وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:229-233].
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية، نزلت بسبب ثابت بن قيس: اشتكت منه امرأته لرسول الله ﷺ فقال لها: (أتردّين عليه حديقته؟)، قالت: نعم، فدعاه فطلقها على ذلك[1]. وحكمها على العموم.
هذا لا يصح أنه سبب النزول، وخبر ثابت بن قيس مع امرأته ثابت الصحيح لكن ليس فيه أنه سبب النزول، الذي في البخاري ليس فيه ما يدل على أنه سبب النزول، لكن ذلك جاء عند ابن جرير -رحمه الله- وبإسناد معضل لا يصح، ومن ثم فذلك باق على العموم أصلًا، ولا يقال: إنه مما نزل على سبب. والله أعلم، ولو كان نزل بسبب ثابت بن قيس فكما قال المؤلف: أن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب.
الخلع الطلاق الذي يكون على عوض تبذله الزوجة يكون خلعًا هكذا دائمًا.
لا يجوز إلا إذا خاف الزوجان إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فجاء بهذا الاستثناء فيكون ذلك مقيدًا به، وذكر الأحوال وهذه الحالات الأربع هي استقرائية.
ثم إن المخالعة على أربعة أحوال؛
الأول: أن تكون من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة؛ فأجازها مالك وغيره لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا الآية [النساء:4]، ومنعها قوم لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229].
وفي قراءة حمزة بضم الياء (إلا أن يُخافا ألا يقيما حدود الله)[2]، يعني: أن الخوف يكون صادرًا من غيرهما من غير الزوجين، فيكون ذلك مثلًا من قِبَل الحاكم، أو القاضي ونحو ذلك، وحمله ابن جرير على هذه القراءة على المؤمنين، إلا أن يُخاف أهل الإيمان ألا يقيما حدود الله، هذه الحالة إذا كانت من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة يمكن أن يُستدل لها بحديث: أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة[3] لم يصدر من الزوج شيء، وإذا لم يصدر منها هي شيء فلا يجوز للزوج أن يأخذ منها العوض على أن يطلقها، والمقصود بالخوف إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ هنا إقامة حدود الله -تبارك وتعالى- بأن تسيء الخلق معه مثلًا، تتغير أخلاقها ومعاملاتها لهذا الزوج فتتصرف معه بما لا يليق، أو أن تتكلم وتتخاطب معه بما لا يحسن ولا يجمل، تُعلمه -كما يقول بعضهم- بكراهتها له، تقول: أنا أكرهك، أنا لا أطيقك، أنا لا أرغب في البقاء معك، أنا أبغضك، أجد نفورًا منك ونحو ذلك، أو ألا تطيع الزوج تكون ناشزًا تترفع عن طاعته، وبعضهم يقول: بأن تكون الكراهة من الطرفين إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ينفر كل طرف من الآخر، ويكرهه ويكره البقاء معه، هذه الكراهة والبغض إذا وجد والنفور ونحو ذلك، يكون عذرًا لمثل هذه الحالة، فقد يصل الحال بالزوج والزوجة أنه قد يكره الحي بكامله الذي تسكن فيه هذه المرأة مثلًا، فهذه الحال الأولى: أن تكون من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة.
والثاني: أن يكون الضرر منهما جميعًا فمنعه مالك في المشهور؛ لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، وأجازه الشافعي[4]؛ لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ.
والثالث: أن يكون الضرر من الزوجة خاصة، فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية.
والرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة؛ فمنعه الجمهور؛ لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء:20]، وأجازه أبو حنيفة مطلقًا[5]، وقوله في ذلك مخالف للكتاب والسنة.
الخلع يجوز إذا كان طلب الطلاق صادرًا من الزوجة بحيث تكون هذه الزوجة لا ترغب البقاء والاستمرار مع هذا الزوج، فجعل الله لها مخرجًا، وجعل للزوج عوضًا، هذا الزوج بذل المهر ثم بعد ذلك يُقابل بتفويت مصلحته فتطلب الطلاق منه، فإذا كان الزوج يرغب بهذه المرأة والبقاء معها فله أن يأخذ العوض، والمخرج بالنسبة للمرأة أن تبذل العوض أتردين عليه حديقته؟ قال: خذ الحديقة وطلقها تطليقة، الحديقة هذه كانت مهرًا فصار ذلك مصلحة للطرفين، لكن إذا كان الزوج لا رغبة له فيها أصلًا، هو لا يريدها ففي هذه الحال يطلق مجانًا، لا يجوز له أن يأخذ العوض، فيكون طلاقًا من غير خُلع إذا كان لا يريدها، وهو لا يتمكن من أخذ العوض إذا كان لا يطيقها، أو لا يريدها، أو لا رغبة له فيها إلا بالعضل، ولهذا قال الله : وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ بحيث أنه لا يريد هذه المرأة، فماذا يصنع؟ يؤذيها ولا يطلقها حتى يضيق عليها فتلجأ إلى طلب الطلاق منه، هذا لا يجوز، يعاملها معاملة سيئة، يمنع حقوقها ويقول: لا أطلق حتى تبذلي لي المهر. هذا لا يحل، كيف يأخذ ذلك ويسترده، والله يقول: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، فذلك بما استحل من بُضعها، فاستحقت المهر، فذكره في القول الرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة. هذا لا يحل، قال: لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20]، وبعضهم يقول: إن آية البقرة هذه إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ منسوخة بآية النساء، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فآية النساء وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا إلا إذا كانت الرغبة من قِبَل الزوج، وآية البقرة هذه إذا كان ذلك من قِبَل المرأة، فلا تعارض، والله أعلم.
