الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
(024-أ) قوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا.. الآية 281 - إلى قوله تعالى فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم.. الآية 282
تاريخ النشر: ١٢ / شعبان / ١٤٣٧
التحميل: 1398
مرات الإستماع: 2268

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي الكلبي -رحمه الله- عند قوله تعالى:

وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ [البقرة:282] أي: لا يمتنعون، إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282] إلى أداء الشهادة، وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي ﷺ[1]، واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجبٌ إذا دُعي إليها، وقيل: إذا دُعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها، وقيل: إلى الأمرين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا أي: إلى أداء الشهادة، وهذا قول الجمهور من المفسرين، دُعُوا  أي: إلى الشهادة؛ لأن الله سماهم شهداء، والشاهد إنما يُقال لمن تحمَّل الشهادة، بمعنى: أنه ليس المراد إذا ما دُعوا لتحمل الشهادة، هناك فرق بين من يقال له: تعال لتشهد بمعنى تتحمل الشهادة، إنسان يريد مثلًا أن يوصي أو يتعامل مع إنسان معاملة، فيدعو شهداء يحضرون ليتحملوا الشهادة، إنسان يريد أن يتزوج فجاء بشاهدين، فهذا دعوة للتحمل -تحمل الشهادة- وهناك دعوة للشهادة للإدلاء بها، يدعوه ليشهد، يعني يدلي بشهادته، هذا عند القاضي مثلًا.

 فهنا وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ هل المقصود به إِذَا مَا دُعُوا لتحمل الشهادة، قيل هنا مبايعة، هنا معاملة، أريدكم تشهدون ليتحملوا الشهادة؟ ليس هذا هو المراد، وإنما المراد الإدلاء بالشهادة؛ لأنه سماهم شهداء، فيكون هؤلاء قد حضروا مثلًا هذا العقد، أو هذه المداينة، أو نحو ذلك فتحملوا الشهادة من قبل، فهم الآن يُطلب منهم الإدلاء بها، هذا هو المراد، وهو قول الجمهور.

 يقول: وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي ﷺ لا يُعرف في حديثٍ ثابت -والله تعالى أعلم- يعني تفسير هذه الآية عن النبي ﷺ.

 يقول: واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجبٌ إذا دُعي إليه، هي فرض كفاية إلا إذا تعينت عليه، تعينت عليه بمعنى أنه لا يوجد غيره وإلا سيضيع الحق، لكن إذا حضر ذلك جمعٌ وتحملوا الشهادة، يوجد شهود، جماعة، فإنه يكون من قبيل فرض الكفاية، إذا حصل النهوض بها والإدلاء بها من قِبل بعضهم حصل المقصود، وسقط ذلك عن الباقين، هذا بالنسبة للإدلاء بها.

 وكذلك يقول هنا: وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها، هذا القول الآخر في تفسير الآية، وهذا القول قال به جماعة من السلف وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا: يعني لتحمل الشهادة، وهذا قال به قتادة والربيع[2]، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] إذا دُعي إلى الكتابة، وهذا إذا لم يوجد غيره؛ لئلا يضيع الحق، أما إذا وجد غيره فهذا يكون من قبيل فرض الكفاية.

 يقول: وقيل: إلى الأمرين، صار عندنا معنيان:

 الأول: الإدلاء بالشهادة الذي عليه الجمهور في تفسير الآية.

 والثاني: تحمل الشهادة، فهنا قال: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا فبعضهم يقول: إلى الأمرين إما لتحمل الشهادة، طيب هل هؤلاء شهداء قبل أن يتحملوها؟ إنسان تريد تقول له: أريدك أن تحضر هذا العقد، تشهد عليه، سماه شهيدًا، هؤلاء كيف يجيبون عن إيرادٍ وسؤالٍ يعرض: وهو أن هؤلاء قبل أن يتحملوا هذه الشهادة لا يُقال لهم شهداء، فيمكن أن يجيبوا: أن ذلك باعتبار المستقبل، باعتبار ما سيكون، أنهم سيكونون شهداء فسماهم بذلك، سماهم شهداء بهذا الاعتبار، وهذا القول: بأنهم إذا دعوا إلى الأمرين مروي أيضًا عن ابن عباس -ا-[3]، وعن الحسن البصري[4]، وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا عليه أن يجيب إذا دُعي إلى تحمل الشهادة، وعليه أن يجيب إذا دُعي إلى الإدلاء بها، على كل حال أداء الشهادة هذا كما سبق أنه فرض كفاية، إلا إذا تعينت عليه، وهذا الذي اختاره أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[5]، لكنه قال بأنه يؤخذ من أدلةٍ أخرى، أنه إن لم يجد أحدًا فعليه أن يجيب.

وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ [البقرة:282] أي لا تملوا من الكتابة إذا ترددت وكثُرت، سواءً كان الحق صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا [البقرة:282]، ونصب صَغِيرًا [البقرة:282] على الحال، ذَلِكُمْ [البقرة:282] إشارةٌ إلى الكتابة، أَقْسَطُ [البقرة:282] من القسط وهو العدل، وَأَقْوَمُ [البقرة:282] بمعنى أشدُ إقامةً، وبُني أفعل فيهما من الرباعي وهو قليل، وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282] أي أقربُ إلى عدم الشك في الشهادة، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةً [البقرة:282] أي في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع؛ لأن الكلام المتقدم في الدين المؤجل، والمعنى إباحة ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، وهو ما يُباع بالنقد.

قراءة حفص بالنصب إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً، وهنا بالرفع باعتبار أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن.

وقوله: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [البقرة:282] يقتضي القبض والبينونة، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] ذهب قومٌ إلى وجوب الإشهاد على كل بيعٍ صغيرٍ أو كبير، وهم الظاهرية خلافًا للجمهور، وذهب قومٌ إلى أنه منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [البقرة:283].

هنا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ [البقرة:282] يعني لا تملوا من الكتابة: سواء كان ذلك لكثرة وقوع ذلك وتكرره، أو كان لكون ذلك قليلًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.

 يقول: بأنه نُصب صَغِيرًا على الحال، وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ [البقرة:282] حال كونه صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] يعني الكتابة من أجل حفظ الحق، ولئلا يحصل لبس وشك في هذه الشهادة فتندفع الشكوك والريِّب، واستثنى هنا حال كون هذه المعاملة من قبيل المعاطاة الناجزة، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً يعني ليست بدين مؤجل، لاحظ الكلام في الدَين فهنا ذكر التجارة الحاضرة، وهذا ليس من قبيل الدين، ومن هنا كان الاستثناء منقطعًا؛ لأن الاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فالتجارة الحاضرة ليست من قبيل الدَين، فهنا في هذه الحال يُباح ترك الكتابة إذا كانت هذه التجارة حاضرة، تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ يعني ليست من قبيل الدين، تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ يقول: يقتضي القبض والبينونة يعني بمعنى أنها معاملة انقضت وحصل البيع ووجب، وهذا أخذ السلعة، وهذا أخذ الثمن، لا يوجد دَين، يعني ليست مبايعة بالدين يقتضي القبض والبينونة.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب في الأصل.

 فيقول: ذهب قومٌ -يعني أخذًا بظاهره- إلى وجوب الإشهاد على البيع، يقول: وهم الظاهرية خلافًا للجمهور، وذهب قومٌ إلى أنه منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، يعني من غير إشهاد، يكله إلى أمانته وذمته، والقول بالنسخ ذكره الحافظ ابن كثير واختاره ورجحه، وقال: "أو محمولٌ على الإرشادِ والندب"[6]، يعني إن الأمر للإرشاد والندب.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] هذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب إلا لصارف، وأحيانًا يأتي للإرشاد أو للندب، والصارف هنا قالوا: إن النبي ﷺ ابتاع فرسًا من أعرابي ولم يُشهد[7]، في قصة خزيمة، شهادة خزيمة لما جعله بشهادتين، فلم يُشهد النبي ﷺ على هذه المبايعة، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وهذا الذي جرى عليه العمل في الغالب في زمن النبي ﷺ وأصحابه، ومن بعدهم إلى يومنا هذا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ، فالناس يتعاطون ويتبايعون في الأسواق من غير إشهاد في الغالب، لكن يحسُن ذلك لاسيما في المعاملات الكبيرة، تحصل مبايعة في دار، في عقار، ونحو ذلك، فهذا يحسن فيه الإشهاد أكثر.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ذهب قومٌ إلى وجوب الإشهاد على كل بيعٍ صغيرٍ أو كبير، وهم الظاهرية خلافًا للجمهور[8]، وذهب قومٌ إلى أنه منسوخٌ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283].

يعني الذين قالوا: بأنه منسوخ لم يحملوا الأمر ابتداءً على الإرشاد، وإنما قالوا: هو للوجوب، لكنه نُسخ بقول رُفع يعني ذلك بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283] والذين قالوا: بأنه محكم لم ينسخ، قالوا: الأمر ليس للوجوب، والصارف له أن النبي ﷺ بايع ولم يُشهد، فصرفه من الوجوب إلى الندب.

وذهب قومٌ إلى أنه منسوخٌ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، وذهب قومٌ إلى أنه على الندب، وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282] يحتمل أن يكون كَاتِبٌ [البقرة:282] فاعلًا على تقدير كسر الراء المدغمة من يُضَارَّ، والمعنى على هذا: نهيٌ للكاتب والشاهد -وفي النسخة الخطية-: الشهيد.

