الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
(004-أ) من قوله تعالى (فلما أحس عيسى..) الآية 51 – إلى قوله تعالى (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين..) الآية 62
تاريخ النشر: ١٩ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 1145
مرات الإستماع: 1158

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي الكلبي عند قوله تعالى:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى [آل عمران:52] أي: علم علمًا ظاهرًا كعلم ما يدرك بالحواس.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى قال: أي: علم علمًا ظاهرًا كعلم ما يدرك بالحواس" أحس، إحساس في أصله يقال لوجود الشيء في الحاسة، والحواس معروفة، كاللمس، والشيء الذي يُسمع، أو يُبصر، أو يُشم، أو يُذاق، الحواس الخمس، ووجود الشيء بالحاسة يقال له: إحساس، ويقال للعلم بالشيء إذا كان بهذه المثابة، وهذا الذي ذكره المؤلف -رحمه الله-.

علم علمًا ظاهرًا كعلم ما يدرك بالحواس، كما قال الله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم:98] عبر بالإحساس، والمقصود به هنا: الإدراك القوي، الجاري مجرى المشاهدة، وعلم منهم ذلك، لكن هذا العلم صار بمنزلة كالذي يدرك بالحاسة.

مَنْ أَنْصَارِي [آل عمران:52] طلب للنصرة، والأنصار جمع ناصر.

يعني في هذا الاستفهام مَنْ أَنْصَارِي: هو يطلب النصرة، أن ينصرني.

إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52] تقديره: من يضيفوا أنفسهم في نصرة إلى الله، فلذلك قيل: "إلى"، "إلى" هنا بمعنى "مع"، أو يتعلق بمحذوف تقديره: ذاهبًا، أو ملتجأ، وفي النسخة الخطية: ذاهبًا إلى الله، أو ملتجأ إلى الله.

يكفي أن يقال: "تقديره ذاهبًا أو ملتجأ إلى الله" يعني هنا يؤدي المعنى المراد، كما في النسخة عندكم، هنا في قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، فعُدي بـــ"إلى"، فعلى مذهب الكوفيين من النحاة -الذين يقولون بتناوب حروف الجر- أن التضمين واقع في حروف الجر، فيكون ذلك بمعنى "مع"، يعني "إلى" بمعنى "مع"، باعتبار أن الفعل "نصر": يعد بـــ"مع"، وكذلك ما يقوم مقامه كالمصدر، ونحو ذلك، فهنا عدي بـــ "إلى"، فمذهب الكوفيين مذهب سهل وقريب، فيقولون: بأن الحرف الذي هو هنا "إلى" ضمن معنى حرفًا آخر من حروف الجر، وهو "مع"، واستقام المعنى، مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي: من أنصاري مع الله، فالله ناصره، يقول: من ينصرني من الأتباع مع ربي.

وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير- رحمه الله- كقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، إِلَى أَمْوَالِكُمْ يعني: مع أموالكم، لكن على مذهب البصريين الذين يقولون بتضمين الفعل، وما يقوم مقامه: معنى فعل آخر يصح أن يعد بهذا الحرف، فهذا كما قلنا: بأن هذا المذهب أدق وأبلغ، وهو الذي يسميه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- مذهب فقهاء النحاة[1]؛ لأن فيه تكثير للمعاني.

يعني مثلًا في قوله -تبارك وتعالى- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، ما قال: مع أموالكم، فدل على تضمين فعل الأكل: معنى فعل آخر يصح أن يعد بــ"إلى"، مثل: ضامين، هذا يقوم مقام الفعل، وليس بفعل، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، فيكون مضمن لمعنى فعل آخر مثل ضم، تقول: ضم مَالَه إلى مَالِه، ضم أموالهم إلى أمواله، ففيه معنى الضم، وصار يعطي معنى الأكل والضم، أو الحيازة ونحو هذا.

وهنا في هذه الآية: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ هنا يقول: تقديره من يضيف أنفسهم في نصرة إلى الله، يقول: فلذلك قيل: "إلى" هنا بمعنى "مع"، أو يتعلق بمحذوف تقديره: ذاهبًا؛ لأن ذاهب يعد بــ"إلى"، ذهبت إلى المسجد، ذاهبًا إلى الله، أو يقدر بــ"ملتجأ"، التجأت إلى الله، لاحظ: كل هذا من أجل أن الفعل نصر يعد بــ"مع"، فلا بد من فعل آخر مضمن في داخله، يعد بــ"إلى"، غير نصر، إلى من أنصاري إلى الله.

بعض أهل العلم يقولون: بأن الجار والمجرور في موضع الحال، إِلَى اللَّهِ، وتتعلق إلى بمحذوف، والتقدير من أنصاري مضافين إلى الله، بدل أن نقول إن الحرف "إلى" مضمن معنى "مع"، يصير من أنصار أنصاري، صار في هذا معنى مضافين، من أنصاري مضافين، فصار عندنا معنيان، وهذا أكمل، النصرة والإضافة، مضافين إلى الله، أو مضافين إلى أنصار الله، أو من أنصاري متوجهًا إلى الله، يعني حال كوني متوجهًا إلى الله، أو حال كوني ملتجأ إلى الله، أو حال كوني ذاهبًا إلى الله، أو من أنصاري حال كوني داعيًا إلى الله، إذا قلنا: إن الجار والمجرور في موضع الحال، حال كوني داعيًا إلى الله، كل هذه التقديرات.

وبعضهم يقول: بأن "إلى" بمعنى اللام، مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، أي: من أنصاري لله، وهذا يجري على مذهب الكوفيين الذين يقولون: بأن حروف الجر تتناوب، فيضمن الحرف منها معنى حرف آخر، ويقوم مقامه، يقولون: كقوله: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس:35]، يعني يهدي إلى الحق.

وذكر البقاعي في نظم الدرر: أنه لما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره، عبر عن ذلك بصلة والحرف "إلى"، دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة، فقال: إلى، أي: سائرين إلى الله، من أنصاري سائرين إلى الله، أو واصلين إلى الله، واصلين معي بنصرهم إلى الله"[2]، هكذا قال.

وبعضهم يقول: من أنصاري حال التجائي إلى الله، أو من أنصاري إلى أن أبين أمر الله، أو من أنصاري في السبيل -في الطريق- إلى الله، أو من يضم نصرته إلى نصرة الله، يضم.