ذكرت قول ابن جرير -رحمه الله- (إلا أن يُخافا) القراءة الأخرى قراءة حمزة، باعتبار أن الخوف صادر من المؤمنين فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ لاحظ هنا ما قال: فإن خافا ألا يقيما حدود الله. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فيكون هذا في الحكام، قول ابن جرير: في المؤمنين، يعني: بمعنى المتوسطين هنا يعني الذي دخلوا في هذا الأمر للإصلاح بين الزوجين، وحل الإشكال فيكون ذلك خطابًا لهم كالحكمين مثلًا.
فَإِنْ طَلَّقَها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ.
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أجمعت الأمة على أن النكاح هنا العقد مع الدخول والوطء، لقوله ﷺ للمطلقة ثلاثًا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك[6]، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطء[7]، وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث، وخرقه للإجماع، وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحًا لا شبهة فيه، والوطء مباحًا في غير حيض ولا إحرام ولا اعتكاف ولا صيام، خلافًا لابن الماجشون في الوطء غير المباح، وأما نكاح المحلل فحرام، ولا يحل الزوجة لزوجها عند مالك، خلافًا لأبي حنيفة[8]، والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة، ولا المحلل له، وقال قوم: من نوى التحليل منهم أفسد.
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ذكر هنا أن المقصود العقد مع الدخول، هذه أكمل إطلاقات النكاح في كتاب الله -تبارك وتعالى- فالنكاح يأتي بمعنى مجموع الوطء والعقد فهذا أوضح مثال له، ويأتي النكاح بمعنى الوطء خاصة، وهذا لم يأت صريحًا في كتاب الله ، ولكنه أحد الأقوال في قوله تبارك وتعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، فُسر بالوطء، وهذا ليس محل اتفاق، يعني: بعضهم فسره بالعقد والتزوج وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، فعلى أحد القولين في آية النور يكون ذلك مثالًا على هذا الإطلاق الثاني، إطلاق النكاح على الوطء خاصة من غير عقد، يعني: لا يزني إلا بزانية تُقر بحكم الزنا ولكنها لا تمتثل، أو مشركة تُنكر الحكم رأسًا، الإطلاق الثالث للنكاح: هو إطلاقه على العقد خاصة، يعني: من غير وطء، ومثاله: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فهذا صريح في هذا الإطلاق الثالث الذي هو مجرد العقد، فهذه إطلاقات النكاح الثلاثة، وهنا ما ذكره من المعتبر في ذلك من جهة القصد والنية في التحليل بالإجماع أن نية الزوج الجديد معتبرة، يعني: إذا قصد التحليل فالنكاح باطل، ولا يحل لها أن ترجع إلى زوجها الأول، وأوضح من هذا لو كان التوافق بين الثلاثة: هذا المحلل، والزوج القديم، والزوجة، ويمكن أن يجتمع مع هؤلاء الرابع هو الولي، فهذا لا شك أنه لا يحل للمرأة أن ترجع إلى زوجها الأول، تبقى نية غير الزوج الجديد فيما لو كان ذلك بنية المرأة، قبلت الزواج منه وهي تقصد الرجوع إلى زوجها الأول، هل يؤثر أو لا يؤثر؟ أو كان ذلك في نية الزوج القديم، جاء برجل ليتزوجها ولم يخبره ولم يتواطأ معه على ذلك فهل هذا يؤثر؟، كذلك الولي لو كان يريد بهذا النكاح هذا المعنى، هل نيته تؤثر أو لا تؤثر؟ الذين قالوا: إنها لا تؤثر، قالوا: باعتبار أن هؤلاء لا يملكون عقدة النكاح ولا يملكون الطلاق فهو بيد الزوج فنيتهم لا قيمة لها ولا اعتبار.
