السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(016-ب) قوله تعالى "فللوالدين والأقربين واليتامى" الآية 213 إلى قوله تعالى "وإثمهما أكبر" الآية 217
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 1278
مرات الإستماع: 1461

"فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إن أريد بالنفقة الزكاة، فذلك منسوخ، والصواب أن المراد التطوع، فلا نسخ، وقدم في الترتيب الأهم فالأهم، وورد السؤال على المنفق، والجواب عن مصرفه؛ لأنه كان المقصود بالسؤال، وقد حصل الجواب عن المنفق في قوله: مِنْ خَيْرٍ".

فقوله: فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إن أريد بالنفقة الزكاة؛ فذلك منسوخ، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ منسوخ باعتبار أن مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ .. إلى آخره؛ يقول إن أريد بالنفقة الزكاة فذلك منسوخ، منسوخ باعتبار أن الزكاة لا تُصرف للوالدين، والأقربين في بعض الحالات، عند بعض أهل العلم، كقول بعضهم: بأن من يكون معطي الزكاة إذا كان وارثًا للمعطى، فإنه لا يدفع إليه الزكاة، كالأخ مثلًا، إذا كان الذي يدفع الزكاة يرث هذا المعطى فإنه لا يصح أن يعطيه الزكاة، يعني: كما لو كان له أخ ليس له أب، وليس له أيضًا أبناء، ففي هذه الحال فإن الأخ سيكون وارثًا، فلا يعطيه الزكاة؛ لقوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] وهذه الآية فيها كلام لأهل العلم، يأتي إن شاء الله تعالى، فليس هذا المعنى محل اتفاق، على خلاف بينهم بالوارث ما المراد به؟

لكن ليس هناك دليل على أن المقصود بالإنفاق هنا أنه الزكاة، وإنما ذلك في التطوع، وهذا قاله مقاتل بن حيان -رحمه الله-[1]، ولا حاجة للقول بالنسخ، والقاعدة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، يقول: "وقدم في الترتيب الأهم فالأهم" كما في الحديث: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك[2]، يعني: الأقرب فالأقرب، فذكر هنا الوالدين والأقربين، باعتبار أن الوالدين أحق بالإحسان والنفقة، كما هو معلوم، ثم بعد ذلك القرابات، الأقرب فالأقرب، فذلك صدقة وصلة.

ثم ذكر اليتامى باعتبار أنهم غير قادرين على الكسب، مع حاجتهم، فيكون هؤلاء عرضة للضياع، فليسوا كالفقير المسكين الكبير الذي يحمي نفسه، ويستطيع أن يذهب هنا وهناك، قد يحصل شيئًا ويكتسب، لكن هؤلاء لا يستطيعون العمل لصغرهم، ولا يجدون شيئًا تحصل به الكفاية، فهم أولى من المساكين والفقراء؛ لأن حاجتهم أشد.

ثم ذكر المساكين باعتبار أن حاجتهم ملازمة، ثم ذكر ابن السبيل، وهو من انقطع في السفر بذهاب نفقته، فهذا ليس كالمساكين، المساكين حاجتهم مستمرة، وأما هذا فحاجته عارضة -يعني لأمر طرأ عليه- ثم المساكين أكثر من ابن السبيل، فهذه التي تحصل لأبناء السبيل من ذهاب النفقة ونحو ذلك هي حالات قليلة، لكن المساكين والفقراء يوجدون في كل بيئة ومجتمع، فذكر هذه الأصناف مرتبة بحسب الأولوية والأهم.

يقول: "وورد السؤال عن المنفق" يعني: هم يقولون: ماذا ننفق؟ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ وجاء الجواب عن المصرف: الوالدين، والأقربين، يقول: لأنه كان المقصود بالسؤال الذي هو المصرف، وقد حصل الجواب عن المنفق، في قوله: مِنْ خَيْرٍ والخير المقصود به المال، فإن المال يقال له: خير في كتاب الله -تبارك وتعالى- كما في قوله: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة:180] يعني إن ترك مالًا، وكقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] أي: لحب المال، فهنا يكون المنفَق مذكورًا في قوله: مِنْ خَيْرٍ والمنفَق عليه هم هؤلاء الأصناف، فأرشدهم إلى الأولى في هذه النفقات.

