الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جُزيٍّ الكلبي عند قوله تعالى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ [البقرة:271]: هي التطوع عند الجمهور" وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، بناءً على المقرر عند كثيرٍ من أهل العلم من أن الزكاة الأفضل أن تكون علانيةً، وأن الصدقة تكون سرًّا، يقولون: تكون الزكاة علانيةً؛ لأنه لا فضل له فيها، ولإظهار هذه العبادة، ولدفع التهمة عنه، وما إلى ذلك من الأسباب التي يذكرونها، ولكن صدقة التطوع قالوا: الأفضل أن تكون سرًّا -هكذا يقولون- وهذا الذي اختاره، أعني أنها التطوع هنا إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ [البقرة:271] هو الذي اختاره الواحدي[1]، وابن عطية[2]، ومعلوم أن المؤلف -رحمه الله- يعتمد على تفسير ابن عطية كثيرًا.
والإمام أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- نقل الإجماع على أن الواجب من الفرائض، يقول: قد أجمع الجميع -ونحن نعرف أن ابن جرير إذا نقل إجماع يقصد قول عامة أهل العلم- ليس الإجماع المعروف إطباق المجتهدين، وإنما قول عامة أهل العلم- يقول: "قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه"[3]، يعني: الفرض سوى الزكاة فقد اختلفوا فيها، ثم ألحقها -رحمه الله- بسائر الفرائض، يعني: أن الأفضل هو الإعلان في الزكاة كغيرها، وهذا الذي عزاه الواحدي إلى الجمهور، هو أن الإسرار بالتطوع أفضل ونفى الخلاف في الفرض بكون إظهاره أفضل ابن العربي، ابن العربي يقول: لا خلاف في هذا[4]؛ أن الإظهار في الفرض أفضل، ثم نقل عن العلماء فضل إخفاء التطوع، ثم ذهب ابن العربي إلى التفصيل بحسب حال المعطِي والمُعطَى ومن يشهد ذلك، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ [البقرة:271]، يعني هذا فيه حث على الإخفاء، ففهموا منه أنها صدقة التطوع، والصدقات تطلق على صدقة الفرض: الزكاة، وصدقة التطوع، وذلك بحسب السياق، وأحيانًا يُراد بها هذا وهذا، لكن لما كان هنا السياق يُشعر بفضل الإخفاء حملها الجمهور على أن المراد هنا بالصدقات: صدقة التطوع فَنِعِمَّا [البقرة:271]، وقد ورد في صدقة التطوع حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه[5]، هذا يدل على شدة الإخفاء، ويدل على فضله العظيم حيث صار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
فلا شك أن الأصل في صدقة التطوع أن الإسرار أفضل، ويمكن أن يُقال بأن الأصل في الزكاة أن الإظهار أفضل للأسباب التي ذكرت، لكن لكل قاعدة مستثنيات، ففي الزكاة قد يكون في بعض الحالات الإسرار أفضل، كما لو كان الإنسان لا يستطيع أن يصحح نيته إلا بهذا، حتى لا يكون مرائيًا في الفرض فيحبط هذا العمل، وهو لا يستطيع أن يصحح هذه النية إلا بالإسرار، فيُقال: يجب عليه الإسرار، في صدقة التطوع أحيانًا يكون الإظهار أفضل، وذلك كما لو أن الناس تتابعوا على ترك الصدقة مثلًا، أو دُعوا إلى الصدقة وكان منهم إحجام، فتصدق رجلٌ بصدقةٍ علانيةً، فتتابع الناس على الصدقة، هذا الذي قال فيه النبي ﷺ: من سنَّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها[6]، وأحيانًا المقام يقتضي هذا، أحيانًا يُقال للناس: من يتصدق على هؤلاء؟ من يكفل هؤلاء؟ فيكون ذلك في نفس المقام، من يبني هذا المسجد؟ فقد يفوت، قد يُسبق إليه، ففي مثل هذه المقامات لو أنه أُعطي عطية أو هدية أو جائزة أو نحو ذلك بحضرة الناس في محفل، تكون هذه لها شأن ولها قيمة، فقال: أنا أتبرع بهذه لجمعية تحفيظ القرآن مثلًا، فهذا مقام يُحمد عليه، وقد يتتابع غيره على هذا ويقتدون به -والله تعالى أعلم- لكن الأصل في صدقة التطوع: أن الأفضل وَإِنْ تُخْفُوهَا [البقرة:271]، يجوز الإظهار إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]؛ لأن هذا أدعى إلى الإخلاص، وكذلك أيضًا أحفظ لماء الوجه بالنسبة للمُعطين الفقراء، والنفس -كما قال بعض أهل العلم- حينما تُنفق المال وهو عزيز أو تُحبَس عن شهواتها ولذاتها من الحرام، فإنها تتسلل من طرقٍ خفية، تجد فيها أعظم من لذة الحرام من الشهوات، تتسلل إلى طلب المحمدة والشهرة والجاه والحظوة في قلوب الناس، هذا يُدفع فيه الأموال، فقد يمنع نفسه من الشهوات، ولكنه يحصل له من المقاصد السيئة ما يجد فيه -نسأل الله العافية- أعظم شهوة، كذلك أيضًا في إنفاق المال، المال عزيز على النفس، فيذهب إلى عِوضٍ ماديٍ يجده كما يجد في البيع والشراء، وإلا فهو مخلوف ومعوض من الله -تبارك وتعالى- لكن هو حينما يدفع هذا المال قد يتسلل إلى نفسه مقاصد أخرى، فيُظهر ذلك، أو يتحدث عنه، فيكون بهذا مرائيًا يطلب حمد المخلوقين ونظرهم، والله المستعان.
