السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(001-أ) من بداية السورة إلى قوله تعالى (ابتغاء الفتنة..) الآية 7
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 1442
مرات الإستماع: 1762

يقول الإمام ابن جزيٍّ الكلبي في صدر سورة آل عمران: نزل صدرها إلى نيّفٍ وثمانين آية، لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة يناظرون رسول الله ﷺ في عيسى [1].

سورة آل عمران: هي من السور المدنية بالاتفاق، وهذا هو الاسم الثابت الوحيد لها، وتسمى مع سورة البقرة: بالزهراوين، كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-[2].

وهذه السورة الكريمة تتحدث عن موضوعين رئيسين، -وإن وجد جوانب أخرى في مضامين السورة-:

 الموضوع الأول: هو ما يتعلق بأهل الكتاب لاسيما النصارى، فكما ذكر بأن صدر هذه السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آية، يقول: بأنها "نزلت لما قدم وفد نصارى نجران"، فهذه الآيات في صدر هذه السورة تتحدث وتركز على قضايا الوحدانية، تحتج على النصارى، وتبين حقيقة المسيح وما إلى ذلك.

الموضوع الثاني الرئيس فيها: هو ما يتعلق بغزوةِ أحد: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ .... [آل عمران:121]، هي تتحدث عن وقعة أُحد في سياقٍ طويل تضمن قضايا تتعلق بأسباب النصر والهزيمة، وما وقع للمسلمين في تلك الوقعة، وعزّاهم أحسن تعزية، وكان في مضامين تلك الآيات من الدروس والعظات والعبر ما لا يُقادر قدره -كما سيأتي-.

أما السورة التي تتحدث عن غزوة بدر -كما هو معلوم- فهي سورة الأنفال.

 وقوله: "نزل صدرها إلي نيِّفٍ وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة، يناظرون رسول الله ﷺ في عيسى ".

قدوم وفد نجران إلى المدينة هذا ثابت لا إشكال فيه، وذلك في السنة التاسعة للهجرة، ولكن ما يتصل بالنزول -نزول صدر هذه السورة- بسبب هذا الوفد هذا لا يثبتُ فيه حديث، الروايات الواردة في ذلك لا تصح، فهنا رواية مرسلة عن الربيع بن أنس -رحمه الله- وفي إسنادها أيضًا من هو مضعَّف، هذا عند ابن جرير -رحمه الله- وكذلك أيضًا جاء ذلك في السيرة لابن إسحاق[3].

لكن العلماء يتتابعون على أن صدر هذه السورة نازلٌ في وفد نصارى نجران، يحتجُّ عليهم ويردُّ عليهم، ودعاهم إلى المباهلة، هذا ذكره كثيرون، من هؤلاء: القرطبي[4]، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5]، والحافظ ابن كثير[6]، وغير هؤلاء كثير.

يقول: "لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة، يناظرون رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-".

لاحظ هنا التعبير: "قدم نصارى نجران المدينة المنورة"، فسماها بهذا: "المدينة المنورة"، بعض الناس يظنون أن هذه التسمية: -المدينة المنورة- أنه من الأسماء التي جرت على ألسن الناس في هذا العصر، وهذا غير صحيح، فتجد في كلام بعض المتقدمين مثل هذه التسمية، ولا أعني بالمتقدمين يعني السلف الصالح لا، وإنما من جاء بعدهم، وإنما أقصد بالمتقدمين يعني: أنهم ليسوا بالمعاصرين، كابن جزي -كما ترون هنا- وجاء مثل هذا التعبير أيضًا عند غيره، وإن كان قليلًا.

فالغالب: أنهم يقولون: المدينة النبوية، ولا يوجد محذور إذا قيل المدينة المنورة، ففي حديث أنس بن مالك قال: ((لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله ﷺ الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا))[7].

الم [آل عمران:1]، تقدم الكلام على حروف الهجاء، وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل؛ لالتقاء الساكنين نحو: من الناس، وقال الزمخشري: هي حركة الهمزة نُقِلَت إلى الميم[8]، وهذا ضعيف؛ لأنها ألفُ وصلٍ تسقط في الدرج.

قوله: "تقدم الكلام على حروف الهجاء في البقرة"، وذكرنا هناك أن بعضهم ذكر فيها نحوًا من أربعين قولًا -يعني: الحروف المقطعة- وأن الأقرب في تفسيرها: أنه لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى قضية الإعجاز، ولذلك لا تكاد تُذكر إلا ويُذكر القرآن أو الوحي بعدها، فهي تشير إلى قضية الإعجاز.

وذكرت ما قد يرد على هذا: أنه هل يوجد في القرآن شيءٌ لا معنى له؟ وقلت: إنه لا يوجد في القرآن شيءٌ لا معنى له من الألفاظ والتراكيب، وأما الحروف -حروف التهجي- فإنه لا معنى لها في كلام العرب.

فهذه حروف تهجي، وليست بكلماتٍ وألفاظ من ذوات المعاني، كما قال ابن مالك رحمه الله:

كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاسْتقم -يعني كفائدة استقم، استقم أنت- واسمٌ وفعلٌ وحرف أيضًا جاء الكلمْ.

فهذه الثلاثة هي المقصود بالحرف: حرف المعنى، حروف المعاني، وليست حروف المباني، حروف المعاني مثل: على، وإلى، ومِنْ، ونحو ذلك، يقولون: الكلام اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ جاء لمعنى، فهذه حروف تهجي لا معنى لها في نفسها.

قوله: "وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا" -يعني من الم- في حال الوصل لالتقاء الساكنين، ميم ساكنة، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2]، فهنا الألف للوصل -كما هو معلوم- ورد على الزمخشري هنا يقول: لالتقاء الساكنين تُفتح الميم؛ لالتقاء الساكنين.