"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ إن كان فرضًا على الأعيان فنسخه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122] فصار القتال فرض كفاية، وإن كان على الكفاية فلا نسخ".

(الكَتْب) يأتي بمعنى: الإلزام والفرض، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ إن كان على الأعيان فَنَسَخَه وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122] فصار على الكفاية، لكن كما سبق أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ومن هنا فالقول بأن هذه الآية منسوخة لا يخلو من إشكال، وقد ذهب ابن جرير -رحمه الله- إلى أن المراد بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أي: على مجموع الأمة[3]، باعتبار أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، يعني: ليس بفرض على الأعيان، ونقل على ذلك إجماع الحجة، وعرفنا أن ابن جرير يقصد بذلك قول أكثر أهل العلم.

"كُرْهٌ مصدر كره للمبالغة، أو اسم مفعول، كالخبز، بمعنى: المخبوز".

يعني وهو مكروهٌ لكم، وعلى الأول عبّر بالمصدر وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ على سبيل المبالغة.

"وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا حض على القتال".

يعني كأنه يقول: وما يدريكم بما يكون لذلك من العواقب الحميدة، وإذا كان الإنسان لا يدري عن عاقبة الأمر، والله -تبارك وتعالى- أمره به، وحث عليه، فذلك لا شك أنه إغراء بفعله.

"الشَّهْرِ الْحَرامِ جنس، وهي أربعة أشهر: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم".

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ يعني عن القتال في الأشهر الحرم.

وبعض أهل العلم يبدؤون برجب باعتبار أن ذلك في الترتيب هو الأول، رجب، ثم بعد ذلك تأتي الأشهر الأخرى بعده، وبعضهم يبدأ بذي القعدة، باعتبار أن الثلاثة متوالية، والأمر في هذا يسير.

"قِتَالٍ فِيهِ بدل من (الشهر) وهو مقصود السؤال".

يعني: فهم لا يسألون عن العبادة فيه، ولا عن المعصية، ولا عن شيء آخر، وإنما يسألون عن القتال، فيكون بدلًا من الشهر الحرام.

"قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: ممنوع، ثم نسخه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وذلك بعيد، فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة، لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام، أي: إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم".

قوله: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ سبب النزول ما جاء عن جندب بن عبد الله أن النبي ﷺ بعث رهطًا، وبعث عليهم عبد الله بن جحش إلى نخلة بين مكة والطائف؛ ليأتوا بخبر قريش، فلقوا ابن الحضرمي، في عير لقريش فقتلوه، ولم يدروا هل هو آخر يوم في جمادى أو أول يوم في رجب؟ فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام[4]، يعيرون المسلمين بذلك، فأنزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ فقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرًا فليس لهم أجر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة:218] فهذه الآية جاءت للرد على هؤلاء الكفار، حينما أرجفوا بالمسلمين، بسبب ما وقع من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، ويقول هنا: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: ممنوع، يعني أنه شيء عظيم، ثم نسخه فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] والقول بالنسخ قال به جماعة من السلف: كقتادة، والزهري، ومجاهد[5].

وقال بعضهم: إن الناسخ هو قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية الخامسة من سورة براءة، آية السيف.

وقال بعضهم: مع قوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36] فذلك يعم الأزمنة، هكذا قالوا.

وممن قال بأنها منسوخة أيضًا: ابن عباس، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، والأوزاعي[6].

ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- في كتابه في الناسخ والمنسوخ: "والناس اليوم بالثغور جميعًا على هذا القول، يرون الغزو مباحًا في الشهور كلها، حلالها وحرامها، لا فرق بين ذلك عندهم، ثم لم أر أحدًا من علماء الشام ولا العراق ينكره عليهم، وكذلك أحسب قول أهل الحجاز"[7]، وأبو عبيد القاسم بن سلام، متوفي سنة (224هـ)، وهو الإمام المعروف، الفقيه المقرئ المحدث اللغوي المفسر.

وممن قال بالنسخ: مكي بن أبي طالب في كتابه (الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه)، وكذلك النحاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ)[8]، وابن الجوزي في كتابه (نواسخ القرآن)[9]، ومن المتأخرين السيوطي[10]، والقصد أن أكثر أهل العلم يقولون: بأن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ، وأنه مباح، وأن هذه الآية: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قد نُسخت.

ولكن هذا لا يخلو من إشكال، فالله -تبارك وتعالى- يقول في سورة براءة، وهي آخر ما نزل في القتال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] لكن الذين قالوا بالنسخ قالوا: إن الله قال في هذه الآية: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36].

أما قوله: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] فإن ذلك باعتبار أن المعصية أعظم في الأشهر الحرم، وأما القتال فلا يُستثنى من ذلك الأشهر الحرم، لكن على القول بأن ذلك غير منسوخ يكون قوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً باعتبار الجميع، يعني: قاتلوهم جميعًا، أما ما يتعلق بالأوقات فذلك إذا قاتلونا في الأشهر الحرم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194].

ومن جملة ما يحتج به من يقول: بأن ذلك منسوخ: أن النبي ﷺ غزا عزوة حنين والطائف، وكان بعض ذلك في شهر ذي القعدة، وهو شهر حرام.

والجواب عن هذا: أن النبي ﷺ ما سار إليهم ابتداء، ولكنه حينما فتح مكة بلغه أن هوازن، ومن تبعها قد اجتمعوا في حنين بين مكة والطائف، يريدون النبي ﷺ فخرج إليهم، فكان ذلك على سبيل الرد ومقابلة.

فلو قيل: بأن هذه الآية غير منسوخة لكان هذا أقرب، والله أعلم.

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- كان يقرر أن القتال في الأشهر الحرم نُسخ، ثم تراجع عنه.

ويقول: "وذلك بعيد، فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً" يعني هي عنده منسوخة، لكن بقوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كما يقول ابن جرير -رحمه الله-[11].

يعنى يقولون: إنها منسوخة، لكن اختلفوا في الناسخ ما هو؟ فبعضهم يقول: بالآيتين، وبعضهم يقول بالأولى، وهي: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] وبعضهم يقول بالثانية: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.

يقول: "بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام، أي: إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم" وهذا القول: بأنها ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم، بعيد، والله أعلم.

"وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ابتداء، وما بعده معطوف عليه".

يعني: أنه يرد على هؤلاء الذين أرجفوا بالمسلمين، فقالوا: كيف تقتلون في الشهر الحرام؟ فجاء الرد عليهم بهذه الطريقة، يعني قال: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، فاختلفوا في السائل من هو؟ فبعضهم يقول: إن السائل هم الصحابة  يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ.

وبعضهم يقول: إن السائل هم المشركون على سبيل التهكم والسخرية، هل الشهر الحرام فيه قتال حتى تقتلون ابن الحضرمي؟! يعيرونهم بذلك، والأقرب أن الذي يسأل هم المؤمنون، لكن الذين قالوا: إن السؤال كان من الكفار على سبيل التهكم، قالوا: القرينة فيه الرد الذي جاء بعده: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ثم قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وهذا رد على الكفار الذين أرجفوا بالمسلمين، فيقول: ما أنتم فيه من الصد عن سبيل الله، والكفر به، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه أعظم وأشد من هذا الذي وقع من بعض المسلمين.

"أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خبر الجميع، أي: أن هذه الأفعال القبيحة التي فعلها الكفار أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، الذي عيّر به الكفار المسلمين في سرية عبد الله بن جحش، حين قاتل في أول يوم من رجب، وقد قيل: إنه ظن أنه آخر يوم من جمادى".

