السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(018) قوله تعالى "عرضة لأيمانكم" الآية 222 إلى قوله تعالى "أو تسريح بإحسان " الآية 227
تاريخ النشر: ١٥ / جمادى الآخرة / ١٤٣٧
التحميل: 1467
مرات الإستماع: 1458

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ۝ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:224-229].

عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، أي: لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه، و أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله أي: نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا، وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا وتتقوا، وافعلوا البرّ والتقوى دون يمين، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه، والـ عُرْضَةً على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان، إذا أكثر التعرّض له، وقيل: عُرْضَةً مانع، من قولك: عرض له أمر حال بينه وبين كذا، أي: لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر والتقوى، ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بـ عُرْضَةً؛ لأنها بمعنى مانع.

قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، العرضة قيل: أصل ذلك هو النصبة، يعني: ما تعرضه دون الشيء يكون حاجزًا له، أي: لا تجعلوا الله حاجزًا أو مانعًا لما حلفتم عليه، وهذا قول الجمهور، وهو القول الأخير الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- وهو مروي عن ابن عباس، ومسروق، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومقاتل، والربيع، والضحاك، وعطاء الخرساني، والسدي، ومجاهد، وطاووس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، والزهري، والحسن، وهو اختيار الحافظ ابن كثير -رحم الله الجميع-[1].

فهذا قول عامة أهل العلم، وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ: لا تجعلوا الله حاجزًا أو مانعًا، أو حائلًا لما حلفتم عليه.

وهنا قال: لا تكثروا الحلف بالله، فتبدلوا اسمه. هذا قول آخر وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ؛ لذلك تجد في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- باب ما جاء في كثرة الحلف، ووجه دخول هذا الباب في كتاب التوحيد: أن كثرة الحلف منبأ عن استخفاف باسم الله -تبارك وتعالى- ومقام الرب -- فلو عظّمه ما كان على لسانه في الحلف، يحلف به على كل شيء مما يستحق وما لا يستحق، فهذا فيه ابتذال، ولهذا جاء عن بعض السلف: كإبراهيم النخعي -رحمه الله-: أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف لئلا يعتاد، ويُكثر من ذلك فيبتذل اسم الله -تبارك وتعالى-[2].

يقول: و أَنْ تَبَرُّوا، على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله أي: نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا.

من أجل أن تبروا.

يقول: وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا وتتقوا، وافعلوا البرّ والتقوى دون يمين، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه. لا تحلفوا على أن تبروا وتتقوا، وافعلوا البر والتقوى دون يمين فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه، وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، يعني: من أجل أن تفعلوا البر، يعني: افعل البر من غير حلف، فيُعظم اسم الله -تبارك وتعالى- ويصان، وهذا توجيه غير الأول، الأول: لا تبتذلوا اسم الله -تبارك وتعالى- كي تبروا، وهنا: لا تحلفوا على أن تبروا -يعني: أن تفعلوا البر- افعلوه من غير حلف.

يقول: والـ عُرْضَةً على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان، إذا أكثر التعرّض له. يعني: هذا يُكثر الحلف من أجل أن يفعل البر. وقيل عُرْضَةً مانع.

هذا القول الذي ذكرته أنه قول الجمهور، من قولك: عرض لك أمر، حال بينه وبين كذا، أي: لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر والتقوى، وعليه فـ أَنْ تَبَرُّوا يكون عطف بيان أَيْمَانِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا، أي: لا تجعلوا الله مانعًا للأيمان التي هي بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، فيترك الإنسان العمل الطيب والبر والإصلاح بين الناس بحجة أنه حلف بعذر أنه حلف ألا يفعل.

قال: ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بـ عُرْضَةً، لأنها بمعنى مانع.

وقصة أبي بكر مع مسطح فيه نزلت الآية الأخرى في سورة النور: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى... [النور:22][3]، ولا يأتل من الألية وهي والحلف، يعني لا يحلف، فهذا بهذا المعنى، والله أعلم.

وبعضهم يقول: بأن العرضة من الشدة والقوة. يعني: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم في الامتناع من الخير، وهذا اختيار أبي جعفر ابن جرير -رحمه الله-[4]، وهو في المآل يرجع إلى قول الجمهور من جهة أن اليمين كانت سببًا لترك الخير، بخلاف القول الآخر الذي كان النهي فيه من أجل ألا يُبتذل اسم الله -تبارك وتعالى- يفعل الخير من غير حلف، لا تحلف من أجل أن تبر وتصلح بين الناس، هنا لا تمتنع، لماذا لا تمتنع؟ إما بالتقوي باليمين على الامتناع، أو بجعل اليمين معترضة دون فعل الخير، فهذان يرجعان إلى الترك: ترك البر والإصلاح بين الناس بسبب اليمين، إما لأنها مقوية، وإما بسبب أنها مانعة فهي معترضة، وبعضهم يقول: هو من قول الناس: فلان عرضة للناس.

يعني: يقعون فيه، فهذا بمعنى القول السابق: أن ذلك النهي من جهة الابتذال، كما قال الله : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، فعلى بعض المعاني وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ، يعني: لا تُكثر الحلف على أحد المعاني، وإلا قد فُسر بأن يحفظ اليمين فلا يحنث فيها إلا إذا كان ذلك خيرًا.

وعلى كل حال يعني يكون المعنى في نهايته أن لا تكثر من الحلف واليمين، أو لا تجعل الله -تبارك وتعالى- عرضة لليمين إرادة للبر، لا تجعله معرضًا لأيمانكم من أجل البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وذلك أن من يكثر منه اليمين والحلف يكثر منه الحنث، وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، فحصل الابتذال والاستخفاف من الجهتين: من جعله على لسانه في كل شيء، وكذلك في كثرة الحنث، يعني: لم يعد لليمين قيمة، جاء في الصحيحين مما يوافق المعنى الذي ذكره الجمهور من الامتناع عن فعل الخير كما وقع لأبي بكر الصديق في النفقة على مسطح، جاء في الصحيحين عن زهدم الجرمي، قال: كنا عند أبي موسى، فأتي -ذكر دجاجة- وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطعام، فقال: إني رأيته يأكل شيئا فقذرته، فحلفت لا آكل، فقال: هلم فلأحدثكم عن ذاك، إني أتيت النبي ﷺ في نفر من الأشعريين نستحمله، فقال: «والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم»، وأتي رسول الله ﷺ بنهب إبل، فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟، فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا، فرجعنا إليه، فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحلفت أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها[5].

