الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[6] من قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي َالْفَوَاحِشَ } الآية 33 إلى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآية 43
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 4073
مرات الإستماع: 2494

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33].

روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله أخرجاه في الصحيحين[1]، وتقدم الكلام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن في سورة الأنعام.

وقوله: وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:33] قال السدي: أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق، وقال مجاهد: الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيُه على نفسه.

وحاصل ما فُسِّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [سورة الأعراف:33] عرفنا قبلُ بأن أقرب الأقوال في تفسير ما ظهر من الفواحش هو أن الفواحش هي الذنوب العظام وأنها لا تختص بالزنا، فيدخل فيما ظهر من الفواحش الزنا علانية مع البغايا ذوات الأعلام في الجاهلية، وفي دور البغاء في مثل هذه الأيام، ويدخل فيه أيضًا سائر ألوان الفواحش وتعاطيها علانية.

قوله: وَمَا بَطَنَ ما أخفاه الإنسان من الجرائم العظام، والذنوب الكبار مثل الزنا سرًا، وسائر ما يفعله الإنسان من الكبائر ويخفيه عن الناس.

قوله: وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الإثم: يطلق على المعصية سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، فيكون ذلك من عطف العام على الخاص، فكل فاحشة لا شك أنها من الإثم وليس كل الآثام من الفواحش، ويطلق الإثم أيضًا على بعض الذنوب خاصة، وذلك يرجع إلى عرف الاستعمال لكنه هنا محمول على العموم، وقد تطلقه العرب على أم الخبائث وهي الخمر، كما قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول
وذكرنا في بعض المناسبات أن الإثم أيضًا يطلق على تبعة الذنب وهي المؤاخذة، تقول: من فعل كذا فهو آثم، فهذه هي التبعة، وهذا لا إشكال فيه فهو يطلق على الذنب وعلى تبعة الذنب التي هي المؤاخذة، والله أعلم.

والبغي هو نوع من الآثام أيضًا، وهو النوع المتعدي إلى الناس، وقيَّده هنا بأنه غير الحق، وهذا القيد معتبر، بمعنى أن هذا القيد ليس من قبيل الصفة الكاشفة بل هو قيد معتبر؛ لأن البغي يكون تارة بحق وتارة يكون بغير حق، بخلاف بعض القيود، كقوله تعالى بعد هذه: وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [سورة الأعراف:33] فقوله: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [سورة الأعراف:33] هذا مبيّن للحقيقة كاشف لها وإلا فلا يمكن لأحد أن يشرك بالله ولديه سلطان على هذا الشرك، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ [سورة المؤمنون:117] ولا يمكن لأحد أن يدعو إلهًا آخر له فيه برهان، وهكذا كما في قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] فلا يمكن لأحد أن يقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بحق، وعلى كل حال تارة تكون هذه القيود معتبرة، وتارة لا تكون معتبرة، ومن أمثلة القيود المعتبرة: القيد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [سورة الأحزاب:58] فهذا قيد معتبر.

وقوله تعالى: وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [سورة الأعراف:33] أي: تجعلوا له شركاء في عبادته.

وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33] من الافتراء والكذب مِن دعوى أن له ولدًاَ ونحو ذلك مما لا علم لكم به كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الآية [سورة الحـج:30].

ويدخل في هذا كل قول على الله بلا علم كالذي يفتي الناس بجهل ويتكلم في الأحكام، أو يفسر القرآن أو حديث رسول الله ﷺ بغير علم، كل ذلك يدخل في عموم قوله: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33].

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ۝ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الأعراف:34-36].

يقول تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أي: قرن وجيل.

الأمّة تطلق على الرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره، كما قال تعالى عن إبراهيم : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120] وتطلق أيضًا على المدة الزمنية كما قال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45] وتطلق أيضًا على الجماعة من الناس كما قال تعالى: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23] وتطلق أيضًا على الطائفة المجتمعة على دين كقوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المؤمنون:52] فالأمة تطلق على هذه الأشياء كلها، وهنا قال الحافظ ابن كثير  –رحمه الله: "أي: قرن وجيل" ولعل ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أدق؛ لأن الطائفة المجتمعة على دين منها من يكون قد مات ومنها من لا يزال حيًا موجودًا.

