الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[9] من قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} الآية 65 إلى قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الآية 78
تاريخ النشر: ٢١ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 2964
مرات الإستماع: 2283

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ۝ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ۝ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأعراف:65-69].

يقول تعالى: وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحاً كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً .

قال محمد بن إسحاق: هم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح .

قلت: هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله، وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۝ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:6-8]؛ وذلك لشدة بأسهم وقوتهم كما قال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [سورة فصلت:15].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله: "قال محمد بن إسحاق: هم ولد عاد بن إرم.." إلى آخر ما ذكر، هذه الأنساب التي يذكرونها، وأسماء هذه الأمم، وأسماء الأنبياء الذين بعثوا إليهم من جهة النسب، يوجد فيها اختلاف في الروايات الواردة في ذلك من جهة الزيادة والنقص، والتقديم والتأخير، وضبط هذه الأسماء وما يتعلق بحروفها أيضاً، فالله تعالى أعلم.

وقوله: "الذين كانوا يأوون إلى العمد" يعني أنهم -على ما ذكره بعض المؤرخين- كانوا يضعون الخيام ذات العماد العالية الرفيعة؛ لطول قاماتهم، وقد ذكروا من ضخامة أجسامهم وطول قاماتهم شيئاً كثيراً حتى أوصله بعضهم إلى ستين ذراعاً في السماء، وحتى زعم بعضهم أن رأس الواحد منهم بقدر القبة، وزعم بعضهم أن عين الواحد منهم تلد فيها الذئبة أو الكلبة، وذكروا أشياء هي من قبيل المبالغات، حتى ذكروا أن حبة البر في ذلك الزمان بقدر كلية البقرة، وأن الرمانة يجلس فيها العشرة من الرجال، وأشياء قد لا تصدق، فالله تعالى ذكر أنه أعطاهم بسطة وقوة ولكن مثل هذه الأشياء التي يذكرها بعض المؤرخين قد يكون فيها كثير من المبالغات، فالله تعالى أعلم.

وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل.

وفي بعض الروايات "وهي حبال الرمل" وأظن أنها أدق، والمقصود بحبال الرمل الكثبان المتواصلة، وهذا معروف في جنوب الجزيرة العربية، وهو ما يعرف بالربع الخالي الآن، فهم في جنوب الربع الخالي، وذكر بعضهم أن إرم هذه تطل على البحر عند بلدة يقال لها: الشِّحر وهي معروفة إلى اليوم، فبعضهم قال: إنها كانت تطل على البحر، وعلى كل حال هم في تلك الناحية، في حبال الرمل قريباً من حضرموت.

قوله تعالى: إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ [سورة الأحقاف:21] يعني حبال الرمل، وهذا يدل على أن هذا المكان منذ ذلك الحين وذلك الزمان –قريباً من زمن نوح -عليه الصلاة والسلام- وقبل إبراهيم- وهو بهذه الصفة تقريباً، وما يزعمه بعضهم أن تلك الناحية ليست كما هي الآن وإنما كانت شيئاً آخر هذا فيه نظر؛ فالآية تقول: أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ [سورة الأحقاف:21] يعني حبال الرمل، لكن لا يلزم أن تكون حبال الرمل لا يتخللها أنهار أو لا يكون فيها شيء من الجنات وما أشبه ذلك.

وروى محمد بن إسحاق عن أبي الطفيل عامر بن واثلة سمعت علياً يقول لرجل من حضرموت: "هل رأيت كثيباً أحمر يخالطه مَدَرة حمراء ذا أراكٍ وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟"

المدر هو قطع الطين اليابس.

قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه؟ قال: "لا، ولكني قد حدثت عنه" قال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: "فيه قبر هود " [رواه ابن جرير].

وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، فإن هوداً دفن هناك، وقد كان من أشرف قومه نسباً؛ لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شُدِّد خلقهم شدد على قلوبهم، وكانوا من أشدِّ الأمم تكذيباً للحق، ولهذا دعاهم هود إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه.

