السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(008-ب) من قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا..) الآية 130 – إلى قوله تعالى (ولقد كنتم تمنون الموت..) الآية 143
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 1801
مرات الإستماع: 1679

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، قال: كانوا يزيدون فيه كلما حَلَّ عامًا بعد عام.

قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، هنا يَرِدْ سؤال في المناسبة ووجه الارتباط بين هذه الآية والتي قبلها، فالآيات تتحدث عن غزوة أُحُد، فجاءت آية الربا هذه في ثناياها، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فمثل هذا نحتاج معه إلى بيان المناسبة.

قد تكون بيان المناسبة في غاية الوضوح لا حاجة للتذكير بها، كما في الآيات السابقة، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ... [آل عمران:123-124] إلى آخره.

لكن هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً[آل عمران:130]، في ثنايا الحديث عن غزوة أُحُد، يحتاج إلى بيان، فما وجه الارتباط؟

يمكن أن يُقال -والله أعلم- بأن الحديث هنا عن المدد بالملائكة والنصر الذي لا يكون إلا من الله، والربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[البقرة:279]، فإن تعاطي الربا يكون سببًا للخذلان والهزيمة، وهو من أعظم أسبابها؛ لأن صاحبه قد أعلمه الله بالحرب، فَأْذَنُوا [البقرة:279]، أعلمهم بحرب الله ورسوله، فكيف يُنصَر من كان بهذه كالمثابة؟! هذا وجه.

ويمكن أن يُقال غير هذا، وذلك أنه جاء من حديث أبي هريرة أن عمرو بن أقيش كان له ربا في الجاهلية، فكَرِهَ أن يُسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أُحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحُد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأُحُد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأُحُد، فلبس لأمته -والمقصود ما يلبسه المقاتل من السلاح- وركب فرسه، ثم توجه قِبَلَهُم، فلما رآه المسلمون، قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنتُ، فقاتل حتى جُرِح، فحُمل إلى أهله جريحًا، فجاء سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه، حَمِيَّةً لقومِك؟ أو غضبًا لهم؟ أم غضبًا لله؟ يعني: ما أخرجك لأُحُد؟ فقال: بل غضبًا لله ولرسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاةً[1]. هذا أخرجه أبو داود في سننه. وقال الحافظ: هذا إسنادٌ حسن[2]، وحسنه الشيخ ناصر الألباني في صحيح سنن أبي داوود[3]. والحاكم قال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه[4].

يقول الحافظ بن حجر في "العُجاب في بيان الأسباب" يقول: ما زلت أبحث عن مناسبة ذكر آية الربا في وسط ذكر قصةِ أُحُد حتى وقفت على هذا الحديث، فكأنها نزلت فيه، فترك الربا وخرج إلى الجهاد فاستُشهِد، أو أن ورثته طالبوا بما كان له من الربا فنُهوا عنه بالآية المذكورة[5].

لاحظ وجه الارتباط ظاهر على هذا، وهو أن هذا الرجل كان يتعامل بالربا، فخرج إليهم في أرض المعركة، وقاتل فقُتِل، وكان الرجل يتعامل معهم بالربا يداينهم بالربا، فظنوا أنه قد جاء ليُطالب بما له من ربا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].

فهذا وجه الارتباط بناءً على هذه الرواية، وهذا جيد.

وقوله: "أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، قال: كانوا يزيدون فيه كل ما حلَّ عامًا بعد عام".

يعني: يقولون له تقضي أو تربي، تزيد فيزيد، فهنا: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، جاءت هذه الآية بناءً على ما كان في الجاهلية، فيتضاعف المال.

وجاء بهذه الصورة التي هي أقبح وأشد وطأةً في أثر الربا، وما ينتج عنه تنفيرًا للنفوس أن تعاطيه.

ولكن هل لهذه الآية مفهوم مخالفة؟ بمعنى: أنه لو قال قائل: الربا إذا لم يكن كذلك نسبة اثنين ونصف بالمائة، فهل هذا جائز؟

وقد قال بعض المفترين مثل هذا الكلام محتجًا بهذه الآية، قال: فيجوز الربا إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة؛ لأن الله إذا ما نهى عنه بهذه الصورة، أضعافًا مضاعفة، فمفهوم المخالفة: إن لم يكن على أضعافٍ مضاعفة فهو جائز، وهذا افتراءٌ على الله، فإن ذلك جاء يحكي واقعًا كانوا عليه.

ومعلومٌ أن مفهوم المخالفة حُجَّة، ولكنه لا يعتبر في مواضع ذكرها العلماء، كما قال صاحب المراقي: "ودع إذا ما الساكتُ منه خاف".