يقول مثل: "من الناس"، "من الناس" أصلها: مِنْ ساكنة النون، فإذا وصلتها بما بعدها الناس تقول: مِنَ الناس، ما تقول: منْ الناس في حال الوصل؛ تلافيًا لالتقاء الساكنين، ورد على الزمخشري في قوله: بأنها حركة الهمزة نُقِلَت إلى الميم، هذه ألف وصل وليست همزة، فهي تسقطُ في الدرج، يعني درج الكلام في حال الوصل، هذا معنى الدرج، إدراج الكلام يعني وصله، لما تصل الكلام.

الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]: ردٌّ على النصارى في قولهم: إن عيسى هو الله؛ لأنهم زعموا أنه صُلب فليس بحيٍ وليس بقيوم.

على كلِ حال، هذا باعتبار أن صدر السورة نزل في الرد على النصارى، مع أن في صدر هذه السورة أشياء هي رد واضح على اليهود أيضًا، ولذلك في كلام كثيرٍ من أهل العلم في مواضع -كما سيأتي- يقولون: هذا رد على اليهود والنصارى، رد على أهل الكتاب، هذا خطاب لليهود والنصارى لأهل الكتاب.

ولكن بناءً على أن صدر هذه السورة نزل في الرد على النصارى قال: "الْحَيُّ الْقَيُّومُ رد عليهم، لكن نحن قلنا: بأن صدر هذه السورة عمومًا، وكثير من الآيات التي فيها إلى آخر هذه السورة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ... [آل عمران:190]، والخواتيم التي ختم بها هذه السورة -كما هو معلوم- تتحدث عن قضية التوحيد، وتُقرر الإلهية، توحيد العبادة لله -تبارك وتعالى-.

فـ "الْحَيُّ الْقَيُّومُ هو ردٌ على النصارى"، وهو أيضًا يدور حول هذا الموضوع الذي فيه إثبات الوحدانية لله -تبارك وتعالى-؛ لأن المعبود الذي ينبغي أن يُتوجه إليه يجب أن يكون حيًّا، وأن يكون قيومًا، يعني: القائم بنفسه -كما سبق في تفسير آية الكرسي- قيوم: قائم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره، فلا قيام للخلق إلا بإقامته، وكذلك هو القائم على خلقه بأعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم، هذا معنى القيوم الْحَيُّ الْقَيُّومُ، ومضى الكلام على هذا في "الغريب"، وفي تفسير آية الكرسي.

الْكِتَابَ هنا: هو القرآن.

"نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3] هذا بالاتفاق أن الكتاب الذي هنا يُقصد به: القرآن.

بِالْحَقِّ: أي: تضَّمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها، أو بالاستحقاق.

قوله: بِالْحَقِّ هذه الباء يجوز أن تكون بمعنى: أنه متلبسٌ بالحق نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، يعني: متلبس بالحق، مشتملٌ على الحق، فهو نازلٌ بحق لا بالباطل، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ متلبسٌ بالحق، ويكون ذلك صفةً للكتاب.

ويَحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، أي: أن نزوله حق، وليس بباطل، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ نزَّله، فإنزاله حق، والمعنى الذي قبله أنه: أنزله متلبسًا، متضمنًا، مشتملًا على الحق وليس الباطل، فلا سبيل للباطل إليه.

 يقول: "أي: تضمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها"، فهذا بمعنى: أنه متلبس بالحق، تنزيل متلبس بالحق.

 يقول: "أو بالاستحقاق"، هذا معنًى آخر غير المعنى الأول.

 يعني: المعنى الأول: يرجع إلى ما ذكرنا من كونه متلبسًا بالحق.

 المعنى الثاني هذا الذي ذكره وهو: "أو بالاستحقاق" يعني: بالاستحقاق، والوجوب، وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم، ودعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى- هذا معنى بِالْحَقِّ على هذا القول، يعني: بالاستحقاق والشمول والوجوب، شمول المنفعة للناس في هدايتهم ودعوتهم إلى ربهم وخالقهم --.

 فالحق: هو الشيء الثابت، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ بالاستحقاق، الوجوب ونحو ذلك من المعنى، والأول أشهر، الأول هو المشهور، لكن هذا معنى قوله: "أو بالاستحقاق".

مُصَدِّقًا: قد تقدم في مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة:41]، بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:4].

"مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ في سورة البقرة، وذلك مصدق لهذه الكتب مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ -كما ذكرنا من قبل-: إما باعتبار أنها أخبرت به فكان نزوله مصدقًا لها بهذا الاعتبار، أو باعتبار أنه حاكمٌ عليها بالصدق وشاهد، أو باعتبار أنه جاء موافقًا لها، ففي القرآن أشياء موافقة لما في كتبهم، فهو مصدقٌ لها بهذا الاعتبار، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، هذه الكتب أخبرت عنه وجاء كما أخبرت، فهو مصدق بهذا الاعتبار، أو أنه حاكمٌ عليها، أو أنه جاء في مضامينه ما هو موافقٌ لها، فهو مصدق لها لوجود هذا التوافق مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: من الكتب.

بَيْنَ يَدَيْهِ الكتب المتقدمة: التوراةَ والإنجيل أعجميان، فلا يصحُ ما ذكره النحاة من اشتقاقهما ووزنهما.

وهذا كثير، حتى في بعض الأسماء، الأشخاص الأعجمية، يقولون: مشتق من كذا، في اسم مثلًا: فرعون تجدون يذكرون في الاشتقاق له، وهو الواقع أنه أعجمي، اسمٌ أعجمي، وهكذا يذكرون في غيره، فإذا كان الاسم أعجميًّا فلا حاجة للكلام في اشتقاقه؛ لأنه غير مشتق، وهذا ظاهر، يقولون: بأنّ التوراة أصلها من الضياء والنور، من ورى الزَنْد إذا أضاء، هذا فيه إشكال؛ لأنه اسمٌ أعجمي غير مشتق من ورى الزند، وكذلك قول من قال: بأنها مأخوذة من التورية، توراة تورية، فإن أكثرها معاريض، هذا غير صحيح.

