أن يراد به سرعة مجيء يوم القيامة.

وهذا قال به بعض السلف: كمقاتل بن حيان، سَرِيعُ الْحِسَابِ سرعة مجيء الحساب الذي استبطئوه واستعجلوا به.

قوله: والآخر أن يراد به سرعة وقوع الحساب يوم القيامة؛ لأن الله لا يحتاج إلى مدة ولا فكرة.

لا يحتاج إلى مدة، يعني: وقت للحساب فهو سريع الحساب، ولا فكرة، يعني: لا يحتاج إلى تفكير كما هو الحاصل بالنسبة للمخلوق، فيكون ذلك باعتبار أن حسابه سريع لا يحتاج إلى عد وإحصاء على كثرة العباد وكثرة الأعمال، ولا يحتاج إلى آلة ويحاسب الجميع كنفس واحدة على كثرتهم، هذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[9]

قوله: وقيل لعليّ : كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال كما يرزقهم على كثرتهم.

وهذا على معنى أنه سريع الحساب، بمعنى: لا يحتاج إلى عدٍّ ووقت أي مدة طويلة.

قوله: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والذكر فيها: التكبير في أدبار الصلوات، وعند رمي الجمار وغير ذلك.

هذه الأيام المعدودات باعتبار أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر، يعني: أيام التشريق، وهذا نقل عليه الماوردي[10]، والقرطبي[11] الإجماع، فهذه هي الأيام المعدودات بالاتفاق؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا لا يكون إلا في أيام التشريق قطعًا، وفي الحديث: وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه[12].

قال: "والذكر فيها التكبير في أدبار الصلوات" يعني: الذكر المقيد وعند رمي الجمار وغير ذلك، يعني: ذبح الهدي والأضاحي، كذلك الذكر المطلق في سائر الأحوال، وفي الحديث: إنما جُعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله [13]، وأيام التشريق كما قال النبي ﷺ: أيام أكل وشرب وذكر لله [14]، فيكثر من الذكر فيها، فالعبد مأمور بالذكر مطلقًا في كل أحواله وفي كل الأوقات ولكنه يتأكد بأوقات مخصوصة وأحوال مخصوصة كالحج.

قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي: انصرف في اليوم الثاني من أيام التشريق.

وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث فرمى فيه بقية الجمار، وأما المتعجل فقيل: يترك رمي الجمار اليوم الثالث، وقيل: يقدمها في اليوم الثاني.

يسقط عنه الرمي إذا تعجل خرج قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر فلا يعجل الرمي وإن قال بذلك بعض الفقهاء، ولكنه يسقط عنه كما يسقط عنه المبيت.

قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في الموضعين، قيل: إنه إباحة للتعجل والتأخر، وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم، وهو الذنب للحاج، سواء تعجل أو تأخر.

يعني هنا نفي الإثم فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لاحظ، يعني: لو أنه ذُكر نفي الإثم مع التعجل لفُهم منه أن ذلك لا حرج فيه ولا يحصل له بسبب ذلك إثم أو تبعة لكونه قد تعجل وترك المبيت ليلة الثالث عشر وترك رمي الجمار في ذلك اليوم، أن الحرج مرفوع، لكن قال: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فما وجه نفي الإثم في الحالتين؟ يعني حتى مع التأخر مع أنه فيه زيادة عمل وموافقة لفعل النبي ﷺ حيث تأخر، قال: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فهذا هو موضع الإشكال أو السؤال، يقول: "قيل: إنه إباحة للتعجل والتأخر" يعني: لا حرج عليه في الأمرين، أن هذا هو المقصود: رفع الحرج، "وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم فهو الذنب للحاج سواء تعجل أو تأخر" وهذا قال به كثير من السلف، وقال بعضهم: عُبّر بنفي الإثم لأن بعض العرب كانوا يذمون التعجل وأن بعضهم كان يذم التأخر فجاءت الآية مبينة لكون ذلك جميعًا مما لا إثم فيه ولا يُذم فاعله، بهذا الاعتبار، وحمل أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- نفي الإثم بمغفرة ذنوب العبد الذي اتقى الله في حجه[15]، يعني: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى فهذا محمله إلى ما ذهب إليه كثير من السلف بمعنى أن ذلك بمعنى غفران ذنوب الحاج سواء تأخر أو تعجل، والنبي ﷺ يقول: من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه[16]، يعني: سواء تعجل أو تأخر.