قبر هود -عليه الصلاة والسلام- في تلك الناحية، وكان يزار محلٌ يزعم الناس أنه قبر هود -عليه الصلاة والسلام- ولست أدري هل لا يزال عندهم شيء من هذا أو لا؟ فأهل البدع القبوريون يزورون محلاً هناك ويزعمون أنه قبر هود، لكن طبعاً لا يثبت مكان بعينه أنه قبر هود، ولذلك يوجد عند أهل الشام مكان يزعمون أيضاً أنه قبر هود -عليه الصلاة والسلام، ولست أدري أيضاً هل هذا الأمر موجود إلى الآن أو لا؟ لكن على كل حال ذكر هذا أهل العلم في كتبهم، وهذا لا يستغرب؛ فقبر الحسين في كربلاء، وفي مصر، وفي الشام، كما يزعمون وكذلك السيدة زينب موجودة في مصر وفي الشام، وهكذا تجد القبر الواحد موجوداً في أكثر من مكان!!

وعلى كل حال هؤلاء أحياناً يخترعون مكاناً بأن يقول بعضهم: إنه رأى الولي الفلاني في المنام وهو في المكان الفلاني ويقول: اتخذ هنا مكاناً أو مقاماً أو مزاراً، فينسب إلى هذا الشخص أنه في ذلك المكان ويأتون ويتعبدون عنده، وهكذا تبتكر أماكن جديدة لنفس الشخص بهذه الطريقة، وهكذا تلعب بهم الشياطين.

قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ [سورة الأعراف:66] والملأ هم الجمهور والسادة والقادة منهم إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [سورة الأعراف:66] أي: في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده، كما تعجَّب الملأ من قريش من الدعوة إلى إلهٍ واحد فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا الآية [سورة ص:5].

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:67] أي: لست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كلَّ شيء فهو رب كل شيء ومليكه.

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [سورة الأعراف:68] وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة.

أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ [سورة الأعراف:63] أي: لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه بل احمدوا الله على ذاكم.

هكذا ذكر الله عن الأمم أنهم كانوا يستنكفون ويتعجبون أن يبعث الله رجلاً رسولاً، كما قال الله تعالى عنهم: أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94] فهذا شيء عندهم في غاية الاستغراب والاستبعاد، والله أجاب عن هذا في مواضع من القرآن، وقال: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] وهكذا أخبر أن المرسلين كانوا رجالاً، وقضية استغراب الأمم والرد عليهم من الله -تبارك وتعالى- ومن أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- هذه كثيرة في القرآن.

وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [سورة الأعراف:69] أي: واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه.

وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [سورة الأعراف:69] أي: زاد طولكم على الناس بسطة، أي: جعلكم أطول من أبناء جنسكم، كقوله في قصة طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [سورة البقرة:247].

فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ أي: نعمه ومننه عليكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأعراف:69] والآلاء: جمع إلٍّ، وقيل: أَلىً.

إلىً وآلاء، مثل عنب وأعناب، ومِعًا وأمعاء، وإنًا وآناء.

قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ۝ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:70-72].

يخبر تعالى عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود : قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ الآية [سورة الأعراف:70]، كقول الكفار من قريش: وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32].

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا يعبدون أصناماً، فصنم يقال له: صدى، وآخر يقال له: صمود، وآخر يقال له: الهباء، ولهذا قال هود : قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أي: قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس، قيل هو مقلوب من رجز، وعن ابن عباس -ا: معناه سخط وغضب.

أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم [سورة الأعراف:71] أي: أتحاجُّونِّي في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلاً، ولهذا قال: مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ [سورة الأعراف:71] وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه، ولهذا عقبه بقوله: فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:72].

قوم هود قالوا لهود -عليه الصلاة والسلام: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ [سورة هود:53] وقالوا له: إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ [سورة هود:54] هكذا كانوا يجادلونه في هذه الآلهة ويخوفونه من أن توصل إليه مكروهاً كما خوّف قوم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إبراهيم ﷺ من آلهتهم، فهو يقول لهم: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم [سورة الأعراف:71] يعني لا حقيقة لها وإنما اخترعتم لها هذه الأسماء وجعلتموها آلهة وهي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا حقيقة لها وليس لها نصيب من الإلهية!

وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [سورة الذاريات:42] كما قال في الآية الأخرى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ۝ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ۝ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ [سورة الحاقة:6-8] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمِّ رأسه فتثلغ رأسه حتى تُبينه من جثته، ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [سورة الحاقة:7].

وقال محمد بن إسحاق: كانوا يسكنون باليمن بين عُمان وحضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله فبعث الله إليهم هوداً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [سورة فصلت:15] واتبعه منهم ناس، وهم يسيرٌ يكتمون إيمانهم، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثاً بغير نفع، كلمهم هود فقال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ۝ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ۝ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ۝ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [سورة الشعراء:128-131].

يعني من شدة بطرهم وأشرهم كانوا يبنون على الأماكن المرتفعة قصوراً لا حاجة لهم بها، أي فوق حاجتهم.

وقوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] ذكرنا مراراً أنها الآية الوحيدة في القرآن التي تفسر فيها "لعل" بـ"كأن" والباقي للتعليل، وفسرت المصانع بأنها القصور، وهي عملُ مَن كأنه سيخلد في هذه الدنيا.

ومن أوصاف قوم عاد ما ذكره الله عنهم في قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۝ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:6-8] هذا بعض ما وصف الله به حالهم وجبروتهم وقوتهم.

قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۝ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ [سورة هود:54] أي: بجنون قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة هود:54-56].

وروى الإمام أحمد عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله ﷺ فمررت بالربذة، فإذا بعجوز من بني تميم منقَطَعٍ بها.

قوله: "منقَطَعٍ بها" يعني لا تجد من يبلغها إلى المكان الذي تريد، أو لا تجد وسيلة تصل بها إلى مبتغاها، والربذة منطقة معروفة وهي التي كان فيها أبو ذر وهي ناحية شرقي المدينة، فعلى بعد مائة وعشرين كيلو من المدينة تقريباً تأتي الحناكية -على الطريق القديم- فإذا دخلت في داخل الصحراء نحو الحناكية قريباً من أربعين كيلو تأتي الربذة التي لا زال بعض أطلالها إلى اليوم.

فإذا بعجوز من بني تميم منقطَعٍ بها، فقالت لي: يا عبد الله، إنّ لي إلى رسول الله ﷺ حاجة، هل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاصٌّ بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد سيفاً بين يدي رسول الله ﷺ فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهاً.

جاء في بعض الروايات أنها سرية ذات السلاسل، وفي بعض الروايات أن عمرو بن العاص قد قدم بهذا الجيش وقد وصل إلى المدينة.

قال: فجلست، فدخل منزله أو قال: رحله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت وسلمت فقال: هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم، وكانت لنا الدبرة عليهم.

الدبرة تقال للنصر والغلبة، وهي من الأضداد فيقال الدبرة للهزيمة أيضاً.

ومررت بعجوز من بني تميم منقطَعٍ بها، فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله: إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت وقالت: يا رسول الله، فإلى أين تضطر مضرك؟

النبي ﷺ من مضر وقولها: "تضطر مضرك" يعني تضيق عليهم بهذا.

قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: "معْزى حملتْ حتفها"؛ حملتُ هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً، أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد، قال لي: وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه

قوله: "يستطعمه" يعني يستزيده من الحديث.

قلت: إن عاداً قحِطوا، فبعثوا وافداً لهم يقال له: قَيْل، فمرَّ بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان يقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود، فنودي منها اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رماداً رِمدَداً، لا تبق من عاد أحداً، قال: فما بغلني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هكلوا، قال أبو وائل: وصدق، قال: وكانت المرأة والولد إذا بعثوا وافداً لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد، هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي نحوه ورواه النسائي وابن ماجه[1].

بعضهم رواه بسياق أطول من هذا وأكثر تفصيلاً، وبعضهم مختصراً، وهو في المسند قد ذكر له عدة روايات، وحسنه محقق المسند، وفي كتب التاريخ يذكرون تفاصيل أكثر من هذا، ويذكرون الأشعار التي كانت تغني بها الجاريتان، وأن معاوية بن بكر لما أطالوا المكث عنده لقن هؤلاء الجواري أبياتاً فرددنها على مسامع هؤلاء الوفد من أجل أنه أُحرج معهم وكره أن يشعرهم بشيء لئلا يظنوا أنه قد استثقل مكثهم عنده، ولما سمعوا بعض الأبيات حصل ما حصل، والله أعلم.