وهكذا قول البعض في الإنجيل: بأنه من النَجْل، وهو الأصل، فهو أصل لعلوم وحكم، وبعضهم يقول: من نجلت الشيء إذا استخرجته؛ لأنه مُستخرجٌ به علوم وحكم، بعضهم يقول غير هذا في التناجُل، يعني في تنازع الناس واختلافهم فيه، فهو اسم غير عربي، فلا حاجة لذكر مثل هذه التعليلات في التسمية، وأنه مشتقٌ من كذا أو كذا.

واضح؟

وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، يعني القرآن، وإنما كرر ذكره؛ ليصفه بأنه المفرقُ بين الحق والباطل، ويحتملُ أن يكون ذكره أولًا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم ذكره ثانيًا على وجه الامتنان بالهدى به كما قال في التوراة والإنجيل.

يعني: الآن الفرقان هل المقصود به القرآن؟ فيكون ذَكره مرتين نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ قلنا: بالإجماع أنه القرآن.

ثم قال: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، ثم قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، فيكون ذكره مرتين، إذا كان ذكره مرتين لماذا كرر ذكره؟ فهو يعلل هنا على هذا المعنى، أو على هذا القول، يعلل سبب التكرار، لكن هل الفرقان هنا يُراد به القرآن فهو مكرر حتى يُبحث له عن تعليل أو لا؟

شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر أنه يتناول ما يَفرقُ بين الحق والباطل[9]، أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ كآيات الأنبياء، فهي تفرق بين الحق والباطل، وتبين الصادق من الكاذب، وكذلك القرآن فهو آية عظيمة لنبوةِ محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا بالإضافة إلى كونه فرقًا بين الحق والباطل ببيانه، فالقرآن مفرقٌ بين الحق والباطل.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما أنه أدخل القرآن في الفرقان، يعني لفظ الفرقان عنده يشمل القرآن، ويشمل كل ما يحصل به الفرق بين الحق والباطل كمعجزات الأنبياء، دلائل النبوة عمومًا، وكذلك أيضًا النصر الذي يكون لأنبيائه ورسله -عليهم السلام- ولأتباعهم، وإهلاك أعدائهم على مر العصور، فهذا عنده من الآيات فهو داخلٌ في الفرقان، كما قال الله : وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41]، فسمى يوم بدر بيوم الفرقان يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41]، فالفرقان عام لكلِّ ما يحصلُ به الفرق بين الحق والباطل، فيدخل فيه القرآن، ويدخل فيه آيات الأنبياء، ويدخل فيه أيضًا نصر الله لأنبيائه ورسله وأتباعهم، فكل ذلك يحصل به الفرق بين الحق والباطل، فتارةً يكون ذلك بالبيان والبرهان، وتارةً يكون ذلك بالميدان، بأرض المعركة.

فهذا معنى وعليه فلا تكرار، يعني ذكر الكتب الثلاثة: القرآن، التوراة، والإنجيل، وذكر إنزال الفرقان فهو أعم من ذلك، ما يحصل به الفرق بين الحق والباطل مطلقًا، سواءً كان مما نزَّله من الآيات المتلوة، أو كان ذلك من غيره مما يحصل به الفرق بين الحق والباطل.

وكذلك أيضًا ابن جرير -رحمه الله- ذكر أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصلٌ بين الحق والباطل، فيه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى [10].

هذا باعتبار النظر إلى أن صدر السورة نازل في الرد على النصارى ومجادلتهم، فهؤلاء مثل هذه المواضع يحملونها على هذا الأصل، فيقولون: أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، يعني: الذي يفصل في أمر عيسى حيث ادَّعى اليهود فيه دعاوى قبيحة، وادَّعى النصارى فيه البنوة أو الإلهية على اختلافٍ بينهم في ذلك، وبعضهم -كما يقول ابن جرير- فسر ذلك أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ باعتبار أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، واختار ابن جرير -رحمه الله- الأول، حاصل قوله -رحمه الله- يرجع إلى أن الفرقان ما يحصل به الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ولا يختص ذلك بالقرآن، ولذلك ذكره بعد هذه الكتب، يعني: كلام ابن جرير -رحمه الله- موافق لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبناءً عليه ليس ذلك من قبيل التكرار، وهذا يؤيده القاعدة المعروفة: "أن التأسيس مقدمٌ على التأكيد"، فكون اللفظة في الموضع الثاني يكون لها معنًى آخر أولى من أن تكون بنفس المعنى الأول، ويُقال ذكره مثلًا لأهميته أو كما ذكر هنا:

"وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ"، "إنما كرر ذكره؛ ليصفه بأنه المفرق بين الحق والباطل، ويحتمل أن يكون ذكره أولًا على وجه الإثبات لإنزاله وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، ثم ذكره ثانيًا على وجه الامتنان بالهدى كما قال: في التوراة والإنجيل".

لكن حمله على ما ذُكِر -والله أعلم- أقرب، يعني: أنه ما يحصل به الفرق بين الحق والباطل، ويكون القرآن داخلًا في ذلك -والله أعلم-.

هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4]: فكأنه قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ هُدًى لِلنَّاسِ، ثم حذف ذلك؛ لدلالة الهدى الأول عليه، فلما اختلف قصد الكلام في الموضعين لم يكن ذلك تكرارًا، وقيل: الفرقان هنا: هو كل ما فرق بين الحق والباطل من كتابٍ وغيره، وقيل: هو الزبور، وهذا بعيد.

صحيح هذا بعيد، لكن هذا المعنى الثاني الذي ذكره بقيل: بأنه "كل ما فرق بين الحق والباطل" قلنا: لعل هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-.