الشهيد لفظ الآية، لا إشكال فيه.

على هذا نهيٌ للكاتب والشاهد أن يضار صاحبَ الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه، أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة، أو الشهادة، ويحتمل أن يكون كَاتِبٌ [البقرة:282] مفعولًا لم يسمَ فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب : لا يُضَارَر [البقرة:282] بالتفكيك وفتح الراء، والمعنى: النهي عن الإضرار بالكاتب والشهيد بإيذايتهما بالقول أو بالفعل.

وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282] كما سبق لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة:233]، وذكرنا هناك الوجهين والاحتمالين، فيقول هنا: يحتمل أن يكون كاتب فاعلًا، أن يكون الذي صدر منه المضارة هو الكاتب والشهيد، وَلا يُضَارَّ لا تصدر المضارة، نهيٌ عن المضارة الصادرة من قِبل الكاتب أو الشهيد، يقول: على تقدير كسر الراء المدغمة من يُضَارَّ، يعني وَلا يُضَارَّ، وَلا يُضَارِر كاتبٌ بكتابته ولا شهيدٌ بشهادته، يعني لا يُضَارِر صاحب الحق، لا يلحق به الضرر بسبب هذه الكتابة أو بسبب هذه الشهادة، فهنا لا يُضَارِر هذه القراءة مروية عن ابن عباس وعمر[9] - أجمعين- وَلا يُضَارِر واللفظة هنا تحتمل ذلك.

يقول: "بأنه نهيٌ للكاتب والشهيد أن يضار صاحب الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه، أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة، أو الشهادة" يعني لا يضارِر بأي وجهٍ من الوجوه: بزيادةٍ، أو نقصٍ، أو بتمنعٍ، أو بابتزازٍ يعني كأن يطلب أجرة أكثر من أجرة المثل.

 يقول: "ويحتمل أن يكون كاتب مفعولًا وَلا يُضَارَّ [البقرة:282]: يعني لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة" يعني وَلا يُضَارَر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يعني لا يُلحق به الضرر بسبب هذه الكتابة أو الشهادة، وهذه قراءة ابن مسعود : وَلا يُضَارَر، هذه قراءات غير متواترة، والقراءة المتواترة هذه تحتمل الوجهين، تحتمل المعنيين.

 يقول: "ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب : لا يُضَارَر بالتفكيك وفتح الراء" وقراءة عمر ذكرت أنها مع ابن عباس لا يُضَارِر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ على القراءة الأخرى الثانية، هذه وَلا يُضَارَر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فتكون "لا" هذه ناهية جازمة، لا يُضَارَر نهيٌ عن الضرر، وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ  فـ"لا" ناهية جازمة، لكن قُرأ بالرفع بضم الراء مشددة أيضًا وَلا يُضَارُّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ  فــ"لا" هذه تكون نافية وَلا يُضَارُّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، فصار عندنا قراءات متواترة وَلا يُضَارَّ، وَلا يُضَارُّ، وعندنا قراءات غير متواترة وَلا يُضَارِر، وَلا يُضَارَر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، والقرآن يُعبَر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذا التصريف للفظ وَلا يُضَارِر، وَلا يُضَارَر كل ذلك -والله تعالى أعلم- يدخل في معنى الآية؛ لأنه لا يوجد دليل على تحديد أحد هذين المعنيين، وهذا الضرر كما هو القاعدة: "الضرر يُزال"، فلا يحق لأحدٍ أن يُلحق الضرر بغيره بسبب كتابته أو شهادته، كما أنه لا يُوقَع الضرر على الكاتب أو الشاهد بسبب الكتابة أو الشهادة مثل ما قلنا: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، لا تُضَارِر لا تلحق الضرر بالزوج أو بأهله بسبب هذا الولد، ولا تُضَارَّ يعني لا يُلحَق بها الضرر هي من قِبل الزوج أو من قِبل أهله بسبب هذا الولد، فكل ذلك منهيٌ عنه -والله أعلم-.

يقول: "والمعنى النهي عن الإضرار بالكاتب والشهيد -يعني على الفتح يُضَارَر - بإيذايتهما بالقول أو بالفعل".

وَإِنْ تَفْعَلُوا [البقرة:282] أي: إن وقعتم في الإضرار، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ [البقرة:282] حالٌّ بكم.

يعني حال أو كائن بكم، هذا التقدير، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ.

وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] إخبارٌ على وجه الامتنان.

لاحظ على هذا المعنى إخبارٌ على وجه الامتنان، وهذا الذي اختاره، هو ظاهر اختيار ابن جرير- رحمه الله- أنه إخبار، وَاتَّقُوا اللَّهَ هذا أمر عطف عليه الخبر، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فهو يُخبر على وجه الامتنان أنه قد علَّم عباده وامتن عليهم بهذا التعليم، هذا هو الأقرب.

وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ إخبارٌ على وجه الامتنان وقيل: معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه، وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يُعطيه؛ لأنه لو كان كذلك لجزم يُعَلِّمُكُمُ [البقرة:282] في جواب اتَّقُوا [البقرة:282].

لاحظ المعنى الثاني وهو الذي يُكثر من ذكره كثيرون: بمعنى أن تقوى الله تكون سببًا لنيل العلم، فيكون ذلك من قبيل الوعد، إذا اتقيت الله علمك، هذا الذي يذكرونه كثيرًا، يجري على الألسن ويُحتج بهذه الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، فكأن الأول شرط، والثاني جزاء، لكن لفظ الآية لا يساعد عليه؛ لأنه لو كان ذلك من قبيل الشرط والجزاء لكان الثاني مجزومًا و"وَيُعَلِّمْكُمُ"، لكنه جاء مرفوعًا وَيُعَلِّمُكُمُ، فدل على أنه خبر وليس بجزاء، فهذه الآية لا يصح الاحتجاج بها على هذا المعنى الذي كثُر تداوله، وإن كان المعنى في نفسه صحيحًا، لكن الآية لا تدل عليه؛ لأنه ليست من قبيل الشرط والجزاء، إنما هي أمرٌ وخبر فحسب، لكن هنا يقول: "بأن المعنى صحيح "يعني من حيث هو، لا من حيث دلالة الآية عليه، يعني تدل عليه أدلة أخرى إن تقوى الله تكون سببًا لتحصيل العلم، والعلم رزقُ الله -تبارك وتعالى- وهو من أعظم الرزق.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وهكذا في سائر النصوص والأدلة التي تدل على هذا المعنى: أن تقوى الله سبب لجلب الخيرات، فيكون ذلك فتحًا على الإنسان في العلم، والرزق، وتفريج الكرب والشدائد والضيق، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- جعلها كقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] -لاحظ- يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا يعني تفرقون بين الحق والباطل، فالآية هناك إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا واضحة في هذا المعنى، كما يقول ابن جُزي: المعنى صحيح من أدلة أخرى إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا" ابن كثير جعل هذه الآية كتلك إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]، فهذا النور هو البصيرة والعلم، فهذه الآيات دلت على هذا المعنى الذي أشار إليه ابن جُزي أنه صحيحٌ في نفسه، لكن الآية لا تدل عليه، هذه الآية من سورة البقرة التي يكثر الاستدلال بها على هذا المعنى، لكن يمكن أن يُستدل على ذلك بمثل قوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، وهكذا في الآية الأخرى التي أشرت إليها -والله تعالى أعلم-.

والذين يقولون هذا يحتجون بهذه الآية على هذا المعنى، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يؤيدهم عليه، لكن الأقرب أن الآية ليست بهذا السياق، وإنما هو خبر عن تعليم الله على سبيل الامتنان -والله أعلم-.

وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283] لما أمر الله -تعالى- بكتابة الديون -وفي النسخة الخطية: بكتب الديون- جعل الرهن توثيقًا للحق عِوضًا عن الكتابة -وفي النسخة الخطية: من الكتابة- حيث تتعذر الكتابة في السفر، وقال الظاهرية: لا يجوز الرهنُ إلا في السفر لظاهر الآية[10]، وأجازه مالكٌ وغيره في الحضر[11]؛ لأن النبي ﷺ رهن درعه بالمدينة[12].

هو هذا؛ لأن المقصود هو الاستيثاق وحفظ الحق، فيُحفظ بالكتابة، وكذلك يُحفظ أيضًا بالرهن، ولا يختص ذلك بالسفر، توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي.

فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] يقتضي بينونة المرتَهن بالرهن، وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله[13]، وأجاز مالكٌ[14] والجمهور على وضعه على يد عدلٍ، والقبض للرهن شرطٌ في الصحة عند الشافعي[15] وغيره لقوله -تعالى-: مَقْبُوضَةٌ، وهو عند مالكٍ شرطُ كمالٍ لا صحة.

لاحظ الآن فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، رهان: مبتدأ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، ومقبوضة: نعت فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، وإن الخبر محذوف على هذا، والتقدير: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ تكفي من ذلك، تكفي يعني من الإشهاد، تغني عن الإشهاد، فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ تكفي من ذلك، أو أنه خبر لمبتدأٍ محذوف، فالوثيقةُ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، أو فالقائم مقام ذلك رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، يعني يقول: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ هنا جاءت مرفوعة باعتبار أنها مبتدأ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ تكفي عن الإشهاد، أو إنها خبر لمبتدأ محذوف، فالقائم مقام ذلك رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، أو وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فالوثيقةُ رهان مقبوضة، ويحتمل أنه مرفوع بفعلٍ محذوف، فيكفي في ذلك رِهَانٌ، يكفي رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، كل هذا يحتمل، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: بأن التقدير وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فليكن بدل الكتابة رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ في يد صاحب الحق[16].

