السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[20] من قول الله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الآية 143 إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الآية145.
تاريخ النشر: ٢٣ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3379
مرات الإستماع: 2279

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] قيل: معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف.

وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس - وأرضاه- جذَّ نخلاً له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله تعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] [رواه ابن جرير عنه].

لكن الظاهر والله أعلم من سياق الآية حيث قال تعالى: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأنعام:141] أن يكون عائداً على الأكل، أي: لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ الآية [سورة الأعراف:31] وفي صحيح البخاري تعليقاً كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة[1] وهذا من هذا، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] يحتمل أن يكون المراد به لا تسرفوا في النفقة في سبيل الله؛ لأنه قال: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأنعام:141] يعني ولا تسرفوا في هذا الإيتاء؛ لأنه غير مقدر.

وأما الرواية التي ذكرها عن ثابت بن قيس لا تصح؛ لأنها من رواية ابن جريج عنه، فهي من رواية ابن جريج لسبب النزول ومثل هذا يكون من قبيل المرسل.

ويبقى النظر في مسألة هل في الإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- إسراف؟

هذه المسألة مختلف فيها، فمن أهل العلم من يقول: ليس فيه إسراف، ويستدلون على هذا ببعض الأدلة نحو ما ثبت أن أبا بكر تصدق بجميع ماله، فلما سأله النبي ﷺ عما أبقى لأهله؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله[2] فالنبي ﷺ أقره على هذا الفعل.

وكذلك عمر جاء بشطر ماله فأقر على ذلك.

إلا أن النبي ﷺ قال لبعض الصحابة كسعد : الثلث والثلث كثير[3] ونهاهم عن أن يتصدقوا أو أن يوصوا بمالهم، وعلى كل حال قد وردت الأحاديث التي توصي الإنسان أن يترك عياله وأهله أغنياء خير من يدعهم عالة يتكففون الناس، وهناك نصوص يفهم منها أن الإنسان لا يتصدق بكل ماله ولا بنصف ماله، ولذلك فالأقرب والله تعالى أعلم أن يقال فيما يتعلق بالنفقة في سبيل الله أن هذا يتفاوت بتفاوت الناس ويختلف باختلافهم، فمن كان بمنزلة أبي بكر وعمر -ا- بحيث إذا أنفق ماله لا ينتظر من الناس شيئاً ولا يتعلق قلبه بهم، ولا يسأل أحداً شيئاً فلا بأس أن ينفق كل ماله، ومن كان دون ذلك بحيث إذا أنفق تعلق قلبه بالخلق أو سألهم أو انتظر منهم عطاء، فمثل هذا يقال له: لا تنفق إلا بالقدر الذي لا يلحق فيه من تعول شيء من الإجحاف.

ومما يدل على ذلك قصة الرجل الذي تعرض للنبي ﷺ ومعه قطعة من ذهب فأعطاها النبي ﷺ فأعرض عنه، فتعرض له فأعرض عنه، ثم أعطاه الثالثة، فأخذها فرماه بها وقال: يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس[4] فهذا يوضح هذا المعنى خاصة وأنه لم يقله لأبي بكر ولا لعمر -ا-.

ولذلك لعل من أحسن ما يقال في الجمع بين هذه النصوص ما ذكره الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات من أن ذلك يختلف باختلاف الناس، فهو أحسن من قول من قال: إن النفقة في سبيل الله يدخلها الإسراف ولأحسن من قول من قال أيضاً: إنه لا يدخلها الإسراف بإطلاق، بل يقال فيه هذا التفصيل، والله أعلم.

والله لما ذكر النفقات على الوالدين والأقارب في سورة الإسراء قال: وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [سورة الإسراء:26] وقال: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، فقوله: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] أي تقعد منقطعاً لا تستطيع التصرف لعدم وجود المال عندك فتلومك نفسك ويلومك الناس من أصحاب الحقوق من الأولاد وغيرهم؛ لأنك لم تبق لهم شيئاً من النفقة.