قوله: "هُدًى لِلنَّاسِ فكأنه قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ هُدًى لِلنَّاسِ، وهذا يمكن أن يكون باعتبار أن الفرقان هو القرآن، ويحتمل أن يكون أيضًا ما يحصل به الفرق بين الحق والباطل لهداية الناس، ويحتمل أن يكون هُدًى لِلنَّاسِ متعلقًا بما ذكر قبل من نزول الكتب الثلاثة مع إنزال الفرقان.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ...... [آل عمران:3-4]، فذكر إنزال الفرقان بعدها.

ابن جزي يقول: "فكأنه قال: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ هُدًى لِلنَّاسِ، ثم حذف ذلك لدلالة الهدى الأولِ عليه"، لكن مثل هذا -والله أعلم- لا حاجة إليه، فإن ذكر الفرقان جاء بعد ذكرِ الهدى، وبعضُ أهل العلم كالطاهر ابن عاشور -رحمه الله- يقول: ذكر هذا القيد مِنْ قَبْلُ بعد التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وقبل هُدًى لِلنَّاسِ، يقول: لئلا يُتوهم أن هدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ، يعني: كانت في حينها هدًى للناس، لكن طرأ عليها ما طرأ من التبديل، والتحريف، والتغيير، وفيه إشارة إلى أنها كالمقدمات لنزول القرآن كما يقول الطاهر ابن عاشور رحمه الله[11].

على كل حال، هذه الكتب الثلاثة أنزلها الله هدًى للناس، وكل الكتب أنزلها الله هدًى للناس، ولكنه -والله أعلم- ذكر هذه الكتب الثلاثة باعتبار أن القرآن هو الكتاب المهيمن، وهو آخر الكتب، وأعظم الكتب، وأشمل الكتب، وأفضل الكتب على الإطلاق، والتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ كتاب التوراة هو من أعظم الكتب النازلة على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبنو إسرائيل أعظم الأمم بعد هذه الأمة، كما يدل عليه الدلائل من الكتاب والسنة، وشريعة التوراة أوسع الشرائع بعد هذه الشريعة، ولذلك بعض أهل العلم يقولون: يكثر ذكر موسى وبني إسرائيل في القرآن وما جرى وما إلى ذلك، يذكرون لذلك تعليلات منها: أن شريعتهم أشبه بهذه الشريعة بالنظر إلى السعة والشمول، وإن كانت هذه الشريعة أكمل، وأوسع، وأشمل، وأيضًا باعتبار السعة والكثرة بالنسبة للأتباع؛ فالنبي ﷺ رأى سوادًا عظيمًا كما جاء في الحديث، وسأل! ظن أنهم أمته، فأُخبر أن هؤلاء بنو إسرائيل[12].

وكذلك أيضًا كثرة ما جرى لهم، وما وقع لموسى معهم، فلما كان هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- أعني: محمدًا ﷺ والكتاب الذي أُنزل إليه -القرآن- هو آخر الرسل وآخر الكتب فلا نبي بعده، وكان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، أكثر الله من ذكر أخبار بني إسرائيل للاعتبار والاتعاظ والتسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن ما وقع لموسى معهم فيه من العظات والعبر الشيء الكثير مما تحتاج إليه هذه الأمة في دعوتها، وجهادها، وصبرها، وسيرها إلى الله -تبارك وتعالى- والله أعلم.

لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ [آل عمران:5]: خبرٌ عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفصيل، وهذه صفةٌ لم تكن لعيسى ولا لغيره، ففي ذلك ردُّ على النصارى.

هو كما سبق، ينظرون إلى أن السياق في الرد على النصارى، فيحَّملون هذه الجمل والألفاظ مثل هذه المعاني، لكن إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هذا كله في تقرير استحقاقه للعبادة، وأنه الواحد الذي يجب أن يُتوجه إليه وحده دون سواه.

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ .... [آل عمران:6]: برهانٌ على إثبات علمِ الله المذكور قبل، وفيه ردٌّ على النصارى؛ لأن عيسى لا يقدر على التصوير، بل كان مُصورًّا كسائر بني آدم.

وهذا أيضًا -كما سبق- ولكن المعنى أعم من ذلك يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [آل عمران:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا... [الحج:5]، الآية.

فهذا من التصوير الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- وكما قال الله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]: هذا في الأصل، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13]: هذا في النسل، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ... [المؤمنون:14]، فهذا من تخليقه -تبارك وتعالى- وتصويره.

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6]، فينقلهم من نطفة إلى علقة إلى مضغة، التصوير حينما ذكره الله -تبارك وتعالى- في آخر سورة الحشر مع الْخَالِقُ الْبَارِئُ [الحشر:24]، كان معنى الْمُصَوِّرُ هناك -والله تعالى أعلم- أخص مما هنا، فيكون هناك لما ذكر الخالق يكون الخالق هناك بمعنًى أخص وهو المقدر، الخلق بمعنى: التقدير هناك، وإلا الخلق يأتي بمعنى: الإيجاد من عدم -كما هو معلوم- لكن لما ذكره مع البارئ، فالبارئ؛ هو المُوجد من العدم، وقلنا: التأسيس مقدم على التوكيد، فلا يكون تكرارًا، فالخالق: المقدر.

فلا أن تفري ما خلقت وغيرك يخلق ثم يفري

يمدحُ ملكًا يقول: تقدر وتنفذ، تفري ما خلقت، وغيرك يخلق، يعني يقدر ويخطط، لكنه لا يستطيع أن ينفذ؛ لعجزه.

ففي آخر سورة الحشر الْخَالِقُ: المقدر، الْبَارِئُ: الموجد من العدم، الْمُصَوِّرُ: يعني الذي يعطي كل مخلوقٍ هيئة تخصه يتميز بها، صورة تختلف عن غيره.