قوله: لِمَنِ اتَّقى أما على القول بأن معنى: (فلا إثم عليه) الإباحة، فالمعنى: أن الإباحة في التعجيل والتأخر لمن اتقى أن يأثم فيهما، فقد أبيح له ذلك من غير إثم، وأما على القول: بأن معنى (فلا إثم عليه) إخبار بغفران الذنوب، فالمعنى أن الغفران إنما هو لمن اتقى الله في حجه؛ كقوله ﷺ: من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فاللام متعلقة إما بالغفران أو بالإباحة المفهومين من الآية.

يعني على الاحتمالين فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني: إذا اتقى الله على المعنى الأول في تعجله واتقى الله في تأخره، كيف يكون التقوى في التعجل إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني: في هذا العمل الذي عملوه، فقد يتعجل ويؤذي الناس ويؤذي نفسه ويؤذي من معه، ويعرض نفسه للهلاك في رمي الجمار والمشقات غير المحتملة في مزاحمة الناس عند الطواف، والذهاب إلى الحرم في الظهر بعد الزوال يرمي، ثم بعد ذلك يركب الأخطار من أجل أن يدرك ويخرج من منى ثم يطوف، فهذا إن كان يؤدي إلى أذى فلا يجوز لِمَنِ اتَّقَى، فبعض الناس قد يُفسد عمله وأجره لما يصدر عنه من أذى الناس، ولربما باليد أو باللسان والشتم ونحو ذلك.

وأما التأخر فلا إثم عليه، فقد يتأخر ويتفرغ وتكون منى قد ذهب أكثر الناس منها خالية، فكثير من الناس في مثل هذه الحالات أو بعض الناس لربما يصدر عنه ما لا يليق من التجول هنا وهناك، تتبع النساء، والنظر إلى الحرام، والكلام غير اللائق وهذا موجود منذ عهود بعيدة، الشاعر الذي يقول:

مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنَى حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ

يعني مع محبوبته

بدَا لِي منها معصمٌ يوم جَمَّرت وكفٌّ خضيبٌ زُيِّنت ببنانِ
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميتَ الجمرَ أم بثمانِ[17]

يعني هذا يتكلم عن مشاهدته اليد التي فُتن بها وهي ترمي الجمار، ويقصد امرأة معينة كانت معروفة بالجمال فهي ترمي الجمار فرأى يدها وهي مخضوبة بالحناء، فيقول:

فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميتَ الجمرَ أم بثمانِ

طاش عقله، وأشعارهم في هذا، وكلامهم فيه هؤلاء كثير، فمثل هذا قد يقع لمن يتأخر لا سيما الرمي ليلًا، فأكثر النساء يرمين ليلًا فيأتي بعض ضعفاء النفوس ويتتبع عورات الناس، ووجد في بعض الأزمنة غير البعيدة بعض الفسقة من الناس في ليلة الثالث عشر التأخر حيث تخلو منى أو تكون شبه خالية يأتون معهم بالمعازف ويحيون أو يميتون تلك الليلة بضرب الدفوف ونحو ذلك، وألوان الفسق، هذا موجود ويعرفه الناس إلى عهد ليس بالبعيد مما يكون من بعض الفسقة، فهذا الذي تأخر! تأخر وعصى الله ولم يتقه فتأخره مذموم، وقل مثل ذلك إذا كان يقضي ليلًا طويلًا في الكلام في الغيبة، وما أشبه ذلك، أو يكون ذلك على سبيل الرياء والسمعة، والله المستعان.