الساكت في كلام الناس -الله لا يخاف من أحد- لكن عمومًا مفهوم حتى في كلام الناس.

"أو جَهِل النطق"، هذا في كلام الناس جهل المنطوق، فذكر أو جَهِل النطق فَذُكِرَ له المنطوق فلا مفهومَ له.

"أو النطق إن جلب للسؤلي" كان جوابًا على سؤال بقدر السؤال، فلا مفهوم له.

"أو جرى على الذي غلب" يعني: على الغالب في ذلك الوقت.

"أو امتنانٍ" على سبيل الامتنان، لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل: 14].

والقديد المجفف من ميتة البحر، والمجفف منه المملح، ما يؤكل؟ يؤكل، لكن هذا على سبيل الامتنان، فلا مفهوم له.

"أو -هذا الشاهد- وفاق الواقع"، جاءت الآية على وفاق واقع معين تحكيه مثل: تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، عبد الله بن أبي كان عنده جاريتان أسلما، وكان يكرههما على الزنا بأجرة، -والزنا بأجرة هو البِغاء- فنزلت هذه الآية[6].

ولا يقال: إنها إن لم ترد التحصن فلا بأس، لا، لا يجوز أن يمكنها من الزنا، لكنه قال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، بناءً على واقعة معينة، جاريتان أسلمتا، وأرادتا التحصن، فكان يكرههن ويضربهن على الزنا بأجرة؛ ليكتسب من ورائهن، فنزلت الآية لوفاق واقع معين، فلا مفهوم لها.

فهذه الحالات التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، فهنا لو كان الربا ليس بأضعاف مضاعفة هل يجوز؟ لو كان نسبة ربع بالمائة، ما هو واحد في المائة، أو أقل، فإنه لا يجوز، وكل قرض جرَّ نفعًا أيًا كان، فهو ربا لا يجوز.

فهذه الآية لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، جاء على وفاق الواقع؛ ولذلك فإن قوله -تبارك وتعالى- في الحجاب للحرائر: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].

فلو صار الناس إلى حال كما في بعض بلاد الكفار إذا لبست الحجاب، أو خمرت وجهها تؤذى يعني: صار الحجاب سببًا للأذى، هل يُقال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] مفهوم المخالفة: أنها إذا كانت تؤذى بسبب الحجاب عكست القضية، فلا تحتجب تترك الحجاب؛ لأن المقصود هو ألا تؤذى، تلبس الحجاب تُعرف أنها حرة؛ لأن بعض المنافقين وضعفاء النفوس كانوا يتعرضون للإماء، للجواري؛ لنقص شرفهن، فيجترئ عليها بالتحرش ونحو ذلك، يتعرض لها، لكن الحرة إذا رأى الحجاب الكامل عرف أنها حرة، فلم يجرؤ عليها، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، فإذا عكست القضية، وصار الحجاب سببًا للأذى هل مفهوم المخالفة ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] يُقال لا تحتجب؟

للأسف، أنه قد وُجِد مَنْ قال هذا في هذه الأيام، حينما ذُكِر بعض النساء اللاتي أوذين وأوقفن بسبب الحجاب في بعض تلك البلاد.

فهذا غلط؛ لأن هذه الآية: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] لا مفهوم لها، فمفهوم المخالفة غير معتبر هنا؛ لأن ذلك جاء على وفاق واقعٍ معين، أن بعض ضعفاء النفوس كانوا يتعرضون للإماء دون الحرائر حيث لا يجترؤون عليهن، فأمر الله بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليُعرف أنهن حرائر، فلا يتجرأ عليهن أحد.

فلو كان ذلك سببًا للأذى عن الحجاب، هل يُقال بأن المفهوم يقتضي ألا تحتجب؟! يُقال: لا، يجب أن تحتجب؛ لأن المرأة عورة، والآية لا مفهوم لها، وهذا هو الفهم الصحيح المبني على قواعد الأصول، ولا يُقال غير هذا بحالٍ من الأحوال.

ثم أيضًا هناك ما يُقال قبل هذا وبعده، الله -تبارك وتعالى- أمر النساء بالقرار في البيوت، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33]، ليست مطالبة بالخروج والذهاب، لا سيما السياحة في بلاد الكفار فإنها لا تجوز، وإنما يجوز السفر إلى بلاد الكفار بشروط، معتبرة ذكرها العلماء، ومن هذه الشروط أن يكون معتزًا بدينه قادرًا على إظهاره، فالمرأة التي لا تستطيع أن تتحجب هي غير قادرة، ومن ثمَّ فليس لها أن تسافر، وليس هناك ضرورة، وليس للإنسان أن يذهب إلى بلادٍ تظهر فيها المنكرات والكفر، ولا يستطيع أن يُغيِّر من ذلك قليلًا ولا كثيرًا، ويسافر إلى ذلك آلاف الأميال.