وفي القراءةِ الأخرى رِهَانٌ فهنا قراءة رُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ، وهذه قرأ بها ابن كثير، وأبو عمر، وروي عنهما تخفيف الهاء رُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ وهي جمع رهان، رِهَانٌ، رُهْنٌ ورُهُنٌ، وفي قراءة لعاصم: فَرِهْنٌ مَقْبُوضَةٌ، الرهن توثقة الدين بعين يمكن استيفاء الدين أو بعضه منها، الآن حصل مداينة ولم يوجد ما يوثق به هذا الدين -الكتابة- وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ، فما هو العمل؟ العمل أن يأخذ منه رهنًا، فيقول له مثلًا: أعطني رهنًا يعطيه صك الدار التي يسكنها مثلًا، أو يعطيه صك المزرعة، أو يعطيه مثلًا أرضًا، أو نحو ذلك، ويقول له: هذا الدين إلى مدة كذا، إلى سنة، فإذا لم أوفك حقك تصرف، يكون هذا قد ضمن حقه، فإذا لم يحصل الوفاء ففي هذه الحال له أن يبيع هذا الرهن ويستوفي، فإن زاد الثمن فإنه يعود عليه بالزيادة، يعني يستوفي حقه، هو باع هذه الأرض بعشرة ملايين، والدين ثمانية ملايين، فيأخذ ثمانية ويعيد إليه مليونين، فهذا هو الرهن، فهذا توثقة الدين بعين يمكن استيفاء الدين أو بعض الدين منها، أو من بعضها، قد تكون الرهن أكبر من الدين، من أجل أن يضمن حقه، يقول: أن أريد أن أقترض منك وهذا رهن، إذا لم أوفك فتبيع وتستوفيه، فيكون ضامنًا لحقه فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.

فهنا مسألة القبض يقول: "أجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله؛" لأن وكيله يقوم مقامه، يعني يمكن قبض المرتهن لا إشكال فيه، لكن الزيادة هنا وقبض وكيله؛ لأن الوكيل يكون بمنزلة الأصيل، فإذا قبض وكيله حصل المقصود، الوكيل مثل المكتب العقاري مثلاً أو غير ذلك.

"وأجاز مالكٌ والجمهور وضعه على يد عدلٍ" وضع الرهن على يد عدل، يعني طرف ثالث ليس بوكيلٍ لصاحب الحق الذي يطلب الرهن أو يأخذ الرهن، يعني ليس بوكيلٍ للدائن، الذي يأخذ الرهن هو الدائن، فيمكن أن يأخذه هو، أو أن يأخذ ذلك الوكيل، أجاز مالك والجمهور وضعه -يعني الرهن- على يد عدل، يعني طرف ثالث ليس بوكيل له، اقترضت مني قرضًا فأريد ما يوثق ذلك، فجعلت هذا الرهن عند زيد من الناس، قلت: هذا صك هذه الدار أو العقار سأضعه عند فلان، إن لم يحصل وفاء يُباع، ثم بعد ذلك تستوفيه، وأنت قبلت هذا ورضيت فلان تثق به وتطمأن إليه وهو عدلٌ أن يضيع الحق، فلا إشكال في ذلك؛ لأن المقصود هو التوثق للحق، لو قال: أضع هذا عند القاضي مثلًا لا إشكال، لو قال: أضع هذا عند كاتب العدل، جاءوا عند كاتب العدل، وقال: نريد أن تكتب هذه الوثيقة بيننا مداينة ونريد أن نوثقها بصفةٍ رسمية، وهذا رهن اجعله عندك، لا إشكال في هذا، على يد عدل.

"والقبض للرهن شرطٌ في الصحة عند الشافعي وغيره" هذا قول الجمهور: إن القبض للرهن شرط في الصحة، لكن لو أنه بقي عند المدين، أو قال: أنا أعطيك رهن أعطيك صك بيتي ولا أعطاه، وبنى على الثقة، لا قيمة لهذا الكلام، إنه مثل ما يقول أنا أعطني هذا الدين وسأرده إليك، يقول: أنا سأعطيك صك بيتي رهن ولا أعطاه إياه، فلا بد من القبض وإلا لا يكون ذلك رهنًا، فهو ليس بشيء، إنما هو كلام لا يحصل به الاستيثاق للحق.

فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] يقول: "وهو عند مالك شرط كمالٍ لا صحة" يعني إن القبض شرط كمال لا شرط صحة، يعني عند مالك يصح بالإيجاب والقبول، الإيجاب والقبول إنه يقول له مثلًا: أنا أرهنك كذا، يقول: قبلت لكن الواقع أن هذا لا يحصل به الاستيثاق للحق.