وقوله تعالى: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لم بحملها على منع الإسراف في الإنفاق في سبيل الله، ولا على سبب النزول؛ لأن سبب النزول لم يصح سبب النزول؛ إذ لو صحَّ لكان دخوله في هذا العموم دخولاً قطعياً؛ لأنه كما هو معلوم أن سبب النزول إذا صح فإنه يدخل في العموم قطعاً وإخراجه بالاجتهاد ممنوع لكن لما لم يصح هنا حمله ابن كثير -رحمه الله- على النهي عن الإسراف في الأكل والشرب وما أشبه ذلك.

والإسراف ضابطه -أو أحسن ما قيل فيه والله أعلم- هو إنفاق المال بغير وجه صحيح، فإنفاقه في معصية الله  سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً، فكل مال ينفق في معصية الله هو إسراف وتبذير قلّ أو كثر، وأما الذي ينفق في غير معصية الله وإنما ينفق في الأمور المباحة فهذا ليس له ضابط محدد وإنما يختلف باختلاف الناس، فقد تكون النفقة بالنسبة لفلان من التبذير، وبالنسبة لفلان ليست من التبذير، فهذا قد يشتري الثوب بأربعمائة لكنه يملك الملايين فهذا ليس تبذيراً بالنسبة إليه، لكن الذي دخله في الشهر كله أربعمائة ريال أو خمسمائة أو سبعمائة ثم يشتري جوالاً بسبعمائة، فهذا تبذير بالنسبة له، أما من كان دخله في الشهر عشرة آلاف ثم اشترى التليفون بسبعمائة مثلاً فهذا ليس من التبذير. 

وقل مثل ذلك فيما يقتنيه الإنسان من أثاث ومتاع وما يستأجره من المساكن، فقد يستأجر بيت بأربعين ألف ودخله أربعة آلاف فهذا تبذير، لكن إنسان دخله أربعين ألف ريال ويستأجر بيت بعشرين ألف ريال فهذا ليس تبذيراً إلا أن يكون ذلك خارجاً عن حاجة الإنسان فيعتبر من التبذير، وهكذا الأمر في القرى، فلو أن إنساناً وضع للضيف كما فعل إبراهيم ﷺ أعني عجلاً كاملاً فهذه نفقة في محلها إن لم يكن المقصود بها التفاخر والمباهاة مع كونه يُنتَفَع بهذا، لكن إذا كان ما ينتفع به فإن إضاعته من التبذير، وهكذا.

وقوله : وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش، قيل: المراد بالحمولة: ما يحمل عليه من الإبل، والفرش: الصغار منها كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: حَمُولَةً ما حمل عليه من الإبل وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] الصغار من الإبل [رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه][5].

الحمولة فعولة بمعنى فاعلة أي حاملة، والمعنى أنها تحملكم وتحمل متاعكم، والحمولة من الأنعام هي الإبل، ولا حاجة لقول من قال: إن الحمولة الإبل والخيل والحمير والبغال، فهذه تحمل لكنها ليست من الأنعام؛ لأن المراد بالأنعام الأصناف الثمانية التي سيأتي ذكرها، وهي الإبل والبقر والغنم بنوعيه -المعز والضان- فهذه هي الأنعام.

فقوله: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً [سورة الأنعام:142] لا يدخل فيها الحمير والبغال والخيل؛ لأنها ليست من الأنعام، فهي الإبل ويبقى النظر في البقر هل يحمل عليها أم لا يحمل عليها؟

نحن نعرف حديث البقرة التي قالت: إني لم أخلق لهذا[6] فالأصل في البقر أنه لا يحمل عليها، وهذا هو المعروف في بلاد العرب؛ لأن أبقارهم لا تحتمل ذلك، لكن يوجد في بعض بلاد العجم أبقار تحتمل هذا ويحملون عليها الأمتعة العظيمة وينقلونها من مسافات شاسعة، فحيث وجدت الأبقار التي تحمل الأمتعة إن كان ذلك مما تطيقه فإنها تدخل في قوله: حَمُولَةً والحاصل أن هذا خلاف الأصل وإلا فالأصل أن البقر لا يحمل عليها ولذلك يقال: الحمولة هي الإبل.

ويبقى المراد بالفرش في قوله: حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] فبعضهم خصه بصغار الإبل لتي لا تحتمل أن يُحمل عليها، وهذا هو الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وذهب الكثيرون إلى أن الفرش هو ما يقابل الحمولة، يعني ليس صغار الإبل فقط بل يدخل فيه الغنم أيضاً.