والله -تبارك وتعالى- يقول: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، يسافر إلى أماكن تظهر فيها محادة الله ومحادة رسوله ﷺ بحجة السياحة، فيرى ما لا قِبَلَ له به من أنواع الشرور والمنكرات والفتنة، كيف إذا كان يُضايَق في دينه، ويتعرض للأذى؟ فلربما أمر نساءه أن يتخلين عن الحجاب، هل هذا يُقال يجوز له أن يذهب؟ أبدًا، يبقى في بلاد المسلمين، ولا يُعَرِّض نفسه لهذه الشرور والمشكلات.

هذا هو النظر الصحيح، وللأسف أن هذه الآية قد يستدل به عن خلاف مقصود الشارع، وأظن أن هذا المعنى واضح، والله المستعان.

قوله: سارعوا بغير واو استئناف، وبالواو عطفٌ على ما تقدم.

نعم، سارعوا، وسارعوا: قراءتان متواترتان فقراءة الجمهور بالواو، وسارعوا خلافًا لابن نافع وابن عامر، سارعوا بغير واو، "سارعوا" استئناف جملة جديدة استئنافية، وبالواو عطف على ما تقدم: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ...  وَسَارِعُوا [آل عمران:130، 133].

نهاهم عن أكل الربا الذي يكون سببًا للعقوبات العامة والخاصة، وأمرهم بالمسارعة إلى مغفرةٍ من الله -تبارك وتعالى- وجنةٍ عرضها السماوات والأرض، كما هي عادة الشارع إذا نهى عن شيء أمر بما ينفع ويرفع؛ لأن النفوس -كما قال شيخ الإسلام- لم تُخلق للترك، فالترك مقصودٌ لغيره، وإنما خلقت للفعل.

يعني: لعمارة القلوب بالإيمان، وطاعة رسوله ﷺ ولهذا لا يصلح في التربية أن الناس توجه لهم المنهيات والنواهي، لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل.

طيب! وماذا أفعل، هذا مقصود لغيره، لا تفعل، لكن هو بحاجة أن يُعَلَّم ماذا يفعل؛ ليكون قلبه معمورًا بالإيمان، فهذا هو المقصود لذاته.

وأيضًا من الأمور التي قد تفيد في هذا الموضع: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، هل المغفرة شيء يمكن للإنسان أن يسارع له ويراه ويشاهده ويجده بين يديه ويسارع إليه؟ والجنة كذلك يستطيع الإنسان أن يهرول إليها برجله؟ لا، لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله[7].

إذًا، يكون ذلك محمله على المسارعة إلى أسباب المغفرة، ادخلوا الجنة بالأعمال الصالحة؛ لأن القاعدة: "أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف بشيءٍ غير مقدور؛ فإنه ينصرف إلى سببه، أو إلى أثره".

فهنا المغفرة مقدورة، مَنْ أراد المغفرة والجنة فإنه يتوجه الخطاب إلى السبب، ما هو السبب للمغفرة والجنة؟ العمل الصالح والإيمان فيسارع إلى ذلك، فإنه يتوجه إلى سببه أو إلى أثره، إلى أثره كقوله تعالى في حد الزنا: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فالرأفة رحمة رقيقة تتسلل إلى القلب من غير إرادة، فكيف ينهاهم عن شيء لا يملكونه، فكان هذا متوجهًا إلى الأثر، ما هو الأثر؟ إسقاط الحد، أو تقليل العدد أو تخفيفه، يكون تحلة قسم، شيء لا يذكر من الجلد من باب كما يُقال: تحلة القسم، اسم أنه جلد مائة جلدة، فهذا متوجه إلى الأثر، خطاب الشارع إذا توجه للمكلف بشيء غير مقدور؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لا تكليف بما لا يطاق، فإنه يتوجه إلى سببه أو إلى أثره.

قوله: إِلَى مَغْفِرَةٍ، أي: إلى الأعمال التي تستحقون فيها المغفرة.

هذا السبب.

قوله: عَرْضُهَا، قال ابن عباس: تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله[8]، وقيل: ليس العرض هنا خلاف الطول وإنما المعنى ساعتها كسعة السماوات والأرض".

