السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[11] من قول الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شعيبا} الآية 85 إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} الآية 93
تاريخ النشر: ٢٣ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 3141
مرات الإستماع: 2245

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:85].

قال محمد بن إسحاق: هم من سلالة مدين بن مديان بن إبراهيم، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر، قال: واسمه بالسريانة يثرون، قلت: مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة، وهي التي بقرب مَعَان من طريق الحجاز، قال الله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23] وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: "قال ابن إسحاق: "هم من سلالة مدين بن مديان بن إبراهيم، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر" قد ذكرتُ من قبل أن هذه الأسماء وقع فيها تحريف تارة بسبب الطباعة، وتارة بسبب آخر، والله تعالى أعلم، وهذه أسماء أعجمية في الغالب وحينما حولت إلى اللغة العربية وقع فيها شيء من الاختلال، والعرب لا يدققون في نقل الأعجمية، وعلى كل حال يبدو أن أكثر الأخطاء كانت بسبب النقَلة وما يقع من التصحيف في الكتب، والله تعالى أعلم، والأسماء التي مرت في أنساب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأمم الأنبياء إذا نظرت في المصادر وجدت إختلافًا كثيرًا.

وهنا يقول: "وشعيب هو ابن ميكيل" وفي بعض المصادر ميكائيل، فقد يكون حصل تحريف، وفي تفسير ابن جرير قال كما هنا: "ابن يشجر" وفي البداية والنهاية بالنون "يشجن" وفي القرطبي "يشجر" وفي بعض المصادر بالباء "يشجب" وهكذا كلما تتبعت تجد أشياء لا تخرج معها بنتيجة في الغالب.

وبعضهم يقول في اسمه غير هذا، فيقول: هو شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم، وبعضهم يقول: شعيب بن حُرّة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق، وبعضهم يقول: شعيب بن صفوان بن عيفاء ين ثابت بن مدين بن إبراهيم، فالله أعلم.

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:85] هذه دعوة الرسل كلهم.

قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ أي: قد أقام الله الحجج والبيِّنات على صدق ما جئتكم به.

ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءهم أي: لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسًا.

الله -تبارك وتعالى- يقول: فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ فالكيل مصدر والميزان اسم آلة، فعطَف اسم الآلة –الميزان- على المصدر، فما قال: فأوفوا المكيال والميزان، ولا قال: أوفوا الكيل والوزن، فيكون عطْف اسم على اسم، أو مصدر على مصدر، وإنما قال: فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ فبعض أهل العلم يقول: المقصود بالكيل المكيال فيكون هذا من قبيل عطف الاسم على الاسم، وبعضهم يعكس فيقول: الميزان يقصد به الوزن، فالله تعالى أعلم.

كما قال تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [سورة المطففين:1] إلى قوله: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:6].

قال لهم: فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ [سورة الأعراف:85] والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: ولا يبخسوا الناس أشياءهم أي: لا يخونوا الناس في أموالهم، ويأخذوها على الوجه البخس.

والبخس هو النقص، ويكون بأي صورة من الصور التي يقع بها، ومن ذلك العبث بالموازيين والمكاييل كالذي ينقص ما يكيله للناس أو يزنه لهم، قال تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [سورة المطففين:1-3] فهم ينقصون حينما يكيلون للناس تارة بتثقيلها وبالإخلال بها أو بأي لون من الحيل التي لا يطلع عليها الناس، ويكون بخس الناس أشياءهم بالاحتيال عليهم لأخذ ما في أيديهم بدون ما يستحقه من الثمن، كالتزهيد فيه، وعيبه وذمِّه أو غير ذلك مما يُخدع به صاحب السلعة، كأن يقال له: هذه لا تساوي شيئًا، أو هذه لا يرغب بها أحد، أو هذه فيها عيوب، فمن فعل ذلك بقصد الحط من قيمتها فهذا من بخس الناس أشياءهم، ومِن بخس الناس أشياءهم أيضًا التجني عليهم بوصفهم بما ليس فيهم.

وحينما يكون الإنسان مبغضًا لآخر فيسلبه من كل المقومات في الدين والأخلاق، أو العلم أو العمل، أو غير ذلك، كأن يقول: فلان لا خير فيه؛ لأنه لا يحبه، فهذا من بخسه حقه، ومن ذلك أن يقول: فلان ليس من أهل العلم؛ لأنه يبغضه، وإذا أحب أحدًا ولو كان دون ذلك بمراحل جعله علّامة ومحدثًا وأعطاه الأوصاف التي لا يستحق عُشْر معشارها، فكل هذا من بخس الناس أشياءهم، وكل ذلك مذموم، والله المستعان.