وسبب إطلاق الفرش عليها إما باعتبار أنها قريبة من الأرض لقوائمها، ولذلك فأنت حينما تشاهد الإبل والغنم من بعيد تشعر كأن الغنم لاصقة في الأرض والإبل طويلة القوائم مرتفعة.

ويحتمل أن يكون قيل لها فرش باعتبار أن هذا من المنافع التي تؤخذ منها حيث تؤخذ من أصوافها وأشعارها ما يفترش من ألوان الفرش التي ينامون عليها ويجلسون عليها أو نحو ذلك، فهم ينتفعون بلحومها وألبانها وأصوافها وأشعارها وأوبارها.

وقال: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافاً وفرشاً.

هذا القول يدخل فيه القول الذي قبله أعني قول من قال: الفرش صغار الإبل؛ لأن معناه أن ما لا يركب فهو داخل في الفرش، فيدخل فيه صغار الإبل ويدخل فيه الغنم، إلا أن القائل بأن الفرش صغار الإبل قد يقصد بذلك المثال لا الحصر، فيحتمل أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، والله تعالى أعلم.

وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ۝ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [سورة يــس:72] وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ [سورة النحل:66] إلى أن قال: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [سورة النحل:80].

وقوله تعالى: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] أي: من الثمار والزروع والأنعام، فكلها خلقها الله وجعلها رزقاً لكم.

وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] أي: طريقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله، أي من الثمار والزروع افتراء على الله.

إِنَّهُ لَكُمْ [سورة الأنعام:142] أي: إن الشيطان أيها الناس لكم عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة الأنعام:142] أي: بيّن ظاهر العداوة كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6] وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا الآية [سورة الأعراف:27].

وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [سورة الكهف:50] والآيات في هذا كثيرة في القرآن.

الأمر في قوله تعالى: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] هل يقال: هو أمر للوجوب أم للاستحباب أم للإباحة؛ لأنه في سياق الامتنان؟

هو للإباحة، ولذلك لا تكاد تجد في القرآن الحث على الأكل والشرب وما إلى ذلك من الأمور التي يطلبها الإنسان بما طبع عليه وما جبل عليه لافتقاره إليها في بقائه في هذه الحياة، ولما يجد فيها من اللذة إلا أن يذكر ذلك على سبيل الامتنان مثلاً، بينما العبادات الشاقة يتردد الأمر بها، كالصلاة والزكاة وما أشبه ذلك مما يشق على الإنسان.

قوله تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] الخُطُوَات جمع خُطْوَة وهي واحدة الخَطْو، والخطَوات جمع خَطْوَة، ففرق بعضهم بين هذا وهذا، فالخَطْوَة هي المسافة التي تكون بين القدمين في المشي، والخُطْوَة واحدة الخطى.

وخُطُوات الشيطان أي طرائقه ومسالكه التي يزينها للإنسان بأن يدرجه فيها حتى يسلك في سبيل الغواية شيئاً فشيئاً، فالشيطان يزين للإنسان أمراً قد لا تنكره نفسه ابتداء ثم بعد ذلك يبلغ به إلى أمور لم تخطر له على بال أنه يلج فيها أو يقع فيها، سواء في باب الشهوات أو في باب الشبهات، نسأل الله العافية، وسد الباب هو الطريق الذي يصل به إلى النجاة، وإلا فإن الإنسان قد يتوسع في الكلام مع النساء من باب الدعوة إلى الله، أو التواصي على البر والتقوى، أو التواصل في قضايا زواج مثلاً بأن يكون وسيطاً يبحث لهن عن أزواج، أو بالمشاركات عبر منتديات الحوار والكلام وما أشبه هذا، كل هذا مما يزينه له الشيطان شيئاً فشيئاً حتى يمرض قلبه، وقد يقع في الفاحشة مع أنه لم يخطر في باله أنه يبلغ إلى هذا الحد، لكن البداية كانت بأن فتح على نفسه باباً كان في غنىً عنه فزينه له الشيطان باسم باب التواصي على البر والتقوى، حتى وصل به إلى أمور جسيمة.