وفي صحيح مسلم في خبر الرجل الذي حلف ألا يأكل من أجل صبيته ثم بدا له فأكل، هو حلف على امرأته ألا يأكل لما نام الصبية وما طعموا، ثم بدا له، فأكل فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه[6].

فهذا كله في هذا المعنى ألا تكون اليمين حائلًا دون فعل البر، وهل تجتمع معه بعض المعاني المذكورة وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، يعني: لا تكثروا الحلف كأن يحلف الإنسان من أجل أن يفعل البر، افعل من غير حلف، وكذلك أيضًا تعليل هذا بالنهي عن ابتذال اسم الله -تبارك وتعالى- هذا لا يبعُد، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، لا تكثر من الحلف فتبتذل اسم الله، افعل الخير من غير حلف، وكذلك لا تجعل الحلف مانعًا من فعل الخير، والله أعلم.

بِاللَّغْوِ الساقط، وهو عند مالك قولك: نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد، وفاقًا للشافعي[7]، وقيل: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه وفاقًا لأبي حنيفة[8]، وقال ابن عباس: اللغو الحلف حين الغضب[9]، وقيل: اللغو اليمين على المعصية، والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة.

هذه الأقوال كما سيأتي ليست متنافية لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ لما وجههم فيما يتصل بالأيمان المانعة التي يحصل الحنث بها، مانعًا فعل الخير، الأيمان التي يجزم بها صاحبها ويعقد قلبه على مقتضاها ذكر لهم النوع الآخر من الأيمان وهو ما لا كفارة فيه، ما هذه الأيمان التي لا كفارة فيها؟ يجمعها هذا الوصف، أنها لغو لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ، فاللغو هو ما يجري في الكلام من غير عقد القلب ولا قصد.

ولهذا يقال أيضًا للباطل من الكلام يقاله له لغو لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم:62] [الواقعة:25] [النبأ:35]، الكلام الباطل، الكلام الذي لا قيمة له، فذلك من اللغو، لكن هنا الجامع المشترك لهذا المعنى، الكلام الباطل بمعنى أنه لا يترتب عليه حكم إذا أردنا أن ننزل ذلك على اليمين، فهو يجري على لسانه من غير قصد اليمين، ولهذا قال هنا: باللغو الساقط.

يعني غير المعتبر، لا يترتب عليه حكم، قال: وهو عند مالك قولك: نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد.

هذا المعنى الذي ذكرناه ما يجري على لسان الإنسان يقول: والله ذهبت إلى مكان كذا، والله إني في شوق لرؤيتك، ونحو ذلك مما يجري على ألسن الناس لا يقصدون به اليمين، وفاقًا للشافعي وهو أحد القولين لعائشة -ا- وبه قال ابن عمر، وابن عباس في أحد أقواله، وكذلك الشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعطاء، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وبه قال أبو قلابة، والضحاك في أحد قوليه، وأبو صالح، والزهري[10].

يعني: ما يجري على اللسان من غير قصد، وقد جاء عن عائشة -ا- مرفوعًا وموقوفًا: اللغو في اليمن هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله[11].

وهذا قول الجمهور، الذي أضافه هنا إلى مالك والشافعي، وذكرت من قال به من السلف هذا قول الجمهور سلفًا وخلفًا، وبعضهم يقول: أن يحلف بحسب ظنه فيتبين على خلافه.

يعني: إذا حلف الإنسان على شيء وتبين أنه على خلاف ما حلف عليه فهذا لا يترتب عليه كفارة ولا إثم وليس من قبيل الكذب شرعًا المذموم، فإذا حلف أن زيدًا قد سافر، يظن أنه كذلك، فتبين أنه لم يسافر، فمثل هذا لا يترتب عليه حكم، لا يؤاخذ شرعًا، ولا يكون فيه كفارة، اليمين التي يترتب عليها الكفارة عند الفقهاء هي التي يعبرون عنها بإلزام المكلف نفسه، أو إلزام المكلف نفسه أو غيره بفعل أو ترك -يعني في المستقبل- هذه اليمين التي يترتب عليها الكفارة، تحلف عليه تقول: والله أن تأكل من هذا الطعام مثلًا، والله لا آكل من هذا الطعام، ونحو ذلك، فهذا على أمر مستقبل أن يفعل أو يترك، هذه اليمين التي عند الفقهاء التي يترتب عليها الحنث، ما الذي يخرج عنها؟ يخرج عنها ثلاثة أشياء:

الأول: يخرج عنها ما يجري على اللسان من غير قصد اللغو.

الثاني: يخرج عنها أيضًا اليمين الغموس، حلف على شيء، يعني اليمين التي هي في الخبر سواء كان كاذبًا أو صادقًا، فالغموس إذا كان كاذبًا، حلف أنه اشترى هذه السلعة بكذا مثلًا، حلف أنه ما رأى زيدًا وهو كاذب، حلف أن زيدًا قد سافر، وهو كاذب، حتى لو تبين أنه سافر فعلًا لكن هو يعتقد أنه مقيم -حلف كاذبًا- فهذه هي اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار، هذه من الكبائر ولا تكفرها كفارة اليمين، وإنما عليه التوبة العظيمة، وكثرة الاستغفار ونحو ذلك من العمل الصالح، والصدقة، ونحو ذلك فهذا جُرم عظيم أكبر من أن تكفره كفارة اليمين.

الثالث: اليمين التي يذكرها المؤلف، وهي أن يحلف على شيء يظنه، خبر يعني، يخبر عن شيء فيتبين خلاف ما قال، أنه على خلاف ما ذكر، فهذه ليس فيها كفارة، وليس فيها إثم، اليمين الغموس ليس فيها كفارة على الراجح وفيها الإثم، هذه لا كفارة ولا إثم، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ألحق بهذا -يعني ما لا يترتب عليه كفارة- أن يحلف الإنسان بقصد الإكرام[12]، يحلف على الإنسان أن يطعم معه، أن يجلس في هذا المكان، أن يتقدم في المجلس، أن يجلس في مكانه، أو نحو ذلك، فهذا المقصود منه الإكرام، ألا يسافر حتى ينزل ضيفًا عنده، أو نحو هذا، فشيخ الإسلام يرى أن هذا لا كفارة فيه مع عزمه وجزمه لكن يرى أن المقصود من هذا هو الإكرام، وقد حصل الإكرام بما قال، يعني كما نعبر الآن نقول: وصلت الرسالة نريد إكرامه فالرجل امتنع أبى أن يجلس في المكان امتنع أن ينزل ضيفًا عنده، اعتذر إليه، فشيخ الإسلام يرى أن هذا لا كفارة فيه، فهذا على كل حال كله مما لا يدخل فيه الكفارة.