يقول: قال ابن عباس: قاله كثيرون أيضًا غير ابن عباس، كثير من السلف، عرضها تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، هذا شيء لا يمكن أن يتصور، السماء الواحدة كم تبلغ؟ فكيف إذا جمعت السماوات السبع وبسطت كالثياب، هذا خارج عن الحصر والتصور بالنسبة للبشر، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله، والقاعدة: أن العرب تذكر العرض لبيان الاتساع مستغنية بذلك عن الطول؛ لأن العرض إذا كان بهذه المثابة فلا تسأل عن الطول، فالعرب تذكر العرض تكتفي عن الطول، إذا ذُكِرَ هذا العرض، فالطول هذا على القول بأن الطول، طول الجنة أكثر من عرضها، مع أن بعض أهل العلم قال أن الطول والعرض متساوي، لأن النبي ﷺ لما ذكر الفردوس ذكر أنه أعلى الجنة، وأن سقفه عرش الرحمن، فبعضهم قال: بأن العرش مثل قبعة وتحته وما كان كذلك كانت أجزاؤه متساوية، الطول والعرض، والعلم عند الله .

لكن هذه قاعدة معروفة أن العرب تذكر العرض مكتفية عن الطول؛ ولهذا بعضهم يقول: إن ذلك ذكر على سبيل المبالغة على طريقة العرب، عرضها السماوات والأرض، يعني: ليس بالضرورة أنها تبسط كبسط الثياب السماوات السبع، وإنما لبيان الاتساع، وبعضهم يذكر مثل هذا، يقول: هذا تنبيه على اتساع الطول، وخلافًا لمن قال أن العرض كالطول لما سبق، والله أعلم. لكن على كل حال: قول الصحابي إذا صح فإنه مقدم على غيره.

قوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران: 134]، في العسر واليسر.

السراء: بمعنى السرور والفرح واللذة في القلب عند حصول النفع، أو توقع ذلك، أو عند رؤية أمر يعجبه، في السراء الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134].

والضراء سوء الحال والفقر والقحط، فالضر خلاف النفع، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال[9]، هذا جيد، ينفقون في السراء والضراء.

قد يقول قائل: بأن ذكر الإنفاق في حال الضراء ظاهر وجهه، يعني: إذا كان سابح شديد البؤس فقير، فقد يضن بما في يده، فإذا أنفق فإن ذلك يدل على يقين وإيثار وإيمان ثابت.

لكن في السراء في حال الرخاء ونحو ذلك، بعض أهل العلم يقول: أن الإنسان قد يكون في حال الضراء في سكرة وغفلة، فلا ينفق، فيكون في حال من اللهو، ولكن الله ذكر الأحوال كلها، ففي حال السراء التي يغفل فيها من يغفل، ويلهو من يلهو بما في يده من  النعمة، وقد يطغى، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، فلا يلهيه ما هو فيه من سعة العيش عن الإنفاق والبذل، وكذلك في حال الضراء والشدة، فهو ينفق أيضًا؛ حيث أن الكثيرين يضن بما في يده، إذا كانت الأمور شديدة، والأحوال المعيشية صعبة، ونحو ذلك، وكثيرون يقبضون أيديهم؛ لضعف يقينهم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268]، فهذه عدة الشيطان، فإذا تسامع الناس بأحوال وأمور تنبئ عن ضيق عيش، أو نحو ذلك، ضن الواحد بما في يده، وامتنع عن الصدقة، ولربما عن الزكاة وتعلل بمثل هذه العلل، وما علم أن خزائن السموات والأرض بيد الله  يا ابن آدم أَنْفِق أُنْفَق عليك[10]، وأنه ما نقص مال من صدقة، لكن ضعف اليقين، وضعف الثقة بالله هو الذي يحمل الإنسان على مثل تلك الصفات.

قوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] حذف مفعوله، وتقديره: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا

وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، يعلمون أنهم قد أذنبوا، وأنهم معرضون للعقوبة إن أصروا عليها، ويعلمون وجوب التوبة منها، وأنه يقبل التوبة، كل هذا، وابن جرير -رحمه الله- يقول: يعلمون أي بقبح ذنوبهم[11]، ويقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: وهم يعلمون أنه من تاب، تاب الله عليه[12]، كما قال الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ[التوبة:104]، وفي الحديث: ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون[13]، يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، نعم يعني وهم يعلمون أنها معصية، وهم يعلمون بقبحها، وهم يعلمون أن الله نهى عن ذلك.

قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137]، خطابٌ للمؤمنين تأنيسًا لهم، وقيل للكافرين تخويفًا لهم.