كما قال تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [سورة المطففين:1] إلى قوله: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:6] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، نسأل الله العافية منه.

ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيبٍ الذي يقال له خطيب الأنبياء؛ لفصاحة عبارته وجزالة موعظته: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ۝ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [سورة الأعراف:86-87].

ينهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] أي: تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم.

قال السدي وغيره: كانوا عشَّارين.

القطع الحسي معناه أنهم يقعدون في طريق الناس ويقطعون عليهم الطريق كقُطَّاع الطرق، ومن ذلك أخذهم المكوس من الناس.

قوله: "كانوا عشَّارين" يعني يأخذون العشر من أموال الناس الذين يجتازون تلك الناحية، وهذا كان يفعله أهل الجاهلية أيضًا، والنبي ﷺ قال في المرأة التي زنت: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس..[1] فالمكوس بهذه المنزلة من الإثم.

يقول الحافظ -رحمه الله: "أي تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم" وهذا صنيع قطاع الطرق، وأما قطع الطريق المعنوي فهو قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] أي أنهم يصدون الناس عن دين الله ويحذرونهم من الإيمان بشعيب -عليه الصلاة والسلام- ولهذا قال: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًاَ [سورة الأعراف:86] أي: تريدون أن تكون الطريق مائلة عن الحق تابعة لأهوائكم وشهواتكم، هكذا كانوا يقطعون على الناس الطريق بهذا أو بهذا أو بالأمرين معًا.

وعن ابن عباس -ا- ومجاهد وغير واحد: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] أي: تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه، والأول أظهر؛ لأنه قال: بِكُلِّ صِرَاطٍ وهو الطريق، وهذا الثاني هو قوله: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [سورة الأعراف:86].

في أول الكلام جمع الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بين المعنيين حيث قال: "ينهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي" لكن قال هذا الكلام باعتبار الجملتين من قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأعراف:86] وإن كان قد حمل بعض أهل العلم قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ على الصراط المعنوي أي صرف الناس عن دين الله فالآية تحتمل هذا، لكن الحافظ ابن كثير قال في أول كلامه: "ينهاهم عن قطع الطريق الحسي والمعنوي" ولا يقصد بهذا أن الجملة الأولى هي التي تحمل على المعنيين؛ لأن كلامه في النهاية واضح في الترجيح حيث قال: "فنهاهم عن قطع الطريق الحسي بقوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] والطريق المعنوي بقوله: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ [سورة الأعراف:86]" وهذا أحسن، والله تعالى أعلم؛ لئلا تكون الجملة الثانية من قبيل التكرار؛ لأن قطع الطريق المعنوي إذا كان مضمنًا في الجملة الأولى فما معنى الجملة الثانية: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ؟ [سورة الأعراف:86]

من هنا كان الأحسن أن تحمل الأولى على قطع الطريق الحسي بأخذ المكوس أو سلب أموال الناس بالقوة، والجملة الثانية معناها قطع الطريق المعنوي، والله أعلم.

وهذا الثاني هو قوله: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [سورة الأعراف:86] أي: وتودون أن تكون سبيل الله عوجًا مائلة.

هذه الآية هي كقول الله : وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا [سورة النساء:27]، وبعض أهل اللغة –كالزجَّاج- يقول: إنّ "عِوَج" -بالكسر- يكون في المعاني و"عَوَج" -بالفتح - يكون في الأمور المحسوسة، هكذا فرَّق بعض أهل اللغة بين المكسور والمفتوح.

وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [سورة الأعراف:86] أي: كنتم مستضعفين لقلتكم، فصرتم أعزَّة لكثرة عددكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك.

وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:86] أي: من الأمم الخالية والقرون الماضية، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.

وقوله: وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ [سورة الأعراف:87] أي: قد اختلفتم عليَّ فَاصْبِرُواْ [سورة الأعراف:87] أي: انتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا [سورة الأعراف:87] أي: يفصل.

يعني أن الصبر المطلوب هنا ليس هو الصبر على الكفر، وإنما معناه انتظروا واحتبسوا حتى يأتي حكم الله فيفصل فيه بين الفريقين.

وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [سورة الأعراف:87] فإنه سيجعل العاقبة للمتقين والدَّمار على الكافرين.

قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ۝ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:88-89].

هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيبًا ومن معه من المؤمنين في توعدهم إياه، ومن معه بالنفي عن القرية، أو الإكراه على الرجوع في ملتهم، والدخول معهم فيما هم فيه، وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.

قولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] هل العود الذي طالبوهم به هو عود إلى ما كانوا عليه من الكفر قبل الإيمان، وهل كان شعيب -عليه الصلاة والسلام- على الكفر قبل أن يُبعث في قومه نبيًا رسولًا؟ أم أن العود هنا يحمل على معناه الآخر وهو الصيرورة؟، فيكون المعنى صِيروا كفارًا، باعتبار أن العود يفسر بمعنيين: الأول العود إلى الحال السابقة والثاني بمعنى الصيرورة.

من أهل العلم من يقول: إن الأنبياء كانوا على دين قومهم، وعلى هذا يقولون: إن إبراهيم ﷺ حينما قال للكوكب هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] قاله: ناظرًا لا مناظرًا، إلا أن الأرجح أنه قال ذلك مناظرًا، أي قال ذلك على سبيل التنزل ليبين بطلان قولهم.

وبعض أهل العلم قال: إن قولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] كان على سبيل التغليب، أي أنهم خاطبوا المجموع، فقوم شعيب ممن آمن معه كانوا قبلُ على دين قومهم، فتركوا دين قومهم لما دعاهم إلى الله، فالكفار طالبوهم بالرجوع إلى ما كانوا عليه، وعليه فلا يعني أن واحدًا منهم -وهو شعيب -عليه الصلاة والسلام- كان كذلك وإنما خاطبوا المجموعة فغلّبوا أصحابه؛ لأنهم الأكثرية، فقالوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] وهذا معنى كلام ابن كثير -رحمه الله- حيث قال: "وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة" فالخطاب في قوله: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] هو خطاب للجميع، لشعيب -عليه الصلاة والسلام- ومن معه، فالعلماء قالوا: غُلّب الأتباع، وهذا على تفسير العود بمعنى الرجوع إلى الحال التي سبقت الحال الحاضرة.

ومن فسروا العود بمعنى الصيرورة قالوا: إن قوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] أي: تصيرون إليها، كما تقول: عاد الخمر خلا، أي صار خمرًا، وتقول: عاد الطين صخرًا، وتقول: عاد الماء ثلجًا، وعاد الصبي شيخًا، وهكذا.

فالفعل "عاد" يأتي في اللغة لمعنيين كما ذكر ذلك الثعالبي في كتابه "فقه اللغة" حيث قال: إن هذا من خصائصها.

وهذا الموضع من القرآن هو أحد المواضع التي يتكلم العلماء فيها هل كان الأنبياء على دين قومهم أو لا؟ والذين يقولون: كانوا على دين قومهم يحتجون بمثل هذا الموضع، بل هو من أشهر المواضع التي يحتجون بها، ومن ذلك قصة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مع الكواكب.

والشنقيطي -رحمه الله- له كلام جيد حول هذه المسألة في أضواء البيان حيث أشار إشارة قصيرة لهذا المعنى، وتكلم بشكل أطول في مكان آخر.

قال -رحمه الله: وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف مشهور؛ لأن ظاهر القرآن هنا أن شعيبًا قد دخل في ملتهم سابقًا يومًا ما؛ لأن قولهم مخاطِبين له: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] وقول شعيب مجيبًا لهم: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا [سورة الأعراف:89] يدل بظاهره على أنه قد كان فيها سابقًا يومًا ما.

وأكثر العلماء يقولون: إن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معادن وحيٍ ومحل الخير، والله يقول: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وفي القراءة الأخرى: (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِه) [سورة الأنعام:124] فلا يكفرون بالله؛ لأن فطرتهم التي ولدوا عليها لا يبدلها الله بالكفر لمكانتهم عنده، فبعض العلماء يقول: لو فرضنا أنهم وقع منهم بعض الشرك وأنابوا إلى الله فإنهم يصيرون إلى مثل حالهم قبله، وصار كأنه لم يكن.