وبعضهم يقول: اللغو في الأيمان هو اليمين المكفرة. وهذا بعيد إلا إذا أدخلناه في المعنى الكبير الذي أشرت إليه في أول الكلام: أن ما لا كفارة فيه، لكن هنا أخرج الكفارة فيقصد هنا القائل بذلك أنه لا تبعة فيه، يعني: لا إثم ولا مؤاخذة، لما أخرج الكفارة تحلل من هذه اليمين، لكن هذا فيه بعُد، وبعضهم يقول: اللغو في اليمين هي يمين المعصية.

وبعضهم يقول: دعاء الرجل على نفسه. ودعاء الرجل على نفسه ليس بيمين، وجاء عن ابن عباس -ا-: أن تحلف وأنت غضبان. يعني: يشير إلى اليمين التي لا يترتب عليها حكم أن يحلف وهو غضبان، قال: فذلك ما ليس عليك فيه كفارة. وجاء نحوه عن سعيد بن جبير -رحمه الله-.

يقول المؤلف: وقيل: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه. وهذا أيضًا مروي عن عائشة -ا- القول الآخر لها، وقلنا الأول أحد القولين لعائشة، وهو مروي عن أبي هريرة، وابن عباس في أحد أقواله، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد في أحد أقواله، والحسن، وإبراهيم، وزرارة بن أوفى، وبه قال أبو مالك، وعطاء الخرساني، وبكر بن عبد الله وهو قول أيضًا لعكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاووس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد[13].

قال: "وفاقًا لأبي حنيفة". ابن جرير -رحمه الله- حمله على المعنى الأعم: وهو أنه كل يمين لا كفارة فيها[14]، فهذه المعاني المذكورة أولاها -والله تعالى أعلم- هو قول الجمهور: وهو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد ولا عقد: كلا والله، وبلى والله، ونحو ذلك، هذا يدخل فيه دخولًا أوليًا فإذا أردنا أن نوسع المعنى فيقال: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ كل يمين لا يترتب عليها كفارة ولا إثم، حتى نخرج اليمين الغموس فيها مؤاخذة وإثم عظيم لكن لا كفارة فيها، وإنما يدخل في هذا الأيمان التي لا كفارة ولا إثم، مثل: لو حلف على شيء يظنه كذا فتبين على خلافه فهذه لا كفارة فيها ولا إثم، يدخل فيها اليمين في حال الغضب الذي لا تُعتبر فيه اليمين، الغضب درجات ثلاث:

النوع الأول: بالاتفاق لا يترتب عليها اعتبار طلاق ولا عتاق ولا حلف وهو الغضب في إغلاق، إذا وصل الإنسان إلى حال لا يدري ما الذي قال، صار مثل السكران، فهذا إذا حلف فيمينه ليست بشيء.

النوع الثاني: من الغضب: الغضب الشديد لكن يعقل ما قال، هذه مرتبة متوسطة فيها خلاف أهل العلم، هل يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟

النوع الثالث: هو الغضب اليسير الذي لا يحصل معه تغير في إدراك الإنسان وضبط تصرفاته ونحو ذلك، فهذا مؤاخذ عليه بالاتفاق.    

بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، أي: قصدت فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدًا، وهو حرام إجماعًا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافًا للشافعي.

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، هذه قرينة تؤيد قول من قال: بأن اللغو في اليمين هو ما يجري على اللسان من غير عقد ولا قصد.

قال: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، لاحظ القول الآخر: بأنه إذا حلف على شيء يظنه كذا فتبين على خلافه. هذا مما يعقد عليه القلب لكنه خبر، مجرد الخبر الذي لا يتضمن إنشاء هذا ليس فيها كفارة، ولكن فيه الإثم إذا كان كاذبًا، فهذا ينعقد عليه القلب ويقصده، فإذا أردنا أن نرجح نقول: هو ما يجري على اللسان: كلا والله، وبلى والله، لكن هذا ينعقد عليه القلب الإخبار، لكن من نظر إلى المعنى ولم ينظر إلى هذه القرينة -والله أعلم- قال: كل ما لا مؤاخذة فيه لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فكل ما لا مؤاخذة فيه فهو داخل في ذلك.

وإذا أردنا أن نرجح أحد الأقوال فهذه قرينة مرجحة للقول الأول: ما يجري على اللسان من غير قصد، وأما هذا الذي حلف على شيء يظنه كذا فهذا غير مؤاخذ بأدلة أخرى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلت[15].

وقوله ﷺ: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم[16].

أما حديث: إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه[17]، فهذا لا يصح.

لكن يكفي: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.

قال: أي: قصدت فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدًا، وهو حرام إجماعًا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافًا للشافعي.

 وهذا الذي قاله ابن عباس قاله به مجاهد أيضًا، ونقل أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- الإجماع على أن معنى كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، أي: ما تعمدت قلوبكم[18].

وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[19] وحملها ابن جرير على المعنيين[20].

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، يعني: هذا الذي يترتب عليه الكفارة، وكذلك أيضًا اليمين الغموس؛ لأنه تعمد الحلف والكذب فيه عند ابن جرير، فالمؤاخذة هنا ليست بمجرد الكفارة.

يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يحلفون على ترك وطئهن وإنما تعدى بـ (من) لأنه تضمن معنى البعد منهن، ويدخل في عموم قوله: (الذين) كل حالف حرًا كان أو عبدًا، إلا أن مالكًا جعل مدة إيلاء العبد شهرين، خلافًا للشافعي، ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافًا للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية، ولا يكون موليًا عند مالك والشافعي، إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدًا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقف المولي عند مالك والشافعي، فإما فاء وإلا طلّق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ الإيلاء في اللغة: هو بمعنى الامتناع باليمين، فالألية هي الحلف: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، يعني ولا يحلف، تقول: آليت ألا أفعل كذا. يعني حلفت، لكنه في الشرع أخص من مطلق الحلف فهو الامتناع باليمين عن وطء الزوجة، فهو حلف خاص.