يعني: هذا المضمر فَنِعِمَّا هِيَ في موضع تفسير للمضمر، يعني: فنعم شيئًا، فنعم الشيء فَنِعِمَّا هِيَ فنعم الشيء، ونِعِمَّا هذه مركبة من "نعمَ" و "ما" نِعِمَّا، فأما "نعمَ" فهي فعل ماضي جامد كما هو معلوم "نعمَ"، لا يتصرف مبني على الفتح، فهو للمدح، كما أن "بئس" للذم، وأما "ما" نِعِمَّا فهذه نكرة موصوفة نِعِمَّا بمعنى شيئًا، يعني: نعمَ الشيء، نعمَ شيئًا، منصوبة على التمييز، والفاعل ضمير مستتر في "نعم" تقديره: هي عائد على الصدقات، نعم الشيء هي، وبعضهم يقول: بأن "ما" معرفة تامة، فاعل "نعم"، أي نعم الشيء وهي ضمير مبني في محل رفعٍ مبتدأ، والجملة قبله نِعِمَّا في محل رفعٍ خبر له، والتقدير: إن تبدوا الصدقات فهي نعم شيئًا، أو فهي نعم الشيء.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ قيل: إن المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة فنزلت الآية، هنا ذكر في الحاشية عن ابن عباس -ا- قال: "كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم من المشركين، فسألوا فرُخص لهم، فنزلت هذه الآية"[7]، وهذه الرواية ثابتة صحيحة، وهي أيضًا صريحة في سبب النزول، ومن الروايات الواردة في الباب أيضًا -غير هذه الرواية- ما جاء عن ابن عباس -ا- أيضًا قال: "كان أناسٌ من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، -نحن عرفنا من قبل أن بعضهم كانت المرأة التي لا يولد لها- كانت لربما نذرت أنه إن جاءها ولد أن تجعله يهوديًا، فالحاصل أن بعض هؤلاء كان لهم قرابات من قريظة والنضير، وكانوا يتقون: أي يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت" لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]"[8]، ففي هذه الرواية ذكر قريظة والنضير، وفي التي قبلها كانوا يكرهون أن يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، وهذه الرواية أيضًا صحيحة.
وجاء عن ابن عباس -ا- أيضًا قال: "بأن النبي ﷺ كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]"[9]، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين، وهذا كله يرجع إلى معنًى واحد: وهي أنها نزلت في الامتناع عن الصدقة على غير المسلمين سواء كانوا من أهل الكتاب، أو كانوا من المشركين، فقال الله : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، وبطبيعة الحال مثل هذا لا يكون في الزكاة؛ لأن الزكاة لا يجوز أن تُعطى للكفار، فهذا كله يدل على أن المقصود بالصدقات هنا: صدقة التطوع.
إذن لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ يعني إلى الإسلام، يعني لا تمتنع من الصدقة على الكفار فهداهم على الله -تبارك وتعالى- "وفي كلِ كبدٍ رطبة أجر"، لكن إن كان هؤلاء الكفار من المحاربين، فإنه لا يتصدق عليهم؛ لئلا يتقووا على المسلمين، وإلا فيجوز الصدقة على الكافر، قد يكون هذا الكافر أجيرًا عنده وقد يكون غير ذلك، والصدقة قد يكون سائلًا فيُتصدق عليه، وإذا كان هذا في الكافر فالمسلم الفاسق من باب أولى، فلا يُمتنع من الصدقة على المسلم الذي عنده تقصير أو فسق أو كبائر أو نحو ذلك لأجلِ انحرافه، لكن لا يُعطى فيما يتقوى به على المعصية، يُتصدق عليه ويُحسن إليه، لكن لا يكون ذلك فيما يقويه على معصيته، في كل كبدٍ رطبة أجر[10]، وحديث: تُصدق الليلة على زانية، تُصدق الليلة على سارق[11]، فوقعت عند الله -تبارك وتعالى- ولهذا قال: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ تقدم لنفسك، حتى لو وقعت في يد غير أهل أو من لا يكون من أهل الصلاح، قال: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني: تريد ما عند الله وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ والأجر يأتيك وافيًا، فهذه ثلاثة تجعل الإنسان حينما يتصدق يكون في غاية الاطمئنان أن ذلك لا يضيع، لو تبين أن هذا الإنسان في غاية الغنى ولكنه يسأل ويُظهر الفقر، أو تبين أنه على حالٍ غير مرضية، أو أن هذه المرأة تُقارف الفواحش، فإن الإنسان لا يندم حينها على هذه الصدقة؛ لأنه يقدم لنفسه ويريد ما عند الله، وأجره يكون وافيًا، إذا تحققت هذه الثلاث فلا عليه بعد ذلك، وقد جاء عن عطاء الخُرساني في هذه الآية قال: "يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله"[12]، وهذا استحسنه الحافظ ابن كثير[13] باعتبار أن أجره وقع على الله، ولا عليه في نفس الأمر أوقع ذلك لبر أو فاجر، أو مستحق أو غني للحديث، الرجل الذي قال: لأتصدقن الليلة[14].