ومن تزيين الشيطان أن يدخل الإنسان في أمور باسم الغيرة على الدين فيفتن ويبتلى ويدخل في أشياء يخالفه عليها أهل العلم حتى يدخله في أمور قد تذهب بآخرته مع أنه لم يخطر بباله في البداية أنه سيصل إلى هذا الحد، نسأل الله العافية، فالله المستعان.

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:143-144].

هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حرموا من الأنعام، وجعلوها أجزاء وأنواعاً، بحيرة وسائبة ووصيلة وحاماً وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبيّن تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً، ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن.

قوله: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يحتمل أن يكون النصب بفعل مقدر محذوف هكذا: كلوا ثمانية أزواج أو أنشأ ثمانية أزواج، أو خلق ثمانية أزواج، ويحتمل أن يكون المراد كلوا ثمانية أزواج باعتبار أنه عائد إلى قوله: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [سورة الأنعام:141] ولكن هذا الثاني أي أن يكون عائداً إلى قوله: كُلُواْ فيه بعد؛ لأن الكلام هناك في الثمر حيث قال: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [سورة الأنعام:141] ثم قال: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] أي ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا ثمانية أزواج، يعني يكون قوله: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] والذي رزقهم الله هي ثمانية أزواج.

ويحتمل أن يكون قوله: ثَمَانِيَةَ بدلاً من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] يعني ومن الأنعام ثمانية أزواج، وهذه الثمانية لا يخرج منها الحمولة والفرش.

ويمكن أن يكون بدلاً من "ما" في قوله: مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] والذي رزقهم الله هي ثمانية أزواج، والله أعلم.

والمقصود بالأزواج هنا الأفراد؛ فالزوج يطلق على الذكر والأنثى، تقول: هذا زوج فتطلقه على الذكر والأنثى معاً، ويقال للواحد منهما بأنه زوج باعتبار ما يقابله، ولهذا يقال: هذا زوج فلانة، وهذه زوج فلان، فهنا أطلق على الأفراد لفظ زوج، فقوله: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يعني أنها باعتبار المجموع تعتبر أربعة؛ أي أن الذكر والأنثى زوج، وباعتبار الأفراد تعتبر ثمانية.

يقول تعالى: مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [سورة الأنعام:143] الضأن معروف وهو جمع ضائن.

وقوله: وَمِنَ الْمَعْزِ قرأه كثيرون كابن عامر وابن كثير وأهل البصرة بفتح العين هكذا (المعَز) وهي لغة فيه، والمعنى واحد.

ثم بيّن أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن، وسواد وهو المعز ذكره وأنثاه، وإلى إبل ذكورها وإناثها، وبقر كذلك.

وأنه تعالى لم يحرم شيئاً من ذلك ولا شيئاً من أولادها، بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلاً وركوباً وحمولة وحلباً وغير ذلك من وجوه المنافع، كما قال: وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الآية [سورة الزمر:6].

وقوله تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:143] رد عليهم في قولهم: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا الآية [سورة الأنعام:139].

سألهم هذا السؤال فقال لهم: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:143] يعني لا يخلو الحال من أن يكون ما حرمتموه على أنفسكم أن يكون هو الذكور مطلقاً أي يحرم عليهم كل ذكر فالواقع أنكم تنتفعون بها، في أوجه مختلفة من الأكل والأشعار والأصواف، إذن أنتم لم تمتنعوا من الانتفاع بها، وإما أن يكون المحرم عليكم هي كل أنثى والواقع أنكم تنتفعون بها أكلاً وبألبانها شراباً وما أشبه ذلك.

وبقي ما في بطونها فقال تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:143] فسواء كان ما بطونها ذكراً أم أنثى فالواقع أن ما يخرج من بطونها لم تمتنعوا من الانتفاع به، فالله لم يحرم عليكم شيئاً من ذلك ومع ذلك فأنتم متناقضون غاية التناقض لا تقومون على أصل وقاعدة صحيحة، وإنما هو إفك وافتراء وتخرص ما أنزل الله به من سلطان.

هذا وجه الرد في قوله: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:143] يعني وأنتم في الواقع لم تمتنعوا من ذكورها ولا من إناثها ولا مما اشتملت عليه البطون ذكوراً كانت أم إناثاً.