يقول: "يحلفون على ترك وطئهن يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ"، وإنما تعدى بـ (من) لأنه تضمن معنى البعد منهن. ويمكن أن يقال: تضمينًا له بمعنى يمتنعون.

تكلمنا عن التضمين في بعض المناسبات، وأن معاني الأفعال تُعرف بما تتعدى به، وأن مذهب الكوفيين هو القول بتضمين الحرف معنى الحرف، وقول فقهاء النحاة كما يقول ابن القيم -رحمه الله- قول البصريين: هو تضمين الفعل معنى الفعل، وهذا أكثر في المعنى وأدق فيكون المعنى أوفر، وذكرنا له أمثلة في بعض المناسبات.

فهنا الإيلاء يُؤْلُونَ مضمن معنى الامتناع، فالامتناع يتعدى بـ (من) يمتنعون من نسائهم، المؤلف هنا يقول: تضمن معنى البعد يُؤْلُونَ مِنْ يبتعدون من، فهو حلف وامتناع، حلف وبعُد، يعني هذا التضمين التعدية بحرف "من" أفاد أن الفعل المذكور يؤلون مضمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بمن فدل على معنى البعد أيضًا أو الامتناع، والامتناع أليق بذلك.

يقول: ويدخل في عموم قوله: (الذين) كل حالف حرًا كان أو عبدًا. يعني المملوك إذا آلى من امرأته، له زوجة وآلى منها وهذا ظاهر من العموم في الآية، إلا أن مالكًا جعل مدة إيلاء العبد شهرين، خلافًا للشافعي.

جعلها شهرين قياسًا على ما جاء منصوصًا في بعض أحكام الأمة مثلًا: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، وقاسوا عليه العبد المملوك، وكذلك قالوا فيما يتعلق في عدة الأمة أنها ليست كعدة الحرة، قالوا في عدة الوفاة، وعدة الطلاق.

يقول: ويدخل في إطلاق - يعني خصص العموم بالقياس - الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافًا للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية.

يعني لو أنه حلف بأن قال: عليه الحرام ألا يطأها مدة كذا. هذا حلف لا يجوز له أن يحلف بهذا، لكن هل يترتب عليه حكم بالنسبة للإيلاء؟

فهنا ما ذكره المؤلف: ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم. لو أنه حلف بالطلاق ألا يطأها هل يكون هذا إيلاء أو يقال لا يُعتبر؟

يقول: "فالشافعي قصره على الحلف بالله"، ووجهه أنها اليمين الشرعية ولا يكون موليًا عند مالك والشافعي إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدًا، فإذا انقضت الأربعة أشهر وقف المولي عند مالك والشافعي، فإما فاء وإلا طلّق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة أشهر وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- نقل عن الجمهور: أن أقل من أربعة أشهر لا يكون إيلاء، وهكذا أربعة أشهر[21].

هي الصورة صورة حلف لكن هنا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ المقصود به ما كان زائدًا على الأربعة أشهر، إما أن يكون محددًا بمدة: كأن يقول: لا يطأها سنة مثلًا. أو كان مفتوحًا يعني حلف ألا يطأ امرأته فهنا يُتربص أربعة أشهر، لو حلف أقل من أربعة أشهر؟ حلف ألا يطأ امرأته، آلى ألا يطأ نساءه شهرًا، كما فعل النبي ﷺ وجلس في عُلية، غرفة في الأعلى واعتزل نساءه ﷺ فلما كان من الشهر تسع وعشرون ليلة نزل، فلما سئل عن هذا أخبر أن الشهر يكون تسع وعشرين، فهذا إذا بقي الإنسان هذه المدة حلف أن يطأ شهرًا ففي هذه الحال إذا بقي الشهر فلا شيء، حلف ألا يطأ ثلاثة أشهر وجلس ثلاثة أشهر؟ لا إشكال، لكن لو أنه حلف ألا يطأ شهرًا فبقي أسبوعًا ثم حصل منه الوطء فعليه كفارة يمين، لكن الكلام هنا تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227] فهذا فيما كان مفتوحًا أو زيادة على أربعة أشهر؛ لأن ذلك تضييع لحق المرأة، وتحديد الأربعة أشهر هنا لحكمة والله تعالى أعلم بها، لكن الذي يظهر أن المرأة قد تصبر إلى أربعة أشهر عن زوجها، ولهذا عمر لما سمع تلك المرأة التي تردد بيتين وتذكر تطاول الليل عليها:

تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ وَأَرَّقَنِى أَنْ لاَ حَبِيبٌ أُلاَعِبُهُ
فَوَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ إِنِّى أُرَاقِبُهُ تَحَرَّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ

وتتأسف أنه ليس بجوارها خليل تلاعبه وتقول: فوالله لولا خشية الله وحده لحرك من هذا السرير جوانبه.

فسأل عنها وعن زوجها فكان في الغزو في الجهاد في سبيل الله، فسأل ابنته حفصة كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فاستحت من ذلك، ثم بعد ذلك أخبرته أنها تصبر إلى أربعة أشهر.

ولهذا مثل الشافعي -رحمه الله- يرى أن هذا النوع من الكفارة مثل كفارة الظهار، يرى أن كفارة الظهار يُحبس عليها، لو امتنع أن يكفر وقال: ظاهرت منها. وبقي هكذا فهذا حق للغير، ما يقال هذا بينه وبين الله فهنا في كفارة الإيلاء، إيلاء أربعة أشهر فإن فاءوا يعني رجعوا فإن الله غفور رحيم، فهو يوقف بعد الأربعة أشهر ويقال له: إما أن تطأ ترجع عن هذه اليمين، وإما أن تطلق.

طبعًا المقصود هنا يقال له: ترجع أن تطأ قد لا تكون المرأة قريبة منه، قد يكون في سفر، قد يكون مريضًا، قد تكون المرأة مريضة، قد تكون المرأة مسافرة، لكن بعد تمام الأربعة أشهر إذا انقضت هذه المدة يقال له: إما أن ترجع وإما أن تطلق. فيرجع بالنية وإن لم يحصل منه وطء لعذر، وإما أن يطلق، فإن أبى أن يطلق طلق عليه الحاكم دفعًا للضرر.

يقول: ولفظ الآية يحتمل القولين. يعني قول أبي حنيفة: أنه يحصل الطلاق بمجرد انقضاء الأربعة أشهر، وقول مالك والشافعي: أنه يؤمر بالطلاق إيقاع الطلاق، ولا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة. وهذا هو الأقرب: أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي المدة.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: هذا من الأيمان الخاصة بالزوجة في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقًا أو مقيدًا بأقل من أربعة أشهر أو أكثر....