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمران:137]، مضت وذهبت سنن سنن، سنن يعني: سير أمثال وطرائق ومناهج، جمع سنة، وهي الطريق المسلوكة، وبعضهم يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أمم، جمع سنة: الأمة، وأصل هذه المادة: "السين والنون والنون" جريان الشيء معنى جريان الشيء، واطراده بسهولة، والمعنى: أنه قد مضى على الأمم قبلكم طرائق جارية على الخلق، كتداول النصر والهزيمة، وإمهال الكفار، وإنجاء المؤمنين بعد ابتلائهم، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[آل عمران: 137]، كل هؤلاء انتصروا عليكم في هذه الواقعة، ما يقع من تداول النصر والهزيمة، هذا أمر قد مضى على الأمم قبلكم، فهذا من سنن الله في الصراع بين الحق والباطل، لكن تكون العاقبة للتقوى، تكون العاقبة للإيمان، يعني ما حصل في غزوة أحد من الهزيمة، وما فعله خالد بن الوليد حيث أغار بمن معه من الخيل على من بقي من الرماة، فقتلهم، ثم بعد ذلك أغار على جيش رسول الله ﷺ والمشركون قد فروا، وانهزموا، ولما رأوا خيلهم تعترك مع المسلمين رجعوا، بعد ما قتل منهم سبعون، وفرت نساؤهم إلى الجبل ليس بين أخذهن شيء، وانهزموا شر هزيمة، رجعوا ثانية وصارت الكرة لهم وانتصروا، وحصل ما حصل، وقتلوا سبعين من المسلمين، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، خالد فعل هذا، وبعد المعركة وقف أبو سفيان على الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ إلى أن قال: أعل هبل، كل هذا.

وقال: تجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤنى[14].

ومثلوا بأصحاب النبي ﷺ منهم حمزة جدعوا أنفه، وقطعوا أذنيه، وما إلى ذلك من التشويه، وبقروا بطنه - وأرضاه-.

لاحظ هؤلاء أبو سفيان أسلم، وخالد بن الوليد صار سيف الله، والذي قتل حمزة وهو وحشي أسلم.

وهؤلاء من كبار المشركين وقادتهم دخلوا في الإسلام، عكرمة أسلم، صفوان بن أمية أسلم، والحارث بن هشام أسلم، وسهيل بن عمرو العامري أسلم، وصاروا يجاهدون في سبيل الله، فأبو سفيان كما قال بعض أهل العلم، أول من قاتل المرتدين، قبل أن يقاتلهم أبو بكر قدم من اليمن، وكان النبيﷺ قد توفي وهو في الطريق فهو لقي ذا الخمار مرتدًا فقاتله، والله يقول: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ [الممتحنة:7]، وذلك بتحولهم إلى الإسلام، فهنا الله يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].

يحصل نصر وهزيمة لكن العاقبة للتقوى، فحينما تقرأ في تفاصيل ما وقع في أُحُد في كتب السيرة، تجد ما يدمي القلب ويؤلم، لكن حينما تفتح الصفحة، وتنظر إلى ما بعد ذلك، فتح مكة، تجد حالًا أخرى تمامًا، فهكذا تكون العاقبة للتقوى، فهؤلاء الذين نالهم ما نالهم في يوم أُحُد لو كشف لهم عن الغيب حينها، ورأوا مكة تفتحها جموع أهل الإيمان، عشرة آلاف يقودها رسول الله ﷺ لأزاح ذلك عنهم كل عناء وتعب وألم، لكن الله لم يطلعهم على الغيب، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137]، هكذا الصراع، والعبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات.

قوله: فَانْظُرُوا من نظر العين عند الجمهور، وقيل: هو بالفكر.

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، من نظر العين باعتبار الإنسان يذهب إلى المعذبين والمهلكين، ويرى ذلك بعينه، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137، 138]، فهذا نظر العين مع أن السفر إلى بلاد المعذبين وأرض المعذبين لا يشرع إلا في حالة واحدة، إذا كان عند الإنسان تردد وشك، هنا فسيروا في الأرض، هذا السير لم يخاطب به كل أحد، وإنما خوطب به من كان عنده نوع تردد، وإلا فمن كان ثابت اليقين والإيمان، فلا يشرع له زيارة تلك الأماكن، كما هو معلوم عن النبي ﷺ أسرع حينما مرَّ بأرض الحِجر، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم[15].

قوله: وَلا تَهِنُوا [آل عمران: 139]، تقوية لقلوب المؤمنين.

لاحظ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: 139] إخبارهم بعلو كلمة الإسلام، لاحظ يقولها لهم في حال الهزيمة، وَلا تَهِنُوا، الهوان ليس له طريق إلى قلوب أهل الإيمان، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، هذا إذا كان في حال الهزيمة، فكيف بحال النصر وغلبه الظهور؟ وذلك من أعظم وأحسن التعزية، هذه الآيات تعزية لهم في أحد، وَلا تَهِنُوا تقوية في قلوب المؤمنين، لا تضعفوا، وأصل الوهن الضعف من حيث الخلق أو الخُلُق، وَلا تَهِنُوا لا تضعفوا.