مجاهد -رحمه الله- من السلف يقول: "من يتبعني من أنصاري إلى الله"[3]، فضمن معنى الإتباع، يتبعني إلى، بمعنى أنهم يبحثون عن فعل يصح أن يعد بــ"إلى"، كما مثلنا في بعض المناسبات: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6]، قلنا: بأن العين لا يُشرب بها، وإنما يُشرب منها، لكن الكأس يشرب بها، والعين يشرب منها، أي ليست إناء يأخذه الإنسان ويشرب به، وإنما يشرب منه، فالكوفيون يقولون: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الباء حرف الجر: مضمن معنى "من"، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا، أي: منها.

ومذهب البصريين يقولون: أن الفعل يشرب مضمن معنى فعل آخر، يصح أن يعد بالباء، عينًا يشرب يعني ضمن معنى يرتوي، فيرتوي يصح أن يعد بالباء، أو يلتذ بها، قالوا: فالمعنى أكمل، صار عندنا معنى الشرب، فقد يشرب ولا يلتذ، يشرب على القذى، وقد يشرب ولا يرتوي، فلاحظ التعدية بالحرف هنا "الباء": دلت على معنى الارتواء مع الشرب والالتذاذ، وهكذا للتعدية تؤثر مثل هذه المعاني، ويكون فيها على مذهب البصريين من تكثير المعنى ما لا يكون على قول الكوفيين، لكن على قول الكوفيين أسهل، ولذلك النحو الكوفي سهل، ومن استصعب النحو فدرسه على طريقة الكوفيين: لم يجد في ذلك صعوبة وعناء، وهذا أمر معلوم، يمكن يدرس النحو، ويقول: أنا على مذهب الكوفيين، ويتفق هذا مع كثير من التعليل ونحو ذلك.

الْحَوَارِيُّونَ [آل عمران:52]، حواري الرجل صفوته وخاصته، وفي النسخة الخطية: وخالصته، وفي بعض النسخ: وخلاصته.

خاصته خلاصة الأصحاب مثلًا، لكن خاصته لا نحتاج أن نغير فيها، صفوته وخاصته.

ولذلك قال رسول الله ﷺ: لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير[4].

وإن حواري: تقال بالكسر والفتح، وإن حواريِ، وإن حواريَ، بالوجهين، بالفتح والكسر، وهو بمعنى الناصر والخالص من الأصحاب والأتباع.

وقيل: إن الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها، ولذلك سماهم الحواريين.

لاحظ الآن على هذا المعنى سماهم الحواريين، الحوارين كانوا قصارين، القصار هو محور الثياب ومبيضها؛ لأنه يقولون: يدقها بالقصرة، التي هي عبارة عن قطعة من خشب، ويأخذونها من شجر معين العادة، وهو شجر العناب، نبات معروف له ثمر صغير يشبه النبق معروف، ويدق بها، والحرفة يقال لها: قصارة، والخشبة هذه يقال لها: مقصرة، يحورون الثياب ويبيضونها.

كانوا قصارين يحورون الثياب يعني: يبيضون الثياب، ولذلك سماهم الحواريين، يعني بناء على المهنة، فهذا ما يكون له مزية ومنقبة، ولا يكون مدحًا، بهذا الاعتبار نسبوا إلى المهنة.

لكن على الأول أن الخلاصة: لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير ، فهم خاصة خلاصة الأصحاب والأتباع، كأن هذا -والله أعلم- أقرب من القول: بأنهم قيل لهم ذلك؛ لأنهم يحورون الثياب، إذا أخلصت بياضه بالغسل.

ومن هذا يقال للدقيق الأبيض: خبز الحواري، يعني الذي نقي، وصار في غاية النقاء والبياض، ليس فيه خلط، وهذا معروف.

وبعضهم يقول: إنه مشتق من حار يحور، إذا رجع، فكأنه قال: راجعون إلى الله، الحواريون، من حار، الماء إذا انطلق، السيل لما وصل إلى مكان مسدود يحور، أعوذ بك من الحور بعد الكور[5]، قال: "الأنبياء يأتون بمحارات العقول، ولا يأتون بمحالات العقول"[6]، بمعنى أنهم لم يأتون بشيء يحيله العقل أبدًا، ولذلك لا نقول أبدًا: الدليل العقلي والدليل الشرعي، أبدًا؛ لأن الدليل العقلي الصحيح هو من جملة أدلة الشرع، للشرع أدلة أصلية، كتاب، والسنة، وما يتبع ذلك ويبنى عليه من الإجماع والقياس، هذه أربعة، وهناك أدلة أخرى تكميلية تابعة: وهي العقل والفطرة، هذه كلها أدلة صحيحة، من أدلة الشرع، ولهذا نقول: دل على ذلك العقل والنقل، ما نقول: دل على ذلك الشرع والعقل؛ لأن العقل الصحيح من أدلة الشرع، فلا نجعله قسيمًا للشرع، وإنما صار ذلك إلى بعض أهل السنة فيما يقولون ويكتبون من جراء أهل الكلام، من عباراتهم وكلامهم؛ لأن أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة: هم يجعلون العقل بمنأى عن النقل، ويفترضون: أنه يمكن التعارض بين العقل والنقل، ولذلك يقررون إنه متى ما تعارض العقل والنقل: فالعقل عندهم مقدم، المعتزلة والأشاعرة، أصحاب المذاهب الكلامية، يقدمون العقل على النقل، وهذا باطل؛ لأن أصل القضية هذه مبناها على تصور فاسد، أن العقل يمكن أن يعارض النقل، وهذا غير صحيح، لا يمكن أن يتعارض، قد مضى الكلام على هذا في مناسبات، وفي شرح: "طريق الوصول إلى العلم المأمول، بمعرفة القواعد والضوابط والأصول".

وذكرت كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا، في كتابه: "درء تعارض العقل والنقل"، وكذلك أيضًا في شرحه "الأصبهانية"، فهذه الكتب مليئة لتقرير هذا الأصل، والرد على المتكلمين.

وبعضهم يقول: بأن الحواريين مأخوذ من النقاء، لكن نقاء القلب، يعني خلوص القلب، وبعضهم يقول: سُموا بذلك؛ لبياض ثيابهم، الحواريين، وهذا لا يخلو من بعد كما قلت؛ لأن مثل هذا لا يقتضي مدحًا؛ لأنه قد يلبس البياض من لا خلاق له، لكن حينما يقال: بأن هؤلاء هم خلاصة الأصحاب، الأتباع، أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

ولهذا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "والصحيح أن الحواري الناصر"[7]، وهذا لا يكون لكل الأتباع، واستدل بالحديث السابق في الزبير  فهم خلاصة الأصحاب، الناصرون من الأتباع، والله أعلم.

بِمَا أَنْزَلْتَ [آل عمران:53]، يريدون الإنجيل، والرسول هنا عيسى .

آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ هو الإنجيل؛ لأن اليهود كذبوا به، فهؤلاء هذا قول الحواريين، يمكن أن يقال: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ الإنجيل وما أنزل الله من الكتب، لكن هنا جاء ذلك في سياق خاص، وهو أن المسيح : قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ [آل عمران:52]، فأعلنوا إيمانهم، وأعلنوا إيمانهم بالله وبما أنزل، يعني: من الكتاب أو الوحي على عيسى وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ هو عيسى .

مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53]، أي مع الذين يشهدون بالحق من الأمم، وقيل: مع أمة محمد ﷺ؛ لأنهم يشهدون على الناس.

مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الذين يشهدون بالحق، يعني: أقروا لك بالوحدانية، وكذلك صدقوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.

قال: "أي مع الذين يشهدون بالحق" هذا الذي قاله ابن جزي -رحمه الله- وهو اختيار أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[8]، "مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين يشهدون بالحق من الأممط أو يقال كما سبق: يشهدون لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، أو للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عمومًا، أو اجعلنا مع الشاهدين: اجعلنا مع الأنبياء الذين يشهدون على أمم، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فالأنبياء يشهدون، وهذه الأمة شاهدة أيضًا، فالمعنى أعم من ذلك، والله تعالى أعلم.

يقول: وقيل: "مع أمة محمد ﷺ؛ لأنهم يشهدون على الناس" وهذا مروي عن ابن عباس -ا- وجوّد إسناده الحافظ ابن كثير[9].

فيمكن أن يقال: بأن الشاهدين يشمل الأنبياء، الذين يشهدون على أممهم، ويشمل أيضًا هذه الأمة، أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وكذلك من يشهدون لله -تبارك وتعالى- بالوحدانية، ولرسله بالرسالة؛ لأنه أطلقه فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، والله أعلم.

وعبارة ابن جزي: "الذين يشهدون بالحق" وهذا اختيار ابن جرير، يشهدون بالحق بالوحدانية، للأنبياء بالنبوة والرسالة، وهكذا أيضًا الذين يشهدون على أممهم، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، الأمة تشهد، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فالنبي ﷺ أيضًا يشهد.

على كل حال: هم أعلنوا إيمانهم بما أنزل، قال: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، الشاهدين بماذا؟ بالوحدانية، آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ، وبالرسالة والنبوة لعيسى وكذلك الذين يشهدون الأمم.

وَمَكَرُوا [آل عمران:54] الضمير لكفار بني إسرائيل، ومكرهم: أنهم وكلوا بعيسى من يقتله غيلة.

المكر يقال: لصرف الغير عن ما يقصده بحيلة، والله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، قيل: المعنى: ألقي شبهه على آخر فقتلوا هذا الذي ألقي شبهه عليه، فظنوا أنهم قتلوه، فمكرهم أنهم دبروا لقتله، والله -تبارك وتعالى- مكر بهم، فألقى الشبه على غيره، ورفع عيسى لم يمسه سوء، وهكذا في قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157، 158].

والحافظ ابن كثير[10] -رحمه الله- يقول: بأنهم وشوا به إلى ملك زمانهم، وافتروا عليه، حتى أمر بصلبه، يعني ليس هم الذين باشروا الصلب لمن ألقي الشبه عليه، وإنما كانوا يشون به إلى ملك زمانهم، ويقولون: هذا يريد أن ينزع الملك منك، وأنه يجمع الأتباع لذلك، فأمر بصلبه، لكن هذا الصلب لم يقع على عيسى وإنما وقع على شبيه له، ألقي الشبه عليه.

وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54] أي: رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله، حتى قتل عوضًا منه، وعبر عن فعل الله بالمكر: مشاكلة لقوله: وَمَكَرُوا.

قوله: "عُبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة" يعني: أن صفة المكر لا تثبت لله وإنما عبر بها من باب المشاكلة اللفظية فقط، كقول الشاعر:

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا[11]

فالرجل كان بحاجة إلى لباس، فهم يقولون: ماذا تقترح من الطعام فنصنعه لك؟ فنطبخه لك، فشاكل اللفظ، فقال: اطبخوا لي جبة وقميصًا، هذا يسمى مشاكلة عندهم، وهي عند كثير منهم: نوع من المجاز، فالمقصود أنه لا حقيقة لذلك عند هؤلاء، حينما يقول: هذا من باب المشاكلة، يعني: اللفظية، وإلا فالصفة غير ثابتة.

وأهل السنة يقولون: بأن المكر إذا كان بمن يستحق، فإنه يكون صفة كمال، فيضاف إلى الله من ذلك ما كان كمالًا، وهو المكر بمن يستحق من المجرمين والماكرين ونحو ذلك، ولذلك لا يوصف الله به بإطلاق، هكذا يقال: من صفات الله بأنه ماكر، وإنما يقال: بأن الله -تبارك وتعالى- يوصف بهذا الوصف، إذا كان كمالًا، يعني يمكر بالماكرين، فلو أن أحدًا مفسدًا مجرمًا ظالماً، أعي الناس بإفساده وأذاه، فجاء من أخذه بسوء فعاله، بطريقة لم يشعر إلا وقد وقع في مغبة فعله، وسوء عاقبته: فإن ذلك يكون محمودًا في الناس، ويكون كمالًا، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فكيف يقال: هذا مشاكلة؟ وكثير من أهل العلم يقولون: بأن ذلك لا يكون إلا على سبيل المقابلة، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، والصحيح: أنه لا يشترط في هذا، فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99]، ولم يذكر مكرهم، فما ذكره على سبيل المقابلة، إنما يقال: إنه يكون كمالًا إذا كان موجهًا إلى من يستحق، سواء كان في مقابل مكر مذكور، أو لم يكن، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99]، لكن قد يكون على سبيل المقابلة، ومكروا مكرًا، ومكرنا مكرًا، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، لكن ليس دائمًا، ليس هذا بشرط، أن يكون في مقابلة المكر، والله أعلم.

كذلك في الكيد، يقولون: يكون على سبيل المقابلة، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، وهذا ليس بشرط أيضًا، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، وما ذكر كيدهم، لكن إذا كان ذلك بمن يستحق فهو كمال، فنحن نثبت لله الكمالات التي أثبتها لنفسه، ولا نقول: إن هذا من باب المشاكلة اللفظية فقط، المشاكلة اللفظية معناها: أن لا حقيقة للوصف، وإنما هو مجرد تعبير وافق عبارة قبله، شاكلها، فهذا من العبارات التي يذكرها المؤلف -رحمه الله- ولا يوافق عليها.

وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]، أي: أقواهم، وهو فاعل ذلك بحق، والماكر من البشر: فاعل بالباطل، أو بباطل.