وقوله تعالى: نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الأنعام:143] أي: اخبروني عن يقين كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: قوله: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [سورة الأنعام:143] فهذه أربعة أزواج.

قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:143] يقول: لم أحرم شيئاً من ذلك، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:143] يعني هل يشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى، فلمَ تحرمون بعضاً وتحلون بعضاً؟ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الأنعام:143] يقول تعالى: كله حلال.

وقوله تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا [سورة الأنعام:144] تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك.

في قوله: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ يلاحظ أن قوله: آلذَّكَرَيْنِ منصوب بـ"حرَّم" يعني حرَّم الذكرين.

وقوله: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا [سورة الأنعام:144] "أم" هنا يسمونها المنقطعة وهي بمعنى بل ومعها الهمزة؛ لأن الاستفهام هنا للإنكار، والمعنى بل أكنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ أي كيف عرفتم أن هذا حرام؟ هل كنتم حضوراً حينما خلقها الله أو حينما عهد إليكم بذلك فأنتم على بينة من الأمر تستطيعون الوقوف عندها؟

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:144] أي: لا أحد أظلم منهم، إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:144] وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيَّب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي كما ثبت ذلك في الصحيح[7].

قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:145].

يقول تعالى آمراً عبده ورسوله محمداً ﷺ: قل يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله: لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [سورة الأنعام:145] أي: آكل يأكله، معناه لا أجد من الحيوانات شيئاً حراماً سوى هذه، فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة المائدة وفي الأحاديث الواردة رافعاً لمفهوم هذه الآية.

يقول: لاَّ أَجِدُ فِي مَا هذا الحصر هو أقوى صيغ الحصر كما ذكرنا مراراً في باب مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة أنواع وأنواعه متفاوتة من حيث القوة، فأقوى أنواع مفهوم المخالفة مفهوم الحصر بالنفي والاستثناء، ثم يليه الحصر بـ"إنما" ثم تأتي بعد ذلك مفهوم الصفة ومفهوم الشرط إلى أن تصل إلى مفهوم اللقب وهو أضعفها وليس بحجة. 

والحاصل أن هذا أقوى صيغ المفهوم وهو الذي وردت فيه كلمة التوحيد -لا إله إلا الله- فقوله: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة الأنعام:145] يدل على أن هذه الأنواع هي المحرمة بطريق الحصر في سورة الأنعام وهي مكية، ولذلك فإن كثيراً من أهل العلم يقولون: إن هذا الحصر كان في أول الأمر، ثم جاءت التحريمات الأخرى في سورة المائدة حيث قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] وجاء تحريم الحمر الأهلية في عام خيبر.

وعن ابن عباس –ا: "نهى رسول الله ﷺ عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير"[8].

وعلى كل حال من أهل العلم من الصحابة وبعض من جاء بعدهم وقفوا عند هذه الآية وقالوا: لا يحرم سوى هذه المذكورات في الآية فقط وما عدا ذلك فحلال! وتوسع بعض الفقهاء في هذا جداً حتى أباحوا أكل الأسد والفيل وأنواع الوحوش والحشرات والحيات وما أشبه ذلك، ومن أراد التوسع في بحث هذه المسألة فلينظر في مثل كتاب أضواء البيان حيث ذكر أشياء كثيرة جداً في المطعومات من الحشرات وغيرها وذكر أقوال أهل العلم فيها، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذه الآية كانت في أول ما نزل ثم بعد ذلك حرمت أشياء أخرى، فكل ما ورد عن الشارع تحريمه فإنه داخل في جملة المحرمات ولو لم يكن داخلاً ضمن المذكورات في هذه الآية.

ومن أهل العلم كالشافعي -رحمه الله- من وجه هذه الآية توجيهاً آخر وقال: إن هذا جاء على سبيل الرد مع المبالغة فيه، فالمشركون حرموا أشياء مما أباحه الله  وأحلوا أشياء مما حرمه الله، فردَّ عليهم وكأنه يقول: الحلال ما حرمتم والحرام ما أحللتم -يعني على سبيل المبالغة قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.. الآية [سورة الأنعام:145] أي وما سوى ذلك فحلال، فهذا توجيه الإمام الشافعي لكن عامة أهل العلم يقولون: هذا كان في أول الأمر وليس الحامل على ذلك هو الرد على افتراء المشركين، والله أعلم.