كَيْفَ يَشَاءُ: من طولٍ، وقصرٍ، وحسنٍ، وقبحٍ، ولونٍ وغير ذلك. مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]: المحكم من القرآن هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم، والمتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل، وفي النسخة الخطية: هو الذي يحتاج إلى تأويل.

"هو الذي يحتاج إلى التأويل"، لا إشكال إلى تأويلٍ، أو إلى التأويل.

أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء، قال ابن عباس: المحكماتُ الناسخاتُ، والحلالُ والحرام، والمتشابهات المنسوخاتُ، والمقدم والمؤخر[13]، وهذا تمثيلُ لما قلنا.

يقول: "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ، المحكم من القرآن هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم". الإحكام أصله الإتقان، وسُميت محكمات من الإحكام، وكأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها؛ لظهورها ووضوح معناها، أصل هذه المادة -لفظة حَكَمَ- مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ تأتي بمعنى المنع لإصلاح، يقول: حكمها التي تُوضع الحديدة في فم الدابة تمنعها من الانفلات، والحكم والحاكم هو الذي يمنع أحد الخصمين من التعدي على الآخر وأخذ حقه، والحُكم كذلك.

والحكمة؛ هي تلك الخلة والصفة التي تمنعُ صاحبها من الخطل في الرأي، وكذلك أيضًا يكونُ بمعنى الحكمة أعني: الإصابة في القولِ والعمل هذه الحكمة، يكون صاحبها مسددًا في قوله وفعله، حَكَمَ، وهكذا في كل استعمالاتها وكثيرٌ من أهل العلم يرجعونها إلى هذا المعنى، وشيخُ الإسلام يزيد معنًى آخر عليه، ولعله قد مضى في "الغريب" شيءٌ من ذلك، فهذا في أصل المعنى اللغوي، لكن هنا يتحدث عن المعنى الشرعي في المحكم.

يقول: "المحكم من القرآن: هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم".

يعني: ما لا يحتاج إلى غيره لبيانِ معناه، ما استقل بنفسه هذا معناه، وهذا من أحسن ما قيل في تفسيره على كثرة كلام أهل العلم فيه، أحسن ما قيل فيه -والله أعلم- ما ذكره الإمام أحمد -رحمه الله- وحاصله: أن المحكم ما استقل بنفسه فلم يحتج إلى غيره لبيان معناه، مثل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، واضحة هذه؟ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هذا كله من المحكم الْحَيُّ الْقَيُّومُ.

لكن المتشابه بالمعنى الخاص، التشابه الخاص كما في آية آل عمران هذه يقول: "هو الذي يحتاج إلى التأويل"، المتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل، يحتاج إلى التأويل يعني أنه ليس على ظاهره، وهذا الكلام غير صحيح، فالأصل: حمل نصوص القرآن والسنة على ظواهرها إلا لدليل.

 وأهلُ الكلام يقولون: بأن ظواهر نصوص الكتاب والسنة تدل على معانٍ غير مرادة فيما يتصل بالصفات مثلًا صفات الله فيحرفونها، ويسمون ذلك تأويلًا، ولهذا يقولون: بأن آيات الصفات من المتشابه، هذا كثير، تجده في كتب المتكلمين الذين كتبوا في العقائد، أو في التفسير، أو في أصول التفسير، وعلومه علوم القرآن، ونحو هذا، لما تقرأون في كلامهم، مثلًا السيوطي -على سبيل المثال- في كتابه "الإتقان"؛ الذي هو خزانة هذا العلم، أوسع الكتب المصنفة فيه، وتقرأون في مثل كتاب الزُرقاني "مناهل العرفان"، فهذه كتب مشهورة ذائعة سارت مسير الشمس، لما يتحدثون عن موضوع المتشابه يذكرون فيه مثل هذه الأمور الباطلة، مباشرةً يمثلون بنصوص الصفات، وهذا الكلام غير صحيح إطلاقًا، نصوص الصفات من المحكم وليست من المتشابه.

 فعبارته: "هو الذي يحتاج إلى التأويل": ذكره أولًا، كأنه يميل إليه، وهذا بناءً على ما يعتقده أهل الكلام، وإلا فالمتشابه ليس هو الذي يحتاج إلى التأويل.

 يقول: "أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء" هذا بناءً على أن حروف التهجي لها معنى استأثر الله بعلمه، ولهذا لما يتحدثون عن قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، كما سيأتي على الوقف هنا على لفظ الجلالة، بعضهم يفسره بالمعنى، يعني: المتشابه المطلق -كما سأوضح إن شاء الله- من جهة المعنى، طيب هل يوجد في القرآن شيء متشابه تشابهًا مطلقًا، بمعنى أنه لا يعرفُ معناه لا الرسول ﷺ، ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة من جهة المعنى؟ بعضهم يقول: نعم، ما هو؟ يقولون: الحروف المقطعة، هذا بأي اعتبار؟ باعتبار أن لها معنى في نفسها استأثر الله بعلمه، لماذا خاطبنا بما لا نعلم؟ يقولون: امتحانًا للعقول من أجل التسليم والانقياد.

وهذا الكلام غير صحيح، فالله خاطبنا بلسانٍ عربيٍّ مبين، أما الصفات فهي أهم المهمات؛ إذ هي التي تُعرِّف بالمعبود، فكيف تكون ملتبسة، أو غير معروفة المعنى كما يقوله بعض غلاة المفوضة؟ -المفوضة طوائف- فغلاتهم يقولون: بأن معاني الصفات غير معلومة، لا يعلمها الرسول ﷺ، ولا غير الرسول ﷺ، هؤلاء كما يُقال: أهل التجهيل؛ يقولون: الأمة كلها جاهلة بمعانيها، لا يعلمها إلا الله، ولذلك لا يتعرضون لتأويلها، ولكن هذا الكلام من أبطل الباطل، قولهم هذا من أعظم الضلال، كيف تكون نصوص الصفات التي تُعرِّف بالله والقرآن من أوله إلى آخره هو في قضية التوحيد، فهو شارحٌ له، وأعظم ذلك: ما يتصل بالله -تبارك وتعالى- ووحدانيته، وأسمائه وصفاته، فيقال: هذه غير معلومة المعنى، أو أنها على غير ظواهرها، فهذا من أبطل الباطل.