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الآية[البقرة:283] أي إن أمن صاحب الحق المديانَ لحسن ظنه به.

المديان يعني المدين، إن أمن صاحبُ الحقِ المدينَ يعني المقترض.

إن أمن صاحب الحق المديان لحسن ظنه به فليستغنِ عن الكتابة وعن الرهن، فأمر أولًا بالكتابة، ثم بالرهن، ثم بالائتمان، فللدين ثلاثة أحوال، ثم أمر المديان بأداء الأمانة ليكون عند ظن صاحبه به.

وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [البقرة:283] محمولٌ على الوجوب، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283] أي معناه قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة.

هذا واضح فَإِنَّهُ آثِمٌ [البقرة:283]، ولا تكتمونها عن كتمانها، والأصل أن النهي قال: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فهنا يجب الأداء كقوله -تعالى-: وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106].

فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283] معناه قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة، وارتفع آثِمٌ [البقرة:283] بأنه خبر إن، وقَلْبُهُ فاعلٌ به، ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأً، آثِمٌ خبره.

وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ إِنَّ هذه تنصب المبتدأ على أنه اسم لها، وترفع الخبر، فَإِنَّهُ فالضمير هو اسمها فَإِنَّهُ آثِمٌ، وآثِمٌ خبر إنَّ مرفوع، وقَلْبُهُ ما الآثم؟ آثِمٌ قَلْبُهُ فاعل، يقول: "ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأً وآثمٌ خبره، فَإِنَّهُ" الهاء ضمير اسم إنَّ، والخبر جملة "قلبه آثم".

ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأً وآثِمٌ خبره، وإنما أسند الإثم إلى القلب، وإن كانت جملة الكاتم هي الآثمة؛ لأن الكتمان من فعل القلب.

جملة الآثم، ما يقصد الجملة من جهة اللفظ، إنما جملته يعني بكليته هو الآثم، وليس فقط القلب، يعني أن هذا الكاتم آثم، هذا الآثم قلبه فقط هو يريد هذا، يقول: "جملته؛ لأن الكتمان من فعل القلب" فأضافه إليه آثِمٌ قَلْبُهُ، الكتمان يتصل بالقلب.

جملة الكاتم هي الآثمة؛ لأن الكتمان من فعل القلب، إذ هو يضمرها، ولئلا يُظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان.

انتهت آية الدين وما بعدها ما يتعلق بموضوعها، وهي أطول آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- لأطول سورة وأكثر سور القرآن تضمنًا للأحكام، وقد قال بعض السلف: بأن آية الدين هي أرجى آية في كتاب الله[17]، يعني باعثة على الرجاء في رحمة الله ومغفرته وعفوه، ووجه ذلك عند القائل به: أن هذه معاملة تتصل بمال المسلم، فاحتاط الله له بهذه الاحتياطات الكثيرة بهذه الآية التي هي أطول آية في القرآن، هي من أجل الاحتياط لمال المسلم ولو كان قليلًا دراهم معدودة، فجاء بهذا السياق الطويل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]، كل هذه التوجيهات المتتابعة من أجل حفظ مال المسلم، قالوا: فالمسلم أعظم حرمةً من ماله، وإذا كان الله -تبارك وتعالى- قد احتاط لماله هذا الاحتياط، فرحمته بعبده صاحب المال أعظم من أن يضيعه، من هذا الوجه قال: وهي أرجى آية.