والماكر من البشر: ليس بلازم أن يكون الماكر من البشر فاعل بالباطل، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، قد يكون الماكر من البشر يمكر بمن يستحق، فهذه صفة أحيانًا تكون كمالًا، وأحيانًا تكون نقصًا، فما كان منقسمًا من الصفات فلله منه الأكمل، ولا يوصف الله به هكذا بإطلاق، فيقال: من صفاته أن الله يقال له: الماكر مثلًا، وإنما يقال: المكر بمن يستحق ذلك، يقول: "هو فاعل ذلك بحق، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" وهو أعلم بالأسباب التي تحيط بأعدائه، وأشد بطشًا، وأنفذ إرادة.

والطاهر بن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير ذكر: أنه يجوز أن يكون باعتبار أن ذلك المكر خير محض، لا يترتب عليه إلا الصلاح العام[12]، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، وإن كان يؤذي شخصًا أو أشخاصًا، لكن لا يترتب عليه إلا الصلاح العام، فهو يؤذي هذا الممكور به، فهو بالنسبة لهذا الذي وقع عليه المكر: شر، ولكنه بالنسبة للعموم: فإن ذلك يكون صلاحًا وخيرًا ونفعًا، وهكذا أفعال الله .

وهو بهذا الاعتبار مجرد عن ما في المكر من القبح، يعني المكر الذي يترتب عليه الصلاح، والمكر الذي يترتب عليه الخير: هو خير محض، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

فسواء كان ذلك من جهة العلم بالأسباب والإحاطة بالخلق، ونفاذ القدرة، أو كان ذلك باعتبار ما يترتب عليه من الصلاح والخير: فكل ذلك داخل فيه، -والله تعالى أعلم-.

إِذْ قَالَ اللَّه [آل عمران:55]، العامل فيه: فعل مضمر (أو يمكر).

كما ذكرنا من قبل: بأن "إذ" هذه كثير من أهل العلم يقولون: بأنها متعلقة بمحذوف، واذكروا إذ قال الله، واذكر إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك، هذا معنى العامل فيه مضمر، فعل مضمر، يعني: واذكر، أو يمكر.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: بأن إذ متعلقة بالمكر، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، حين قال لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ هذا باعتبار أنه متعلق بما قبله، وليس بمقدر محذوف، يعني القول الأول: بأنه متعلق بمقدر محذوف، (واذكر يا محمد) إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك، وعلى المعنى الآخر: أنه متعلق بما مضى في الآية قبله إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، حين قال لعيسى : إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فرفعه، وألقى شبهه على غيره، فظنوا أنهم قتلوه، فكان هذا من مكره -تبارك وتعالى- بهم، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى، فيكون هذا تفسيرًا للمكر المذكور سابقًا، فلا يحتاج إلى تقدير.

والقاعدة: أن الأصل عدم التقدير، لكن اشتهر كثيرًا عند العلماء في مثل هذه المواضع في القرآن: أنه يكون متعلقًا بمقدر (اذكر)، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10]، اذكروا إذ جاءوكم، وهكذا إذ قلتم، واذكروا إذ قلتم، ونحو ذلك، إذ قال الله إني متوفيك.

إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] قيل، وفاة موت، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيًّا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، وقيل: يعني وفاة نوم، وقيل المعنى: قابضك من الأرض إلى السماء.

لاحظ الآن هذه المعاني، نحن عندنا أصل قاعدة ذكرناها في بعض المناسبات، وهي: أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية، فالمقدم هو الحقيقة الشرعية، فهنا الوفاة تقال: للوفاة الكبرى بالموت، وتقال: للوفاة الصغرى بالنوم، هذا يقال له: وفاة، اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، فهذه وفاة النوم بنص القرآن، وكذلك الموت.

وهناك الوفاة في اللغة: من الاستيفاء، لاحظ المعاني التي يذكرها المفسرون، تدور على هذين، فالذين قالوا: بأنها موتة حقيقية ثم أحياه الله في السماء، هذا القول وهو قول ضعيف، ولا دليل عليه: فسروها بالمعنى الشرعي للوفاة، وهو الموت، لكن الموتة الكبرى.

والذين قالوا: رفعه في حال النوم، فسروها بالمعنى الشرعي، وهذا أقرب، أنه لو رفع في حال النوم.

والذين فسروها بالمعنى اللغوي قالوا: قولًا لا ينافيه، لا ينافي الأخير هذا، لكنه ينافي الذي قبله، ينافي من قال: أنه مات وأحياه الله في السماء، لكن إذا قالوا: إنه رفع في حال النوم، قالوا: بأن الوفاة بمعنى الاستيفاء، استوفاه، إني مستوفيك روحًا وجسدًا، استوفى الشيء: يعني أخذه وافيًّا، يعني لم يكن الرفع لجسده من غير روح، ولم يكن الرفع للروح، وإنما مستوفيك، يعني روحًا وجسدًا، فهذا وإن كان تفسيرًا بالمعنى الجاري على اللغة، إلا إنه يرجع إلى ما قبله المعنى الشرعي، الذي هو بمعنى النوم، وليس الوفاة الكبرى.

صار هذان المعنيان مشهوران عند العلماء، فبعضهم يقول: رفع في حال النوم، وبعضهم قال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفيك روحًا وجسدًا، ففسره بالمعنى اللغوي.

لكن القاعدة كما ذكرت: أنه إذا دار بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي، فالمقدم المعنى الشرعي، الحقيقة الشرعية، لماذا؟ لأن الشارع يتكلم في الشرعيات، وكل متكلم فإنما يحمل كلامه على عرفه، أو معهوده، ومعهود الشارع الشرعيات، الشارع يتكلم في الشرعيات، فإذا قال: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الأنعام:72]، فنفسرها بالصلاة بالمعنى الشرعي، إلا لدليل، الصلاة ذات القيام والركوع والسجود إلى آخره.

لكن إذا وجد دليل على إرادة المعنى اللغوي حمل عليه، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] بمعنى ادع لهم، فسرناها بالمعنى اللغوي؛ لوجود دليل، وهو أن النبي ﷺ كان إذا جاءه أحد بصدقته، قال: اللهم صل على آل فلان، اللهم صل على آل أبي أوفى[13]، فهذا دليل على إرادة المعنى اللغوي في هذا الموضع، فإذا كان كذلك، فيكون في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قوله هنا: "وفاة الموت هذا بعيد، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيًّا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال".