فهنا حينما ذكر حروف التهجي، يعني باعتبار أنها من المتشابه المطلق، وقبل أن نأتي لقول ابن عباس -ا- أنا أوضح لكم القضية بصورة ملخصة، هذه الآية هنا في سورة آل عمران هي الآية الوحيدة في المحكم بالمعنى الخاص، والمتشابه بالمعنى الخاص.

هناك إحكام عام بمعنى الإتقان كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]: كل القرآن محكم، محكم في ألفاظه، ليس فيه لحن، ولا ضعف في أساليبه، وكذلك محكمٌ في معانيه، فهو لا يتطرق إليه الباطل، ولا يتناقض، ولا يتعارض، وهو متشابهٌ أيضًا بالمعنى العام اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ... [الزمر:23]، بمعنى: يشبه بعضه بعضًا في الحسن والبلاغة والفصاحة، يصدقُ بعضه بعضًا، متشابه، هذا في التشابه العام والإحكام العام، في هذه الآية منه ومنه، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فمن هذه: للتبعيض، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فالمحكمات هنا بالمعنى الخاص، الإحكام بالمعنى الخاص وليس العام بمعنى الإتقان، لا.

فهنا المحكمات ما هي؟ المحكمات هنا هي: ما اتضح معناه واستقل بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره ليستبين المراد منه، ما نحتاج نرجعه إلى آيات أخرى أو إلى أحاديث تشرحها مثلًا أو نحو هذا.

أما المتشابهات تشابه الخاص فالمراد بها: كما قال الإمام أحمد -رحمه الله- يعني ما احتاج إلى غيره في بيان المراد منه.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ... [آل عمران:7]، إذا وقفت هنا فما المعنى؟ إِلَّا اللَّهُ الذين يقولون: يوجد في القرآن متشابه مطلق من جهة المعنى يقولون: مثل الحروف المقطعة باعتبار لها معنى لا يعلمه إلا الله، وهذا الكلام غير صحيح، والراجح: أنه لا يوجد شيءٌ في القرآن لا يُعرف معناه؛ لأن الله خاطبنا بلسانٍ عربي مبين، إذًا من جهة المعنى لا يوجد متشابه مطلق، وإنما التشابه من جهة المعنى نسبي، فإذا حملنا الآية على المعنى وصلنا ما نقف، إذا حملناها على المعنى وهو محملٌ صحيح وثابت عن ابن عباس -ا- حيث قال: (أنا من الذين يعلمون تأويله)[14]، هذا صح عن ابن عباس -ا-.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا ... [آل عمران:7].

يعني: والراسخون في العلم يعلمون تأويله، الله يعلم تأويله، والراسخون يعلمون، إذًا من الذين لا يعلمون؟ هم غير الراسخين، فصار من جهة المعنى على الوصل، التشابه نسبي، ما معنى نسبي؟ يعني بالنسبة لبعض الناس، هذا يخفى عليه فيستشكل المعنى، وهذا يتضح له، هذا يدخل فيه أنواع من الآيات، مثل الآيات التي ظاهرها التعارض، يعني حينما يقول الله مثلًا: لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، ثم يقول في موضعٍ آخر: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فكلمهم، فهذه كيف نجمع بينها؟

العلماء يعرفون الجمع بينها، لا يكلمهم كلام تكريم، أو يوم القيامة يوم طويل لا يكلمهم في بعض المقامات، وفي بعضها يكلمهم.

وكذلك: لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39]، وفي موضعٍ آخر: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، فإما أن يُقال: هذا لا يُسأل سؤال استعتاب من أجل أن يُعذر ليُبين عن عذره، أو أنه لا يُسأل في بعض المقامات في يوم القيامة، ويُسأل في مقامات وأحوال أخرى فهو يومٌ مقداره خمسين ألف سنة -يوم طويل- هذا وجه الجمع، لكن من خفي عليه وأشكل عليه هذا يكون بالنسبة إليه من قبيل المتشابه، ومن اتضح له فهو بالنسبة إليه محكم، هذا معنى نسبي.

وقد يكون في الآية الواحدة يعني من غير تعارض وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ... [الأنعام:3]، بعض الناس قد يستشكل هذا، هل الله -تبارك وتعالي- في السماوات وفي الأرض؟ الراسخون يعلمون المعنى، فالله على العرش استوى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، إذًا ما معنى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ...؟

إما أن يكون وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني وهو المألوه المعبود في السموات عند أهل السماوات وعند أهل الأرض وَفِي الأَرْضِ، أو يكون وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني المألوه في السموات، وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ، فيكون متعلقًا بالعلم، ولا يُقال: إن الله في السموات وفي الأرض، فالله فوق العالم على عرشه، بائنٌ من خلقه.

هذا قد يكون متشابهًا مشكلًا بالنسبة لبعض الناس، فما أشكل من جهة المعنى فهو متشابه بالنسبة لهذا الذي أشكل عليه، فالواجب عليه أن يرد ذلك إلى المحكم، ما هو المحكم؟ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، ونحو ذلك، فيتبين المعنى.

هذا على الوصل، على قراءة الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وعلى الوقف على لفظ الجلالة: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فهذا المتشابه المطلق، لكن ليس في المعنى، وإنما في الكنه والكيفية وحقائق الأمور الغيبية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، هنا ما تطرق للكلام على التأويل أو العلة.