فقوله: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ فهذا أيضًا خير نكرة في سياق الشرط، وهذا للعموم، وسُبقت بـمِنْ فهي نصٌ صريحٌ في العموم، مِنْ خَيْرٍ أي: خير، قليل أو كثير، سواءً كان ذلك لبر أو فاجرفَلِأَنفُسِكُمْ.
الآية تحتمل المعنيين: الأول: الثناء على الصحابة .
والثاني: أنها أيضًا تتضمن الحث على الإخلاص، لكنها أيضًا تُخبر بالأمر الآخر: أن عملكم هذا لله وأنه هو الذي سيجازيكم عليه، وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني: لا شأن لكم بهذا المُعطى، وعلى أي حالٍ هو، وكأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب من حمل ذلك أنه ثناء على الصحابة، لا شك أن الصحابة كانوا بهذه المثابة، لكن المقام في هذه الآية هو في بيان هذا الأمر، وهو ما يتعلق بالحث على الصدقات والبذل والإنفاق بصرف النظر عن حال المُعطى، وكثير من الناس يتحاشى النفقة والإحسان على من لا يرتضيه، لكن لو جئنا للأولويات فلا شك أن المسلم أولى من الكافر، وأن البر أولى من الفاجر، لكن هل يمتنع من إعطاء الكافر أصلًا لأنه كافر، أو يمتنع من إعطاء الفاسق لأنه فاسق؟
الجواب: لا، لكن لو كان الصدقات محدودة فإنه يُقدم المسلم، ويقدم صاحب السنة، ويقدم طالب العلم، ويقدم التقي، ونحو ذلك، لكن إذا كان الحاجة عرضت لكافرٍ أو لفاسقٍ أو لمن يُنسب إلى بدعةٍ أو نحو ذلك، فتصدق عليه، فإن أجره على الله، الأجر يكون على الله.
لا شك؛ لأن الله قال: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273]، فالإنفاقُ للفقراء، يعني هنا يبين الأولى بهذه النفقات وهم فقراءُ المهاجرين، ويجوز إعطاء من لا يكون بتلك المثابة من الصلاح والتقوى، لكن أولى الناس بها هم هؤلاء الذين أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273] وهم في غاية التعفف، فتركوا كل شيءٍ ورائهم.
حُبسوا (بالعدو أو بالمرض) أحسن من: (وبالمرض)؛ لأنه قد يُحبس بالعدو ولا يكون مريضًا أو المرض، حُبسوا بالعدو أو المرض، كذا يعني: أُحْصِرُوا: حُبسوا، حُبسوا عن التصرف في معايشهم خوف العدو، وأصل الحصر: التضييق والمنع أُحْصِرُوا، وبعض أهل العلم يفرق في ذلك بين حصروا، و أُحْصِرُوا، بعضهم يفرق المعنى، وبعض أهل العلم يرى أنهما بمعنًى واحد، وهذا قد مضى شيءٌ منه في الكلام على آيات الحج فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] هل أُحصر يكون ذلك من قِبل العدو؟ ويُقال: أُحصر فلان، يعني منعه العدو، حبسه العدو، وأنَّ الحصر يكون بالمرض، وبعض أهل العلم يرى أنه لا فرق بين اللفظتين، فهؤلاء أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: حُبسوا بالعدو، وبعض أهل العلم يقول: حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله، حبسهم العدو، بمعنى: أنهم لا يستطيعون الذهاب والسفر والتجارة، فالعدو يتربص بهم، فهؤلاء أولى الناس بهذه الصدقات.
فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273] يحتمل الجهادَ أو الدخول في الإسلام.
(وفي النسخة الخطية: يحتمل الجهاد والدخول في الإسلام).
سَبِيلِ اللَّهِ إذا أُطلق غالبًا في القرآن فالمقصودُ به الجهاد أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهذه هو الظاهر في هذا الموضع.
يعني بمعنى: السفر للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض: هو السفر وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101] يعني: في حال السفر، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] فهذا كله يُقال للسفر، لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273] التقلب فيها والسير في الأرض للتجارة وطلب الرزق.
هنا أحسبهم ويَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ يعني: الجاهل بحالهم، أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يعني: بسبب التعفف.
يقول: والتَّعَفُّفِ هنا هو عن الطلب"، وفي الحديث: ليس المسكين بهذا الطَّواف الذي ترده التمرةُ والتمرتان، واللقمةُ واللقمتان، والأُكلةُ والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا[16]، يعني: هذا المسكين حقيقةً، يعني ذاك قال: ليس المسكين، يعني: ليس المسكين حقيقةً؛ لأنه يجد من يعطيه لأنه يتعرض للناس ويسأل، لكن المسكين الذي هو أحق بهذا الوصف وبالصدقة هو المتعفف، يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف، مِنَ سببية، يعني: بسبب التعفف، لماذا يحسبهم أغنياء؟ بسبب تعففهم.