لاحظ: هذا التفسير يختلف عن ما سبق، هذا فسره بوفاة الموت، لكن قال: في نهاية المطاف، بعد ما ينزل، كيف يتفق إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ؟ فهؤلاء يضطرون إلى القول: بأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، يعني يكون الكلام هكذا: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي -ما ذكر الوفاة- ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ومتوفيك، يعني بعد ما تنزل، ولا تقبل من الناس الجزية، وإنما تقبل الإسلام، أو السيف، ففي هذه يكون: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] بهذا، وفي غيره مما ذكرته في بعض المناسبات.

قيل: بأن ذلك حصل على يد النبي ﷺ ظهور الحق، وبعضهم يقول: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أن أتباع المسيح ظهروا على اليهود، وإن كان الذين ظهروا إنما ظهروا حينما دخل قسطنطين في النصرانية، ملك الروم أو اليونان، قسطنطين ملك الرومان، دخل في النصرانية، وبعضهم يقول: إنه أدخل النصرانية في وثنيته، فهذا الرجل هو الذي أفسد دين النصرانية، وفي مجمع نيقية أقرت عقيدة التثليث رسميًا، وتبنتها الدولة، وصار الذين يوحدون الله صاروا في حال من القتل والاستضعاف، كما هو معلوم.

فلم يكن لأتباع المسيح الحقيقيين أي ظهور، ولهذا فإن بعض أهل العلم قالوا: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قالوا: بالحجة والبرهان، والواقع أن هذا لا يقتصر على الحجة والبرهان، بل الظهور الحقيقي، فذهب بعضهم وأيده الحافظ ابن القيم[14] -رحمه الله-: إلى أن من له شائبة اتباع بالمسيح -حتى ولو كان أهل التثليث- فإنهم صاروا قاهرين لليهود، ينادون عليهم بالأمصار والمدن التابعة للرومان، فيقتل من فيها، يعني في كل مرة يتأذون من أعمال اليهود: فينادون في ناحية من البلاد، في الشام وغيرها، بقتل كل يهودي فيقتلون، وقالوا: هذا ظهور لأتباع المسيح، لمن له شائبة اتباع المسيح، ولو كان على باطل، كأهل التثليث.

وبعضهم قال: كان هذا الظهور على يد النبي ﷺ فقد أخرج اليهود من المدينة، أخرج بني قينقاع وبني النضير، وفعل بقريظة ما فعل، قتل كل المقاتلة، وسبى النساء والذرية، فهذا ظهور، وكذلك أيضًا أهل خيبر، ظهر عليهم، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، وكما قال الله : فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، ما هذا الظهور؟

والأقرب والله أعلم: بأن ذلك يكون بالعاقبة، ولقد ظهر النبي ﷺ عليهم، وظهرت هذه الأمة على اليهود.

فهنا يقول: "وقيل رُفع حيًّا، ووفاة الموت بعد أن ينزل" هذا صعب؛ هذا القول كما عرفتم يحتاج إلى دعوى، وهي أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ومتوفيك.

والقاعدة -القواعد الترجيحية- أنه إذا دار الكلام بين الترتيب أو التقديم والتأخير، فالأصل في الكلام: الترتيب، هذا معنى القواعد الترجيحية، التي مبناها على الترجيح، يعني أنها مصرحة بالترجيح.

وليس معناها لربما يقرر بعض الفضلاء: بأن أي قاعدة يرون المفسر رجح بها قولًا على قول سموها قاعدة ترجيحية، فعلى هذا كل قواعد التفسير هي قواعد ترجيحية، بلا استثناء؛ لأنه يُرجح بها، فالترجيح يكون من القواعد، ويكون بكل ما يمكن أن يُتقوى به، كما قال الأصوليون: بأن الترجيح له أكثر من مائة طريق، أكثر من هذا، يعني الآمدي وحده ذكر -فيما يحضرني الآن- أكثر من مائة وعشرين طريقًا في الترجيح، الآمدي في كتابه "الإحكام في الأصول"، فضلًا عن غيره كثير، يذكرون من طرق الترجيح المتنوعة، الترجيح بأدلة من الكتاب، بأدلة من السنة، الترجيح بالإجماع، الترجيح بالقياس، الترجيح بغير ذلك من القواعد، أكثر من مائة طريق للترجيح.

عامة الأصوليين يقولون: بأن الترجيح طرقه لا تنحصر؛ لأن يحصل بكل ما يتقوى به الظن، فإذا قلنا: القواعد الترجيحية فمعنى ذلك: أنها القواعد التي بُنيت هذا البناء مصرحة بالترجيح، إذا دار الكلام بين التأسيس أو التوكيد: فالتأسيس مقدم على التوكيد، إذا دار الكلام بين الترتيب أو التقديم والتأخير -يعني دعوى التقديم والتأخير- فالأصل: أن الترتيب مقدم؛ لأن الكلام يأتي على هذا النسق في كلام الله .

هكذا يقال: إذا قيل: قاعدة ترجيحية، قد كتبت رسائل جامعية، ماجستير ودكتوراه، كلها مبناها على ذلك الفهم، أن كل ما رجح به فهو قاعدة ترجيحية، فينظرون إلى المفسر، يجردون الكتاب، فيجدون هذا المفسر رجح بهذه القاعدة: وضعوها قاعدة ترجيحية، وهكذا.

هذا لا ينحصر بهذه التي رجح بها المؤلف هذا أو ذاك، وإنما كل القواعد يرجح بها، بل تدخل كل القواعد، ويقال: هي قواعد ترجيحية، ولا معنى لهذا القيد أصلًا بهذا الاعتبار أن نقول: ترجيحية، كما يقال في الأدلة، فلا يقال: أدلة ترجيحية، فهي أدلة من حيث هي، والله أعلم.

قوله: "وقيل: يعني وفاة نوم" لاحظ: هذا تفسير له بالمعنى الشرعي، وكأن هذا هو الأقرب، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وعزاه للأكثر من العلماء، وقال به جمع من السلف كالربيع بن أنس[15]، كما قال الله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60]، يَتَوَفَّاكُمْ هذه الوفاة الصغرى، فسماها وفاة، اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، وهكذا.

الحديث: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا[16]، فسماها موتة، يعني النوم، قال: وفاة نوم.

وقيل: "المعنى قابضك من الأرض إلى السماء" لاحظ: هذا تفسير له بالمعنى اللغوي، يعني حيًّا بروحه وجسده، دون نوم أو موت، لا تعرض لذلك، بمعنى الاستيفاء، لاحظ: "قابضك من الأرض إلى السماء" يعني مستوفيك روحًا وجسدًا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[17]، والواحدي[18]، وكذلك القرطبي[19]، قال به جماعة من السلف، كالحسن[20]، وابن جريج[21]، وقال به محمد بن جعفر بن الزبير[22]، وابن زيد[23].