والحصر في هذه الآية يشبه الحصر في حديث: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[9] وذلك أنه ورد تشريع القتل لغير هؤلاء كقوله –عليه الصلاة والسلام: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به[10].

وكذلك صح عنه –عليه الصلاة والسلام- أنه قال: حد الساحر ضربة بالسيف[11] وغير ذلك مما ورد فيه أنه يقتل غير ما ذكر في الحديث، والله أعلم.

أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا [سورة الأنعام:145] وقال قتادة: حرَّم من الدماء ما كان مسفوحاً، فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به.

كانوا يأكلون الميتات في الجاهلية والشبهة التي احتجوا بها أنهم كانوا يقولون: ما ذبحتم بأيديكم حلال وما قتل الله بيده الشريفة تقولون: إنه حرام، ولهذا قال الله : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121].

والمقصود بالدم المسفوح في قوله: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا [سورة الأنعام:145] أي الذي يخرج من أوداج الذبيحة عند الذبح، فهذا الدم كانوا يتلقونه بإناء ثم يطبخونه ويأكلونه، وهذا دم نجس لا يجوز شربه ولا أكله، وهذا الدم المسفوح يختلف حكمه عن حكم الدم الذي يكون عالقاً بالحم أو باقياً في العروق فإن هذا لا إشكال فيه، وكذلك أيضاً ما أصله الدموية كالكبد والطحال فإن هذا يجوز أكله بلا إشكال؛ لأنه مستثنى بقول النبي ﷺ: أحلت لنا ميتتان ودمان[12].

وقال الحميدي حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن عبد الله -ا.

يقول: "قلت لجابر بن عبد الله" والرواية بهذا السياق هي في البخاري عن عمرو بن دينار لكن قال: قلت لجابر بن زيد"[13] وأصل الحديث أيضاً جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله -ا- لكن ليست بهذا السياق وإنما جاءت في سياق تحريم الحمر الأهلية عام خيبر[14] والله أعلم.

قال: قلت لجابر بن زيد -: إنهم يزعمون أن رسول الله ﷺ نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خبير فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله ﷺ.

لفظة "زعم" تارة تذكر ويراد بها التوهين أو تكذيب الخبر بحسب مرتبته، وأحياناً تذكر بمنزلة قال، فهي هنا بمنزلة قال؛ لأن الذين يزعمون هنا هم الصحابة .

فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله ﷺ ولكن أبى ذلك الحبر.

الحكم بن عمرو هو الغفاري عن رسول الله ﷺ.

وقوله: "ولكن أبى ذلك الحبر" هذا خطأ والصواب "أبى ذلك البحر" يعني ابن عباس –ا- وقد قبل له: البحر؛ لتبحره في العلم.

ولكن أبى ذلك البحر، يعني ابن عباس -ا- وقرأ: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ الآية [سورة الأنعام:145] وكذا رواه البخاري وأخرجه أبو داود[15].

وروى أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه عن ابن عباس -ا- قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله نبيَّه وأنزل كتابه وأحلَّ حلاله وحرَّم حرامه، فما أحلَّ فهو حلال وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفوٌ، وقرأ هذه الآية: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ الآية [سورة الأنعام:145] وهذا لفظ ابن مردويه ورواه أبو داود وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

إذا استثنينا المذكورات في الآيات -الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.. الخ- ومعها كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير فإنه يبقى النظر في حكم أشياء أخرى كالحشرات ونحوها، فالعلماء اختلفوا في حكم أكل الضفدع ولذلك لا يحل تذكيتها على قول من منع من أكلها، ولا يحل قتلها؛ لأنه نُهي عن ذلك[16].

ومن أهل العلم من يمنع من أكل السحالي والحشرات الأخرى باعتبار أن الله قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [سورة الأعراف:157] وهذه من الأمور المستخبثة.