"وقال ابن عطية: لبيان الجنس" يعني تكون مِنَ بيانية يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.
ليس المقصود هنا بيان تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ يعني: من الصلاح، ذاك في قوله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، لكن هنا تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ أي: ما يظهر عليهم ويعرفه المتفرس من أمارات الحاجة والفقر، فهذا كما يقول ابن جرير -رحمه الله-[17]: يظهر للمتأمل في حالهم بحيث إنه يرى عليهم من شحوب الوجه ورثاثة الثياب ونحو ذلك مما يدل على فقرهم، فحال الإنسان غالبًا الحال الظاهرة، ما يظهر من أماراتٍ على وجهه، أو لباسه ومظهره يدل على حاله من الفقر والحاجة أو الغنى، فهنا تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، السيمى: يعني العلامة.
الإلحاف أصله الاشتمال والملازمة، ومنه اللحاف؛ لأنه يشتمل على الإنسان من كل نواحيه، فهم لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا قال: هو الإلحاح في السؤال، ولاحظ هذا المعنى الذي ذكره: أنهم إذا سألوا يتلطفون ولا يُلحون، أخذ هذا من مفهوم المخالفة، أنهم إذا كانوا لا يسألون الناس بإلحاح، فمفهومه أنهم يسألون من غير إلحاف، أنهم يسألون بتلطف، وهل هذا هو المراد؟
الجواب: لا، ليس هذا هو المراد، هنا مقام مدح لهم، والسؤال لا يكون مدحًا، فهؤلاء لا يُتفطن لهم؛ لأن الله وصفهم بالعفاف يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، لو كانوا يسألون لعُرفوا أنهم من ذوي الحاجة، لكن الله ذكر تعففهم حتى يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء، فكيف يُقال: أنهم يسألون بتلطف؟! وإنما هذا يجري على قاعدة في التفسير: وهي أن الشيء قد يردُ نفيه مقيدًا، والمراد نفيه مطلقًا، نفيه من أصله، هذا من أوضح أمثلة هذه القاعدة، لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ذكر أسوأ صورة من صور المسألة: وهي الإلحاح والإلحاف التي يتأذى بها من يُسأل، فهو يأتيه بكل وسيلة وبكل طريقة يطالبه بأن يعطيه، ويُلح عليه بهذا، فيضجر من سُئل، وذكر هذا نفاه عنهم، والمقصود نفي ذلك أصلًا، قد يرد نفي الشيء مقيدًا والمقصود نفيه أصلًا، فالمقصود هنا: أنهم لا يسألون أصلًا، والقاعدة لها صور وأمثلة، قد يرد نفي الشيء في القرآن مقيدًا، والمقصود نفيه من أصله.
يقول: وباقي الآية وعد وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ هذا حث على الإنفاق ووعدٌ على الجزاء، يعني إذا قال: بأنه عليمٌ به فمعنى ذلك أنه سيجازي عليه.
هذا لا يصح، هذا شديد الضعف، هذا رواه ابن جرير[19]، وابن أبي حاتم[20]، والطبراني في "الكبير"[21]، وضعَّفه الحافظ ابن كثير[22]، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره"[23]، لا يصح أنها نزلت في عليّ.
وهذا أيضًا لا يثبُت، جاء أنها نزلت في أصحاب الخيل عن أبي أمامة عند ابن عساكر[25]، وقد ضعَّفه البخاري[26]، وابن عساكر[27]، وكذلك أيضًا عن عُريب المالكي مرفوعًا عند ابن سعد[28]، وابن المنذر[29]، وابن أبي حاتم[30]، والطبراني وغيرهم، لكن لا يصح من ذلك شيء، الإسناد ضعيف.
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سرًّا وَعَلانِيَةً فقال: تعميمٌ لوجوه الإنفاق وأوقاته، بالليل والنهار يعني بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سرًّا وَعَلانِيَةً معنى هذا: أنه متى دعت الحاجة فإنه لا يؤخر، ولا يتمهل، ولا يتريث، ولا ينتظر، هذا معناه، يعني: إن دعت الحاجة في الليل أخرجها في الليل، وإن دعت الحاجة في النهار أخرجها في النهار، يعني لا يؤخر صدقة الليل المستحقة التي وجدت الحاجة وقامت لها، لا يؤخر ذلك يقول: حتى نصبح، وإذا كان ذلك في النهار لا يقول: حتى نمسي من أجل الإسرار بها لئلا يراها أحد، وإنما يُنفق ليلًا ونهارًا متى ما دعت الحاجة، سرًّا وعلانيةً، يعني -كما سبق- قد تكون الحاجة داعية في حال يمكن أن يخرجها في حال السر، وأحيانًا يكون في مقام علانية، فلا يؤخر هذا المقام إذا دعت الحاجة ويقول: حتى أوصل ذلك سرًّا في وقتٍ آخر، فقد يفوت ذلك، قد تتحول إرادته، فيخرجها متى ما وُجدت الحاجة، فعمم وجوه الإنفاق وأوقاته، هذا معنى كلام ابن جُزي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سرًّا وَعَلانِيَةً، فذكر الوقتين، وذكر الحالين: السر والعلانية، هذا -كما سبق- أنه قد تكون صدقة العلانية أفضل في صدقة التطوع إذا كان المقام يقتضيه، وهكذا صدقة الليل والنهار، ولهذا المفضول قد يكون فاضلًا إذا اقترن بما يرجحه.