الجمهور يقولون: لا يكون بأقل من أربعة أشهر، هو الواقع أن الصورة صورة إيلاء لكن الكلام فيما يترتب عليه هذا الحكم المذكور في الآية أن يوقف.

يقول: فمن آلى من زوجته خاصة فإن كان لدون أربعة أشهر، فهذا مثل سائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن أتم يمينه، فلا شيء عليه.

يقول: وإن كان آلى أبدًا -يعني مطلقًا هكذا من غير تحديد- أو مدة تزيد على أربعة أشهر، ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه، إذا طلبت زوجته ذلك؛ لأنه حق لها، فإذا تمت أُمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع، أجبر على الطلاق، فإن امتنع، طلق عليه الحاكم[22].

وجاء في الصحيحين عن عائشة -ا-: "أن النبي ﷺ آلى من نسائه شهرًا..." الحديث الذي أشرت إليه.

وعلى كل حال الجمهور: على أن الإيلاء يختص بالزوجات ولا يكون في كل يمين، والقرينة في الآية: يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ.

فَإِنْ فَاءُوا، رجعوا إلى الوطء وكفّروا عن اليمين.

الفيئة بمعنى: الرجوع، فاء إلى كذا بمعنى: رجع، والمقصود هنا رجع عن يمينه، وقد جاء عن ابن عباس، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن جبير مثل هذا المعنى فَإِنْ فَاءُوا، يعني: رجعوا إلى الوطء وكفروا عن اليمين، وهذا المعنى هو الذي اختاره أيضًا أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[23]، والحافظ ابن كثير[24]، والعلماء مختلفون في ذلك بناء على اختلافهم في معنى اليمين الإيلاء هنا، فمن قال: إنه الحلف ألا يجامعها.

فالرجوع بالجماع أو النية إذا عجز، ومن قال: بأن الفيء لا يكون إلا بمجامعتها لم يعتبر عذره.

ومن قال: بأن الإيلاء قد يكون عن الكلام، أو غيره فهو بحسبه.

يعني: أعم من موضوع المعاشرة والجماع والوطء، حلف ألا يكلمها مثلًا ونحو ذلك فَإِنْ فَاءُوا رجعوا، رجع إلى مكالمتها، لكن ما ذكرنا من قول الجمهور: أن ذلك المقصود به الجماع، حلف ألا يجامع فإن فاءوا أي: رجعوا، لكن رجع إلى ماذا؟ رجع إلى الجماع، بالجماع إن كان ذلك ممكنًا أو بالنية والعزم فذلك قد لا يتأتى له، والله أعلم، لكن لو قالت المرأة: أنا متنازلة، أو كانت المرأة أصلًا لا ترغب فيه، أو كانت تريد الإبقاء على نفسها عنده فقط ولو لم يحصل وطء ينفق عليها وتبقى في كنفه تربي أولادها، أو كانت المرأة كبيرة لا رغبة في المعاشرة، أو مريضة، أو نحو ذلك فالأمر سيان عندها ففي هذه الحال لا يلزم بالرجوع.

غَفُورٌ رَحِيمٌ، أي: يغفر ما في الإيلاء من الإضرار بالمرأة.

وفي نسخة: أي: يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة.

يعني: أنه لو حلف هذه المدة وأوقف أربعة أشهر، ثم رجع، يعني: بعد مضي الأربعة أشهر أوقف، ثم رجع، فالمرأة تضررت في هذه المدة فالله غفور رحيم، يبقى عليه الكفارة، ومن رحمته -تبارك وتعالى- أنه أوجب له بقاء امرأته.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: غفور رحيم لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين[25].

هذا مثل ما ذكر ابن جزي، وأبو جعفر ابن جرير يقول: بما حنثوا من أيمانهم وما شُرع لهم من الكفارة[26].

يعني: غفور بما وقع من الحنث، ورحيم حيث شرع لهم الكفارة وأبقى على نسائهم في عصمتهم، يعني: أوجد لهم المخرج، وعلى كل حال كل هذا يحتمل، والله تعالى أعلم.

عَزَمُوا الطَّلاقَ، العزيمة على قول مالك: التطليق أو الإباية فيطلق عليه الحاكم، وعند أبي حنيفة: ترك الفيء حتى تنقضي الأربعة الأشهر[27]، والطلاق في الإيلاء رجعي عند مالك[28]، بائن عند الشافعي[29]، وأبي حنيفة[30].

على كل حال، تبين أن قول الجمهور: أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي الأربعة أشهر خلافًا لأبي حنيفة، وقوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ يدل على أنه لا يقع بمجرد مضي هذه المدة، وهذا المعنى ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[31].

وقد جاء عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: "إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق وإما أن يفيء"[32]. مالك عن نافع عن ابن عمر هذا من أصح الأسانيد كما هو معلوم.

وهذا كما سبق قول الجمهور، فهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس - أجمعين-[33].

وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، بيان للعدة، وهو عموم مخصوص خرجت منه الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

واليائسة والصغيرة بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية [الأحزاب:49]، والتي لم يدخل بها بقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب:49]، فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي في سن من تحيض وقد خص مالك منها الأمة، فجعل عدّتها قرءين. و(يتربصن) خبر بمعنى الأمر.

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، فهذا كما يقول المؤلف: عام مخصوص. المطلقات الصيغة صيغة عموم دخول (أل) فيدخل فيه كل مطلقة، لكنه يخرج من ذلك الحامل وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وكذلك من لا تحيض لصغرها، أو لكبرها وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، واللائي لم يحضن يعني كذلك، وهنا يقول: والتي لم يدخل بها بقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب:49]، طلق المرأة من غير أن يمسها، فهذا خارج عن هذا العموم، فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي في سن من تحيض. أخرج منه الإمام مالك الأمة بالقياس، فجعل عدتها قرءين فيتربص خبر بمعنى الأمر يعني هو خبر بمعنى الإنشاء، يعني كأنه حكم مقرر ثابت على المكلف أن ينقاد لهذا الأمر الذي قد قُضي وحُسم فجاء به بصيغة الخبر، يقولون: هذا آكد وأقوى وأثبت في تقرير الحكم. أبو داود -رحمه الله- قال: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث.

وساق حديث ابن عباس -ا- في قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ، قال: "وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا فنُسخ ذلك وقال: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229][34].