فيبقى النظر في ضابط الاستخباث وقد قال العلماء: أسلم الناس ذوقاً هم العرب فما استخبثه العرب الذين نزل عليهم القرآن بطبعهم فهو خبيث لا يؤكل؛ لعموم قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [سورة الأعراف:157] فهذه من المستخبثات، وهذا لا ينضبط أيضاً؛ لأن الأعرابي الذي سئل ماذا تأكلون في الصحراء؟ قال: نأكل ما هب ودب ودرج إلا أم حبين، وقال: لتهنأ أم حبين العافية، فمثل هؤلاء ما يتنزهون عن شيء وقد يكون الذي حملهم على هذا شدة الفقر والحاجة فلا يعني هذا أنهم ما كانوا يستقذرونها أو يستخبثونها، وعلى كل حال الأشياء المستخبثة عرفاً ليس للإنسان أن يأكلها، كالحشرات، والله تعالى أعلم، وكذلك الأشياء الضارة، لعموم الأدلة الواردة في هذا المعنى، فما ثبت ضرره -باعتبار أن الضرر غالب فيه- لا يجوز أكله؛ لقوله ﷺ: لا ضرر ولا ضرار فهذه لا يجوز أكلها وما عدا ذلك مما لم يرد فيه دليل ما لم يكن من ذوات المخالب ولا ذوات الأنياب فإنه يجوز أكلها.

والخلاصة أن كل ما لم يكن من ذوات الأنياب ولا المخالب ولا من الأشياء المستخبثة أو لم يغلب عليه الضرر فإنه يجوز أكله، وأما الحيوانات البحرية فالأصل أنها تؤكل جميعاً الحي منها والميت إلا ما ثبت ضرره، وإن كان العلماء قد اختلفوا في بعض الأشياء مثل كلب البحر لكن الأصل في كل ذلك الجواز، والله أعلم.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة -تعني الشاة- قال: فلولا أخذتم مسكها[17].

قوله: "فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة" وذلك أنهم كانوا يسمون الدواب بأسماء معينة فهذه دلدل وهذه القصواء وهكذا، فهذه إحدى الشياة ماتت وكان لها اسم معين.

قال: فلولا أخذتم مسكها قالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال رسول الله ﷺ: إنما قال الله: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به فأرسلت فسخلت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها، ورواه البخاري والنسائي نحوه[18].

في قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ الأصل أن الضمير يرجع إلى المضاف؛ لأنه هو المحدث عنه وهو اللحم هنا، وقد تكلف بعضهم فقال: إنه يرجع إلى المضاف إليه من أجل أن يدخل فيه الشحم لكن لا حاجة إلى هذا؛ لأن اللحم إذا أطلق في لغة العرب فإنه يدخل فيه الأحمر والأبيض، وبناء على هذا يدخل في الآية لحم الخنزير وشحمه فلا يجوز الانتفاع بدهون الخنزير ولا جميع المشتقات التي تستخرج منه، وكذا ما يلحق بلحمه كالأمعاء وما أشبه ذلك.

وفي قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] الضمير عاد مفرداً فيحتمل أن يرجع إلى المذكورات السابقة كلها إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] هذا احتمال، والأقرب والله تعالى أعلم أنه يرجع إلى المذكور الأخير؛ لأن الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولأن الضمير مذكر إضافة إلى كونه مفرداً، ثم إن ذكر الفاء مع "إنَّ" يدل على التعليل، وهذا التعليل يحتاج إلى بيانه في الخنزير؛ لأن الذين يأكلون الخنزير يلتذون به وربما قدموه على سائر اللحوم كما هو مشاهد، وأما الميتة والدم المسفوح فلا يخفى على الجميع أنها ليست من أطايب الطعام حتى عند الذين يأكلونها، ولذلك رجح ابن القيم –رحمه الله- أن الضمير هنا يرجع إلى لحم الخنزير من هذه الأوجه التي ذكرتها آنفاً.