هنا لما ذكر الإنفاق، وأثنى على هؤلاء المنفقين الذين يخرجون هذه النفقات سرًّا وعلانية، ليلًا ونهارًا، لا يبتغون العِوض من الناس وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]، ذكر ما يقابلهم: وهم أهل الجشع والطمع، واستغلال حاجة الناس، فهم لا يتصدقون عليهم، ولا يقرضونهم فترجع إليهم أموالهم، بل يستغلون حاجتهم فيأخذون عليهم أموالًا بغير حق الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، عبَّر بالأكل يقولون: لأنه غالب وجوه الانتفاع، يعني إن غالب ما يطلبه الناس من المكاسب إنما هو من أجل الأكل، فعُبر به، وإلا لو أنه أخذ هذا الربا وصرفه في ترفيه، أو في بناء، أو في ثياب يلبسها، أو مركبة، أو نحو ذلك فهذا كله داخلٌ فيه، لكنه ذكر الأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، والعرب تعبر عن أخذ المال والانتفاع به ونحو ذلك تعبر عنه بالأكل، ولهذا في أموال اليتامى لما حذَّر وتوعد من أخذها ظلمًا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، فهذا ليس بمحصور ولا مقصور -كما هو معلوم- على الأكل، وإنما لو أنه أخذها وانتفع بها بأي وجهٍ من وجوه الانتفاع أو أتلفها، فهو داخلٌ في هذا، من هنا أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] أن الإنسان ليس له أن يأخذ الربا بحالٍ من الأحوال ولو تخلص منه، بعض أهل العلم يرى هذا، يعني البعض يقول: بأنه يمكن أن يأخذ هذا الربا ولا يتركه للبنوك، ثم بعد ذلك يتخلص منه، يتخلص منه يجعله في مصالح عامة ونحو ذلك، هو لا يجوز له أن يتعامل أصلًا مع هؤلاء ولا أن يأخذ هذا المال، لكن بعض الناس يكون قد تاب من معاملةٍ ربوية، فيقول: هل آخذ هذا المال أو لا آخذ هذا المال مثلًا؟ فالبعض يرخص في أخذه ليتخلص منه، لا لينتفع به، بصرفه في مصالح عامة، وبعض أهل العلم يمنع من ذلك باعتبار أنه لا يحل له أخذه أصلًا، وهذا أبرأ للذمة، والله أعلم.
باعتبار أن ذلك يجب أن يكون في هذه الأموال المذكورة الربوية أن يكون يدًا بيد، في الصرف وكذلك الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ويجب أن يكون يدًا بيد، وكذلك في البُر بالبُر ونحو ذلك، وأن يكون أيضًا متماثلًا، وهذا الذي ذكره ثانيًا قال: وأما التفاضل فالنسيئة من النسأ وهو التأخير، فهذه يجب أن تكون يدًا بيد.
فيما يتعلق بالتفاضل يقول: يحرم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين ومن الطعام، لأن النبي ﷺ قال: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد[33]، فهذا في ربا الفضل، يكون إذا كان يدًا بيد فيجوز التفاضل إذا اختلفت الأجناس، مثل لو أنه باع ذهبًا بفضة، أو تمرًا ببُر ونحو ذلك، لكن حينما يبيع التمر بالتمر فهنا يجب أن يكون متساويًا، للحديث المعروف: أوَّه عين الربا[34]، قال: بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم، يعني من التمر الجيد، فهذا يكون الذهب بالذهب والفضة بالفضة ونحو ذلك، وبناءً على العلة في المنع التحريم، اختلفت أقوال الفقهاء في ذلك لهذا -لاحظ- هنا قال: ومذهب مالك: أنه إنما يحرم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام، يعني: الاقتيات أن يكون قوتًا، فالفاكهة ليست قوت، وأن يكون مدخرًا فهي ليست مدخرة، ولو كانت قوتًا في بلد فإنها ليست بمدخرة من الطعام، لكن يتكلم الفقهاء فيما لو جُفف، جُففت الفاكهة مثلًا، العنب فاكهة يُجفف يكون زبيبًا، التين يُجفف ونحو ذلك، فيكون مدخرًا بهذا الاعتبار، لكن على هذه العلة الموصوفة والمقيدة بهذه القيود يكون مقتاتًا، يعني: لا يكون من جنس الفاكهة مثلًا تفكه، يكون قوتًا.
ومذهب الشافعي: أنه يحرم في كل طعام، يعني: إن العلة هي الطعام عند الشافعي، فلو كان ذلك من الفاكهة ونحوها فالحكم واحد.
ومذهب أبي حنيفة: أنه يحرم في المكيلِ والموزون من الطعام، يعني: صارت العلة مركبة، الكيل أو الوزن والطعم، الكيل والوزن، وهناك عند مالك: الاقتيات والادخار والطعم، يكون مطعومًا، ومن ثم فإن الذي لا يكون مطعومًا ولو كان مكيلًا أو موزونًا كالحديد مثلًا لا يكون فيه الربا بهذا الاعتبار، البترول لا يكون فيه الربا بهذا الاعتبار، يعني كيلو من الحديد من نوع جيد بكيلوين، سيارة جيدة بسيارتين، ونحو هذا.