والمعنى عند الجمهور: بأنكم تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، والكفر والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهل الحرم منه أكبر جُرمًا عند الله -تبارك وتعالى-.

ويقول: "جناياتكم أعظم من هذا" فهذا رد على هؤلاء الكفار، وقطع للطريق عليهم، حيث استغلوا هذا الحدث للشناعة والإرجاف بأهل الأيمان، فجاء الرد عليهم بهذه الطريقة، وهي طريقة في غاية الأهمية، حيث لم يُمكِّن هؤلاء من النيل من المسلمين ومن الوقيعة بهم، وانظر إلى حالنا حينما يرجف الكفار إذا وقع من بعض من ينتسب إلى الإسلام بعض الحماقات، أو الجهالات، أو البغي، فللأسف يتحول كثير من المسلمين إلى معول هدم، يعودون على دينهم وأئمتهم ومناهجهم الدراسية بالذم والسلب، ورميها بكل قبيح، فكان اللائق أن يقال: إن هذا غلط، وهذا لا يُقر، وهذا انحراف، ولكن ما تفعلونه أنتم أيها الكفار في مشارق الأرض ومغاربها، وأعظم من ذلك الكفر بالله وصد الناس عن الحق، والتلبيس، والإفساد بجميع أنواعه، أعظم من هذا الذي وقع، يُرد عليهم بهذه الطريقة، لا أن يستجاب لدعايتهم، ثم بعد ذلك نقف معهم في هذا العدوان، الذي يوجهونه إلى الإسلام وأهله، ولا يستثنون من ذلك أحدًا، هذا غلط، والله المستعان.

"وَالْمَسْجِدِ عطف على سَبِيلِ اللَّهِ".

يعني وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وعطف قوله: وَكُفْرٌ بِهِ على (صد) قبل أن يستوفي صد ما تعلق به، وهو المسجد، وبعضهم يقول: إنه معطوف على الضمير في (به) في قوله: وَكُفْرٌ بِهِ أي: وكفر به، وكفر بالمسجد الحرام، وهو من باب عطف الاسم الظاهر على الضمير، من غير إعادة حرف الجر.

وبعضهم يقول: معطوف على الشهر الحرام، أي: يسألونك عن الشهر الحرام، وعن المسجد الحرام، لكن هذا لا يخلو من بُعد، فيكون سؤالهم بهذا الاعتبار عن شيئين:

 الأول: القتال في الشهر الحرام.

والثاني: القتال في المسجد الحرام، باعتبار أنهم لم يسألوا عن ذات الشهر، ولا عن ذات المسجد، وإنما سألوا عن القتال فيهما، لكن الذي يظهر أن السؤال كان عن الشهر الحرام هل يقاتَل فيه؟ فجاء الجواب: بأن القتال فيه كبير، ثم بعد ذلك رد على الكفار بقوله: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فهذا رد على الكفار.

"حَتَّى يَرُدُّوكُمْ قال الزمخشري: حتى هنا للتعليل".

يعني تقول مثلًا: كافأتك حتى تستمر في الاجتهاد، يعني: من أجل أن تستمر، وتقول: عاقبتك حتى لا تعود لهذا الفعل، للتعليل.

فهي للغاية، فالقتال مستمر وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا فالقتال مستمر إلى هذه الغاية، إلى أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولكنه أمر بعيد؛ ولهذا جاء بهذا الاحتراز في قوله: إِنِ اسْتَطَاعُوا وجاء بـ(إن) التي تدل على بعد وقوع ذلك، وهم لن يستطيعوا، فهؤلاء الكفار لن يتوقفوا عن قتال المسلمين إلى هذه الغاية، حتى يرتد المسلمون عن دينهم، وأما الرضا فإن هذا لا يتحقق، إلا كما قال الله : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فالرضا لا يتحقق إلا باتباع الملة، فإذا اتبع ملة اليهود غضب النصارى، وإذا اتبع ملة النصارى غضب اليهود حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ ولم يقل: إلى دين كذا، وإنما قال: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ فليس المهم أن يتحولوا إلى وثنيين، أو إلى أهل كتاب، وإنما المقصود ترك الحق والإسلام والدين بالكلية، إلى أي دين كان.

"فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ذهب مالك إلى أن المرتد يحبط عمله بنفس الارتداد، سواء رجع إلى الإسلام، أو مات على الارتداد، ومن ذلك انتقاض وضوئه، وبطلان صومه".

ويترتب على هذا أن أعماله الصالحة التي عملها كلها بطلت، فإذا رجع إلى الإسلام يستأنف عملًا جديدًا، فإن كان قد حج قبل ردته فعليه أن يحج حج جديدة؛ لأن حجته الأولى قد بطلت، وهكذا سائر أعماله، والله قال: فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ في الدنيا مثل: انتقاض وضوئه، وبطلان صومه، ومن ذلك الحج إن كان دخل في الإحرام، وحصل له ردة، وكذلك أيضًا عقد النكاح، هذا كله في الدنيا، وفي الآخرة بذهاب الثواب.

"وذهب الشافعي إلى أنه: لا يحبط إلا إن مات كافرًا؛ لقوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ".

وهذا هو الراجح، وأن المطلق محمول على المقيد، فحبوط الأعمال مقيد بالموت على الكفر، والآيات والنصوص المطلقة تُحمل على هذا المقيد فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ومن ثم فإنه لو حج، ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام، فإنه يكفيه حجه الأول، ولا يحتاج إلى حج جديد، وتكون أعماله الصالحة التي عملها قبل الردة محفوظة، فإذا كان الكافر إذا أسلم قال له النبي ﷺ: أسلمت على ما أسلفت من خير[12]؛ ليعتد له بأعماله الصالحة التي عملها في الجاهلية، فالذي كان على الإسلام فحصل له ردة أولى بأن تبقى أعماله الصالحة مدخورة لا تحبط.

"وأجاب المالكية: بأن قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ جزاء على الردة، وقوله: أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء على الموت على الكفر، وفي ذلك نظر".

المالكية يجيبون عن هذا فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ بأن قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ جزاء على الردة، وأن الخلود في النار يكون ذلك باعتبار الموت على الكفر، لكن الآية عامة فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ، فالفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدنيا، فلا تحبط إلا إذا كان قد مات على الكفر بهذا القيد، والحبوط معروف، وذكرناه في الكلام على الغريب أنه بمعنى البطلان والألم، وأصله أن تكثر الدابة من الأكل حتى ينتفخ بطنها.

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا  الآية الآية نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه".

يعني الحادثة التي قُتل فيها ابن الحضرمي في الشهر الحرام، في شهر رجب، لكن الرواية ضعيفة، لما سألوا: أتطمع أن تكون لنا غزوة؟ ولكن الرواية التي ذكرتها قبل: أنه قال بعض الصحابة : إن لم يكن عليهم وزر، فليس لهم أجر، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا... إلخ.

فهذه الرواية ثابتة، فيكون سبب النزول هو قول أولئك: بأنهم إن سلموا من الوزر، ليس لهم أجر. ومؤدى ذلك أنها نزلت في عبد الله بن جحش ومن كان معه، وكانوا ثمانية كلهم من المهاجرين.

"الْخَمْرِ كل مسكر من العنب وغيره".

الخمر: مأخوذ من (خَمَر) إذا سَتَر، وهنا يقول: "كل مسكر من العنب وغيره" منه خمار المرأة؛ لأنه يغطي الوجه ويستره، وقيل: بأن الخمر سميت بذلك؛ لأنها تستر العقل بهذا الاعتبار، وهذا هو الأقرب، وبعضهم يقول: سميت بذلك؛ لأنها تُركت حتى أدركت.