وعند النسائي في قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا [البقرة:106]، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل:101]، وقال: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39]، فأول ما نُسخ من القرآن: القبلة، وقال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ، وقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ فنُسخ من ذلك قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237][35].

والحديث له ألفاظ على كل حال عند النسائي وغيره.

والذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود هنا بذكر النسخ أنه التخصيص، فكانوا يسمون ما يعرض للنص من تخصيص للعام أو تقييد للمطلق أو بيان للمجمل كل ذلك يقولون له: تخصيص. إضافة إلى ما تقرر من معنى النسخ عند المتأخرين وهو الرفع، فهذا كله يقال له: نسخ في كلام السلف. فهنا يقصد التخصيص، أن الآية مخصصة، وليست منسوخة.

ثَلاثَةَ قُرُوءٍ انتصب (ثلاثة) على أنه مفعول به هكذا قال الزمخشري، و(قروء) جمع قرء وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحمله مالك والشافعي على الطهر[36]؛ لإثبات التاء في (ثلاثة) فإن الطهر مذكر والحيض مؤنث، ولقول عائشة: الأقراء هي الأطهار.

وحمله أبو حنيفة على الحيض[37]؛ لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدّة، فعلى قول مالك تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها.

ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، جمع قرء، وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض.

المشترك معروف هو اللفظ الذي يدل على أكثر من معنى، فحمله مالك والشافعي على الطهر لإثبات التاء في ثلاثة فإن الطهر مذكر والحيض مؤنث. وهذه لغة أهل الحجاز يقولون القرء يقصدون به الطهر، ووجه ما ذكره المؤلف هنا عن مالك والشافعي -رحمهما الله- أن القاعدة في العدد والمعدود من جهة التذكير والتأنيث ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ إذا كان المعدود مذكرًا فإن العدد يؤنث، وإذا كان المعدود مؤنثًا فإن العدد يذكر، تقول: ثلاث نسوة، ثلاثة رجال. فهنا ثلاثة هذا مؤنث، قروء، فالحيضة مؤنثة والطهر مذكر، قالوا: فجاء العدد مؤنثًا مما يدل على أن المقصود بالقرء الطهر؛ لأنه مذكر-هذه قرينة- ولكن الذين قالوا بأنه الحيض قالوا: جاء هنا تأنيث العدد (ثلاثة) باعتبار لفظ القرء، فلفظ القرء مذكر فروعي فيه اللفظ، لا على أن المعنى أنه الطهر، فالمعنى غير مذكور وإنما المعتبر اللفظ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لاحظ هذا النظر يترتب عليه اختلاف الحكم، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ومن هنا فالعدة لأي شيء تنتهي؟ إذا قلنا: بأنها أطهار فتنتهي عدتها برؤية الدم، بمجرد رؤية الدم. نهاية الطهر الثالث، وإذا قلنا: بأنها حيضات فيكون ذلك بانقطاع الدم، تنتهي العدة إضافة إلى الاغتسال عند بعض أهل العلم، إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، فأيهما أطول على هذا الأطهار أو الحيض؟ الحيض يكون أطول في العدة.

يقول: ولقول عائشة: الأقراء هي الأطهار.

وتفسير القرء بالطهر أيضًا مروي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، إضافة إلى عائشة -ا- وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعطاء، وقتادة، والزهري، وأبان بن عثمان، وبه قال الشافعي -رحمه الله-[38]، وذكر هنا المؤلف أيضًا الإمام مالك -رحم الله الجميع- وإطلاق القرء على الحيض هذا لغة أيضًا، يقول: لقول عائشة: الأقراء هي الأطهار.

وكذلك حديث: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء[39].

يقول: حمله أبو حنيفة على الحيض؛ لأنه الدليل على براءة الرحم وذلك مقصود العدة. فعلى قول مالك تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها.

القول بأن القرء هو الحيض هذا عند أهل العراق وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس في رواية، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وعمرو بن دينار، وعن أصحاب النبي ﷺ يرويه عمرو بن دينار عن الصحابة، وكذلك جاء عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، والشعبي، وقتادة في رواية، والربيع بن أنس، ومقاتل، والسدي، وعطاء الخرساني، والضحاك، وابراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وطاووس، وابن سيرين، ومكحول[40].

وبهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: أنه الحيض[41]؛ لحديث: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي[42]، يعني: أيام الحيض، والواقع أن حديث: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر يدل على أي المعنيين؟ على أنه الطهر، لو كان الحيض كان تحيض ثم تطهر، وذكر ابن جرير أن أصل معنى القرء في اللغة: هو وقت مجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، وقت إدبار الشيء الموقت إدباره بوقت معلوم؛ لأنه بمعنى الوقت، ومن هنا اختلفوا في معناه، هل هو وقت الطهر أم وقت الحيض؟، وكما ترى كل قول من هذين قال به هؤلاء الأئمة من الصحابة فمن بعدهم.

ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، يعني: الحمل والحيض.

وذلك أن ظاهره العموم مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، والحكم، والربيع، والضحاك[43]، واختاره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ[44].

يعني: هي قد تُخفي الحيض لتطول العدة مثلًا إذا قلنا بأنه الطهر، فلا تذكر أنها حاضت الحيضة الأخيرة التي بعد الطهر الأخير، وإذا قلنا بأنه الحيض فقد تخفي أنها طهرت، وقد يكون العكس، تزعم أنها حاضت وهي لم تحض؛ لتقصر عليه طريق الرجعة، هي لا تريد أن يرجع، بل قد تدعي أنها حاضت وطهرت حصل لها ذلك ثلاثة قروء في شهر واحد، والفقهاء يتكلمون في مثل هذا فيما لو ادعت المرأة هل يُقبل قولها أو لا، أو ينظر في أخواتها ونحو ذلك من أهل بيتها هل هذا من عادتهم أو لا؟ لأنه قليل أن توجد امرأة تحيض وتطهر ثلاث مرات في شهر واحد-قد يوجد- فلو ادعت هذا لتقطع عليه طريق الرجعة، وقد تكون المرأة حامل وطلقها الرجل وهي في الشهر الأول مثلًا فتطول عليها العدة فتخفي الحمل من أجل ألا يطول عليها الاعتداد عنده، وتدعي أنها حاضت وطهرت، فلا يجوز لها أن تكتم ما خلق الله في رحمها؛ لأن مثل هذه القضايا كيف يطلع الناس عليها؟! إنما ذلك يرجع إليها أنها حاضت أو طهرت، فقد تريد تطويل المدة وتقد تريد تقصير العدة.  