يمكن أن تنوي المرأة هذا ولكن الزوج الجديد يأبى ولا يطلق، ويمكن أن يقصد هذا الزوج القديم ولكن الزوج الجديد يرفضه ويمسكها، قالوا: فلما كانت نية هؤلاء لا تؤثر إنما الذي يؤثر هو نية المحلل إن قصد التحليل، قالوا: المعتبر هو نية الزوج الجديد فقط ولا قيمة لما نواه غيره.
وبعضهم اعتبر نية هؤلاء ورأى أن ذلك وإن لم يكن معه مواطأة من قِبَل الزوج الجديد، يعني كونه لا يعلم مثلًا لكن المرأة نوت هذا بأن ذلك يكون حرامًا ولا تحل للزوج الأول، والأعمال بالنيات، وأنها قصدت التحايل بذلك للرجوع إلى زوجها الأول فعوقبت بضدة، وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قيد ذلك بما إذا صدر عنها مثلًا ما يقلق هذا الزوج الجديد ويزعجه أو نحو ذلك من المطالبة بالطلاق ونحو هذا.
فالمقصود أن المعتبر نية المحلل، أما نية المرأة فبعضهم يقول: لا تؤثر؛ لأنها لا تملك الفُرقة. وهذا قول الحنفية[9]، والمالكية[10]، والحنابلة[11]، قالوا: لا عبرة بنية المرأة. وهو أحد الأقوال للشافعي -رحمه الله- وبعضهم -كما سبق- يقولون: بأن ذلك يؤثر في الحكم، وهذا مروي عن بعض السلف: كالنخعي، والحسن البصري[12]، وسووا الثلاثة في ذلك، قالوا: لو نوى الزوج القديم كذلك أيضًا أو الزوج الجديد أو المرأة، فإذا وجدت النية من واحد من هؤلاء فإن ذلك يكون من قبيل نكاح التحليل.
وشيخ الإسلام يوجه كلام هؤلاء الذين قالوا: بأن نية المرأة لا تؤثر أو تؤثر. بما سبق أنها إذا كانت مجرد نية فقط فهذا لا يؤثر، وأما إذا صدر عنها عمل، أو قول أو نحو ذلك مما يكون سببًا للطلاق فهنا تكون نيتها مؤثرة ويكون تحليلًا، كأن تقول له: أنا ما تزوجتك إلا لأرجع للزوج الأول، أنا أحبه. أو أن تقول: أنا أحب رجلًا غيرك. أو تفتعل مشكلة من أجل أن يطلقها، أو أن تلح عليه، أو تضجره، أو أن تقول له: أبذل لك المال على أن تطلق. أو تحتال عليه بأنواع الحيل من أجل الطلاق كما يقول بعضهن مثلًا في بعض الأعراف ونحو ذلك: طلبت، فإذا قال: أعطيتك. يشعر بأن ذلك من قبيل اللازم له، فتقول له: طلقني. فبعض الناس يرى أن هذا يلزمه ولو كان يحبها ولا يستغني عنها، يطلق مضطرًا، ومن المعاصرين الشيخ محمد صالح العثيمين -رحمه الله- يقول: بأن نية الثلاثة تؤثر سواء كان ذلك من قِبَل المحلل، أو المرأة، أو الزوج السابق[13].
والذي قال: نية المرأة غير مؤثرة. لكن هل هي تأثم على هذه النية؟ هي تأثم على هذه النية؛ لأن ليس لها ذلك أن تتزوج بقصد الرجوع إلى الأول؛ لأن الأصل في الزواج البقاء والدوام، فهذا النية لن تجعل هذه المرأة في حال من الملائمة مع زوجها الجديد، فإن رأت أنه قد رغب فيها فذلك يحملها على أن تكون على الأقل في حال من السلبية كما يقال لهذا الزوج فلا تبدي له من المشاعر أو تؤدي من الحقوق ما يكون بين الزوجين، وإنما الواجب عليها أن تتزوج باعتبار أنه زواج دائم لا لقصد الرجوع إلى الأول.
لكن على كل حال القول المروي عن سعيد بن المسيب هذا قول شاذ وغريب وقد لا يثبت أصلًا عنه، ونقل محقق الكتاب في الحاشية: قال ابن كثير في تفسيره: في صحته عنه نظر[14]. ثم ساق روايات عنه عن ابن عمر بخلاف هذه، ثم علق بقوله: فبعيد أن يخالف ما رواه بغير سند.
فَإِنْ طَلَّقَها يعني هذا الزوج الثاني.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي: على الزوجة والزوج الأول.
أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي: أوامره فيما يجب من حقوق الزوجية.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية خطاب للأزواج، وهو نهي عن أن يطول الرجل العدة على المرأة مضارة منه لها، بل يرتجع قرب انقضاء العدة ثم يطلق بعد ذلك.