لِمَنِ اتَّقَى فالعبرة بالتقوى، ليست بكثرة العمل وإنما بأن يتقي الله فيه، فقد يحج عشرات المرات ولكن من غير تقوى لله فمثل هذا لربما كانت حجة واحدة بتقوى أفضل من أربعين حجة من غير تقوى، بعض الناس يحج كل سنة ويسابق إلى الحج ولكنه يفعل في حجه أمورًا تخل بالنسك من التضييع والتفريط بحدود الله فيه، وكذلك أيضًا ما يصدر عنه من السخرية من الناس والتندر بهم والجدال والمخاصمة بالباطل وإطلاق البصر واللسان فيما لا يحل وهكذا، فحجه محفوف بأنواع من المخالفات.

قوله: مَنْ يُعْجِبُكَ الآية، قيل: نزلت في الأخنس بن شريق، فإنه أظهر الإسلام، ثم خرج فقتل دواب المسلمين وأحرق لهم زرعًا، وقيل: في المنافقين، وقيل: عامة في كل من كان على هذه الصفة.

هو لا يصح أنها نزلت في الأخنس أو في أحد بعينه، والله أعلم، لكن هي عامة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهذا عام في المنافقين كلهم، هذه الصفة المذكورة هنا أشبه ما تكون بأوصاف المنافقين يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني بدعوى الإيمان والاستقامة على أمر الله والنصح لله ولرسوله ﷺ والغيرة على دينه ولكن حاله وعمله بخلاف ذلك، هذه صفة المنافق ولهذا حملها كثير من أهل العلم على المنافقين، لا تختص بمعين وإنما عامة فيهم، كما أن الأخرى عامة في المؤمنين يعني الصفة الثانية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ لا تختص بمعين كما قال بعض المفسرين، لكنها عامة بهذا قال قتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير وابن كثير: أنها عامة في المنافقين[18]

قوله: فِي الْحَياةِ متعلق بـ (قوله) أي: يعجبك ما يقول أي يعجبك ما يقول في أمر الدنيا، ويحتمل أن يتعلق بـ (يعجبك).

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني: حينما يتحدث عن الدنيا فهو يتحدث بحديث بصير بها عليم بتفاصيل مصالحها، فهو عالم في الدنيا معرض عن الآخرة، جاهل بأمر الله -تبارك وتعالى- يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني: حينما يتكلم في أمور الحياة الدنيا هذا معنى، والمعنى الثاني: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني حينما يكون أن هذا الإنسان يتكلم بكلام حسن بكلام جميل بهذه الدار، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الحياة متعلق بلفظة قَوْلُهُ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة، حينما يتكلم عن الدنيا فإنه قوله يعجبك كلام عليم بصير خبير في أمر الدنيا جاهل في أمر الآخرة، هذا معنى، أي: يعجبك ما يقوله في أمر الدنيا، ويحتمل أن يتعلق بـ يُعْجِبُكَ يعجبك قوله في الحياة الدنيا، يعني: يعجبك قوله وهو في هذه الدار بأنه يحب الله ورسوله وأنه مؤمن، وأنه يغار على دين الله فهو يتكلم في الدنيا بمثل هذا الكلام كحال المنافقين، ولكنه في حقيقة الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهو في الدنيا يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا حقت الحقائق في الآخرة حصل لهؤلاء ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من ضرب السور بينهم وصاروا إلى الظلمة فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13-14]، فهذا حال المنافقين، ففي الدنيا يتكلمون بمثل هذا فيحصل لهم بسبب ذلك إحراز الأموال وحقن الدماء، وهذا المعنى هو المتبادر؛ لأنه قال: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وعلى كل حال يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعجبك حديثه في شؤون الدنيا بعيدًا عن أمور الآخرة، أو يعجبك ظاهر حديثه عن أمور الدنيا لكنه حديثًا ينفعه في الدنيا دون الآخرة، أو يكون المعنى: يعجبك قوله في هذه الدار حيث يتقي بذلك ما يتخوفه ويحصل له بسبب ذلك حقن الدم والمال. 