فصار عندنا معنيان قريبان: الأول: الوفاة بمعنى النوم، والثاني: الاستيفاء روحًا وجسدًا، وإن أردنا أن نرجح بينهما نقول: النوم؛ لأنه يوافق المعنى الشرعي، فهذا يجري على القاعدة التي ذكرناها، لكن لما كان المعنى الثاني (مستوفيك روحًا وجسدًا) لا ينافيه: صار ذلك عائدًا إليه، إلا إنه لم يذكر فيه النوم، يعني رفعه، وليس ذلك مقيدًا بكونه في حال نوم، رفع روحًا وجسدًا.

وبعضهم يقول: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هذا بمعنى أنه إخبار أو تطمين، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أنه لا يكون موته بقتل، يعني باعتبار أن الوفاة هي خروج الروح من غير تسبب بقصد، من غير مباشرة، وما كان بمباشرة الغير يقال له: قتل، قال: مات حتف أنفه، يعني: من غير مباشرة أحد، بإزهاق روحه، ويكون القتل بمباشرة غيره، هذا الفرق بين القتل والموت حتف الأنف أو الوفاة، وإلا فالقتل هو موت بلا شك، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران:144]، قابل بينهما، فالقتيل ميت، لكن ليس موته حتف أنفه، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران:144]، القتل يكون بمباشرة غيره بإزهاق الروح.

وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلى السماء، وَمُطَهِّرُكَ أي: من سوء جوارهم.

هو مطهره، وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلى السماء هذا واضح، وَمُطَهِّرُكَ أي: من سوء جوارهم.

مطهرك من سوء جوارهم، مخلصك ممن كفر بك، ومخرجك من بينهم، برفعي إياك إلى السماء، كما قال الله  وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:110]، فخلصه منهم.

الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ [آل عمران:55] هم المسلمون، وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر، وقيل: الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ النصارى، والَّذِينَ كَفَرُوا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود، وإذلالهم لهم.

أشرت إلى هذا قبل قليل، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، فقال: القول الأول: هم المسلمون، وهذا الذي اختاره ابن جرير[24]، والواحدي[25].

وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر، لكن هل كان هذا لأتباع المسيح الخلص، هذا التوحيد؟ هذا لم يكن في التاريخ، إذًا متى كان هذا الظهور؟

قالوا: على يد محمد ﷺ فدعوى الأنبياء واحدة، وهم إخوة لعلات، يعني أن أصل الدين الذي جاءوا به واحد، والشرائع تتفاوت، وتختلف، وتتنوع، فالنبي ﷺ جاء بدين الإسلام، الذي جاء به عيسى ودعا إليه، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكان هذا الظهور على يد النبي ﷺ وأتباعه.

يقول: "وقيل: الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ النصارى" هذا الذي أشرت إلى أن ابن القيم[26] مال إليه، وهو اختيار الحافظ ابن كثير[27] أيضًا، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[28]، والطاهر ابن عاشور[29] أيضًا، أن هذا كان ظهور الذين اتبعوهم النصارى، لكن النصارى كانوا على التثليث، يعني الذين كانت لهم قوة فعلًا ودولة، واضطهدوا اليهود وقتلوهم، بأي اعتبار؟

بالاعتبار الذي عبر عنه الحافظ ابن القيم: بأن من كان له شائبة اتباع للمسيح : فذلك أقرب من اليهود الذين قالوا: ابن زانية، وعملوا ودبروا لقتله، قالوا: هذا الذي يعظمه، وإن غلا فيه، وقال: إنه إله، أو ثالث ثلاثة، هذا ليس كالذي قال: ابن زنا هذا معنى كلام ابن القيم، ومن وافقه.

فقالوا: هذا الظهور حصل للنصارى، ولو كانوا على باطل، على اليهود، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ [آل عمران:55]، فهم يعتبرون أنفسهم مشهور أنهم يقال لهم: نصارى، وإن كانوا على الشرك، لكنهم لهم نوع تعلق بالمسيح، بخلاف اليهود الذين قالوا فيه ما قالوا، والله أعلم.

الَّذِينَ كَفَرُوا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود، وإذلالهم لهم، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- مع المعنى الذي ذكره، من أن النصارى كذلك لهم نصيب من اتباعه، فكانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، يقول: "ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى: كانوا فوق النصارى"[30]، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ النصارى، والمسلمون فوق الجميع، وهذا أيضًا ذكر نحوه الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[31].

يعني كأنهم قالوا كل ذلك، لظهور النصارى على اليهود، وظهور المسلمين على الجميع، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ابن عطية عزى إلى الجمهور -جمهور المفسرين- القول بعموم اللفظ في المتبعين[32]، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ، فيدخل فيهم أمة محمد ﷺ كما قاله قتادة[33]، وهكذا قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيكون أتباعه من النصارى، ومن أمة محمد ﷺ.

فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قالوا: بعموم اللفظ في الكافرين، لكن بالنسبة لعموم اللفظ في الكافرين لا يخلو من إشكال، باعتبار أن إذا قلنا: النصارى الذين صار لهم ظهور، وهم الذين قالوا بالتثليث، حينما دخل قسطنطين في النصرانية، فهؤلاء من جملة الكافرين المشركين، يعني عموم الكافرين لو قيل: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، فكيف يكون الذين اتبعوه -على قول ابن القيم وابن كثير- من له نوع اتباع للمسيح، أو تعلق بالمسيح من هؤلاء النصارى، ولو كانوا على الشرك والتثليث، فكيف يقال: بالعموم بالنسبة فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا، من هم هؤلاء؟

قسطنطين ومن لف لفه من أصحاب عقيدة التثليث، لكن الذي يظهر فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أن المقصود اليهود؛ لأن بني إسرائيل انقسموا إلى قسمين من بعد عيسى فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14].

فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ الذين كفروا، وهم اليهود، والله أعلم، فالسياق يبين هذا، مع أن ظاهر اللفظ يحتمل عموم الكافرين، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا لكن السياق كأنه يدل على أن المقصود اليهود، والله تعالى أعلم.

ذَلِكَ نَتْلُوهُ [آل عمران:58]: إشارة إلى ما تقدم من الأخبار.

ذَلِكَ نَتْلُوهُ وحملها ابن كثير على ما ذكر في شأن عيسى [34]، يعني خاصة، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58].

مِنَ الآيَاتِ المتلوات أو المعجزات.