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا بمعنى أنه يطلق المرأة فإذا قاربت العدة على الانتهاء راجعها، ثم يطلق فإذا قاربت العدة على الانتهاء راجعها، وهكذا وهو لا رغبة له فيها، وإنما يقصد المضارة من أجل أن يؤذيها، أو ينتقم منها، أو نحو ذلك.
لأن ذلك يعني وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ قاربن، وهذا نقل عليه القرطبي الإجماع[15]، هذا المعنى بلا إشكال؛ لأن لا يحق له أن يمسك هذه المرأة إذا كانت العدة قد انقضت فلا سبيل له عليها، ويحتاج إذا أراد هذه المرأة إلى عقد جديد ومهر وموافقة منها، وأن يكون التزويج عن طريق الولي، أما إذا كانت في العدة فهو أحق بها، فيراجع إذا شاء، مثل: قد قامت الصلاة. يعني قرُب قيامها، إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [المائدة:6]، يعني: أردتم القيام ونحو ذلك.
يعني: أن يمسك بمعروف، أو يسرح بمعروف، بعضهم يقول: هو الإشهاد على الرجعة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أن يشهد على الرجعة، ومسألة الإشهاد هو يشهد على الطلاق ويشهد على الرجعة، والإشهاد على الرجعة آكد من الإشهاد على الطلاق؛ لأنه يترتب عليه من الأمور التي لا تخفى، كأن يكون حمل فتقول: راجعني هذا الحمل من زوجي. قد يكون الناس عرفوا أنه طلقها، وكذلك ما يتعلق بالميراث إذا مات الزوج فادعت أنه قد راجعها فهو بحاجة إلى الإشهاد، والعلماء مختلفون في هذا الإشهاد هل هو واجب أو غير واجب؟
والجمهور على أنه لا يجب، لكن لا شك أنه في الرجعة آكد منه في الطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الطلاق، فالمعروف هنا يقول: قيل: هو الإشهاد، وقيل: النفقة.
يعني: إذا أمسكها ينفق بمعروف، والمعنى أعم من هذا، توفية جميع الحقوق من المهر والمتعة ومن غير مخاصمة، ولا شقاق، ولا إضرار، وما أشبه ذلك، فإذا أمسكها بمعروف، من الإمساك بمعروف: أن ينفق، وأن يعاملها معاملة لائقة، ولا يكون منه مضارة وما إلى ذلك مما ينبغي أن يكون بين الزوجين، والإشهاد على الرجعة مما يدخل في ذلك فهو من المعروف، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فذلك بأن يعطيها متعة، أو يُشهد على الطلاق مثلًا، ألا يصدر عنه قول أو فعل يسيء إليها أو إلى أهلها، لا تتحول الحال إلى عداوة وشقاق وأذى، وإنما يكون الفراق بمعروف، والله تعالى أعلم.
لاحظ الفرق الآن وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فلا شك أن بلوغ الأجل هنا يختلف عما قبله، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ هذا خطاب للأزواج، فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يعني: هنا بانقضاء العدة، وليس معناه المقاربة؛ لأنه لو كان مقاربة انقضاء العدة، فالزوج أحق بها، ولا يحق لأهلها أن يمنعوا الزوج من مراجعتها، فالقرار بيده، لكن متى يحصل المنع إذا انقضت عدتها، وأراد كل واحد من الزوجين أن يرجع إلى صاحبه، يعني: بعقد جديد، فقد يمتنع الولي ويأبى؛ لأن هذا الزوج قد طلق، فهو يرى مثلًا أنه غير كفء لا يستحق أن ترجع إليه بعد أن زوجوه، ثم طلقها فيكونون أعني هؤلاء الأولياء حائلًا ومانعًا من رجوع هذه المرأة إلى زوجها، فبلوغ الأجل هنا غير بلوغ الأجل في الآية التي قبلها هنا: انقضاء العدة بلا إشكال، لكن قوله -تبارك وتعالى-: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ هذا خطاب للأولياء، وقد جاء عن ابن عباس -ا-: أنه قال: نزلت في الرجل يطلق الطلاق الرجعي فتنقضي العدة، ثم يبدو له أن يتزوجها، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها[16].
وقول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، أنه ليس سبب النزول، وإنما يقصد بذلك التفسير والمعنى، نزلت في الرجل يطلق الطلاق الرجعي فتنقضي العدة؛ لأنه لو كان طلاق غير رجعي -يعني: طلقة ثالثة- فهنا لا يقال للأولياء: فلا تعضلوهن أن يرجعن. ثم يبدو له أن يتزوجها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها.