ومعنى قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي لكل طائفة من الناس وجماعة من الناس اجتمعت على شيء أجل، وهؤلاء يكونون في قرن وجيل يعني يكون لهم وقت محدد لنزول العذاب بهم، فالله تبارك تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وبيّن حدوده وشرائعه فوقّت لهذه الأمم وقتًا وزمانًا ينزل عليهم به العذاب إذا كذبوا رسله -عليهم الصلاة والسلام- فالله -تبارك وتعالى- يمهلهم حتى يأتي هذا الأجل، هذا قال به طائفة من السلف وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

ومن أهل العلم من يقول: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعني يموتون فيه أي أن الله يميتهم إذا جاءت آجالهم.

فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ أي: ميقاتهم المقدر لهم لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف:34].

ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلًا يقصون عليهم آياته، وبشَّر وحذر فقال: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ [سورة الأعراف:35] أي: ترك المحرمات وفعل الطاعات فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:35].

وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا [سورة الأعراف:36] أي: كذبت بها قلوبهم واستكبروا عن العمل بها أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الأعراف:36] أي: ماكثون فيها مكثًا مخلّدًا.

لعل قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي [سورة الأعراف:35] قرينة تقوي القول الأول، أي أن قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعني مدة وزمانًا محددًا ينزل عليهم به العذاب، فهذا المقام يبيّن الله -تبارك وتعالى- فيه للناس شدة بأسه وعقابه لمن كذب رسله -عليهم الصلاة والسلام.

وقوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ [سورة الأعراف:35] أصل لفظة "إمَّا" أنها مركبة من "إنْ" و"ما" فـ"إن" هذه هي الشرطية، و "ما" يقولون عنها: إنها صلة أو زائدة إعرابًا جاءت لتقوية الكلام وتأكيده.

وقوله: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي [سورة الأعراف:35] يعني إن أتاكم رسل كائنون منكم يخبرونكم بأحكامي ويبيّنونها لكم.

وقوله: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:35] يمكن أن تكون هذه الجملة التي هي فعل الشرط وجوابه هي جواب الشرط لقوله: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي [سورة الأعراف:35]، ويمكن أن يكون جواب الشرط مقدرًا، وتقديره فأطيعوهم، والله أعلم.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأعراف:37].

يقول: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي: لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله أو كذب بآياته المنزلة.

قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يعني لا أحد أظلم منه، وذكرنا مرارًا أن مثل هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، وأن ذلك في كل مقام يختص بالباب الذي ذكر فيه؛ للجمع بين هذه الآية والآيات المشابهة لها كقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] وما أشبه ذلك، أي تكون كل آية مختصة بالباب الذي ذكرت فيه.

أو يكون الجواب عن هذا أن يقال: إن أفعل التفضيل لا يمنع من التساوي وإنما يمنع من أن يزيد أحد هذه المذكورات على الآخر، والله أعلم.

قال محمد بن كعب القرظي: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] قال: عمله ورزقه وعمره، وكذا قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة يونس:69-70] وقوله: وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا الآية [سورة لقمان:23-24].

في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] جمع الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعض المعاني التي قالها السلف فقال: "عمله ورزقه وعمره" فالكتاب إذا حمل على اللوح المحفوظ يكون المعنى: ينالهم ما قدر لهم، والذي قدر لهم هي السعادة والشقاوة فيكون ذلك واقعًا لا محالة، وكذلك أيضًا ما قدر لهم من أرزاق وأعمار وكذلك ما قدر لهم من العذاب.

ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب في الآية: القرآن، حيث إن القرآن أخبر عما يقع بالمكذبين من العقوبة، فيكون ذلك تحقيقًا لما أخبر به، لكن المعنى الأول أقرب من هذا، والله تعالى أعلم.

وحمْله على اللوح المحفوظ وجمْع المعاني التي ذكرها السلف مما يرجع إلى هذا أولى وأحسن وأقرب، وهذا الذي جرى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا، وسبقه إليه كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وكذلك الحافظ ابن القيم، وجماعة من العلماء المحققين كالشنقيطي -رحمه الله، فهؤلاء العلماء وغيرهم يقولون: إن المراد بقوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] أي يقع لهم ما قدر لهم في اللوح المحفوظ مما قدره الله من الهدى والضلال فذلك واقع بهم لا يجاوزونه، ويدخل في ذلك أيضًا ما يحصل لهم من أرزاق وأعمار كما قال عليه الصلاة والسلام: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها[2].