هنا يقول: "كل مسكر من العنب وغيره" وهذا رد على من خص الخمر عند الإطلاق بأنها ما كان من عصير العنب المسكر، والواقع أن الخمر في ذلك الوقت ما كانت محصورة بعصير العنب، ثم إن العلة التي من أجلها حرمت الخمر هي الإسكار، فذلك في أي نوع كان مما يحصل بتعاطيه السُكر، سواء كان ذلك مشروبًا، أم مأكولًا، أم مشمومًا، أم يُتعاطى بطريق آخر بالوريد، أو غيره، وقد جاء عن ابن عمر، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والربيع، وعبد الرحمن بن زيد[13]: بأن أول آية نزلت في الخمر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، فنهوا عن أن يقربوا الصلاة، وهم سكارى، ثم نزلت الآية التي في المائدة: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] فحرمت الخمر.

وعلى هذا فإن الآية التي يذكر بعض أهل العلم أنها أول آية نزلت في الخمر، وهي قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67] يخالف هذا القول قول هؤلاء من السلف: إن أول آية نزلت في الخمر هي هذه.

أما ذاك السَكَر فالمقصود به العصير غير المسكر، قالوا: والله لا يمتن عليهم بالمسكر، ولو كان ذلك قبل التحريم؛ لما فيها من المفاسد.

"وَالْمَيْسِرِ القمار، وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور، ثم يدخل في ذلك النرد والشطرنج، وغيرهما، وروي أن السائل عنها كان حمزة بن عبد المطلب ".

الميسر يقول: "القمار" وأصله من يَسَرْت إذا ضربت بالقداح، أو من يَسَر ييسر، وتفسيره بالقمار جاء عن جماعة من السلف كثير: كابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود ومجاهد، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، ومقاتل، والسدي، وعطاء الخرساني، ومكحول، وعطاء بن ميسرة[14]، كل هؤلاء قالوا: إن الميسر هو القمار.

وقد جاء عن جماعة من السلف بأن كل شيء فيه قمار من نرد، أو شطرنج، أو غيرهما، فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوزي والكعاب، فالصبيان قديمًا كان عندهم ألعاب بالجوز وألعاب بالكعب، وقد كتب بعضهم رسالة في ألعاب الصبيان قديمًا، ما هي ألعاب الصبيان؟ فشرحها، وتجدون هذه مبثوثة أيضًا في كتب اللغة، فهذا أدخلوه في الميسر، وهذه الألعاب التي يحصل فيها عوض، ونحو ذلك أدخلوها في الميسر، والنبي ﷺ يقول: لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر[15]، وألحق بعض الفقهاء ما ينفع المسلمين، ويكون قوة لهم من حفظ القرآن والسنة والعلم والفقه، ونحو ذلك، لكن الأشياء الأخرى التي ليس فيها هذا، فتدخل في الميسر.

ومن الأشياء الشائعة بين الصبيان في العصر الحديث: اللعب الذي بـ(التيل) فهذا من الميسر أيضًا، فبأي حق إذا أصاب هذه أَخَذَها، كان الصبيان منذ زمن قصير في الشوارع -في كل ناحية- يلعبون هذه الألعاب، فهذا من الميسر.

وقوله هنا: "وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور" كان العرب يشترك العشرة في الجزور، ويجعلون ذلك على أسهم، ثم بعد ذلك يجرون على أنفسهم هذه القداح، عن طريق الياسر، وهو صاحب هذه القداح، فيضعها في كيس، أو نحو ذلك، ويدخل يده، وهذه القداح مكتوب عليها عبارات تدل على ظفر، أو خسران، أو ليس فيها شيء، فيخرج هذه القداح، فمن ظهر له شيء من الظفر، فإن هذا السهم من الجزور يكون على الآخر الذي خسر، فيكون لهذا من قبيل الكسب، فيكون حاصلًا له، ويغرم ثمنه الذي لم يظهر له الظفر، وهكذا، ثم هذا الجزور يعطونه للفقراء، وكانوا يتفاخرون في ذلك، على خلاف في التفاصيل في طريقتهم في هذا.