لا يَقُومُونَ يعني: من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، هذا قاله ابن عباس -ا- ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، والضَّحاك، والسُدي، وابن زيد: أن هذا في قيامهم في الآخرة حينما يقومون من قبورهم[35]، وقالوا: يُبعث كالمجنون، وفي قراءةٍ لابن مسعود : لا يَقُومُونَ يوم القيامة إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ والقراءة الأحادية -كما هو معلوم- إذا صح إسنادها فإنها تفسر المتواترة.
وقال بعضهم: يُجعل معه شيطان يخنقه، وهذا لا دليل عليه، "كالذي" هو تشبيه كالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ شبهه به، لكن هل يتسلط عليه الشيطان بالخنق يوم القيامة؟ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له"[36]، يعني: كقيام، لا يَقُومُونَ إِلَّا كقيام المصروع الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ.
وهنا يقول: يَتَخَبَّطُهُ يتفعَّله من قولك: خبط يخبط إلى آخره، الخبط: هو الضرب على غير اعتداء، هذا التخبط، تقول: فلان يتخبط في مشيته، يتخبط في قراراته، يتخبط في تصرفاته، بمعنى: المصروع يتحرك حركات يضرب بيديه ورجليه ونحو ذلك على غير اهتداء، يعني حركات لا إرادية، فهذا هو التخبط.
يقول هنا: والْمَسِّ الجنون مِنَ الْمَسِّ، ومِنَ تتعلق بــ يَقُومُ يعني: لا يقومون من قبورهم إلا على هذه الحال، لا يقومون إلا على هذه الحال كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ فتتعلق بـ يَقُومُ، لا يَقُومُونَ إِلَّا هذا المشبه به، إلا كقيام الممسوس الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني لا يقومون من قبورهم إلا كما يقوم هذا الذي يتخبطه الشيطان، لماذا يتخبطه؟ ما هذا التخبط؟ مِنَ الْمَسِّ، التخبط الواقع بسبب المس، كما يقوم الممسوس، وكما يقوم من تخبطه الشيطان بسبب المس -المصروع يعني- وهذا على كل حال معروف أن الصرع منه ما يكون بسبب تخبط الشيطان وتسلط الشيطان عليه، وهناك أنواع من الصرع يعرفها الأطباء أخرى:
منها: ما يكون بسبب أورام في الدماغ.
ومنها: ما يكون بسبب أبخرة تتصاعد من الجوف إلى الدماغ، فيحصل الصرع، يعني يكون له سبب طبي يعرفه الأطباء، يُعالج، وهناك سبب غير مُدرك عندهم: وهو ما يكون بسبب الشيطان، وهذا مُشاهد إذا حصل له أحيانًا حالات من الغضب، وأحيانًا من غير سبب ظاهر، وأحيانًا بسبب سماع القرآن أو الرقية، فيسقط ويتخبط ويصدر منه أشياء ويخرج منه زبد ونحو هذا، ولربما آذى نفسه، ولربما عضَّ لسانه بقوة، فقد يكون ذلك بسبب الشيطان، يعني هذا الذي يسقط أثناء الرقية -هذا إن كان فعلًا حقًا قد سقط وسُلبت إرادته، بمعنى أنه لا يتقمص هذا- فيكون ذلك من تسلط الشياطين عليه.
يعني الآية عامة لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ [البقرة:275]، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275]، لكن التعليل هنا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] هذا يقوله الكافر الذي ينكر تحريم الربا، لكن يمكن أن يكون علل بصورةٍ هي أسوأ الصور والتعليلات باستحلاله بهذه الطريقة الفجة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، يعني: بالغوا في استحلاله حتى قلبوا صورة المسألة، يعني القياس يكون إلحاق فرع مختلف فيه بأصلٍ متفق عليه، بأصل ثابت، بعلة، بحكمٍ، تكون هذه العلة جامعة بين الأصل والفرع، هؤلاء قلبوا صورة المسألة، فجعلوا الفرع المختلف عليه جعلوه أصلًا، وجعلوا المتفق عليه فرعًا، فقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ [البقرة:275] البيع متفق عليه مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] قاسوه على الربا، الأصل أن يُقال: إنما الربا مثل البيع، يعني كأنهم يقولون: إن هذه معاوضة في البيع أخذ عليها ربح، وهذا الربا مثل البيع، هو عقد أخذ عليه المقابل، أن يلحقوا الربا المختلف فيه، يعني بين أهل الإيمان وبين هؤلاء الكفار المستحلين للربا، أن يقولوا: الربا مثل البيع الذي تقولون بحله، هنا عكسوا مبالغةً فقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، فهنا ذكر ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، لكن أول الآية عام الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ فهنا يقول: ثم قد يأخذ العصاة بحظٍ من هذا الوعيد.
فإن قيل: هلا قيل إنما الربا مثل البيع؛ لأنهم قاسوا الربا على البيع في الجواز؟
فالجواب: أن هذا مبالغةٌ، فإنهم جعلوا الربا أصلًا حتى شبهوا به البيع.