وقوله: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ الآية [سورة الأعراف:37].. يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبْض أرواحهم إلى النار يقولون لهم: أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا [سورة الأعراف:37] أي: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا خيرهم وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الأعراف:37] أي: أقروا واعترفوا على أنفسهم أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأعراف:37].

قوله: قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا [سورة الأعراف:37] يعني ذهبوا، وذلك أن الضلال يفسر بالذهاب كما قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب ﷺ: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] فهم لا يقصدون هنا ضلاله الذهاب عن الهدى كما هو المعنى المتبادر عند إطلاق الضلال، وإنما يقصدون أصل معناها اللغوي، وهو الذهاب عن حقيقة الشيء، كما قال الشاعر:

فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
فمضلوه هنا يعني أنهم دفنوه، فصار ذلك إخفاء له.

وكما قال الآخر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول

يعني شرب الخمر حتى ذهب عقله، وهكذا توجد شواهد كثيرة تدل على أن الضلال يطلق بإزاء ذهاب الشيء عن حقيقته.

وقول إخوة يوسف: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لا شك أن معناه الذهاب عن حقيقة ما وقع ليوسف -عليه الصلاة والسلام- إذ لا يمكن أن يصفوا نبيًا من أنبياء الله بأنه ضال الضلال الشرعي المعروف؛ إذ لو قصدوا ذلك لكفروا، والله المستعان.

قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ۝ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [سورة الأعراف:38-39] يقول تعالى مخبرًا عما يقوله لهؤلاء المشركين به المفترين عليه المكذبين بآياته ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ [سورة الأعراف:38] أي: من أمثالكم وعلى صفاتكم.

قوله: ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ [سورة الأعراف:38] يعني في جملة أمم من أمثالكم وعلى صفاتكم.

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم [سورة الأعراف:38] أي: من الأمم السالفة الكافرة مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ [سورة الأعراف:38] يحتمل أن يكون بدلًا من قوله: فِي أُمَمٍ [سورة الأعراف:38] ويحتمل أن يكون فِي أُمَمٍ أي: مع أمم.

وقوله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [سورة الأعراف:38] كما قال الخليل : ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ الآية [سورة العنكبوت:25].

وقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167].

يقصد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [سورة الأعراف:38] أنها تلعن أهل ملتها، يعني إذا اجتمعت هذه الأمم في النار، اجتمع أولها وآخرها فيلعن بعضها بعضًا ويتبرأ بعضها من بعض، فالأمة الواحدة يحصل بينها هذا في النار، وليس المقصود أن كل أمة تلعن الأمة الأخرى، وإنما الأمة الواحدة إذا ادّاركوا في النار بأن دخل الأولون ودخل الآخرون وقع بينهم هذا اللعن والتبرؤ، فيتبرأ الأتباع من المتبوعين ويتبرأ المتبوعون من الأتباع، ويتبرأ آخرهم من أولهم وأولهم من آخرهم -نسأل الله العافية، وهذا المعنى هو المعنى المتبادر المشهور الذي عليه عامة المحققين من المفسرين، أي كلما دخلت أمة لعنت وشتمت أهل ملتها، وهذا صرح به جماعة من أهل العلم ككبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- ويدل على هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك: وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ الآيات [سورة الأعراف:39].

وقوله: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا أي: اجتمعوا فيها كلهم.

يعني أدرك بعضهم بعضًا فاجتمعوا فيها.

قَالَتْ أُخْرَاهُمْ أي أخراهم دخولًا وهم الأتباع لأُولاَهُمْ وهم المتبوعون؛ لأنهم أشد جرمًا من أتباعهم.

الحافظ ابن كثير –رحمه الله- من دقة عبارته جمع بين معنيين مشهورين في قوله تعالى: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ [سورة الأعراف:38] فالمعنى الأول: أي أخراهم دخولًا في النار، أي الطائفة المتأخرة التي دخلت تقول للتي دخلت قبلها، والمعنى الثاني قَالَتْ أُخْرَاهُمْ يعني الأتباع يقولون للمتبوعين، فالحافظ ابن كثير    -رحمه الله- ما احتاج أن يرجح بين المعنيين، بل جمع بينهما فقال عن الآخرة: أي دخولًا وهم الأتباع بمعنى أن الأتباع يدخلون بعد المتبوعين؛ لأن المتبوعين تقدّموهم حيث كانوا قبلهم وهم قدوتهم في الشر والضلال الكفر.