على كل حال هو يتحدث عن هذه القضايا فيما بعد، لكن أنا أوضح لكم، أجمع الكلام فيها من أجل أن يتضح وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فنقف هنا، فيكون المعنى في المتشابه المطلق ليس من جهة المعاني، وإنما الحقائق، الأمور الغيبية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، كيف يد الله؟ وهكذا ما أخبر عن الغيوب، متى تقع؟ الساعة، متى يقع ما أخبر الله به؟ فهذا غيب، فالتأويل يأتي بمعنيين في لغة الكتاب والسنة:

 الأول: التفسير، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي: تفسيره، هنا على معنى التفسير تأتى ذلك على قراءة الوصل، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله أي: تفسيره، فيكون من قبيل المتشابه النسبي من جهة المعنى والتفسير.

وأما على الوقف فليس ذلك بالتفسير للمعنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، فالتأويل هنا بمعنى الأوْل، وهو يأتي بمعنى: الأوْل الرجوع، وهو ما يكون في ثاني حال، فلاحظ فيما ذكر في سورة يوسف : نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] يعني: بتفسيره، فتأويل الرؤيا: تفسيرها، وأيضًا حينما سجد أبواه مع إخوته قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100]، هنا ليس معناها التفسير وإنما الوقوع، فهو يأتي -التأويل- بمعنى التفسير هذا المعنى الأول، تأويل الآية بمعنى: التفسير، تأويل الكلام بمعنى: التفسير.

ويأتي بمعنى: الوقوع بالنسبة لما أخبر به هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53]، يعني: وقوع ما أخبر به.

ويأتي بالنسبة للأمر بفعل المأمور: الامتثال، قول عائشة -ا-: ((كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأوّل القرآن))[15].

ومعنى يتأوّل القرآن، يعني: يطبق ويمتثل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، لما قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، يتأول القرآن: يمتثل ويطبق، فهذا معنًى للتأويل، فتأويل الخبر وقوع المخبر به، وتأويل الأمر فعل المأمور، هذا المعنى الثاني للتأويل.

أما المعنى الثالث -الذي يذكره المتكلمون كثيرًا-: وهو صرف الكلام من المعنى الراجح المتبادر إلى معنًى مرجوح، فهذا لا يوجد في كلام الله ولا في كلام رسوله ﷺ، ولا في كلام السلف الصالح، وإنما هذا جاء بعد ذلك على يد المتكلمين من المعتزلة وأضرابهم، ولذلك لا يصح أن نفسر ألفاظ القرآن باصطلاحٍ حادث، يعني: إذا أتينا نتحدث هنا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كثير من المفسرين من أهل الكلام يقول: والتأويل صرف الكلام من المعنى....؛ لأن هذا اختمر في أذهانهم، فظنوا أن هذا معنى التأويل في القرآن، بينما هذا المعنى لم يكن مستعملًا، ولا معهودًا، ولا معروفًا في كلام الله، ولا في كلام رسوله ﷺ ولا في كلام السلف الصالح - وأرضاهم-.

 هذه خلاصة في هذه الآية التي هي الآية الوحيدة التي تذكر الإحكام والتشابه بالمعنى الخاص، وهذا هو التفصيل فيها على الوقف وعلى الوصل، ما يأتي من كلامه -رحمه الله- يكون قد تبين -إن شاء الله تعالى-.

قال: "قال ابن عباس: المحكماتُ الناسخاتُ، والحلالُ والحرام، والمتشابهات المنسوخاتُ، والمقدم والمؤخر"، هذا بإسنادٍ حسن عن ابن عباس -ا- وهو أحد المعاني المذكورة فيه، وذكرت لكم قول الإمام أحمد -رحمه الله- قال: "وهذا تمثيلٌ لما قلنا".

هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: عمدةُ ما فيه ومعظمه.

يعني: أصل الكتاب، قال: لأصل كل شيء ومرجعه: أم، ولذلك الراية التي يحملها الجيش معهم يُقال لها: "أم"، هذا جاء في كلام العرب "أم" لأن الجند يجتمعون حولها، ولهذا قيل للفاتحة: أم الكتاب -كما سبق في الكلام على أسمائها- باعتبار أنها أصل ترجع إليه جميع معاني القرآن، أُمُّ الْكِتَابِ، "أم القرآن"، فهي جامعةُ معانيه وحاوية لها -والله أعلم-.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، نزلت في نصارى نجران، فإنهم قالوا للنبي ﷺ أليس في كتابك أن عيسى كلمةُ الله وروحٌ منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذا[16]، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه.

على كل حال -كما ذكرت لكم- هذا لا يصح، وهنا بأنها نزلت: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران هذا جاء عن الربيع بن أنس -رحمه الله- ولكن روايته مرسلة وفي سنده أيضًا من لا يُعرف، لا يصح هذا حتى عن الربيع بن أنس، مع أنه مرسل، فالرواية في هذا لا تصح.

لكن لا شك أن النصارى اتبعوا المتشابه، يعني في مثل هذا وفي غيره، قالوا: رُوحٌ مِنْهُ، روح يعني قالوا: هو جزء من الله بينما الله -تبارك وتعالى- أخبر أنه، بأن الله أعطى الخلق ورزقهم ونحو ذلك من السموات والأرض، قال: جَمِيعًا مِنْهُ، فهل هذه المخلوقات هي جزءٌ من الله ؟ لا أحد يقول بهذا، فهم يتبعون -على كل حال- المتشابه.

ويقولون: بأن عيسى خُلق من غير أب، ولا يُعقل أن لا يكون له أب، فهو ابن الله -تعالى الله عما يقولون- فيُرد عليهم بأن آدم من باب أولى إذًا، لا أب له ولا أم، ومع ذلك هو عبدٌ لله -تبارك وتعالى-.

وكذلك النصارى يحتجون أو يتبعون المتشابه في أشياء مثل: ضمائر الجمع نحن، حينما يأتي ذلك في كلام الله فيقولون: هذا يدل على الجمع فهو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- وإنما يقول ذلك المعظم نفسه كما هو معلوم، والقرآن نزل بلغة العرب وبكلامهم.