قوله: وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي يقول: الله أعلم إنه لصادق.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "هذا المعنى صحيح. وقاله عبد الرحمن بن زيد، واختاره ابن جرير، وعزاه إلى ابن عباس، ومجاهد"[19]، وفي قراءة غير متواترة لأُبي بن كعب وابن مسعود -ا-: (ويستشهد الله على ما في قلبه)[20]، لاحظ القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة إذا صح إسنادها، ويستشهد الله معنى هذا وَيُشْهِدُ اللَّهَ لأن هذه القراءة المتواترة تحتمل أنه المقصود وَيُشْهِدُ اللَّهَ يعني يقول: الله يعلم من قلبي أني أحب الله ورسوله، أني مؤمن، الله يعلم إني أغار على دينه، الله يعلم إني أحب ظهور الإسلام وأكره الكفر وأهله، فهو يُشهد الله على ما في قلبه، وهنا (ويستشهد الله على ما في قلبه) يقول: الله يشهد علي. وهذا المعنى هو الظاهر المتبادر، وذكر ابن كثير -رحمه الله- معنى: وهو أن يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق: كقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108][21]، في قراءة ابن عباس وهي قراءة غير متواترة: (والله يشهد على ما في قلبه) فصار لكل معنى قراءة تشهد له حاصله: المعنى الأول: أنه حينما يتكلم يُعبر بعبارات ليؤكد ما يقول حيث يستشهد ربه على ما في قلبه يقول: الله يعلم أني صادق، الله يعلم أن قلبي ينطوي على الإيمان وأن ما أقوله حق يشهد الله علي بذلك، فهذا هو المتبادر.

المعنى الثاني: تحتمله الآية: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ هو يتكلم بكلام حسن وجميل في الوقت الذي يبارز ربه -تبارك وتعالى- بالخصومة، ويناكف أهل الإيمان وهو حرب عليهم فهو بذلك كله يشهد الله بحاله وسوء ما ينطوي عليه قلبه، وفساد العمل الله يراه ويشاهده ويراقبه فهو يُشهد الله على ما في قلبه بالمبارزة بالحرب على الإسلام وأهله وكراهية هذه الدين وبغض المؤمنين، يتكلم بكلام حسن ويشهد الله على ما ينطوي قلبه عليه من الكفر ونحو ذلك، يعني: هو لا يتكلم بهذا على هذا المعنى ويقول: الله يشهد. أو يقول: يعلم الله من قلبي كذا. لا، وإنما في الوقت الذي يقول فيه هذا الكلام الله شاهد على حال أخرى ينطوي عليها قلبه، هذا المعنى الثاني، والآية تحتمل المعنيين ويمكن أن يجتمعا -والله أعلم- فقد يقول مثل هذا والواقع قاله أو لم يقله فالله مطلع عليه، فإذا كانت الآية  تحتمل معنيين ولكل معنى ما يشهد له فإنها تُحمل عليهما حيث لا يوجد مانع من ذلك والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والله أعلم.

قوله تعالى: أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة.

شديد الخصومة أو أشدهم خصومة، باعتبار أن ألد أفعل تفضيل يعني أشد أهل اللدد في الخصومة؛ لأن اللدد شدة الخصومة، فهو ألد هو أكثرهم خصومة ولددًا، فأصل اللدد الشدة، وهذا الألد هو الخصيم الشديد التأبي.