قوله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:140]، الآية، معناها إن مسكم قتلٌ أو جراحٌ في أحد، فقد مس الكفار مثله في بدر، وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه؛ فإنهم نالوا منكم ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي.

يعني: باعتبار أنه قُتِل من الكفار سبعون في أحد، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، ويحتمل أن يكون في بدر، ويحتمل أن يكون في أحد باعتبار أنه قتل منهم سبعون، نلتم منهم ونالوا منكم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104].

وأصل القرح: هو الألم بالجراح أو ما أشبهها، هذا أصله قرح.

وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا [آل عمران:140]، نداولها تسلية أيضًا عما جرى يوم أحد.

نُدَاوِلُهَا أي، نجعلها للمؤمنين تارة، وللكافرين تارة، والدولة اسم للشيء الذي يتداول بعينه، كما في قوله -تبارك وتعالى- في المال والفيء: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7]، يعني: متداول بين فئة معينة، والأصل تحول شيء من مكان إلى مكان، هذا دولة تداوله الناس.

قوله: وَلِيَعْلَمَ [آل عمران:140] متعلق بمحذوف، تقديره: أصابكم ما أصابهم يوم أُحُد ليعلم، والمعنى: ليعلم ذلك علمًا ظاهرًا لكم تقوم به الحجة.

هذا في كل المواضع -كما هي القاعدة-: أن الله إذا علق علمه بالشيء، يعني: بعد وقوعه فالمراد بذلك فالعلم الذي يترتب عليه الجزاء، يعني: وليعلم الله، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

لكن المقصود هنا علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم بمجرد علمه فيهم قبل أن يفعلوا، وإنما علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء، هذا في كل المواضع، وهذه القاعدة يمكن أن تضبط هذا الفهم والمعنى.

قوله: شُهَدَاءَ [آل عمران:140] من قتل من المسلمين يوم أحد.

وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، يعني: أن الله -تبارك وتعالى- يجري ما يجريه هذه الآلام ونحو ذلك، تداول الأيام بين الناس وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ هذه سنته وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، فهنا يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق؛ لأنه لو كان النصر حليفًا للمؤمنين دائمًا فسيدخل معهم مَنْ هب ودب ودرج، لكن إذا كان هناك شدة فهنا يتمحص الصف، ويتميز الناس، ويظهر النفاق، ويظهر أهل اليقين الكامل والإيمان الصحيح.

أيضًا علة أخرى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، فهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا خسارة، الله يتخذهم شهداء يحيون حياة أكمل وأعظم من حياتهم التي كانوا يقضونها في هذه الدنيا دار الكبد والكدر، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ الله يجتبيهم يصطفيهم بالشهادة، ولن يموت أحد إلا بأجله، فالله -تبارك وتعالى- يختار هؤلاء ولو شاء بقوا ولم يقتلوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

وشهداء جمع شهيد؛ لكونه يعني مشهودًا له في الجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، فالقتل في سبيل الله هذه شهادة على صدق اليقين والإيمان، النبي ﷺ يقول: والصدقة برهان[16]، برهان على أن هذا الإنسان حينما يبذل شقيق النفس وهو المال، برهان على أنه صادق الإيمان، بخلاف المنافق كما قال الله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ[التوبة:98]، مقطوعة من قلبه، ويشعر أنها مغرمة أنها غير مخلوفة، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ يقول: ننتظر سيأتي اليوم لنستريح من هؤلاء، ويؤخذون ويستأصلون، وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ[التوبة:99]، فالصدقة برهان، والقتل في سبيل الله شهادة.

قوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ [آل عمران:141]، أي: يظهر، وقيل: يميز، وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد، والمعنى: أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين، وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين، أي: يهلكهم.

وَلِيُمَحِّصَ أي: يطهر عدلوها، يمحص، أي: يطهر وليس يظهر، يطهر، يعني: يطهر ويختبر وينقي، هذا معنى يمحص، والتمحيص هو الابتلاء والاختبار، هذا قول ابن جرير -رحمه الله-[17]، وأصل المحص تخليص الشيء وتنقيته، مما فيه من عيب.

وهذا التطهير والتنقية مبنية على الاختبار، فبين المعنيين ملازمة، يعني: من فسره بالتنقية والتطهير فذلك تفسير له بالنتيجة، فهي نتيجة الاختبار، ومن فسره بالاختبار والابتلاء فقد فسره بأصل المعنى، والله أعلم، فإن أصل (المحص) تخليص الشيء وتنقيته مما فيه عيب، وهذا يكون في الابتلاء والاختبار، يكون فسره بلازمه.