فهذا من اتباع المتشابه، يدخل في هذا النصارى وغير النصارى، كل من يتبع المتشابه، هذا دليلٌ وبرهان على أن في قلبه زيغ، ولهذا قال النبي ﷺ: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[17]، الذي سواءً كان يتبع المتشابه من القرآن أو من السنة، يعني: يأتي بأحاديث أو يأتي بآيات يُلبس بها على الناس، ليستحل الحرام، أو يشكك الناس في الثوابت، فمثل هذا الذي يبحث عن هذه المواضع هذا في قلبه زيغ، يتتبع هذه المناقيش، ويستخرجها، ويلبس بها على الناس، ويضللهم بذلك، هذا في قلبه زيغ.

وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حُيي[18]، ثم يدخل في ذلك كل كافر.

لكن هذا أيضًا لا يصح، فهي رواية مرسلة عن مقاتل -رحمه الله- "مقاتل" توفي سنة مائة وخمسين للهجرة، فهي رواية مرسلة، لا يصح أنها نزلت في أبي ياسر وأخيه حيي.

ثم يدخل في ذلك كل كافر، أو مبتدعٍ، أو جاهلٍ يتبع المتشابه من القرآن.

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، أي: ليفتنوا به الناس.

"ليفتنوا به الناس"، يعني طلبًا للفتنة، والفتنة يدخل فيها الشرك، والكفر، والشر عمومًا، وأصلها -كما هو معلوم- وذكرنا في الغريب: الاختبار والابتلاء، والامتحان من الفَتْن، ولذلك يُقال: بأنه من إدخال الذهب في النار ليتميز خالصه من شائبه، وتظهر جودته، فهنا ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ يعني: طلبًا للشبهات واللبس على أهل الإيمان وتضليلهم، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أي: لإضلال أتباعهم[19]، يضلون أتباعهم إيهامًا لهم بأنهم يحتجون على ضلالهم وبدعتهم بالقرآن.

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، والمعنى يشمل هذا ويشملُ غيره، هؤلاء الذين يتتبعون المتشابهات، يبحثون عنها؛ من أجل التلبيس، والتشكيك، والطعن، وتضليل الناس، هذا سواءً كان في العقائد، أو كان ذلك في الأحكام، يعني مثل الذي يريد أن يقول: بأن الحجاب لا أصل له مثلًا، فيبحث عن مواضع يزعم أنها تدل على مراده، وبعض هؤلاء قد لا يصل إليها أصلًا، ولا يعرفها، ولا يعرف يقرأ صفحة من كتب السنة، ولا يعرف كتب السنة، ولا يعرف أسماءها، لكن يوجد بعض المنتكسين مـمن قرأ، ودرس، وعرف فيأتونهم بهذه الأشياء، ويجمعونها لهم في دفاتر، وفي بحوث بالمناقيش، ويجمع له هذه المتشابهات ويعطيه إياها، فيبدأ هذا يلبس، ويشكك، ويدندن حولها؛ ليضل الناس، فيروج هذا على بعض من قلَّ بصره.

أو يريد مثلًا أن يقرر قضايا بشهوات في نفسه، ونحو ذلك، ويأتي ببعض المواضع ويقول: انظروا هذه امرأة أجنبية وجالسة مع الرجال وتخدمهم ونحو ذلك، وهكذا، هؤلاء يتبعون المتشابه ويتركون المحكمات الواضحات، والأصل الكبير أنك إذا أشكل عليك موضع أن يكون متشابه بالنسبة إليك، ارجع إلى المحكمات، ارجع إلى الأصل الكبير، إذا التبس عليك شيء فيما يتعلق بالقرآن، أو تحريف القرآن، أو نحو هذا، أو الأحرف السبعة، والقراءات، أشكل عليك موضع فارجع إلى الأصل الكبير لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [فصلت:42]، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] تسلم.

إذا كان يتعلق بقضية الصحابة وهل في بعضهم قدح وفي عدالتهم شيء، ولبس عليك مُلبّس، وما عرفت الجواب المفصل، ارجع إلى الأصل المحكم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ .... [الفتح:29]، إلى آخره، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... [الفتح:18]، ونحو ذلك، وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ... [التوبة:100].

وكذلك قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.. [الحشر:8]، ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ... [الحشر:9] وهم الأنصار  فأثنى على المهاجرين والأنصار، هذه محكمات ترجع إليها، تعرف عدالة الصحابة .

فدائمًا إذا أشكل عليك موضع خاص، ما عرفت الجواب عنه، ارجع إلى الأصل الكبير، فيكون كالجبل، وبذلك تأمن من الضلالة، ولا يستهويك أحد من هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ، فتقع في شَركه وشبهته، وإذا كنت تعرف الجواب المفصل فهذا أكمل، وهذا المعنى ذكره الشيخ محمد عبد الوهاب -رحمه الله- في أول كتابه "كشف الشبهات"، والله أعلم.

  1. تفسير الطبري (6/151).
  2. صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804).
  3. انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/576).
  4. تفسير القرطبي (4/13).
  5. مجموع الفتاوى (27/239).
  6. تفسير ابن كثير (2/50).
  7. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، رقم: (3618).
  8. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/335).
  9. مجموع الفتاوى (9/318).
  10. تفسير الطبري (6/163).
  11. التحرير والتنوير (1/72).  
  12. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب من لم يرق، رقم: (5752)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم: (220).
  13. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/145).
  14. تفسير ابن كثير (2/11).
  15. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود، رقم: (817)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم: (484).
  16. تفسير الطبري (6/186).
  17. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {منه آيات محكمات} [آل عمران:7]، رقم: (4547)، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  18. تفسير ابن أبي حاتم (2/595).
  19. تفسير ابن كثير (2/8).

مواد ذات صلة