هذا قال به عامة أهل العلم: مثل مسروق، والنخعي، والزهري، والضحاك[17]، وبه قال كبير المفسرين: ابن جرير[18]، والحافظ ابن كثير[19]، وعلى هذا يكون المراد بقوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ هنا إذا قلنا: هذا الخطاب من أوله للأولياء، فهل هم الذين طلقوا أم الزوج هو الذي طلق؟ الزوج هو الذي طلق، لكن وجهوه باعتبار أنهم سبب للطلاق لكونهم هم الذين زوجوها من هذا الزوج، يعني: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ إذا قلنا: إن هذا الخطاب من أوله للأولياء وليس للزوج. فكأنه عُبر بهذا باعتبار أنهم تسببوا في هذا الزواج فالزواج يكون بطريق الولي فهو الذي زوجها، والله أعلم.
العضل بمعنى الحبس والمنع، يمنعها من التزوج به، وعلى كل حال يحتمل أن يكون خطابًا للأزواج، يعني أن قوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فلا تعضلوهن أيها الأولياء، هذا يحتمل.
السهيلي له كتاب في المبهمات (مبهمات القرآن)، ومعقل بن يسار حينما زوج أخته فطلقها زوجها فرفض معقل وقال: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، فلا والله لا تعود إليك أبدًا.
يعني يقول: أنت ما تستحق ذلك. وكان رجلًا لا بأس به -يعني الزوج- لا بأس به، يعني: لا يُعاب، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ هذا رواه البخاري، هذا هو سبب النزول معقل بن يسار لما منع زوج أخته من الرجوع إليها.
هذه الرواية عن جابر لا تصح فبقي أن سبب النزول الصحيح الثابت هو ما وقع من معقل بن يسار .
يعني: يكون الكلام وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، الإشهاد هنا يمكن أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، فالمعروف أعم من هذا، ابن جرير -رحمه الله- يقول: بأن ذلك بما يكون من العوض عن أبضاعهن من المهور إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ لاحظ هنا ذكر المهور، غيره ذكر الإشهاد، ويقال: كل هذا من المعروف. فيكون بما يجب أن يؤدي لها وأن يكون هذا النكاح عن طريق الولي لا يتفق معها ثم يتزوج، والولي لا يعلم، ولم يأذن ولم يزوج، أو كان الولي يرفض ذلك فتتفق المرأة مع زوجها سرًا وتتزوج به فهذا لا يجوز، وبعض من يبتلون بأشياء من هذا القبيل للأسف يتحولون في مثل هذه الأحوال إلى أحناف، هم ليسوا بأحناف أصلًا ويعرفون قول النبي ﷺ: لا نكاح إلا بولي[22]، وأصح من هذا وأثبت إيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[23].
ومع ذلك إذا كان للإنسان هوى فقد يتفق مع المرأة ويتزوجها، ثم بعد ذلك يكون بينه وبينها من العلاقة، وما يكون من قبيل المسارقة كأن ذلك بالحرام، يواعدها في مكان عام أو نحو ذلك، ثم يأخذها ساعة أو ساعتين أو نحو ذلك يقضي وطره ثم يعيدها من غير علم أهلها، هذا للأسف يوجد ويتكرر، وحينما يُنكر على هؤلاء يقولون: هذا قال به بعض الفقهاء. هذا من باب تتبع رخص الفقهاء، وفي أمر عظيم يستحل به أبضاع النساء، وتبقى هذه المسكينة معه في نكاح باطل يطؤها.
فهو لا يرى الولي، والحديث كما سبق لا نكاح إلا بولي وحديث: إيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، وكذلك أيضًا: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها[24].
كل هذه الأحاديث تدل على أن النكاح إنما يكون بالولي، فلا يجوز للمرأة أن تُنكح نفسها، والله تبارك وتعالى قال: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وفي حق النساء قال: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] من الذين ينكحها؟ الولي، ففرق بينهما، وهنا فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لو لم يكن النكاح من طريق الولي لم يكن لعضله أثر، فتستطيع أن تتزوج بعيدًا عنه ولو كان يرفض، لو كانت هي التي تملك ذلك، لكن لما كان منعه مؤثرًا قال: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، والأحناف يتأولون لهذا بتأويلات بعيدة قوله مثلًا أيما امرأة تكحت نفسها بغير إذن وليها الحديث، بعضهم قال: إيما امرأة يعني الصغيرة التي لا تنفرد بقرار وإنما تكون تحت نظر الولي. واعترض عليهم الجمهور وقالوا: إن لفظ المرأة يأبى ذلك، كيف يقال للصغيرة أو الطفلة! فلما رأوا ذلك قال بعضهم: إن المقصود المكاتبة إذن.
وهذا حمل للفظ على معنى بعيد، على معنى غير متبادر (أيما امرأة) هذه صيغة عموم، فكيف تُحمل على صورة قليلة كالمرأة المكاتبة فهذا تأويل بعيد.
ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ خطابًا للنبي ﷺ أو لكل واحد على حدته؛ ولذلك وحد ضمير الخطاب.
ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ خطابًا للمؤمنين والإشارة إلى ترك العضل، ومعنى (أزكى) أطيب للنفس، ومعنى (أطهر) أي: للدين والعرض.
لأنه إذا كان بين الزوجين مودة وتعلق فقد يتجاوزان ذلك إلى الحرام، يمنعها الولي وتبقى متعلقة به ومتعلق بها وكان بينهما ما يسقط الحواجز قبل ذلك -يعني بتزوجها منه سابقًا- فهي تجرؤ عليه ويجرؤ عليها، وكان بينهما أيضًا من المعاشرة والمباشرة ما يسقط معه لربما الحياء أيضًا فلا يحتاج إلى مقدمات، فيمكن أن يقع الحرام، وبعض من لا خلاق له من الأزواج قد يبتزها بسبب الولد، فقد يكون الولد عنده وهي تريد أن ترى هذا الولد فهو يبتزها بهذا الولد، يقول: أتركه عندك أسبوعًا كاملًا بشرط أن تمكنيني من نفسك. وتبقى هذه الضعيفة بحجة الولد وبشوقها لهذا الولد ونحو ذلك فيقع المكروه.
وهكذا أيضًا أزكى لنفوس الأولياء فقد يتسلل إلى نفوسهم الشكوك، هو يرى أن هذه المرأة تريد الرجوع إليه، وهو يريد الرجوع إليها فقد يسيء الظن بهما وأنها على علاقة معه، فقد يأتي إلى هاتفها ويفتش الرسائل ونحو ذلك، وهو يترقب، ولربما يحاول أن يتنصت على اتصالاتها فيبقى في قلبه الريب.
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ أزكى للجميع، أزكى للزوجين، وأزكى لنفوس الأولياء، أزكى للقلوب، وكذلك أيضًا أبعد من الشحناء والعداوات، إذا كان كل واحد من الزوجين يريد أن يرجع للآخر وبقي هذا الولي، قد يكون الأخ ونحو ذلك يمنع من هذا فقد يقع الكراهية والنفور وقطعية الرحم والعداوة ونحو ذلك، أزكى من الذنوب، أزكى من الريب، أزكى من العداوات، أزكى من مواقعة الفواحش، فأطلقه هنا فقال: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فيحمل على كل هذه المعاني، ولهذا قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، دعها ترجع إليه، وتطيب نفسها بذلك، وتعف نفسها، وتنقطع السُبل على الشيطان لا يصل إلى قلبك ولا يصل إلى قلب الزوج أو الزوجة، ولا يقع ما حرم الله -تبارك وتعالى- من الفواحش وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر بمعنى الأمر، وتقتضي الآية حكمين؛
الحكم الأول: من يرضع الولد؟ فمذهب مالك: أن المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده، إلا أن تكون شريفة لا يرضع مثلها فلا يلزمها ذلك، وإن كان والده قد مات وليس للولد مال لزمها إرضاعه في المشهور، وقيل: أجرة رضاعه على بيت المال، وإن كانت مطلقة بائنًا لم يلزمها رضاعه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] إلا أن تشاء هي فهي أحق به بأجرة المثل، فإن لم يقبل الطفل غيرها وجب عليها إرضاعه، ومذهب الشافعي[25]، وأبي حنيفة[26]: أنها لا يلزمها إرضاعه أصلًا، والأمر في هذه الآية عندهما على الندب، وقال أبو ثور: يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية وحملها على الوجوب[27]، وأما مالك فحملها في موضع على الوجوب، وفي موضع على الندب، وفي موضع على التخيير، حسبما ما ذكر من التقسيم في المذهب.
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، هذه الآية هل هي في المطلقات خاصة؟ باعتبار أن غير المطلقة يجب عليها إرضاع الولد، أو هي مطالبة به ومأمورة به؟ أو أن ذلك لعموم الوالدات؟
بعض أهل العلم يقول: هذه الآية أصلًا في المطلقات وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قالوا: هذا في المطلقة.
وهذا قال به جماعة من السلف كثير: كمجاهد، والزهري، والربيع بن أنس، وسعيد بن جبير، والسدي، والضحاك، وهو قول الجمهور: أن هذه الآية في المطلقات، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- كما قال في سورة الطلاق: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6]، هذا في المطلقات[28].
وبعضهم يقول: هذه الآية عامة في المطلقات وغير المطلقات، وعلى كل حال هذا خبر وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ بمعنى الإنشاء، يعني: بمعنى الأمر، ومجيء الأمر بصيغة الخبر بعض أهل العلم يقول: هذا أقوى بحيث يكون ذلك كأنه قد فُرغ منه وحُسم فيكفي الإخبار عنه وما على المكلف إلا الامتثال والتطبيق لمقتضاه.