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 141]، يمحق الله الكافرين، أي: يهلكهم، وأصل المحق النقصان، هذا أصله، أو نقصان الشيء قليلًا قليلًا، شيئًا فشيئًا، وبعضهم يقول: أصله التمحيق، يعني: محو الآثار، والمعنى يستأصلهم ويمحق الكافرين.

قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ [آل عمران:142]، أم هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه.

مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه، يعني: بل أحسبتم، هذا التقدير، بل أحسبتم.

وهذه الآية وما بعدها معاتبة لقومٍ من المؤمنين صدرت منهم أشياء يوم أحد.

نعم صدرت منهم أشياء، واستغربوا كيف وقع هذا، وأحل بهم ما حل من الهزيمة والجراح والقتل.

قوله: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ [آل عمران:143]، خوطب به قوم فاتتهم غزوة بدر فتمنوا حضور قتال الكفار مع النبي ﷺ ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد، وهو سبب الموت، وقيل: إنما تمنوا الشهادة في سبيل الله.

سواء تمنوا الشهادة، أو تمنوا الجهاد الذي هو سببها، كنتم تمنون الموت بحضور القتال، تمني الموت -كما هو معلوم- أنه منهي عنه، لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به[18]، فليس المقصود أنهم تمنون الموت، ومفارقة هذه الحياة هكذا، وإنما الموت بمعنى الشهادة في سبيل الله، التي تكون بلقاء العدو، والجهاد في سبيل الله .

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ [آل عمران:143]، بمعنى: رأيتم أسبابه في أرض المعركة؛ حيث السلاح مشرع، والرؤوس تقطع، والرجال يتساقطون.

وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الفرق بين العزم على الصبر، والصبر، فيقول: الإنسان قد يعزم على شيء، قد يعزم على الصبر، ولكنه لا يصبر إذا ابتلي، فالعزم على الصبر غير الصبر.

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فلماذا التراجع؟ وهكذا لما قالوا: ودوا بأن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله، فأخبروا أنه الجهاد، فتباطؤوا وتثاقلوا، وتمنوا أنه لو أنه أخر، فنزل العتاب في أول سورة الصف، لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ۝ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف:2-4]، فهذه في العزم على الصبر وترك الصبر.

وقل مثل ذلك أيضًا في نظائره كما في قصة طالوت، فهؤلاء قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ....  [البقرة: 246]. الآية.

فلما كتب عليهم، حصلت هذه التراجعات مرارًا، في البداية يتلكؤوا لماذا كتب علينا القتال؟ ثم بعد ذلك اعترضوا على اختيار طالوت، ثم بعد ذلك تساقطوا عند الشرب والابتلاء به إلى النار، ثم لما حصلت المواجهة أيضًا قالت طائفة من القلة التي بقيت: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة: 249].

فالعزم على الصبر غير الصبر، والناس كثيرًا ما يطلبون أشياء، فإذا أتيحت لهم حصل منهم التثاقل والتباطؤ والتراجع، هذا كثير.

أسئلة:

س: هنا يقول: مناسبة آية الربا، هل يمكن أن تكون المناسبة بشروط النصر منها، التقوى فذكر الله من أسباب النصر، وترك الربا حيث كان واقعًا في المدينة تجار من الأنصار، وذكر بعد هذه الآية بعض موجبات التقوى كالمصارعة.

ج: ذكرنا هذا، شروط النصر أن منها التقوى، وذكر أسباب النصر ترك الربا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [البقرة: 279]أعلمهم بالحرب، لكن ما ذكرته من الرواية يكفي.

س: هل يمكن أن يفسر ينفقون في السراء عكس من إذا مسه الخير منوعًا؟

ج: على كل حال: المقصود أنه ينفق في كل الحالات لا يتوقف ذلك على حال رخاء أو شدة، بعض الناس في الشدة ينفق ليفرج عنه، لكنه في السراء يغفل ويلهو، فهذا ينفق في كل حالاته، هذا المقصود في كل الحالات.

س: يقول: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 125]، هل يمكن أن نقول أن العبرة في عموم اللفظ في هذه الآية حيث ينزل الله الملائكة نصرًا للمؤمنين، إذا تحققت شروط النصر في كل زمان، وقد سمعنا بعض القصص هناك بعض المقاطع يزعم فيها ورود الملائكة في بعض الحروب في عصرنا.