وبعضهم يقول: أصل الألد الشديد اللدد، يعني: صفحة العنق، وذلك إذا لم يمكن صرفه عما يريد، يعني: عنده إصرار مهما أعطيته من الحجج والبينات والبراهين هو في غاية الإصرار على ما هو عليه من الباطل، وفي الحديث: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم[22]، ابن جرير -رحمه الله- اعتبر أن هذه الصفة باعتبار أنه ذو جدال أو غير مستقيم في الخصومة وأن هذا متقارب[23]، لكن قوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ الخصام هنا يحتمل أنه مصدر خاصم، أو جمع خصم، يعني: ألد أهل الخصومة، ألد المخاصمين، أو شديد الخصومة.

قوله: تَوَلَّى أدبر بجسده أو أعرض بقلبه، وقيل: صار واليًا.

هذه ثلاثة معاني، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا إذا تولى أدبر بجسده، يعني: هو بحضرة النبي ﷺ مثلًا أو عند المؤمنين يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فإذا انصرف من عندك عاث في الأرض فسادًا بيده ولسانه وقلمه، وإذا سمعت كلامه فهو من أجمل الكلام.

يقول: "أو أعرض بقلبه" إذا تولى ضل وغضب لكن المعنى الأول هو المتبادر، "وقيل: صار واليًا" وَإِذَا تَوَلَّى صارت له ولاية، تسلط، ظهر منه خلاف ما كان يدعيه، لكن الأقرب هو المعنى الأول، يقول بالحضرة كلامًا حسنًا يُعجب السامع فإذا انصرف كان منه الشر والفساد والإفساد والعتو بخلاف ما كان يدعيه.

قوله: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ على القول بأنها في الأخنس، فإهلاك الحرث حرقه الزرع، وإهلاك النسل قتله الدواب، وعلى القول بالعموم فالمعنى: مبالغته في الفساد، وعبّر عن ذلك بإهلاك الحرث والنسل؛ لأنهما قوام معيشة ابن آدم، فإن (الحرث) هو الزرع والفواكه وغير ذلك من النبات، و(النسل) هو الإبل والبقر والغنم وغير ذلك مما يتناسل.

قوله: على القول بأنها في الأخنس. قلنا: هذا لا يصح، فإهلاك الحرث حرقه الزرع. يعني باعتبار أنه صدر عنه ذلك في تلك الرواية الضعيفة، هذا الحرث، وإهلاك النسل قتل الدواب، على كل حال أصل النسل، بمعنى: الخروج والسقوط، ويقال لما خرج من الأنثى نسل لخروجه منها، فيصدق ذلك على عموم النسل، يعني: نسل الحيوان، ونسل الإنسان وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وعلى القول بالعموم فالمعنى: مبالغته في الفساد. يعني يقال: فلان يهلك الحرث والنسل. يعني: لا يُبقي شيئًا، يعني: لا يقتصر هذا على الحرث والنسل بل على ذلك وغيره من مصالح الناس وما تقوم به معايشهم، فيدخل في هذا الدور والمراكب والمرافق العامة والخاصة، فهو يفعل ذلك جميعًا فعُبر بهذين بأي اعتبار؟ قال: لأنهما قوام معيشة بني آدم فإن الحرث هو الزرع.

وبعضهم يقول: النساء. لكن هذا ضعيف، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] صحيح لكن لا يُحمل القرآن إلا على المعنى المتبادر الظاهر، وليس مجرد الاحتمال، والنسل يقول: "هو الإبل والبقر والغنم وغير ذلك مما يتناسل".

وكذلك أيضًا في الجملة في المعنى العام وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ يتسبب فيه، يعني: وإن لم يباشر الإهلاك فهو بفجوره ومعصيته وكفره ونفاقه يمنع القطر من السماء، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41] فهذا الفاجر يتسبب بحبس المطر وينتج عن ذلك هلاك الحرث والنسل، فهو من الجهتين يباشر ذلك ويكون سببًا في حبس القطر، وإذا نزل المطر لم تخرج الأرض النبات، وهذا المعنى الأخير: أنه يتسبب بحبس القطر وخروج النبات ونحو ذلك هذا قال به مجاهد[24].