وَبُعُولَتُهُنَّ، جمع بعل، وهو هنا الزوج.

فِي ذلِكَ، أي: في زمان العدّة.

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ، يعني: في وقت العدة بمعنى أنها لا تملك هي الامتناع ولا يملك وليها ذلك.

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ، من الاستمتاع وحسن المعاشرة.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- حمله على الاستمتاع[45]، وهو بعض معناه، وإلا فحسن المعاشرة داخل فيه، وكذلك يمكن أن يقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الحقوق، فعليه حقوق، وعليها كذلك، ولهذا حمله ابن جرير -رحمه الله- على أنه كما أن الرجل لا يراجع إلا إذا أراد الإصلاح، فكذلك هي لا تكتم ما في بطنها لتفوت حقه[46].

فهذا كله داخل فيه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، من الحقوق وحسن الرعاية، والمعاشرة بالمعروف، وما ذُكر من الاستمتاع داخل فيه، فهي لها غريزة تزوجت من أجل أن تعف نفسها، وكذلك الرجل فلا يصح أن يلتف إلى نفسه ويعرض عنها وعن حاجاتها، ومتطلبات نفسها؛ فإن ذلك يكون من قبيل الظلم، وهذا أيضًا يورثه بُغضًا عميقًا في نفسها ونفورًا، فالكثير من النساء تنفر وتقع مشكلات كثيرة ومتفاقمة لأتفه الأسباب أحيانًا، يكون البيت غير مستقر، الحياة قلقة، والرجل لا يدري، وحينما تعبر المرأة أحيانًا لمن تسأله أو تستشيره أو لمن يوجه إليها السؤال لماذا تفعلين كل هذا؟

أحيانًا تذكر أن هذا الرجل يعني: يتصف بالأنانية، ويقضي وطره بلحظات، ثم يتركها لا يبالي بها، وبعضهن تصرح له بذلك ولا يبالي، فيُوجد نفورة شديدة عند المرأة من هذا الزوج وتكرهه، وتبقى النفس في حال من التوتر والضيق والقلق، ودائمًا تجد المشكلات والأصوات التي ترتفع في هذا البيت، وهذا قد يحمل بعض النساء على ركوب المراكب الصعبة، فتقع في الفاحشة ونحو هذا، باعتبار أنها مهملة، متزوجة كأنها غير متزوجة، بل حال غير المتزوجة أرفق؛ لأنها تقول بأنه يستثير غريزتها، ثم بعد ذلك لا تقضي وطرها.

دَرَجَةٌ، في الكرامة وقيل: الإنفاق، وقيل: كون الطلاق بيده.

هذه الدرجة قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يعني: في الفضيلة والخلق والمنزلة والطاعة والأمر[47]، فيجب عليها أن تطيعه فيه، والانفاق والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة، يعني: الرجل له عليها درجة مرتبة؛ لأنها يجب عليها أن تطيع الزوج والقوامة بيده والطلاق بيده، يعني: هو صاحب القرار، وكذلك قيل: في الميراث والجهاد أنه مفضل بذلك.

وبعضهم قال: لأن له لحية. كأن هذا أراد أن يذكر مثالًا على ما يتميز به الرجل عن المرأة؛ فإذا كان الرجل يلقي ذلك عنه، ويتخلص منه فقد أزال تلك المرتبة عند هؤلاء، وبعضهم يقول في التغاضي عن حقه التسامح والإغضاء والتغافل؛ ولهذا جاء عن ابن عباس -ا-: ما أحب أن أستوفي حقي منها[48].

يعني كما جاء عن الحسن: ما استوفى كريم قط[49]. هذا مثل، يعني: كان يرى الدرجة هذه هي في التفضل والإغضاء والتغافل، لا يستكف حقه في كل قضية يقف عندها، ويريد مفاصل الحقوق، وهذا المعنى اختاره ابن جرير -رحمه الله-[50]، فهذه الدرجة على كل حال تشمل الفضائل التي أعطاها الله للرجل وميزه فيها الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالتفضيل هذا نوعان:

النوع الأول: وهبي. هو بما منحه الله من القوى والقُدر والإمكانات العقلية والبدنية، فلو تنظر إلى النخيل التي تراها في الطرق الفحل من النخل يتميز بضخامة الجذع، والكرب ضخم والطلع ضخم، تعرف الفحل من النخل بهيئته بمجرد ما يقع عليه البصر، بخلاف النخلة غير الفحل، كذلك إذا نظرت إلى الفحل من الإبل ومن الغنم، بل حتى الطيور الديك، ونحو ذلك -هذه خِلْقة- ميزه الله في الهيئة في الخِلقة، فهذا وهبي، والعلماء يقولون: بأن تلافيف عقل الرجل أكبر من تلافيف عقل المرأة. يعني: عقل الرجل أكبر من عقل المرأة، وعندهم من رباطة الجأش والقوة والثبات والقدرة على اتخاذ القرار ما لا يكون عند المرأة.

النوع الثاني: كسبي هو وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، انفاق المال، الذي ينفق فيكون سيدًا، الذي يبذل ويتولى النفقة يكون له السيادة، فالرجل لا يصح أن يتخلى عن هذا الدور، ولو كانت امرأته كما يقال: موظفة. أو كان عندها مال، أو كانت غنية أو نحو ذلك، لا يتخلى عن هذا الدور؛ لأنه إذا تخلى عنه معنى ذلك أنه سيتخلى عن شطر سيادته أو سبب السيادة القيادة ثم بعد ذلك تنازعه المرأة، فإذا قال كلمة، قالت كلمة، فهذا خطأ، لا تأخذ منها شيئًا ولو كانت غنية، انفق.

الطَّلاقُ مَرَّتانِ، بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه دون زوج آخر، وقيل: بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه، وهو طلاق السنة.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، لم يقل هنا: الطلاق طلقتان لإفادة أن الطلاق يكون مرة بعد مرة، لا يكون دفعة واحدة، وهذا عدد الطلاق الذي يملك الرجل فيه الرجعة، ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن هذه الآية رافعة لما كان في أول الإسلام من أحقيته برجعته، وإن طلقها مائة طلقة إذا كان ذلك في العدة[51]

فَإِمْساكٌ، ارتجاع، وهو مرفوع بالابتداء أو بالخبر.