قال علماء التفسير والنسب: ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام، إلى وادي القُرى وما حوله، وقد مرَّ رسول الله ﷺ على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع.

روى الإمام أحمد عن ابن عمر -ا- قال: لمَّا نزل رسول الله ﷺ بالناس على تبوك، نزل بهم الحِجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا لها القدور، فأمرهم النبي ﷺ فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم[2].

وروى أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ وهو بالحِجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين[3].

يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لا يقصد هذه الأماكن لزيارتها والفرجة، لكن من مرَّ بها فأراد أن يدخلها فإنه يدخل باكياً أو متباكياً، والآيات التي أرشد الله بها في القرآن إلى السير في الأرض والنظر في عواقب المكذبين هذه لمن كان عنده تردد وشك فإنه يذهب وينظر في حال هؤلاء وما حصل لهم ليعتبر، وأما من عرف الحق وآمن به فلا حاجة به لمثل هذا.

قوله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ [سورة الأعراف:73] أي: ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:73] فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36].

ويدخل في هذا قوم لوط -عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله لم يذكر في دعوتهم -كما سيأتي- أن لوطاً ﷺ خاطبهم بالتوحيد ولهذا فهم منه بعض أهل العلم أنه لم يكن عندهم إشراك، وإنما كان عندهم الفاحشة، وهذا ليس بلازم، وإنما كان هؤلاء قد جاءوا بأمر لم يسبقوا إليه، وهو هذه الفاحشة، فجاءهم لوط ﷺ فأنكرها عليهم، فلا يعني هذا بحال من الأحوال أن لوطاً ﷺ ما خاطبهم بالتوحيد، ثم لو كان هؤلاء عندهم إيمان بالله -تبارك وتعالى- لما فعلوا هذا الفعل حتى كابروا غاية المكابرة واستهزءوا بلوط -عليه الصلاة والسلام- وهموا بإخراجه وإخراج المؤمنين معه حيث قالوا: أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة الأعراف:82] وكانوا يراودونه عن ضيوفه، وهذا لا يفعله أناس من أهل الإيمان. 

ثم إن كانوا مؤمنين فمن أين جاءهم ذلك الإيمان؟ فإبراهيم ﷺ هاجر إلى الشام وآمن له لوط، وهو ابن أخيه، ولم يكن في تلك الناحية بل حتى على وجه الأرض أحد من المؤمنين، ولهذا استشكل العلماء قوله -تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [سورة الممتحنة:4] فمن الذين كانوا مع إبراهيم ﷺ ولا يُعرف أنه آمن له أحد حينما كان في تلك الناحية عند قومه؟ ثم بعد ذلك لما هاجر آمن له لوط أو آمن له لوط عند هجرته وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [سورة العنكبوت:26] فهاجر إلى الشام، ولوط -عليه الصلاة والسلام- ذهب إلى ناحية قريبة من فلسطين فمن أين جاءهم التوحيد قبل إبراهيم ﷺ؟

الحاصل أن الله لم يذكر أنه دعاهم إلى التوحيد، ولا يلزم ذلك أنه لم يدعهم إليه، فالله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25] ويقول: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36] أي كل رسول كان يأمر قومه بعبادة الله وحده، ومنهم لوط ﷺ.

وقوله: قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً [سورة الأعراف:73] أي: قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحاً أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجر يقال لها الكاثبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منه ناقة عُشَراء تَمْخض.

العُشَراء هي التي بلغت الشهر العاشر في الحمل.

فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح إلى صلاته ودعا الله فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحُباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له: شهاب بن خليفة بن وخلة بن لبيد بن جواس، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضاً فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال: له مهوش بن عنمة بن الدميل -رحمه الله:

وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبي دَعوا شهابا
عزيزَ ثمود كلهم جميعاً فهمّ بأن يجيب فلو أجابا
لأصبح صالحٌ فينا عزيزاً وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر تولُّوا بعد رشدهم ذؤابا

وأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوماً وتدعه لهم يوماً وكانوا يشربون لبنها يوم شربها يحتلبون فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ [سورة القمر:28] وقال تعالى: هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [سورة الشعراء:155]، وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترِدُ من فجٍّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت على ما ذُكر خلقاً هائلاً ومنظراً رائعاً، إذا مرَّت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي  عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها.

قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها، حتى على النساء في خدورهنَّ وعلى الصبيان، قلت: وهذا الظاهر لقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا [سورة الشمس:14].

يعني أنهم تواطئوا على قتلها جميعاً ما عدا المؤمنين الذين آمنوا حينما رأوا هذه الآية، والدليل على أن قتلها كان بمواطأة من الجميع -من غير المؤمنين- أن الله نسب عقْرها إليهم فقال: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [سورة الأعراف:77] وقال تعالى: وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [سورة الأعراف:77]؛ فنبي الله قال لهم: وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة الأعراف:73] فلما عتوا عن أمر الله قالوا له: ائتنا بهذا العذاب الذي توعدتنا به.

وقال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا [سورة الإسراء:59].

قوله: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً أي آية مبصرة، وليس المقصود وصف الناقة أنها مبصرة.

وقال: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ [سورة الأعراف:77] فأسند ذلك على مجموع القبيلة فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم.

أصل العقْر في كلام العرب هو الجرح، وبعضهم يقول: هو قطع عضو يؤثر في تلف النفس، تقول: عقرتُ الفرس إذا ضربت قوائمه بالسيف.

وبعضهم يقول: أصل العقْر هو كسر عرقوب البعير، ثم أطلق بعد ذلك على نحره؛ لأن كسر عرقوبه يؤدي إلى ذلك غالباً، أي يكون سبباً لنحره، يعني هم يضربون عرقوبه مثلاً من أجل أن يسهل عليهم نحره، وحتى في بعض الروايات في تفاصيل قتل الناقة –وهذا من المأخوذ عن بني إسرائيل- أنهم لما تآمروا على ذلك كمن لها أحدهم في صخرة فلما مرت به ضرب عرقوبها، ثم جاء الآخر وضربها في لبتها فنحرها، وفي الآية الأخرى أضاف العقر إلى واحد منهم فقال: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [سورة القمر:29] يعني عمل عملاً فعقر، وهذا هو أحيمر ثمود، ويذكرون في التواريخ تفاصيل كثيرة في فعلهم ذلك وأسبابه، فالله تعالى أعلم.

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من علماء التفسير أن سبب قتل الناقة أن امرأة منهم يقال لها: عنيزة بنت غَنَم بن مجلز وتكنى أم غنم، كانت عجوزاً كافرة.

عنيزة بنت غَنَم يقال: كان لها غَنَم كبير وكانت الناقة إذا مرت نفرت الغنم منها، فكان هذا سبباً لمطالبتها بقتل الناقة.

وأما اسم هذه المرأة –عنيزة- فقد تكون نسبت إلى غنمها فقيل: بنت غَنَم لكثرة غنمها، أو من باب أن لكل مسمى له من اسمه نصيب سميت عنيزة بنت غنَم، وقيل: إنها كنيت بأم غنم لكثرة غنمها على ما ورد في بعض الأخبار، أما في أسماء بعض قادة التاريخ الإسلامي فيرد غنْم –بتسكين النون- وليس بفتحها، ومن أولئك عبد الرحمن بن غَنْم، وليس ابن غنَم كما يقول بعض الناس.