وابن كثير -رحمه الله- يذكر صفة المنافق في حال خصومته بأنه يكذب ويزور على الحق ولا يستقيم معه، لأن ابن كثير فسر الألد بالأعوج[25] فهو بهذه المثابة ويفتري ويفجر كما ثبت في الصحيح: آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان[26].  

قوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ المعنى: أنه لا يطيع من أمره بالتقوى تكبرًا وطغيانًا، والباء يحتمل أن تكون سببية، أو بمعنى مع. وقال الزمخشري: هي كقولك: أخذ الأمير الناس بكذا، أي: ألزمهم إياه، فالمعنى: حملته العزة على الإثم.

يقول: والباء يحتمل أن تكون سببية. يعني: كما قال ابن كثير -رحمه الله-: أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ يعني بسبب الإثم، بسبب ما هو عليه من الآثام تأخذه العزة فيرد الحق، ويستنكف حينما يؤمر بتقوى الله -تبارك وتعالى- بسبب ما يجترمه من الآثام، هذا إذا كانت الباء سببية، أو بمعنى مع: أخذته العزة مع الإثم، أو حملته العزة على الإثم، فيصدر عنه ما يوجب الإثم من أذى هذا الآمر له بتقوى الله بالقول أو الفعل يعني كما قال بعضهم: أخذته العزة بما يُأثمُه.

وبعضهم يقول: "بأن الباء بمعنى اللام: أخذته العزة للإثم" وهذا قريب من بعض ما سبق، يعني: تحمله العزة على فعل الإثم، فهذا الإثم رد الحق واستنكاف والتكبر على من أمر بالتقوى، أذى هذا، شتم هذا الآمر بالتقوى، إلحاق الضرر به ونحو ذلك.  

قوله: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي: يبيعها، قيل: نزلت في صهيب، وقيل: على العموم، وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد، وقيل: في تغيير المنكر، وأن الذي قبلها فيمن غُيّر عليه فلم ينزجر.

يعني مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الشراء هنا بمعنى البيع؛ لأن الشراء يأتي بمعنى البيع ويأتي بمعنى الشراء المعروف، فهو من الأضداد، قيل: نزلت في صهيب. لكنه لا يصح والقول بأنها فيه مروي عن جماعة: كابن عباس، وأنس، وابن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة[27].

"وقيل: على العموم" أنها صفة لبعض الناس، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد، يعني يبذل نفسه.

"وقيل: في تغيير المنكر" والواقع أن هذا نوع من الجهاد.

يقول: "وأن الذي قبلها فيمن غُير عليه فلم ينزجر" يعني: جعلهما متقابلين، يعني: الأول في المغير للمنكر يَشْرِي نَفْسَهُ يبذل نفسه ويتحمل الأذى ابتغاء مرضات الله؛ لأن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا شك أنه قيام بمهمة صعبة وثقيلة وكثير من الناس يستثقل من يغير عليه، لا يكون يبذل نفسه فيتحمل ما يأتيه من الأذى في سبيل الله والموصوف الآخر هو فيمن غُير عليه، هذا الذي تأخذه العزة بالإثم إذا قيل له: اتق الله. لكن الآية أعم من هذا: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ يعني: يبذلها في سبيل الله وطلب مرضاته بالجهاد ونحو ذلك، ولا يختص هذا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من الجهاد.

أسئلة وردت للشيخ:

س1: يقول: لا الناهية ولا النافية أيهما تدخل في الأخرى ويكون النهي أبلغ؟

جـ: الناهية والنافية كل واحدة مستقلة لا تدخل في الأخرى لكنه يُفهم من المعنى أن النافية مضمنة معنى النهي، يعني النهي إنشاء، والنفي إخبار، تقول: لم يحضر زيد. هذا خبر، وتقول: لا تفعل كذا. هذا إنشاء، الأمر والنهي إنشاء، فالإنشاء هو الذي لا يحتمل الصدق والكذب في ذاته تقول: افعل، لا تفعل.