يعني الآيات المتلوات هذه التي ذكرها الله في هذه السورة، الآيات المتلوة المنزلة، أو المعجزات يعني ما ذكره الله عنه، من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، والإخبار بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، والخلق كهيئة الطير من الطين، فينفخ فيه، فيكون طيرًا بإذن الله، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ [آل عمران:58]، فتكون الآيات بمعنى البراهين والمعجزات، والدلائل الواضحات على النبوة، وكذلك الآيات، هذا باعتبار عموم اللفظ، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ، الآيات تكون المعجزات، وكذلك أيضًا المتلوة المنزلة الموحى بها.

وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ يعني القرآن، والحكيم: الناطق بالحكمة.

فيما يتعلق بالحكيم: قال: الناطق بالحكمة، أيضًا الحكيم أصل هذه المادة كما ذكرت في بعض المناسبات: (ح ك م) تدل على المنع، حكيم أي: محكم لا يتطرق إليه الباطل في ألفاظه، ولا معانيه ولا أحكامه، فهو في ألفاظه في غاية الإحكام، ليس فيه خلل، ليس فيه ضعف، ليس فيه اعوجاج، ليس فيه عيب في الألفاظ، وكذلك في المعاني، وهو يتضمن المعاني الكاملة، والهدايات، ولا يناقض بعضه بعضًا وينافيه.

وكذلك الناطق بالحكمة حكيم، فحكيم على وزن فعيل، يأتي بمعنى محكم، أن الله أحكمه، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، وكذلك حكيم بمعنى: أنه ذو الحكمة، يعني فيه حكمة، والحكمة هي الإصابة في القول والعمل، هكذا تقال، يقال: فلان حكيم، ويقال أيضًا: الحكمة هو وضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فهو حكيم في هداياته، وما يدل عليه، وما يأمر به، فلا يأمر إلا بخير، الناطق بالحكمة.

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى [آل عمران:59] الآية حجة على النصارى في قولهم: كيف يكون ابن دون أب؟ فمثله الله بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب، وذلك أغرب مما استبعدوه، فهو أقطع لقولهم.

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى هذا رد على النصارى: أنه لم يكن من أب، فهو ابن الله، فذكر الله ما هو أعجب من ذلك، وهو آدم كان من غير أب ولا أم، إذًا هو أولى بهذا، لكنه مخلوق لله، عبد له، فقولوا في المسيح كما تقولون في آدم فهذا رد عليهم، وفيه إشارة إلى معنى القياس، أو إثبات القياس، يقاس هذا بهذا، إلحاق فرع بأصل، في حكم، لعلة جامعة بينهما، كلاهما من غير أب، وآدم بزيادة، وهو من غير أب ولا أم.

خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران:59]: تفسير لحال آدم، في النسخة الخطية: فيكون حكاية عن حال ماضية.

ما هي الحالة الماضية؟ أن الله خلق آدم من تراب، حكاية عن حال ماضية.

فيكون حكاية عن حال ماضية، والأصل: لو قال: خلقه من تراب، ثم قال له: كن فكان، لكنه وضع المضارع موضع الماضي؛ ليصور في نفوس المخاطبين أن الأمر كأنه حاضر دائم.

خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فيكون حكاية عن حال مضت، قال له: كن فكان، هذا في الزمن الماضي، حينما قال الله لآدم ذلك، لماذا عبر بالمضارع؟ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ لماذا لم يقل: قال له كن فكان؟

قال: التعبير عن الماضي بالمضارع لمعنى، وهو أنه: يصور لك الحدث الماضي كأنك تشاهده، كأنك ترى آدم وهو يقوم، ويتحرك، وتجري فيه الحياة، فكان وضع المضارع موضع الماضي؛ ليصور في نفوس المخاطبين أن الأمر كأنه حاضر دائم، كأنك تشاهده.

وهذا كثير في القرآن وذكرنا له نظائر أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ [الحج:63]، فَتُصْبِحُ عبر بالمضارع، ما قال: فأصبحت الأرض مخضرة، فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ [البقرة:91]، هم قتلوهم في الماضي، لماذا قتلتموهم في الماضي، كأنك تشاهد هذا العمل البشع، كأنه أمامك، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ [يوسف:16]، ما قال باكين، قال: يَبْكُونَ، كأنك تشاهدهم وهم يبكون الدموع، وهكذا.

الْحَقُّ [آل عمران:60] خبر مبتدأ مضمر، وفي النسخة الخطية: خبر ابتداء مضمر.

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يعني مثلًا هو الحق من ربك، المبتدأ: هو، هو الحق من ربك، هذا الحق من ربك.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ [آل عمران:61] أي: في عيسى، وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى.

في عيسى، ويحتمل أن يعود إلى الحق في قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، هذا الحق من ربك، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ يمكن أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور، وهو الحق المذكور قبله، ومن حاجك في هذا الحق فقل: تعالوا، ومن قال بأن ذلك يرجع إلى عيسى، فالواقع أن ذلك يلتئم، بمعنى متحد، يعني الحق ما هو؟ الحق فيما ذكره الله في شأن عيسى: أنه كآدم خلقه من تراب إلى آخره، وليس بإله، فمن حاجك فيه بأنه ثالث ثلاثة، أو ابن الله، أو بأن هو الله كما يقول بعض النصارى، تمثل في المسيح تعالى الله عن ما يقولون علوًا كبيرًا، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي: في عيسى.

فإذا قلنا: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فهو الحق، وإذا قلنا: بأن ذلك يرجع إلى المقصود بهذا السياق، وهو بيان حقيقة عيسى قال: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ، أي: في عيسى لكن ذلك يرجع إلى معنى واحد في الواقع، فالحق هو أن عيسى هو عبد لله ورسوله، خلقه كما خلق آدم، وليس بإله، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ وكان الذي حاجه: وفد نجران.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي: في عيسى، وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى، وكان لهم سيدان، يقال لأحدهما: السيد، وللآخر العاقب.

ذكر ابن إسحاق في روايته أنهم يرجعون إلى ثلاثة، هنا ذكر ابن جزي اثنين: "السيد والعاقب"، ابن إسحاق في الرواية التي ذكرها: ذكر أنهم يرجعون إلى ثلاثة، إلى هذين، والثالث يقال له: أبو حارثة بن علقمة، وكان الأسقف، وهو إمامهم.

يقولون: كانوا ستين راكبًا، الوفد كانوا ستين، وفيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، ومقدموهم هم هؤلاء الثلاثة، قال: فيهم سيدان، يقال لأحدهما: السيد، وهذا الذي يقال له: الأيهم، اسمه الأيهم، وهذا عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، يعني لهم مضايف، كل واحد له مهمات، فهذا الأيهم هو عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، والعاقب اسمه عبد المسيح، فالعاقب لقب، وهو أميرهم، وصاحب الرأي والمشورة فيهم.

نَبْتَهِلْ نلتعن.