هذا ذكرته آنفًا.
ذكرنا من قبل مؤلفات ابن جزي -رحمه الله- ومنها ما كان في الفقه، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ عمومٌ يخرج منه البيوع الممنوعة شرعًا، يعني مدار البيوع الممنوعة شرعًا: إما أن يكون ذلك للربا لعلة الربا، أو الجهالة والغرر، البيوع المحرمة تكاد تدور على هذا: إما للربا وإما للجهالة، وجود الجهالة والغرر، فيما يتعلق بـوَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الأصل في البيوع والمعاملات الحل ما لم يرد دليل على التحريم بخصوصه، أو يوجد فيه هذه العلة التي هي الربا، أو الجهالة والغرر، والمقصود بالجهالة هنا والغرر المعتبر شرعًا، وإلا لا يكاد يخلو من جهالةٍ وغرر في أشياء يسيرة تُغتفر، مثل: إذا شرا الإنسان دارًا، وهو لا يدري عن الأساسات مثلًا وما في داخل هذه السارية، داخل الجدار، وهكذا إذا اشترى طعامًا فاكهة أو نحو ذلك ولا يدري ما الذي بداخلها، فمثل هذا مغتفر، اشترى مركبة فهو لا يدري ما تنطوي عليه هذه المقاعد فيها، أو ما في داخل إطاراتها أو نحو ذلك مما يخفى، فمثل هذا يُغتفر.
أيضًا هذا الرد، فهم بالغوا في استحلال الربا بهذه الطريقة، فما جاء الرد بالطرق الإقناعية عقلية في بيان مفاسد الربا الاقتصادية، والاجتماعية، ونحو ذلك، وإنما جاء الجواب مباشرةً هكذا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فالمكابرون في الجدال والتلبيس قد لا يُجدي معهم الإقناع والحوار وإنما يقال لهم مثل هذا الجواب المباشر: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، والتحليل والتحريم إنما هو إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا له نظائر في كتاب الله يقطع المناظرة ويقطع الاحتجاج بمثل هذا الجواب المباشر، فما كل أحدٍ من المعارضين يستحق التطويل في الإقناع وذكر الحجج والأدلة والبراهين؛ لأنه لا يطلب الحق أصلًا، فمثل هذا يُقطع الجدال معه، ويُجابه بمثل هذا الجواب، -والله أعلم-.
قبل نزول التحريم هذا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى [البقرة:275] تاب، فهذه الآية تشمل عدة صور، والله تعالى أعلم:
الصورة الأولى: ما كان قبل التحريم، قبل نزول الآية، فهذا داخل في ذلك اتفاقًا بلا إشكال، بنص الآية.
الصورة الثانية: فيمن دخل في الإسلام وكان يتعامل بالربا، وأخذ أموالًا حينما كان على كفر، فهذا الإسلام يَجُبْ ما قبله، فلا إشكال فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، فلا يأخذ شيئًا بعد ذلك.
الصورة الثالثة: هي موضع الاختلاف، وهو لو تاب، كان يعلم بالتحريم فتاب، فهل يقال: لَهُ مَا سَلَفَ قبل التوبة ترغيبًا في التوبة، هذا يقوله بعض أهل العلم، يقول: إذا تاب فَلَهُ مَا سَلَفَ، لكن هذا لا يخلو من إشكال، باعتبار أن هذا لا يحل له أخذه أصلًا، وهو عالم بالحكم، ومُتوعد بهذا الوعيد الشديد فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فلا يجوز له أن يأخذ من ذلك شيئًا إذا تاب، وما أخذه قبل توبته فإنه يرد هذه الأموال على أصحابها إذا عرفهم، وإذا لم يعرفهم تخلص منها، كأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب، ولكنه ليس محل اتفاق، فمن أهل العلم من يقول: إن التوبة أيضًا كذلك لَهُ مَا سَلَفَ ترغيبًا له بالتوبة.
الصورة الرابعة: وهي فيما لو كان ذلك بسبب جهلٍ منه، دخل في معاملة هي ربوية، وما كان يعلم، فعلم بعد ذلك، وكان قد أخذ في معاملاتٍ سابقة نظير هذا، فهل يرد؟ هنا يمكن أن يُقال: بأن ذلك يُغتفر، وأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب، فهذا الإنسان ما بلغه وما علم، قد لا يكون منه تفريط، فقد يُغتفر ذلك فيما مضى، لكن ما بين يديه من معاملة ونحو ذلك لا يأخذ عليها شيئا، وكثير من الناس يدخلون في معاملات وقد يكون هؤلاء من أهل الصلاح والخير، والواقع أنها لا تخلو إما من ربا، أو جهالة، أو غرر، وتكون العقود فاسدة باطلة ومع ذلك يكثر ويتكرر وقوعها، يدخل مثلًا في مساهمة ويقول: أريد أن أضمن رأس المال، وقد يأخذ رهنًا على هذا، هذا لا يجوز، كيف يضمن رأس المال وهو في مضاربة؟ قد يذهب رأس المال.