ج: الملائكة ليست فقط في واقعة بدر، قد ينزل الله في غيرها من الوقعات الوقائع، لكن قد لا يراهم الناس، وأما ما يزعمون من تصوير أن هذا ملك أو كذا في مقاطع هذا غير صحيح، وهذه القضايا تكثر فيها الأباطيل والحكايات المنكرة، ولا يلتفت إلى شيء من هذا ولا يتلاعب بكم الجهال، شيء عادي تسمعه أحيانًا رأيت مقطعًا قبل كم يوم عدة أيام، أحد -ما أجرأ هؤلاء على الله- يقول: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:150]، يقول: مجرد ما تخرج من بيتك استقبل القبلة، يحصل عندك طاقة، هذا جرئ الآية في استقبال القبلة في الصلاة، في أي مكان تكون، في أي موضع، وهذا يقول: إذا خرجت من بيتك مباشرة استقبل المسجد الحرام، يكون عندك طاقة، يتحدث عن الطاقة هذه الوثنيات المأخوذة من وثنيي أهل العد وغيرهم مع ضلالات النصارى، فجمعوا بين سوأتين، ويقول: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:150]، ويقول: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس: 87] خطاب الله لبني إسرائيل، يقول: من أجل الطاقة تكون تستقبل القبلة، أي طاقة؟

معنى الآية أنكم تجعلون موضعًا للصلاة تصلون فيه.

أما هذه الأكاذيب فلا أساس لها من الصحة، ولا ينبغي أن تنشر، ولا يجوز نشرها، فهؤلاء لا أعلم هل هم يفترون، ويعلمون أنهم يفترون، ويتضاحكون بالناس ويلعبون بهم، ويتحدث أن هذا واقع مجرد، والمذيع أو المقدم له يقول هذا ثبت، يقول: نعم ثبت بالتجربة. التجربة ولا يوجد إلا الكذب الواضح الذي له قرنان، لا يمكن الآيات تحمل على هذه  المحامل، ويلعب بكتاب الله ويوجد للأسف من يصدق هذا الكلام والطاقة، ومعالجين بالطاقة وكل هذا الكذب. معروف هذا كله كذب وثنيات.

ومن الطرائف أن أحدهم كان يشتغل بالعلم الحديث، ويحفظ من  السنن، فزاره أحد طلبة العلم ووجده قد تحول، وذهب ما هنالك من الاهتمام بالحديث والاشتغال به، وبدأ يحدثه عن الطاقة، وأنه يستطيع أن يحمل هذا البيت وأنه وأنه.. إلى آخره.

يقول: فلما استأذنته وخرجت وجدت أن عجلة السيارة -سيارة صاحب الطاقة صاحب البيت- يعني: قد نزلت -يعني ليس فيها هواء- يقول فأردت أن أقف معه، حتى يقول فبدأ يحلل الصواميل ويحط الرافعة تحت السيارة، فقلت له: أنت قلت قبل قليل أن تحمل البيت بكامله، تعجز عن رفع السيارة، تأتي برافعة وتخرجها بصعوبة، أين الطاقة؟ فأسقط بيده، تحمل البيت ولا تستطيع أن تحمل السيارة تصلح الكفر!

حكم المسح على الجوربين:

على كل حال بالنسبة للمسح على الجوارب هذا يصح ولو كان الجورب خفيفًا، ولو كان يشف عن البشرة، ولو كان مخرقًا طالما هو يطلق عليه جورب.

فإنما كان يلبسه الصحابة مع الفقر والحاجة والأسفار.. إلى آخره. لم يكن في حالة من الكمال والسلامة من الثقوب، ونحو ذلك، فالمسح على الجوربين ما يسمى جورب يمسح عليه، ولو كان مخرقًا، وهذه رخصة فلا تتحول إلى حالٍ من العسر، بحيث يلبس أشياء من الجلود ونحوها مما لا يتأتى لأصحاب النبي ﷺ ولا يتأتى لأكثر الناس والله أعلم.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله ، رقم: (2537).
  2. الإصابة في تمييز الصحابة (4/501).
  3. صحيح أبي داود (7/292)
  4. المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/124).
  5. العجاب في بيان الأسباب (1/140).
  6. تفسير البغوي (6/44).
  7. أخرجه أحمد (12/449)، رقم: (7479). بهذا اللفظ.
  8. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/508).
  9. تفسير ابن كثير (2/119).
  10. أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، رقم: (5352)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، رقم: (993).
  11. تفسير الطبري (7/219).
  12. تفسير ابن كثير (2/126).
  13. أخرجه أحمد (11/99)، رقم: (6541).
  14. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، رقم: (3039).
  15. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، رقم: (2980).
  16. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223).
  17. تفسير الطبري (7/244).
  18. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت رقم: (5671)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار،  باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، رقم: (2680).

مواد ذات صلة