أما الخبر فهو ما يحتمل الصدق والكذب بذاته، لكن قد يأتي النفي مضمنًا معنى النهي باعتبار أن الأخبار قد تكون مضمنة معنى الإنشاء، يعني في غير الأمر والنهي وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ [البقرة:233] هذا خبر ليس بنفي ولا نهي، لكنه مضمنًا معنى الأمر، يعني أمر بالإرضاع، فهنا حينما قال الله : فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] إذا قلنا: إن هذا نفي للجدال والفسوق والرفث فهو مضمنًا معنى النهي كأنه القضية قد حُسمت وأُقرت فينبغي أن يُجتنب ذلك، فساقه بهذا السياق يعني النفي فهو أمر ثابت متحقق ما على المكلف إلا الامتثال فُرغ منه، فبعضهم يقول: إن هذا يكون أبلغ في النهي إذا جيء به على طريق الإخبار، والله أعلم.

س2: دفع مبلغ زائد في التأمين...؟

جـ: دفع مبلغ زائد في التأمين من أجل أن يحصل مزايا أكبر إذا كان التأمين تأمين تجاري فهذا لا يجوز أيًا كان نوع التأمين -سواء كان التأمين طبي أو تأمين في السيارات- كونه إذا دفع تأمين أكثر يكون مثلًا الضمان خمس سنوات بدلًا من سنتين أو ثلاث، أو نحو ذلك فهذا في التأمين التجاري لا يجوز.

س3: يقول: على القول بأن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة هل يجوز عندهم تأخير طواف الإفاضة مع الوداع ما وجه ذلك؟

جـ: بعض الفقهاء يقول بإيجاب الدم، وأرجو أن يكون لا حرج عليه في ذلك يؤخر مع الوداع.

س4: على القول بجواز التلفيق بين القراءات كيف يكون الأمر في البسملة والفاتحة إذا أرجعناها إلى اختلاف القراءات فهل يجوز لمن ليست في قراءته التلفيق بقراءتها؟

جـ: ذكرنا أن البسملة في بعض القراءات أنها من الفاتحة وأنها في بعضها ليست منها، فلو أنه ترك قراءتها باعتبار القراءة التي ليست منها فهذا يكون بهذا الاعتبار لا إشكال فيها، وقراءته صحيحة وصلاته صحيحة، وإذا كانت القراءة باعتبار قراءة تكون البسملة من الفاتحة يكون قد أسقط آية بهذا الاعتبار على هذا القول كما قال صاحب المراقي:

وبعضهم إلى القراءة نظر وذاك للوفاق رأي معتبر[28]

مضى الكلام على هذا لكن الذي عليه كثير من أهل العلم وهو اختيار شيخ الإسلام -كما هو معلوم- وذكرنا القائل به وهم جمهرة من أهل العلم أن البسملة للفصل بين السور وليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها، فعلى هذا لو أنه أسقط قراءتها يكون قد صحت صلاته ولا إشكال لكن السنة أن يأتي بها.

س5: يقول: هل يجوز إلزام أحد بقول في تفسير آية علمًا أن القول هو القول الراجح؟

جـ: الإلزام إذا كانت الآية تحتمل واختلفوا في تفسيرها لا تستطيع أن تلزمه، لكن أيضًا ليس له أن يفهم من قِبَل نفسه إذا كان غير أهل لهذا، فيقول: أنا أفهم كما أريد، ومن حقي أن أفهم كما أريد. لا، ليس من حقه ولا يتكلم إنما يسأل إن لم يكن من أهل العلم، وبعض الناس يريد أن يفهم القرآن بجهله وهواه، وما هو فهمه وما هي سليقته العربية وما فهمه للقواعد الأصولية وما إلى ذلك، فيريد أن يفهم القرآن كما يفهمه العلماء ويقول: لسنا ملزمين بأقوال السلف ولهم فهمهم وعصرهم ولنا فهمنا وعصرنا. فهذا باب من أبواب الضلالة، لكن إذا كان البحث مع طلاب العلم واختلف فهمهم للآية، والآية تحتمل والسلف اختلفوا فيها ونحو ذلك فهذا لا إشكال، ولا يلزم بهذا، أما غيرهم فعليهم أن يسألوا ولا يقول: أنا أفهم كما يفهم غيري، يقال: لا، أنت لا تفهم وعليك أن تسأل. والله المستعان؛ لئلا يكون الإنسان قائلًا على الله بلا علم.