والمشهور أن أرجى آية على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، لكن المشهور قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] لكن هذا الكلام هنا أيضًا له وجه، لا على أنها أرجى آية، لكنها من آيات الرجاء، ثم أيضًا هذه الاحتياطات الكثيرة في قضايا الدين لكثرة ما يقع بسبب ذلك من المشكلات بين الناس، فكثيرٌ من الناس يتساهلون في كتابة وتوثيق هذه القضايا، فيحصل ذهول، أو نسيان، أو جحود، أو يحصل مماطلة، وكثيرٌ من الناس ينشط في أخذ الأموال والقروض، وعند الوفاء يضمحل ويتلاشى، ويتحول صاحب الحق -الدائن- إلى حالٍ من الإذلال والابتذال وهو يطلب حقه، فيتصل، ثم يتصل، ثم يتصل، ويواجه بأمورٍ غريبة: ترك الرد، أو إعطاء مشغول، أو لربما الردود الباردة، يعني بعضهم يأتي إلى إنسان ويطلب قرضًا، فإذا أعطاه من ساعته من غير تأخير ولا مطل، الدائن يعطيه مباشرةً ويقول: لا تمسي إلا وهذا المال عندك، من غير أي مماطلة، إحسانًا إليه فإذا جاء وتأخر، وانتهى الأوان -إن كان قد حُدد- وقال له: أنها أقرضتك، أحيانًا يواجه بردود سيئة، بعضهم يقول: وما تطلب لو كان غداك وعشاك في هذا الدين هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، يقول: أن طعام أولادك لا يتوقف على هذا حتى تأتي وتطلب، لماذا تطلب؟ وينكر عليه أنه يطلب حقه، وقبل ذلك جاء إليه يسعى، وذاك لم يُمهل حتى أعطاه، وهذا يتكرر كثيرًا -للأسف- مثل هذا الرد البارد، يتضايق وينزعج لماذا تطلب، هذا إذا أجابه، وإلا في كثير من الأحيان لا يجيب أصلًا، ويختفي ينتهي، كان يراه كل يوم، بعد ذلك صار لا يراه أبدًا، تمضي السنة وهو ما رآه، لماذا؟ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ، فصار ذلك سببًا لامتناع كثير من الناس عن الإقراض، إذا جاء من يقترض تذكر سيرة طويلة ومسيرة من هؤلاء النماذج السيئة، فيغلب على ظنه أن هذا من هذا الجنس، فيقول: لو أني وهبته هذا المال وتصدقت به عليه ولا أعطيه مالًا أرجيه ولا يحصل، هذه من الأعمال السيئة التي ينبغي للإنسان أن يترفع عنها، وأصلًا إذا استطاع ألا يقترض من أحد، الديون ليست بالشيء السهل، والنبي ﷺ لم يصل على الرجل الذي كان عليه مبلغ يسير، عليه ديناران، فلم يصل عليه، حتى قال أبو قتادة : "هي عليّ يا رسول الله"[18]، وكان يسأله بعد ذلك عنها: هل قضى هذا الدين أو لا؟

سؤال: شيخنا -أحسن الله إليك- هل الاقتراض يعتبر معيب يعني أن تقترض؟ أم أنه يُفصل إذا كان الاقتراض لمصلحة، هل هو يعني منقصة أن الشخص يقترض؟

جواب: النبيﷺ مات ودرعه مرهونة عند يهودي[19]، مرهونة بسبب دين اشترى منه طعامًا، فيكون هذا في حال الضرورة، أو ما يشبه الضرورة، حاجة حقيقية، ولا يكون ذلك للتوسع، يكون بقدر هذه الحاجة، الواقع الآن حياة الناس الآن -للأسف- أصحبت الديون فيها -للأسف- نوع من الأمور السهلة، بل أصبح الدين ثقافة عند الكثيرين، تجد أكثر المجتمع يقترض ويتساهل في هذا، والسبب في ذلك هو هذه التسهيلات التي تُعطى لهم من قِبل البنوك والإغراء، الإغراء الدعاية الواسعة، فهو لو أراد أن يشتري شيئًا يسيرًا، يشتري جهازًا قد لا تتجاوز قيمته ألف ريال، يقولون: بالأقساط، يشتري أجهزة كهربائية قيمتها قد لا تتجاوز ألف ريال، يقولون: بالأقساط، يشتري شاشة، يشتري مكنسة، يشتري ثلاجة، يشتري أي شيء، يقولون: بالأقساط، فضلًا عن الأشياء الكبيرة: بناء، عقار، بيوت، ونحو ذلك.