وكانت من أشدِّ الناس عداوة لصالح وكانت لها بنات حسان ومال جزيل، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود، وامرأة أخرى يقال لها: صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا ذات حسب ومال وجمال، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ففارقته، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة، فدعت صدوف رجلاً يقال له الحُباب، فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة فأبى عليها، فدعت ابن عم لها يقال له: مصدع بن مهرج بن المحيا فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قُدارَ بن سالف بن جندع، وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً، يزعمون أنه كان ولد زنية، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه وهو سالف، وإنما هو من رجل يقال له: صهياد، ولكن وُلد على فراش سالف، وقالت له: أعطيك أيَّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، فعند ذلك انطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [سورة النمل:48] وكانوا رؤساء في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت من الماء وقد كمن لها قدار بن سالف في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجهاً فسفرت عن وجهها لقدار وذمَّرته وشدَّ على الناقة بالسيف فكسف عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رغاة واحدة، تحذّر سَقْبَها.

قوله: "تحذر سقبها" يعني ولدها.

ثم طعن في لبتها فنحرها، وانطلق سقْبها -وهو فصيلها- حتى أتى جبلاً منيعاً فصعد أعلى صخرة فيه ورغى، فروى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن البصري أنه قال: يا ربي أين أمي؟ ويقال: إنه رغى ثلاث مرات وإنه دخل في صخرة فغاب فيها، ويقال: بل اتبعوه فعقروه مع أمِّه، فالله أعلم.

فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبرُ صالحاً فجاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى وقال: تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الآية [سورة هود:65].

الأهرامات؛ هل هي ديار قوم معذبين فلا تجوز زيارتها؟

بعض المؤرخين يقول: غالب الظن أنها كانت قبل الطوفان، أي قبل نوح -عليه الصلاة والسلام، وكثير منهم يذكرون أن الذي بناها هو إدريس ﷺ على أنه كان قبل نوح، ولا يثبت أن إدريس -عليه الصلاة والسلام- كان قبل نوح، وابن العربي يقول: هذا وهم، والأقرب أنه كان بعده.

وعلى كل حال فالأهرام إن كانت قبل الطوفان فهي ليست أماكن أناس معذبين، وإن كانت بعد الطوفان فينظر إن كانت لقوم ليسوا من المعذبين فلا ينطبق عليها هذا، وإن كانت كما يزعمون للفراعنة فهذا أيضاً محل نظر؛ باعتبار أن محل العذاب الذي وقع هو البحر وليست أرض مصر وإلا لكانت تلك الناحية جميعها أرضاً للمعذبين، وهذا لم يقل به أحد؛ والمقصود أن الذي لا يجوز زيارته هو المحل الذي نزل به العذاب.

وقد ذكر بعض أهل العلم أن وادي محسِّر لما مرَّ به النبي ﷺ أسرع؛ لأنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل، وهذا لا يثبت -أعني أن الله أهلك الفيل هناك- ولذلك ذكر بعضهم مكاناً آخر، وربما كان النبي ﷺ أسرع؛ لأن المحل يقتضي هذا، وكذلك نقل عن علي أنه لما مر بأرض الخسف من بابل أسرع وتلثم وأخر الصلاة حتى تجاوزه.

والناس يسألون كثيراً عن منتجات البحر الميت حيث توجد محلات ومصانع تصنع ألوان المستحضرات التجميلية وأشياء أخرى مما يتعالج به الناس وما أشبه ذلك وكلها مستخرجة منه، فيقولون: هل هذا هو المكان الذي عذب الله فيه قوم لوط ﷺ؟

فأقول: وإن قال بهذا بعضهم إلا أني أظنه لا يثبت، والله قال: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ [سورة الصافات:138] فهل المقصود بذلك أنهم كانوا يمرون على البحر الميت أو أن لهم قرى كانوا يمرون عليها، فالله تعالى أعلم، فالأصل أن المكان الذي لا يثبت أنه محل للمعذبين لا تجري عليه الأحكام التي رتبها النبي ﷺ على مدائن قوم صالح، حيث نهاهم أن يستقوا من الآبار، وما عُجن بتلك المياه أمرهم أن يعلفوه الدواب، وإنما يكون هذا الحكم سارياً على المكان الذي عرف بهذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه أحمد (15996) (ج 3 / ص 482) وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن".
  2. أخرجه أحمد (5984) (ج 2 / ص 117) وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة الحجر (4425) (ج 4 / ص 1737) ومسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين (2980) (ج 4 / ص 2285).

مواد ذات صلة