أي أخراهم دخولًا وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعون؛ لأنهم أشد جرمًا من أتباعهم فدخلوا قبلهم، فيشكونهم الأتباع إلى الله يوم القيامة؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون: رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ [سورة الأعراف:38] أي: أضعف عليهم العقوبة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ۝ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ۝ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ الآية [سورة الأحزاب:66-68].

وقوله: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [سورة الأعراف:38] أي: قد فعلنا ذلك وجازينا كلًا بحسبه، كقوله: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا الآية [سورة النحل:88] وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13] وقال: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [سورة النحل:25].

يعني باعتبار أن الأتباع أضلوهم فتحملوا ذنوب أنفسهم وذنوب من وقع لهم الإضلال عليهم، وهؤلاء الأتباع أيضًا لا يخلو الواحد منهم من أن يضل غيره كأن ينشئ ولده على الكفر أو نحو ذلك كما قال ﷺ: فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه[3] وكذلك يحصل منه أن يقتدي به ويتأثر به، ويقبل منه غيرُه فيحصل منه إضلال له، فيتحمل ذلك أيضًا كما تحمل الذي قبله، لذلك قال: لِكُلٍّ ضِعْفٌ [سورة الأعراف:38].

وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ أي: قال المتبوعون للأتباع فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ [سورة الأعراف:39].

قال السدي: فقد ضللتم كما ضللنا.

قولهم: فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ [سورة الأعراف:39] يعني نحن ما أجبرناكم وإنما جاءتكم الرسل ونزلت عليكم الكتب وأعطاكم الله عقولًا فلم تستعملوها ولم تعقلوا عن الله فأنتم ونحن سواء، وهذا كما يقول إبليس: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الآية [سورة إبراهيم:22].

فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [سورة الأعراف:39] وهذه الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم في قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة سبأ:33].

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ۝ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:40-41].

قوله: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء قيل المراد: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، قاله مجاهد   وسعيد بن جبير، ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس -ا.

وقيل: المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس -ا- وقاله السدي وغير واحد، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن البراء أن رسول الله    ﷺ ذكر قبض روح الفاجر وأنه يُصعد بها إلى السماء، قال: فيصعدون بها فلا تمرُّ على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان -بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا- حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله ﷺ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء الآية [سورة الأعراف:40]، هكذا رواه، وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه[4].

وقد قال ابن جريج في قوله: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء [سورة الأعراف:40] لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم، وهذا فيه جمع بين القولين والله أعلم.

المعنى الأول دل عليه الحديث، وإذا ثبت التفسير عن النبي ﷺ فلا مقال لأحد بعده، لكن هذا لا يعني أن عموم الآية لا يدخل فيه المعنى الآخر، بمعنى أنه يُقطع بالمعنى الذي ذكر في الحديث وهو أنها لا تفتح لأرواحهم، لكن هذا لا ينفي دخول المعنى الآخر وهو أنها لا تفتح لأعمالهم، ولهذا فهذا القول الذي ذكره عن ابن جريج -رحمه الله- هو جمعٌ بين المعنيين، وهذا هو الذي فسرها به ابن جرير -رحمه الله- وابن القيم وجماعة من أهل العلم، أي لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول في بعض كتبه: لما لم تفتح السماء لأعمالهم الصالحة لم تفتح لأرواحهم، بخلاف أهل الإيمان فالعمل الصالح يرتفع لهم صباح مساء فإذا ماتوا فتحت أبواب السماء لأرواحهم[5].

والله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر:10] فترفع الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى- وإليه يصعد الكلم الطيب، وأما الكفار فلا يصعد لهم كلم طيب ولا عمل صالح، وإذا ماتوا فإن أبواب السماء تغلق فلا تدخل أرواحهم منها، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] فسروه بأنه البعير، قال ابن مسعود -: هو الجمل، ابن الناقة،  وفي رواية: زوج الناقة.

وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس -ا: إنه كان يقرؤها (حتى يلج الجُمَّل في سم الخياط) بضم الجيم وتشديد الميم، يعني الحبل الغليظ في خرم الإبرة.