وهذا الذي اختاره ابن كثير[35]، أن نَبْتَهِلْ بمعنى نلتعن.

والبهلة اللعنة، أي نقول: لعنة الله على الكاذب منا ومنكم، هذا أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة، ولما نزلت الآية أرسل رسول الله ﷺ إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، ودعا نصارى نجران إلى الملاعنة، فخافوا أن يهلكهم الله، أو يمسخهم الله قردة وخنازير، فأبوا من الملاعنة، وأعطوا الجزية.

هنا في قوله: بأن أصل الابتهال الالتعان، لعن على الكاذب، وذكر هنا هذا المعنى أنه صار يستعمل في ما هو أعم، يعني مثل ما يقال في اليمين، الحلف، قيل: كان يأخذ مع ذلك بيمين صاحبه، تأكيدًا للقول بالفعل، ثم صار تقال لكل يمين، وإن لم يأخذ بيد صاحبه، وإن لم يأخذ بيمينه.

يقول: "ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة"، ولهذا فإن بعضهم يقول: بأن الابتهال أصله الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، يقال: فلان يبتهل إلى الله، نبتهل إلى الله، ابتهلنا إلى الله، مبتهلين إلى الله، وهكذا.

فذكر هنا: "أنها لما نزلت الآية أرسل النبي ﷺ إلى علي وفاطمة إلى آخره، ودعاهم إلى الملاعنة فخافوا".

وهنا الحافظ ابن كثير ذكر أن مقدم هؤلاء كان قبل الحديبية، بعض العلماء يقولون: أنهم جاءوا في السنة التاسعة للهجرة، يعني بعد فتح مكة، الحافظ ابن كثير يرجح أن مجيئهم كان قبل صلح الحديبية[36]، وأن ما أخذ منهم كان على سبيل الصلح، وأن آية الجزية لم تنزل إلا بعد الفتح، في آية براءة التي نزلت متأخرة بعد صلح الحديبية، في السنة التاسعة من الهجرة قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فهذه الآية نزلت بعد فتح مكة، فتح مكة كان في السنة الثامنة.

هل أخذ منهم النبي ﷺ الجزية؟ يقول: وأعطوا الجزية، ابن كثير يقول: العبارة فيها تجوز، باعتبار أن الذي أخذ منهم كان على سبيل المصالحة، والجزية لم تنزل بعد، يعني ما شرعت بعد، فكان صالحوا النبي ﷺ على أن يعطوه شيء في مقابل المتاركة والمسالمة، لكن لم تكن على سبيل الجزية؛ لأن الجزية نزلت بعد ذلك، نزلت متأخرة.

والزهري محمد بن شهاب يقول: "هم أول من دفعوا الجزية"[37]، يعني: كان يرى أنها جزية، ومن أهل العلم: من رجح ما في الصحيحين، في كتاب النبي ﷺ لقيصر، وأن الآية نازلة قبله، ورواية الوفد التي فيها جزية: لا تصح، ضعيفة[38]، وإلا أصل إفادة وفد نجران هذا ثابت في الصحيحين، لكن أنه أخذ منهم الجزية: هذا لا يصح في شيء من الروايات.

ولهذا اختلف العلماء: هل أخذ منهم جزية أو مصالحه؟ والله أعلم، أن النبي ﷺ في كتابه لقيصر ذكر الآية بهذه اللفظة: ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64]، آية آل عمران هذه، فتكون هذه نازلة بوفد نجران، أو بكتابته ﷺ لقيصر، كتابة النبي ﷺ لقيصر مبكرة، قبل فتح مكة، وهذه الآيات على القول: بأنها نازلة في وفد نجران، وأن وفد نجران جاء في السنة التاسعة للهجرة، يكون متأخرًا، لهذا رجح من رجح من أهل العلم: بأن الآية نازلة قبل ذلك، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، هي في الكتاب لقيصر: ويا أهل الكتاب.

فبعض أهل العلماء قال: أنه لم يقصد الآية، وإنما جاء ذلك موافقًا للآية التي نزلت بعد ذلك، يعني قصد المعنى، ويا أهل الكتاب، بالواو، تعالوا إلى كلمة سواء، فجاءت موافقة لما أنزل الله بعد ذلك: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ يعني النبي ﷺ يقولون: ما قصد الآية، هكذا قال بعضهم، أنه قاله قبل أن تنزل، فجاءت موافقة والله أعلم.

ومجيء الوفد ثابت في الصحيحين لا إشكال فيه، لكن كما ذكرت من قبل: بأنه سبب نزول هذه الآيات جميعًا: هذا لا يصح في رواية، لا تخلو الروايات من ضعف، والله أعلم.

 

 

  1. انظر: بدائع الفوائد (2/21).
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/417).
  3. تفسير الطبري (22/621)، وتفسير ابن كثير (2/45).
  4. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4113)، وبرقم (7261)، كتاب أخبار الآحاد، باب بعث النبي ﷺ الزبير طليعة وحده، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل طلحة، والزبير -ا، برقم (2415).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله -ﷺ، باب ما يقول إذا خرج مسافرا، برقم (3439)، والنسائي في الكبرى، برقم (8750)، وأحمد في المسند، برقم (20781)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  6. انظر: مجموع الفتاوى (2/312).
  7. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/46).
  8. تفسير الطبري (13/583).
  9. انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (2/46).
  10. انظر: انظر: تفسير ابن كثير (2/46).
  11. مفتاح العلوم (ص: 424)، وخزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي (2/253)، وزهر الأكم في الأمثال والحكم (1/194).
  12. التحرير والتنوير (3/257).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، برقم (6332)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته، برقم (1078).
  14. هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1/340).
  15. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/47).
  16. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2711).
  17. تفسير الطبري (5/451).
  18. التفسير الوسيط للواحدي (1/441).
  19. تفسير القرطبي (4/100).
  20. تفسير الطبري (5/449).
  21. تفسير الطبري (5/449).
  22. تفسير الطبري (5/453).
  23. تفسير الطبري (5/450).
  24. تفسير الطبري (5/454).
  25. التفسير الوسيط للواحدي (1/442).
  26. انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/185)، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1/340).
  27. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/48).
  28. تفسير السعدي (ص: 132).
  29. التحرير والتنوير (3/260).
  30. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/185).
  31. انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (2/48).
  32. تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/445).
  33. تفسير البغوي - طيبة (2/46).
  34. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/49).
  35. تفسير ابن كثير (2/49).
  36. انظر: تفسير ابن كثير (2/55).
  37. تفسير ابن كثير (2/56).
  38. انظر: تفسير ابن كثير (2/57).

مواد ذات صلة