يقول تعالى: أَوْ فِسْقًا [سورة الأنعام:145] "أو" حرف عطف، لكن فِسْقًا معطوفة على قوله: لَحْمَ خِنزِيرٍ وليس على فسقاً، فيكون معمى الآية: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير أو فسقاً أهل لغير الله به، أي أنها أربع محرمات كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة المائدة:3] فتلك الآية بمعنى هذه تماماً، وسماه فسقاً لتوغله في الفسق؛ لأنه ذبح لغير الله من الأصنام والقبور وما إلى ذلك من المعبودات سوى الله -تبارك وتعالى- والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه النسائي في كتاب الزكاة - الاختيال في الصدقة (2559) (ج 5 / ص 79) وأحمد (6695) (ج 2 / ص 181) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (4381).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة – باب الرخصة في الرجل يخرج من ماله (1680) (ج 2 / ص 54) والترمذي في كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في مناقب أبي بكر وعمر -ا كليهما- (3675) (ج 5 / ص 614) والدارمي في كتاب الزكاة - باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده (1660) (ج 1 / ص 480) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (6021).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الوصايا - باب الوصية بالثلث (2593) (ج 3 / ص 1007) ومسلم في كتاب الوصية – باب الوصية بالثلث (1628) (ج 3 / ص 1250).
  4. أخرجه الدارمي في كتاب الزكاة - باب النهي عن الصدقة بجميع ما عند الرجل (1659) (ج 1 / ص 479) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (6408).
  5. أخرجه الحاكم (3235) (ج 2 / ص 347) والطبراني في الكبير (9037) (ج 9 / ص 208).
  6. أخرجه البخاري في كتاب المزارعة - باب استعمال البقر للحراثة (2199) (ج 2 / ص 818) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق (2388) (ج 4 / ص 1857).
  7. الثابت في صحيح البخاري قوله ﷺ: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب - كتاب المناقب – باب قصة خزاعة (3333) (ج 3 / ص 1297) وفي مستدرك الحاكم (ج 4 / ص 647) عرضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو عمرو وهو يجر قصبه في النار وهو أول من سيب السوائب وغير عهد إبراهيم وأشبه من رأيت به أكثم بن أبي الجون قال: فقال أكثم: يا رسول الله، يضرني شبهه؟ قال: لا؛ إنك مسلم وإنه كافر وزاد في مسند البزار (ج 2 / ص 479): إنه كان أول من غير دين إسماعيل فسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الواصلة وحمى الحامي وقال الألباني: "وإسناده حسن فهو شاهد قوي لحديث الترجمة" انظر السلسلة الصحيحة (1677) (ج 4 / ص 242).
  8. أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (1934) (ج 3 / ص 1534).
  9. أخرجه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات- باب ما يباح به دم المسلم (1676) (ج 3 / ص 1302).
  10. أخرجه أبو داود في كتاب الحدود - باب فيمن عمِل عمَل قوم لوط (4464) (ج 4 / ص 269) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله ﷺ (1456) (ج 4 / ص 57) وابن ماجه في كتاب الحدود - باب من عمِل عمَل قوم لوط (2561) (ج 2 / ص 856) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب يرقم (2422).
  11. أخرجه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حد الساحر (1460) (ج 4 / ص 60) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2699) وأما الترمذي فقال: "لا نعرفه إلا مرفوعاً من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة، ويروي عن الحسن أيضاً، والصحيح عن جندب موقوف، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملاً دون الكفر فلم نر عليه قتلاً" وقال الحاكم: صحيح غريب، ووافقه الذهبي.
  12. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة - باب الكبد والطحال (3314) (ج 2 / ص 1102) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1118).
  13. صحيح البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب لحوم الحمر الإنسية (5209) (ج 5 / ص 2103).
  14. ونصه: "عن جابر بن عبد الله ا قال: "نهى رسول الله ﷺ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص في الخيل" صحيح البخاري في كتاب المغازي – باب غزوة خيبر (3982) (ج 4 / ص 1544).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب لحوم الحمر الإنسية (5209) (ج 5 / ص 2103) وأبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل لحوم الحمر الأهلية (3810) (ج 3 / ص 420).
  16. "عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيباً سأل النبي ﷺ عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي ﷺ عن قتلها" أخرجه أبو داود في كتاب الأدب - باب في قتل الضفدع (5271) (ج 4 / ص 540) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6971).
  17. سيأتي تخريجه عند تمامه.
  18. أخرجه أحمد (3027) (ج 1 / ص 327) والطبراني في الكبير (11792) (ج 11 / ص 288) وصححه شعيب الأرناؤوط في مسند أحمد.

مواد ذات صلة