يقول تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] قال الحافظ: "قال ابن مسعود -: هو الجمل، ابن الناقة، وفي رواية: زوج الناقة" الذي يقرأ هذا الكلام لأول وهلة قد يستغرب من هذا الإيضاح إذ كيف يقول: ابن الناقة ويقول: زوج الناقة؛ لأن هذا إيضاح لما لا يخفى، لكن ابن مسعود ابتلي بمن ينقر ويسأل، ولهذا فإن بعض السلف لما ذكر هذا قال: الجمل الذي له أربع قوائم، والسبب أن من الناس من ينقر تنقيرًا كما قيل عن ذلك الأديب الذي قرأ بعضهم عليه بيتًا وفيه ذكر الجمل، فسأل ذلك القارئُ -وكان في المسجد أمام الناس- ما هو الجمل؟ فقال الأديب: هو البعير، قال: وما هو البعير؟ قال: ابن الناقة، قال: وما هو ابن الناقة؟ فغضب هذا الأديب وخرج عن طوره فجعل يحبو على أربع أمام الناس وله رغاء كرغاء البعير وهو يقول: هو الجمل الذي يقول هكذا!!

المقصود أن من الناس من يسأل عن الأشياء الواضحة البينة فتأتي مثل هذه العبارات، لذلك لا تستغرب أن ينقل عن ابن مسعود مثل هذا "ابن الناقة .. زوج الناقة..".

يقول تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] المعنى المتبادر أن الجمل هو الجمل المعروف، وأما على القراءة الأخرى التي قرأ فيها ابن عباس (حتى يلج الجُمَّل) وهي قراءة متواترة فيمكن أن يفسر الجُمَّل بمعنى آخر فيقال مثلًا: الجُمَّل هو الحبل الغليظ، وبعضهم يمثل له بحبل السفينة، وهو عبارة عن مجموعة من الحبال المفتولة بحيث تكون في غاية الغلظ والضخامة.

وفي هذه الآية أيضًا قراءات أخرى غير متواترة، وعلى كل حال فعلى القراءة المتواترة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] يكون الجمل في الآية هو الجمل المعروف، وأما على قراءة (الجُمَّل) فيقال هو الحبل الغليظ أو حبل السفينة الذي يقال له: القَلْس، وأما السَّم والسِّم والسُّم فهو كل ثقب، وإذا أضيف إلى الخيط فيراد به ثقب الإبرة، والله أعلم.

وقوله: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ [سورة الأعراف:41] قال محمد بن كعب القرظي: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ قال: الفرش وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41] قال اللحُف، وكذا قال الضحاك بن مزاحم والسدي، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:41].

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:42-43].

لما ذكر تعالى حالَ الأشقياء عطف بذكر حال السعداء فقال: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي: آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله واستكبروا عنها.

وينبه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل؛ لأنه تعالى قال: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الأعراف:42، 43] أي: من حسد وبغض.

في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة الأعراف:42] يمكن أن يكون قوله: لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة الأعراف:42] جملة اعتراضية، وعلى هذا يكون معنى الآية: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون، وجاء بهذه الجملة المعترضة لدفع توهم قد يتوهمه السامع وهو أن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات قاموا بكل الأعمال الصالحة المقدور عليها وغير المقدور  عليها فبيّن أن هذا غير صحيح؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يعني وعملوا الصالحات مما يقدرون عليها؛ لأننا لا نكلف نفسًا إلا وسعها، فهو جاء بهذا القيد لبيان هذا المعنى، ومعلوم أن القيود في القرآن تأتي في كل موضع بحسب الحاجة إليها وهي أنواع كثيرة، ومن شاء فليراجع قواعد التفسير فهناك أمثلة وأنواع تذكر فيها هذه القيود في القرآن.

وقوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الأعراف:43] قال الحافظ: "أي: من حسد وبغض" هذا يمكن أن يفسر بهذا الحديث الذي ذكره هنا وهو أنهم يقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيصفى ما في قلوبهم بسبب ما وقع بينهم من المظالم في الدنيا فيدخلون الجنة بقلوب نقية طاهرة لا غل فيها، والإنسان قد يكون في قلبه غل على إخوانه، نسأل الله العافية.