فَإِمْسَاكٌ، يعني: ارتجاع أن يراجعها إذا طلقها (فإمساك بمعروف)، فالواجب إمساك مثلًا بمعروف، أو تسريح بإحسان، فالحكم إمساك إذا قلنا: بأنه خبر لمبتدأ محذوف، أو فإمساك واجب أو نحو ذلك.

بِمَعْرُوفٍ، حسن المعاشرة وتوفية الحقوق.

يعني: لا يمسك من أجل المضارة، التضيق والأذى.

أَوْ تَسْرِيحٌ، هو تركها حتى تنقضي العدّة فتبين منه.

التسريح يدل في معناه: الأصل على الانطلاق، يقال: أمر سريح. إذا لم يكن فيه تعويق ولا مطل، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: أن يطلق سراحها محسنًا إليها لا يظلمها من حقها شيئًا[52].

غير مصادر لحقوقها، إن كان يجب لها المتعة يعطيها المتعة، لا يفارق هذه المرأة ويأخذ حقوقها، لها مقتنيات، لها أشياء خاصة بها، لا يجوز له أن يصادرها، وكذلك البعض قد يطلق بأذى وضرب وشتم ولعن لها ولأهلها ومشاجرات -هذا لا يليق- فالإنسان كما دخل أول مرة يخطب ابنتهم فينبغي أن يخرج بهذا الوجه، يخرج كريمًا رافعًا رأسه محسنًا إليها يعطيها متعة يتكلم بأجمل الكلام يتلطف ويقول كما دخلنا مدخل الكرام نخرج مخرج الكرام، أما أن يكون النهاية مظلمة وإن كان بينهما ولد فلربما لا تتم رؤيته أو استلامه إلا في قسم الشرطة -هذا موجود- وشدة الخصومة والشجار لا يسلم الولد إلا في اليوم الذي يذهب لأبيه أو العكس إلا في قسم الشرطة؛ لأنهم لو تقابلوا في أي مكان آخر يمكن أن يقتتلوا -نسأل الله العافية- هذه ليست حياة.

بِإِحْسانٍ المتعة، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين، وروي في ذلك حديث ضعيف وهو بعيد؛ لأن قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَها هو الطلقة الثالثة، وعلى ذلك يكون تكرارًا، والطلقة الرابعة لا معنى لها.

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ هنا قال: المتعة. هي من جملة الإحسان، ولذلك قال الله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، وفي الموضع الآخر: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، فهي من الإحسان وإن اختلفوا فيه هل هو واجب أو غير واجب؟ أو هو مخصوص بالمطلقة التي طلقت قبل الدخول ومن غير أن يسمي لها صداقًا؟ خصهم بعضهم بهذا، وعممه ابن جرير في كل مطلقة لعموم قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241]، فهنا يقول: الإحسان المتعة، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين. وهذا لا يظهر والله أعلم، يعني: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، يعني: في كل مرة إما أن يمسك بمعروف وإما أن يفارق بإحسان، هذا في الطلاق الرجعي، وأما في الثالثة فإنه لا سبيل له عليها، يقول: وروي في ذلك حديث ضعيف.

وهو عن أبي رزين الأسدي -وهذا تابعي- قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، يقول الله: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ قال: (التسريح بإحسان)[53]، فهذا مرسل لا يصح، ولو صح لكان تفسيرًا للآية، والواقع أن الثالثة هي قوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فهنا يتحدث عن الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الرجعة يمسك بإحسان، يراجع بإحسان، أو تنقضي العدة ويمسك بمعروف، أو تنقضي العدة ويكون ذلك فراقًا يفارق بإحسان، يعطيها المتعة ويعاملها بما يليق.

  1. تفسير ابن كثير (1/600).
  2. قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم: (2652).
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات، بأنفسهم خيرا} [النور:12]، رقم: (4750).
  4. تفسير الطبري (4/424).
  5. أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، رقم: (3133)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، رقم: (1649).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، رقم: (1650).
  7. الحاوي الكبير (15/ 288).
  8. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/3).
  9. تفسير ابن عطية (1/301).
  10. تفسير ابن كثير (1/602).
  11. أخرجه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب لغو اليمين، رقم: (3254).
  12. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/501).
  13. تفسير ابن كثير (1/602).
  14. تفسير الطبري (4/446).
  15. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة:284]، رقم: (126).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، رقم: (5269)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم: (127).
  17. أخرجه ابن ماجه، باب طلاق المكره والناسي، رقم: (2043)، والطبراني في المعجم الصغير (2/52)، رقم: (765)، وإسناده تالف بمرة، أبو بكر الهذلي متروك الحديث، وأيوب بن سويد ضعيف جدا، وشهر ضعيف، ثم قد اختلف في إسناده أيضا. انظر: سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (3/200).
  18. تفسير الطبري (4/449).
  19. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:120).
  20. تفسير الطبري (4/451).
  21. زاد المعاد في هدي خير العباد (5/311).
  22. انظر: تفسير السعدي (ص: 101).
  23. تفسير الطبري (4/465).
  24. تفسير ابن كثير (1/604).
  25. تفسير ابن كثير (1/604).
  26. تفسير الطبري (4/475).
  27. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/173).
  28. بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/118).
  29. المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (3/61).
  30. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/177).
  31. تفسير ابن كثير (1/605).
  32. موطأ مالك ت عبد الباقي (2/56)، رقم: (17).
  33. تفسير ابن كثير (1/605).
  34. أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، رقم: (2195).
  35. أخرجه النسائي، كتاب الطلاق، ما استثني من عدة المطلقات، رقم: (3499).
  36. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/33)، مختصر المزني (8/322).
  37. البناية شرح الهداية (5/596).
  38. تفسير ابن كثير (1/606).
  39. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، رقم: (5251)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق، ويؤمر برجعتها، رقم: (1471).
  40. تفسير ابن كثير (1/608).
  41. العدة شرح العمدة (ص:52).
  42. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر، رقم: (297)، والترمذي، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، رقم: (126).
  43. تفسير ابن كثير (1/609).
  44. تفسير الطبري (4/523).
  45. روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص:215).
  46. تفسير الطبري (4/532).
  47. تفسير ابن كثير (1/610).
  48. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/661)
  49. تفسير القرطبي (18/187).
  50. تفسير الطبري (4/535).
  51. تفسير ابن كثير (1/610).
  52. تفسير ابن كثير (1/611).
  53. تفسير ابن كثير (1/612).

مواد ذات صلة