ويوجد شركات وسيطة أيضًا مع البنوك تدفع الناس دفعًا لمثل هذا، ويوجد هذه البطاقات: البطاقات الائتمانية والفيزا ونحو ذلك، هذه تجعل الناس يشترون وليس لهم رصيد، في أكثر أنواع هذه البطاقات، ثم بعد ذلك يبدأ الحساب بالربا، له مدة معينة فإذا لم يوف يبدأ العد، وكثير من الناس يسهل عليه الشراء بالبطاقة، هو لا يدفع مالًا، الأمر سهل كأنه يأخذ بالمجان، وكثيرٌ من الناس يسهل عليه الدَين، وهذا من قديم، حتى إنه قد يكثر في بعض صنوف الناس، يعني عُرف مثلًا عن كثيرٍ من البادية أن الشيء إذا كان عندهم بدَين كأنه بالمجان يؤخذ، دين هات، حتى كان بعض المحتالين يحتالون على هؤلاء، فماذا يفعل؟ يقول له: هذه العمامة -هذه الغترة- بريالين منقودة وريالين دين، هو يضع كلمة دين معها بس، هي قيمتها أصلًا بريالين، تُباع بريالين، فيقول لهم: هي بريالين نقدًا وريالين آجلة، فيأخذونها فيها دين؛ لأنه عندهم غير مردود، هات الدين، وهم الواقع أخذوها بثمنها، وهذا قد ضمن، فإذا جاءوا له بشيء فيما بعد فهو زيادة، وإن لم يأتوا بشيء يكون قد استوفى الثمن، كان بعضهم يفعل هذا، وبعضهم ما حصًّل تجارة إلا بهذه الطريقة، لكن الذين كانوا يُقرضون ويبيعون بالدَين لمثل هؤلاء ويذهبون، ضاعت تجارتهم وأفلسوا؛ لأن هؤلاء في الغالب -للأسف- لا يوفون، فتساهل الناس الآن، وقد سمعت من بعضهم ورأيت نماذج وأحوال تجد الرجل يبكي كالطفل والمرأة كذلك، يقول: لو بقينا العمر كله ما استطعنا قضاء هذا الدين، يشترون بالبطاقة، تراكمت عليهم الديون والربا وما يستطيعون قضاءها، وبعض هؤلاء يقترض من البنوك، ويشتري سيارات بالأقساط، فيجتمع عليه هذا وهذا، بعضهم يقول: كل الراتب يذهب في قضاء الديون، الديون هذه في ماذا؟ اشترى دارًا بالدين، وسيارة جديدة بالدين، والأثاث أثث الدار بالدين، واشترى لأخيه سيارة بالدين، واشترى لأبيه مزرعة بالدين، هكذا نتحدث عن واقع، كل هذا نتحدث بالدين، طيب مزرعة لماذا إذًا؟ البيت لماذا؟ كان يمكن تستأجر شقة بعشرين ألف أو أقل أو أكثر يحصل بها المقصود، ولو غرفتين.

ولماذا سيارة جديدة؟ ممكن تشتري سيارة بعشرين ألف بخمسة عشر ألف، تذهب عليها وتأتي، لا تشتري سيارة بمائة وستين، ولا مائة وثمانين، أو أكثر، وفي التي بمليونين، ثم بعد ذلك تقول: عليّ ديون وكل راتبي يذهب، بعضهم يقول: زوجتي عند أهلها منذ سنة منذ ستة أشهر، كلام كثيرًا يتكرر نسمعه، يُقسمون الأيمان المغلظة إنه لا يملك خمسين ريال، بعضهم يقول: ما أملك عشرة ريالات طعام لأكلةٍ وجبةٍ واحدة آكلها، ما عندي غير عشرة ريالات، كل راتبه، وقد يكون راتب هذا الإنسان كثير ويذهب جميعًا، وهذه الديون ليست في الضرورات، يعني الدار يمكن أن يُكتفى بالاستئجار، ليس بالضرورة أن يشتري، ومثل هؤلاء لا أرى أنهم يُعطون من الزكاة، يعني هذا الذي يقول: اشترى سيارة جديدة واشترى دارًا ونحو ذلك، يمكن أن يُستغنى عن ذلك، لكن لو كان لا يجد قيمة الأجرة بأجرة معقولة فهذا يُعطى من الزكاة، لكنه إنه يُعطى من الزكاة ليشتري، فلا، الزكاة لم تشرع لهذا، لكفاية هؤلاء لنهاية الحول، سنة فقط، وكذلك مثل هذه السيارات الجديدة، ثم يقول: أنا الآن سأسجن ولا أجد أي طريق لقضاء هذه الديون، فيكون فعل ذلك بنفسه، ثم بعد ذلك تورط وما عرف طريقًا للخروج من هذه الديون.وهذه مشكلة اجتماعية -للأسف- ثقافة كثير من الناس بهذه الطريقة، حياتهم ديون، لا يكاد يصفو له شيء، قد تراه تظن هذه الدار أو هذه الدار التي يسكنها، والواقع أن هذا كله بالدين، ويبقى معلقًا بدينه، والله المستعان.

 

  1. لم أقف عليه غير أنه ورد عند ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/383): "أسند النقاش إلى النبي ﷺ أنه فسر الآية بهذا".
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/725).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/95).
  4. تفسير الطبري (5/95).
  5. انظر: تفسير الطبري  (5/100-102).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/726).
  7. أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، برقم (3607)، والنسائي، كتاب البيوع، التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، برقم (4647)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (1286).
  8. المحلى بالآثار (7/225).
  9. تفسير الطبري (6/87)، برقم (6418).
  10. المحلى بالآثار (6/362).
  11. المقدمات الممهدات (2/361)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/57)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/271).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الرهن، باب من رهن درعه، برقم (2509).
  13. انظر: الإقناع في مسائل الإجماع (2/192).
  14. انظر: المدونة (4/138)، والبيان والتحصيل (11/46).
  15. انظر: تفسير ابن كثير (1/727).
  16. تفسير ابن كثير (1/727).
  17. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/489).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الحوالات، باب إن أحال دين الميت على رجل جاز، برقم (2289).
  19. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي -ﷺ، والقميص في الحرب، برقم (2916).

مواد ذات صلة