ويقول الإمام مالك -رحمه الله-: الميسر ميسران: ميسر اللهو كالنرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار، وهو ما يتخاطر الناس عليه[16]. يتخاطرون يعني: فيه عوض، والأول بدون عوض، هذا الميسر.

وميسر الهوى على هذا: كالنرد والشطرنج والملاهي كلها، يدخل في هذه الأشياء: لعب الكيرم، وما يحتف به، ويشبهه من أنواع اللهو التي هي بأسماء كثيرة -لا أحسنها- معروفة عند هؤلاء الذين يلعبون بها، مثل: الظمنة وغيرها، من الألعاب القديمة، وغيرها مما استجد.

"إِثْمٌ كَبِيرٌ نص في التحريم، وأنهما من الكبائر؛ لأن الإثم حرام؛ لقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف:33] خلافًا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة، لا هذه الآية".

قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ذهب ابن جرير -رحمه الله- إلى أن المراد بالإثم هنا: ما نتج عنهما[17]، باعتبار أن الآية هذه قبل تحريم الخمر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ ولو كان المقصود بذلك هو نفس الخمر، فإن ذلك يكون حرامًا باعتبار أن الخمر حرمت بآية المائدة، وحينما نزلت هذه الآية لم تكن الخمر محرمة، فحرمت على التدريج، إذن أين الإثم؟ قال: ما نتج عنهما، والذين ينتج عنهما أنه إذا سَكِر قد يسب نفسه، ويسب دينه، ويسب أهله ووالديه، ويعتدي ويضرب ويتلف ويقتل، وهكذا في الميسر يؤدي إلى: العداوة، والبغضاء، وأخذ أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك، كما هو معلوم، فحملها ابن جرير على الأثر المترتب، وهذا باعتبار أن ذلك قبل التحريم.

وابن جزي نظر إلى هذا الوصف للخمر والميسر، فقال: نص في التحريم، وأنهما من الكبائر؛ لأن الإثم حرام، لقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف:33] فابن جزي يعتبر أن تحريم الخمر بهذه الآية، وليس بآية المائدة، وهذا مشكل باعتبار أن آية النساء نهاهم فيها عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] ويمكن أن يجيب عن هذا:

أن الخمر حرام، وأن الصلاة حال السكر لا تصح، باعتبار أن النهي يقتضي الفساد؛ وذلك على الأقرب -والله أعلم- إذا كان في مثل هذه الصورة، يعني: متصلًا بالعبادة المعينة، أو العمل المعين، يقول: "خلافًا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة لا هذه الآية"، وبعضهم يقول: تضمنت هذه الآية ذم الخمر لا تحريمها، حيث ذكر ما فيها من الإثم والمنافع، وهذا مروي عن جماعة كبيرة من السلف: كابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل[18].

وقال بعضهم: بأن هذه الآية دلت على التحريم، كما يقول ابن جزي، وهذا مروي عن الحسن البصري، وعطاء، وبه قال من أصحاب المعاني: الزجاج[19]، وبه قال أيضًا أبو يعلى[20].

أصحاب القول الأول يقولون: إن قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا أنه بعد التحريم؛ لأنه إذا كان الإثم أكبر من النفع، فهذا حرام؛ لأنه كما يقول الشاطبي -رحمه الله-: لا يوجد في هذه الحياة الدنيا لذة خالصة[21]، لا بد أن تكون مشوبة، فالعبادات فيها مشقة، ونحو ذلك المطعومات، والمباحات، فيها جانب من الضرر، لكنه يسير والعبرة بغالب النفع، فيكون حلالًا، فإذا غلب الضرر كان حرامًا، فالشاطبي يقول: لا يوجد منفعة خالصة في الدنيا كما لا يوجد مضرة خالصة في الدنيا، وإنما الضرر والشر المحض موجود في النار.

فقوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا هذا بعد التحريم، وبهذا قال ابن عباس ومقاتل[22]، يعني: أن المنافع قبل التحريم بالتجارة، ومن قال: إن هذه الآية تدل على التحريم، فما الإثم والمنافع؟ قالوا: باعتبار أن إثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما، هكذا قالوا، أي لما كان الأمر محتملًا للتأويل، قال عمر بعد نزولها: اللهم بين لنا[23]، لأنه يمكن لأحد أن يتأول فيقول: إذا كان فيها منافع، فلماذا لا ننتفع بها؟ لكن على كل حال المشهور أن هذه الآية كانت توطئة لتحريم الخمر، ولم يحصل التحريم بها، وإنما كان التحريم بآية المائدة، وهنا ذكر لهم بأن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وذكر هنا شيء من المنافع.

"وَمَنافِعُ في الخمر التلذذ والطرب، وفي القمار الاكتساب به، ولا يدل ذكر المنافع على الإباحة، قال ابن عباس: المنافع قبل التحريم، والإثم بعده".

هنا في الخمر المنافع يقول: التلذذ والطرب، والخمر يذكرون فيها أشياء من المنافع بأن الجبان يكون شجاعًا، والبخيل يكون جوادًا، وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: تهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة، وكذلك أيضًا البيع، والانتفاع بثمنها[24]، ولكن العبرة بما غلب، وهذه قاعدة في الشريعة في المحرمات والمباحات: ما غلب ضرره على نفعه فهو حرام.

وأما القمار فقال: "الاكتساب به" وذكر ابن كثير أيضًا ما كان يقمشه بعضهم من الميسر، فينفقه على نفسه وعياله[25]، فيكتسب من غير تعب، وما يحصل له بسبب ذلك من الفرح والظفر، ونحو هذه المنافع، لكنها منافع فاسدة.

"وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ تغليبًا للإثم على المنفعة، وذلك أيضًا بيان للتحريم".

وهذا على القول الذي مشى عليه، لكن سبب النزول مشهور، في حديث عمر لما نزل تحريم الخمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا[26]. فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال: فدُعي عمر، فقُرأت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربن الصلاة سكران، فلو كانت الخمر محرمة فكيف يكون هذا مع النداء؟! فدل على أنه كان مباحًا؛ ولهذا كانوا يشربونها بعد العشاء من أجل أن يفيقوا قبل الفجر، أو يشربونها بعد الفجر من أجل أن يفيقوا قبل الظهر، يعني: ما يشربونها في الأوقات المتقاربة، فكانت مباحة، فدعي عمر  فقُرأت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقُرأت عليه، فلما بلغ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا، وعمر من أعلم الناس باللغة، ومن أفقه الناس في كتاب الله -تبارك وتعالى- فلم يفهم من تلك الآيات التحريم مطلقًا، والله أعلم.

 

  1. تفسير مقاتل بن سليمان (5/174).
  2. أخرجه أحمد ط الرسالة (11/674-7105) وقال محققو المسند: "إسناده حسن".
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/645).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/659).
  5. البحر المحيط في التفسير (2/384).
  6. البحر المحيط في التفسير (2/384) وزاد المسير في علم التفسير (1/182).
  7. الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام - محققا (1/208).
  8. الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:111).
  9. نواسخ القرآن = ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي (ص:66).
  10. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/495).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/252).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده برقم: (123).
  13. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/579).
  14. تفسير ابن أبي حاتم (2/390).
  15. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق برقم: (1700) وصححه الألباني.
  16. البحر المحيط في التفسير (2/404).
  17. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/679).
  18. زاد المسير في علم التفسير (1/185).
  19. زاد المسير في علم التفسير (1/185).
  20. زاد المسير في علم التفسير (1/185).
  21. الموافقات (2/46).
  22. البحر المحيط في التفسير (2/406).
  23. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة برقم: (3049) وأبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر برقم: (3670) وصححه الألباني.
  24. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/579).
  25. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/579).
  26. سبق تخريجه.

مواد ذات صلة