الحول أصله تحرك في دور، وقيل: للعام حول؛ لأنه يحول، يعني: يدور، ولهذا لازال العامة يستعملون ذلك يقولون: هذا حويل. يقصدون الذي أتى عليه عام من التمر مثلًا، ويؤخذ من هذا، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ هذه مدة الإرضاع أن يتم الرضاعة حولين كاملين، فهذا يدل على أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين، يعني: لو أرضعته بعد السنتين هذا لا يترتب عليه أثر ولا حكم للحديث: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام[29].
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فهذا يدل على أنه لا يجب أن يكون ذلك في تمام حولين، يمكن أن يكون بأقل من هذا، ابن عباس -ا- له قول في هذه المسألة وهو يرى أن الحولين لمن وُلد لستة أشهر، فَهِم ذلك من قوله -تبارك وتعالى-: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، قال: فذكر المجموع في ثلاثين.
فإذا كان للرضاع أربعة وعشرون شهرًا فللحمل ستة أشهر، فإذا ولد لستة أشهر فالرضاع يكون لحولين، إذا ولد لسبعة أشهر يكون سنة وتسعة أشهر الرضاع، فإذا ولد لثمانية وهكذا ينقص، فإذا وُلد لتسعة يكون سنة وسبعة أشهر، لكن الجمهور على خلاف ذلك، والله أعلم، لكن لو أُرضع بعد السنتين لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ يعني بعض الأطفال يستمر يرضع إلى أربع سنوات وخمس، هل هذا حرام؟
الجواب: لا، لكن لا يترتب عليه حكم لو أرضعت غير ولدها بعد الحولين، يعني: تجاوز الحولين، فهذا لا يحرم لا يكون ولدًا لها من الرضاع، لكن لو أنها أرضعته هكذا من باب التغذية أو التسلية أو لتعلقه بذلك فهذا لا يقال: إنه حرام. لكنه لا يترتب عليه أثر بالنسبة لغير ولدها.
إذا كان اللبن من المرأة فقط مثل أن تأخذ شيئًا يدر الحليب، وقد تكون غير متزوجة، وقد تكون مطلقة، فالأقرب أن مثل هذا يؤثر، فهو لبنها ونبت منه العظم ما كان في الحولين فتكون أمًا له وليس له أب من الرضاع، فتكون هذه إحدى الصور في وجود أم من الرضاع من غير أب، كذلك لو كان لها زوج فأرضعت هذا الصبي في مدة الحولين أرضعته ثلاث رضعات، ثم طلقها هذا الزوج وانتهت العدة، وتزوجها زوج آخر، فأرضعت هذا الولد من حمل من هذا الزوج باقي الرضعات الخمس أرضعته رضعتين فتكون أمًا له، أرضعت خمس رضعات متفرقة في الحولين، وليس له أب من الرضاع؛ لأنه من الزوج الأول ثلاث، ومن الثاني: اثنتين فقط. فلا أب له من الرضاع، وإلا فالأصل أن الرضاع على الأرجح يحصل به الانتشار، التحريم من الجهتين: من جهة الأب، ومن جهة الأم، بحيث لو أرضعت من زوج لبنه خمس رضعات مشبعات فيكون هذا الرجل أبًا له وأخوه عمًا له وأبوه جدًا له، وابنه أخًا له، وهكذا من جهة الزوج، ومن جهة الزوجة كذلك أخوها خاله، وأمها جدته، وبنتها أخته، ونحو ذلك.
هنا المقصود بالفصال التفريق بين الصبي والرضاع، الفطام، ومنه قيل: لولد الناقة إذا قُطع عن الرضاع فصيل؛ لأنه فُصل عن أمه.
يعني: مَن الذي يُقدم قوله ويُعتبر ويؤخذ به، في الحولين من أراد الإتمام، قال لها الزوج: أكملي الرضاع. مثلًا وبعد الحولين قال لها الزوج: لا ترضعيه. مثلًا.
وقال ابن العباس: إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرًا، وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى وعشرون؛ لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15][30].
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ في هذه النفقة والكسوة: قولان؛
أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، أوجبها الله للأم على الوالد، وهو قول الزمخشري[31]، وابن العربي[32].
الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وقال منذر ابن سعيد البلوطي: هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته، وعلى ذلك حملها ابن الفرس.
قوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المولود له: هو الوالد كما في قوله -تبارك وتعالى-: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[33]، وعُبر بـ(المولود له) كأن ذلك -والله تعالى أعلم- من أجل أن ذلك فيه إشعار بأن الأب عليه أن ينفق؛ لأن الولد له ويحمل اسمه، يُنسب إليه فهو ولده فلا منة له بذلك ولا فضل فعليه أن يبذل ذلك طيبة نفسه بهذه النفقة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ فلا يشعر أنه متفضل عليها، أو يتمنع من النفقة، أو يماطل فيها؛ لأن الولد له، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ هذا بعضهم يقول: خاص بالمطلقات. كما سبق، وجاء عن الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف، أما إذا كانت في عصمته فهو ينفق عليها ولو لم يكن لها ولد أصلًا، ولا تستحق المرأة على الأرجح أجرة على الرضاع إذا كانت في عصمة الرجل، إنما ذلك في المطلقة، فهذا ولده فإذا أرضعت فلها أجرة الرضاع، فهنا قال: في هذه النفقة والكسوة: قولان؛ أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، قال: وهو قول الزمخشري. الزمخشري لا عبرة بقوله في مثل هذا، في الأحكام الفقهية فهو ليس في عداد المجتهدين والفقهاء.
الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق. هذا بأي اعتبار؟ نفقة الزوجة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني الزوجات، لكن السياق إنما هو في الإرضاع، فهذه الآية –والله أعلم- فيمن أرضعت له، والأقرب كما سبق أن ذلك في المطلقات منهن، قاله منذر بن سعيد البلوطي وهو من أئمة المالكية وكان على اعتقاد السلف، له كتاب في الفِرَق مطبوع، وابن الفرس له كتاب في أحكام القرآن.
المعروف بحسب حاله، والعلماء -رحمهم الله- يتكلمون في النفقات على الزوجات، هل يراعى فيها حال الزوج أو يراعى فيها حال المرأة لو كانت من أسرة غنية، فهل يطالب الزوج بأن يوفر لها نفس المستوى الذي كانت تعيش فيه، إذا كان عندها خدم يوفر لها من يخدمها مثلًا ونحو ذلك؟ أو المعتبر في ذلك هو حال الزوج؟
كذلك لو كان الزوج غنيًا والمرأة فقيرة، فهل يوفر لها من النفقة ما يصلح لمثلها فيما يكون من جنس حالها عند أهلها؟ فما هو المعتبر؟ الفقهاء مختلفون في ذلك، فبعضهم يقول: المعتبر حال الزوجة، وبعضهم يقول: المعتبر حال الزوج، بصرف النظر عن الزوجة كونها فقيرة أو غنية، والله أحال إلى المعروف، والنفقة تكون بحسب حال الزوج من عُسر ويسر لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، ويكون ذلك بحسب الحال والزمان والمكان الذي يعيشون فيه فأحاله إلى المعروف، المعروف في بلد غير المعروف في بلد آخر، المعروف في القرن الماضي غير المعروف في هذا الوقت وهكذا.
- أخرجه الطبري في تفسيره (4/557)، وأصل هذه القصة ثابت بدون سبب النزول عند البخاري وغيره من حديث ابن عباس ا أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله -ﷺ: ((أتردين عليه حديقته؟)) قالت: نعم، قال رسول الله -ﷺ: ((اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)).
- تفسير القرطبي (3/137).
- أخرجه أبو داود، باب في الخلع، رقم: (2226)، والترمذي، باب ما جاء في المختلعات، رقم: (1187)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب كراهية الخلع للمرأة، رقم: (2055).
- الحاوي الكبير (10/7).
- الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (3/57)
- أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا طلقها ثلاثا، ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره، فلم يمسها، رقم: (5317)، ومسلم، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، ويطأها، ثم يفارقها وتنقضي عدتها، رقم: (1433).
- ذكره ابن عبد البر في كتابه الاستذكار، كما في تفسير ابن كثير (1/622)، وقال ابن كثير: واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب، رحمه الله، أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني. وفي صحته عنه نظر، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار.
- النتف في الفتاوى للسغدي (1/257).
- بدائع الصنائع (3/188).
- حاشية الدسوقي (2/258)
- المغني (7/139)، كشاف القناع (5/96).
- الفتاوى الكبرى (6/298).
- الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/178).
- تفسير ابن كثير (1/622).
- تفسير القرطبي (3/155).
- تفسير الطبري (5/22).
- تفسير ابن كثير (1/631).
- تفسير الطبري (5/23).
- تفسير ابن كثير (1/631).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232]، رقم: (4529)
- تفسير الطبري (5/21-22).
- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، رقم: (2085)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم: (1101)
- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، رقم: (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله -ﷺ، رقم: (1102).
- أخرجه ابن ماجه، أبواب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، رقم: (1882).
- المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (3/162).
- مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/497).
- أحكام القرآن لابن العربي (4/288).
- تفسير الطبري (5/38).
- أخرجه الترمذي، أبواب الرضاع عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين، رقم: (1152).
- تفسير الطبري (5/34)، رقم: (4950).
- تفسير الزمخشري (1/280).
- أحكام القرآن لابن العربي (1/274).
- تفسير ابن كثير (1/634).