وقد قال علي لما كان يوم صفين: أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الأعراف:43] وهذا يدل على أن الغل على اسمه، وذلك أن الغل أصله الرباط الذي يكون في العنق، فهذا الغل يربط القلب، فلا يهنأ الإنسان براحة ولا يلتذ بعيش وقلبه يحمل الغل على أحد من المسلمين -نسأل الله العافية- وأول من يعذب بهذا الغل هو صاحبه حيث يتكدر عليه عيشه ويتنغص، لذلك لما كان الغل يكدر النعيم نفاه الله عن أهل الجنة، ونزعه من قلوبهم قبل أن يدخلوها.

وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يرى -وبه قال طائفة من السلف- أن المقصود بالآية أنهم في الجنة حينما يتفاضلون في المراتب والمنازل لا يقع في نفوسهم حسد بسبب ما يرون من تفاوت النعيم كما هو الحال في الدنيا، فالناس فيها يتحاسدون بما يرون من تفاوتهم في هذا العرَض والحطام الذي يتفاضلون فيه، وكذلك ما يتفاضلون فيه من القدرات العقلية وغير ذلك من العلوم وما إلى ذلك مما يحصل به التفاضل بين الناس في الدنيا، أما في الجنة فلا يحصل ذلك.

وعلى كل حال إذا نُزع ما في صدورهم من الغل قبل دخولهم الجنة فإن قلوبهم تبقى طاهرة فلا يقع فيها غل وحسد بما يرون من التفاضل بين مراتب أهل الجنة.

كما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلُّ منه بمسكنه كان في الدنيا[6].

وقال السدي في قوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ الآية [سورة الأعراف:43]: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبدًا.

هذا الأثر عن السدي، ومثل هذا يكون له حكم المرسل؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي، ثم إنه يتعلق بتفسير آية، إلا إذا قيل: إن هذا مما أخذ عن بني إسرائيل، فالله أعلم.

روى النسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني، فيكون له شكرًا، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون له حسرة[7].

قوله: هَدَانَا لِهَذَا من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ [سورة الأعراف:43] يحتمل أن يكون المعنى هدانا للجنة، ويشهد له الحديث الذي مضى آنفًا وهو قوله ﷺ: فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلُّ منه بمسكنه في الدنيا، وهو أيضًا بعض ما يفسر به قول الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4، 5] أي: يهديهم إلى الصراط، ويهديهم على الصراط ويهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، كل ذلك حاصل لهم.

ويحتمل أن يكون المراد هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43] يعني هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح الذي تسبب في دخول الجنة وهذا النعيم المقيم الذي أدركوه فيها، وهما معنيان متلازمان، فلا حاجة للترجيح بينهما ، والله تعالى أعلم، وعلى هذا يقال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43] أي: هدانا لسببه وهو الإيمان والعمل الصالح، وهدانا أيضًاَ إلى هذا النعيم في الجنة، وهداهم إلى منازلهم فيها، وهذا الوجه من الجمع ذهب إليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وهذا أحسن من الاقتصار على أحد هذين المعنيين والله تعالى أعلم؛ لوجود الملازمة بينهما، ومعلوم أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر وكان بينهما ملازمة فإنها تحمل عليهما إلا إذا وجد مانع يمنع من ذلك.

ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون أي: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم، وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل[8].

أي أن الباء للسببية في قوله: الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43] وقد جعلها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا سببًا لنيل الرحمة التي بها تنال الجنة، ولا إشكال في ذلك كما يمكن أن يقال أيضًا: إنها سبب لدخول الجنة، لكن هذا السبب ليس مستقلًا، بمعنى أنه لا يكفي وحده لدخول الجنة للحديث المذكور، وعلى كل حال العمل سبب، ورحمة الله فوق ذلك، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 
 
 
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة الأعراف (4361) (ج 4 / ص 1699) ومسلم في كتاب التوبة - باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2760) (ج 4 / ص 2113).
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات  - باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2144) (ج 2 / ص 725) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2742).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1293) (ج 1 / ص 456) ومسلم في كتاب القدر - باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (2658) (ج 4 / ص 2047).
  4. أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).
  5. له –رحمه الله- كلام بهذا المعنى في مدارج السالكين (ج 1 / ص 72).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصاص يوم القيامة (6170) (ج 5 / ص 2394).
  7. أخرجه أحمد (10660) (ج 2 / ص 512) والحاكم (3629) (ج 2 / ص 473) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4514).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصد والمداومة على العمل (6098) (ج 5 / ص 2373) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم  - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) (ج 4 / ص 2169).

مواد ذات صلة