س6: يقول: ما الداعي الذي يجعل الإنسان المسلم في ذكره خاشعًا ساكنًا مقبلًا على الله ؟

جـ: هو هذا القلب إذا كان صالحًا مستقيًا تقيًا، وحصل له حضور أثناء الذكر، مع فكرة وتدبر لما يقوله يحصل له هذا إذا حصلت هذه الأمور الثلاثة ينضاف إليها فهم ما يقول فهم المعنى.

س7: يقول: ذكر العلماء، مثل: الضحاك ومقاتل، وعطاء، ومجاهد في اتفاقهم على قول ما، ما المرجع الذي يُرجع إليه الطلاب لمعرفة ذلك؟.

جـ: كتب التفسير: تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن كثير، وأمثال هذه الكتب يذكرون فيها أقوال السلف.

س8: يقول: تحري المال الحلال لا أستطيع أن أحدده بدقة في عملي باعتبار أني أعمل معلم فما المعول على الحكم حتى يُستجاب الدعاء؟.

جـ: يتقي الإنسان ربه في عمله هذا في حضوره وانصرافه وأداء العمل على الوجه المطلوب، وأن يُعلم الطلاب بذمة وأمانة، ويحضر ويستغرق الوقت في الشرح ويخلص في هذا، وينصح لهم ويوجههم وما أشبه ذلك، أما الذي يأتي متأخرًا لا يبالي، ويخرج قبل الوقت، ويتكلم من غير أن يحضر للدرس، فهو مضيع للأمانة وسيخرج جيلًا ضعيفًا يأتون كل يوم ويحضرون ويقضون هذا الوقت ويرجعون من غير طائل، والله المستعان. 

  1. تفسير ابن كثير (1/558)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/558).
  2. تفسير ابن كثير (1/558).
  3. انظر: تفسير الطبري (3/547).
  4. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة:201]، برقم (4522).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا، برقم (2688).
  6. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3099)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (8656).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب قول النبي -ﷺ: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة))، برقم (6389)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، برقم (2690).
  8. تفسير الطبري (3/548).
  9. تفسير الطبري (5/285).
  10. تفسير الماوردي (1/264).
  11. تفسير القرطبي (3/2).
  12. أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، برقم (1949)، والترمذي، أبواب الحج عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، برقم (889)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1703).
  13. أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل، برقم (1888)، وأحمد في المسند، برقم (24468)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (328).
  14. أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في حبس لحوم الأضاحي، برقم (2813)، والنسائي، كتاب الفرع والعتيرة، تفسير العتيرة، برقم (4230)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2284).
  15. تفسير الطبري (3/568).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1521).
  17. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/146).
  18. انظر: تفسير الطبري (3/571)، وتفسير ابن كثير (1/562).
  19. تفسير ابن كثير (1/563).
  20. تفسير القرطبي (3/15).
  21. تفسير ابن كثير (1/563).
  22. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} [البقرة:204]، برقم (2457)، ومسلم، كتاب العلم، باب في الألد الخصم، برقم (2668).
  23. تفسير الطبري (3/578).
  24. تفسير الطبري (3/583).
  25. تفسير ابن كثير (1/563).
  26. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (59).
  27. تفسير ابن كثير (1/564).
  28. نشر البنود على مراقي السعود (1/82).

مواد ذات صلة