والبعض يأخذ أرباحاً محددة، يقال له: هذه المائة ألف تأخذ عليها ألفين وخمسمائة كل شهر، بأي اعتبار تضمن له هذا الربح المحدد؟ فقد لا يحصل هذا الربح، قد يحصل أكثر منه، وقد يحصل خسارة في رأس المال، فهذا لا يجوز، ذاك يضمن له يشترط، يقول: أعطيك ألفين وخمسمائة كل شهر، فهذا لا يصح، وكثير من الناس يقع في هذا.
لاحظ هنا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يعني صاحب الربا أن الله يحكم فيه يوم القيامة، وقيل: الضمير عائد على الربا، والمعنى: أن أمر الربا إلى الله في تحريمه، لا، هذا خلاف الظاهر من السياق، وإنما المقصود: صاحب الربا، أن من تاب تاب الله عليه فأمره إلى الله، ليس بمؤاخذ من قِبلكم ولا شأن لكم به.
يعني لابد من هذا القيد وهو الاستحلال، لهذا أضاف هنا: وإلى القول: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، وَمَنْ عَادَ يعني: إلى الربا واستحلاله فهؤلاء الذين يقولون: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا.
لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر، فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة، لكونها في الكفار.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276] يُنقصه ويُذهبه، وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا المحق: هو الإزالة والإبطال والإذهاب للشيء، يمحقها، فعاملهم بضد قصدهم، هم يريدون التثمير للمال، فقابله بالمحق، قال: يُنقصه ويُذهبه، والله قال: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، وفي الحديث: من تصدق بعِدل تمرة من كسبٍ طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصحابها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل[37]، فهذا في الصدقات وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، فبعض أهل العلم قال: هذا المحق في الآخرة، بمعنى: أن الله يبطله، فإن تصدق منه، تقرب إلى الله، فإن ذلك لا ينفع صاحبه، وبعضهم قال: هذا في الدنيا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا فتذهب بركته، وهذا يمكن أن يكون على إطلاقه؛ لأن الله لم يقيد ذلك في الدنيا أو في الآخرة، وإنما أطلقه، فيُحمل على العموم يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا فتذهب بركته، وليست العبرة بكثرة المال والدخل الذي يحصل للإنسان، وإنما البركة، والمشاهد في حال هؤلاء الذين يأخذون الربا، ويتعاملون بالربا، ويعملون فيه، أن هؤلاء تذهب بركة الأموال تُمحق، وفي الآخرة لا يجد من جزاءٍ وثوابٍ على صدقةٍ تصدق بها أو قربةٍ تقرب بها ونحو ذلك، لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب.
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب، كما سبق في الحديث.
الآية في الكفار، ولكن أيضًا مثل هذا في الربا ينبغي أن يُحذر، ومثل هذا الجزاء في الآخرة لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ [البقرة:275]، كذلك محق الربا، هذا لا يختص بالكفار، فالمحق يحصل للكافر ولغير الكافر ممن يتعامل بالربا، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276] مناسبة الختم بذلك -كما يقول الحافظ ابن كثير-: هي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحودٍ لما عليه من النعمة، ظلومٌ آثمٌ بأكل أموال الناس بالباطل، يعني على قول ابن كثير: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ليس المقصود بالكافر: الذي هو كافرٌ بالله، أو بالضرورة أن يكون مستحلًا للربا في هذا الختم، وإنما كفَّار؛ لأنه جحود لنعمة الله لم يرض بما قسم الله له وأحل من المعاملة، وإنما يطلب وراء ذلك ما حُرم عليه، ويطلب أموال الناس بالباطل -لاحظ- فهذا المعنى الذي يذكره ابن كثير، خلاف ما ذكره ابن جُزي: من حمل ذلك على الكافر الذي يستحل الربا -والله أعلم-.
- التفسير الوسيط للواحدي (1/383)، والوجيز للواحدي (ص:190).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/365).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/17).
- أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (1/315).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (660)، وبرقم (1423) في كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1017).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1017).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/703).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/20).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/704).
- أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/704).
- تفسير ابن كثير (1/704).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/369).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه، برقم (1039).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/29).
- أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (2/543)، برقم (2882)، و(2883)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (11164)، وابن كثير في التفسير (1/708)، وعبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (1/371)، برقم (344).
- لم أقف عليه.
- تفسير ابن أبي حاتم (2/543)، برقم (2882)، و(2883).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (11164).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/708).
- أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (1/371)، برقم (344).
- انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/100)، تفسير ابن كثير ت سلامة (1/708)، والطبقات الكبرى ط دار صادر (7/433)، لكن ليس عن أبي هريرة .
- تاريخ دمشق لابن عساكر (40/44).
- لم أقف على تضعيفه.
- تاريخ دمشق لابن عساكر (40/45).
- الطبقات الكبرى ط دار صادر (7/433).
- تفسير ابن المنذر (1/46).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/542)، برقم (2880).
- مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها (6/413).
- العناية شرح الهداية (6/171)، والبناية شرح الهداية (7/393).
- أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا، برقم (1587).
- أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا باع الوكيل شيئا فاسدا، فبيعه مردود، برقم (2312)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل، برقم (1594).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/708).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/708).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب لقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277]، برقم (1410).