وأكثر الأصوليين وعلماء التفسير أن شعيبًا لم يكن كافرًا يومًا ما، ويجاب عن ظاهر الآية بجوابين:

أحدهما أن العرب تطلق لفظة "عاد" إطلاقين: أحدهما: عاد إلى أمر كان فيه سابقًا، والثاني تقول العرب: عاد كذا كذا، بمعنى صار إلى كذا من جديد، ومنه قولهم: عاد الطين خزفًا، وعاد الخمر خلًا، ولا شك أن هذا الاستعمال موجود في "عاد" تقول العرب: عاد رجلًا فلان، أي صار إلى الرجولة، ولم يتقدمه وصف مماثل قبلها، ومنه بهذا المعنى قول الشاعر:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى عاد جعدًا عطنطنا إذا قام ساوى غارب الفعل غاربه

قالوا: معناه صار جعدًا.

الوجه الثاني وبه قال غير واحد: أن نبي الله شعيبًا كان معه جماعة من قومه آمنوا به، فالذين آمنوا به من قومه كانوا كفارًا على ملة قومهم، وهم عدد كثير وهو رجل واحد فعُبِّر باسم العدد الكثير وغلبوه على ذلك الواحد، والتزم معهم شعيب في هذا الخطاب تغليبًا لقومه الأكثرين.

وظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف ذاهبًا أن شعيبًا كان معهم سابقًا على ملتهم، وكذلك قال صريحًا عن إبراهيم في قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] فنقل ابن جرير عن ابن عباس -ا: أن إبراهيم كان يظن ربوبية الكوكب في ذلك الزمن، ونحن نقول: إن قوله في الخليل إبراهيم غلط محض لا شك فيه، وإنْ نسبه إلى ابن عباس -ا؛ لأن الآيات القرآنية صرحت بأن إبراهيم لم يكن من المشركين، ونفى عنه الشرك في الكون الماضي، والكون الماضي يستغرق كل الزمن، كقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67].

قوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67] نفى الشرك عن إبراهيم في الكون الماضي، والكون الماضي مستغرق، ومنه قوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120] ونحو ذلك من الآيات، فنفْي هذا عن إبراهيم صريحٌ، ونفيه عن شعيب لم يقم دليل عليه في الصراحة كإبراهيم، وأقوال أهل العلم قد ذكرناها لكم الآن فيه، وهذا معنى قوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] الملة: الشريعة والدين.

وقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ [سورة الأعراف:88] يقول: أوَ أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه؟

الهمزة في قوله: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ [سورة الأعراف:88] هي لإنكار ما طالبوهم به، أو إنكار وقوع ما طلبوا منهم من العود إلى ملتهم، والمعنى أوَ أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين؟ يعني أتخرجونا من قريتنا إن لم نعد في ملتكم؟

فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا، وهذا تعبير منه عن أتباعه.

وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا [سورة الأعراف:89] وهذا رد إلى المشيئة فإنه يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علمًا.

ليس المقصود بقولهم: إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا [سورة الأعراف:89] أن الله يشاء الكفر دينًا وشريعة، وإنما المقصود بالمشيئة هنا المشيئة الكونية؛ لأن الله قال: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7] فالله -تبارك وتعالى- لا يشاء وقوع الكفر دينًا -الإرادة الشرعية- وأما كونًا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يقع في الكون تحريكة ولا تسكينة إلا بمشيئته -تبارك وتعالى- قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13].

ومعنى قوله -تبارك وتعالى: إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا [سورة الأعراف:89] -على قول أهل السنة وهو ما عبر به ابن جرير -رحمه الله- يعني إلا أن يكون سبق في علم الله أننا نعود فيه فلا بد من وقوع ذلك، أما بحسب ما نعتقده الآن وما نؤمن به فنقول: لا يصلح أن يقع منا الرجوع إلى الكفر موافقة لإرادتكم ودعائكم لنا، فنحن لن نفعل إلا أن يشاء الله ربنا، أي إذا كان سبق في علمه -تبارك وتعالى- أن يقع منا ذلك، فهو واقع لا محالة؛ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما قدره الله فلا بد أن يحصل.

عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا [سورة الأعراف:89] أي: في أمورنا ما نأتي منها وما نذر.

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:89] أي: احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم.

يقول: وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:89] الفُتاحة هي الحكومة، والفتح هو الحكم، والفاتح والفتاح هو الحاكم، وهي لغة لبعض العرب حيث يقولون للقاضي: فاتح، وفتاح، ويقال: تعال أفاتحك، يعني تعال أقاضِك.

وقوله: افْتَحْ بَيْنَنَا أي: احكم، والله يقول: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19] يعني إن تطلبوا الحكم بين الفريقين فقد جاءكم الفتح.

وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:89] أي: خير الحاكمين، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا.

وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ۝ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ۝ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:90-92].

يخبر تعلى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق، ولهذا أقسموا وقالوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:90] فلهذا عقَّبه بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة الأعراف:91].

أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود فقال: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:94].

والمناسبة هناك -والله أعلم- أنهم لما تهكموا به في قولهم: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ الآية [سورة هود:87] فجاءت الصيحة فأسكتتهم.

وقال تعالى إخبارًا عنهم في سورة الشعراء: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:189]؛ وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء الآية [سورة الشعراء:187] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة، وقد اجتمع عليهم ذلك كله فأخذهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجسام.

هذا جمع لما ورد في الآيات التي تذكر عقوبتهم، حيث قال الله هنا: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:91] وقال في سورة هود: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ [سورة هود:94] أي صاح بهم الملك ورجفت بهم الأرض، والله تعالى أعلم.

وبالنسبة لقوله: عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [سورة الشعراء:189] من أهل العلم من يقول: إن شعيبًا ﷺ أرسل إلى قوم وقع لهم ذلك العذاب جميعًا، ومن ذلك أنهم أصابهم حر شديد ثم رأوا سحابة فذهبوا يستظلون تحتها، فوقع لهم العذاب يوم الظلة، فهو في قوم معينين.

ومن أهل العلم من يقول: إنه أرسل إلى طائفتين: هذه الطائفة التي أخذتهم الصيحة والرجفة، وطائفة أخذهم العذاب، أي ذلك الذي وقع لهم بما وصفه الله بقوله: عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [سورة الشعراء:189] والإمام الشنقيطي -رحمه الله- له كلام في هذا.

يقول –رحمه الله:

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف مشهور عند العلماء وطلبة العلم، وهو أن الله في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف بيّن أن الذي أهلك الله به قوم شعيب رجفة، حيث قال: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة الأعراف:91] جاثمين أي: موتى. وكل واحد منهم منكب على وجهه لا روح في جسده، والجاثم الذي يلزم محلًا واحدًا لربما كان على وجهه كما هو معروف، ومنه قول زهير في معلقته:

بها العينُ والآرامُ يمشينَ خِلْفةً وأطلاؤها ينهضنَ من كل مَجْثَمِ

المَجْثم: مكان الجثوم، وهو المكان الذي كان فيه منكبًا على وجهه غالبًا.

وهنا قال: إن سبب إهلاكهم بالرجفة، وصرَّح بسورة هود بأن سبب إهلاكهم صيحة، حيث قال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:94].

وصرح في سورة الشعراء أن قوم شعيب أصحاب الظلة كان عذابهم في ظلة، المذكور في قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:189]، تارة يعبّر عن سبب إهلاكهم بالرجفة، وتارة بالصيحة، وتارة بالظلة، فهذا هو وجه السؤال المعروف في هذه الآيات.

وحاصل الجواب: أن العلماء اختلفوا كما قدمنا، هل شعيب أرسل إلى أمة واحدة أو أرسل إلى أمتين؟ وكان قتادة -رحمه الله- في طائفة من العلماء يقولون: أرسل شعيب إلى أمتين، أرسل إلى مدين فأهلكم الله بالصيحة، وأرسل إلى أصحاب الأيكة بعد أن هلك أصحاب مدين فأهلكم الله بالظلة، وهذا القول قال به بعض العلماء، واستدلوا باختلاف نوع العذاب، وفي أن الله قال في أهل مدين: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [سورة الأعراف:85] ولم يقل في أصحاب الأيكة أخاهم، وأكثر العلماء على أن أهل مدين هم أهل الأيكة، وأنها أمة واحدة، وأنهم نسبوا إلى جدهم مدين بن إبراهيم، وأنه كانت لهم أيكة غيضة ملتفة من الشجر يعبدونها، وبعض المؤرخين يقول: كانت أيكتهم من شجر الدوم، والله تعالى أعلم.

الجواب عن هذا هو ما قال به غير واحد، وممن ألمّ به ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره، أن كل ذلك وقع لقوم شعيب، وأن أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة، والاسم مختلف فيهما والمسمى واحد.

قوله: "ألمَّ به" يعني تعرض له.

قالوا: لما أراد الله أن يهلكهم صاح بهم الملك صيحة شديدة ولهذا قيل: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ [سورة هود:94] فلما صاح الملك اهتزت الأرض بهم هزًا عنيفًا، ورجفت بهم رجفة قوية، فصار هو معنى قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:91] ثم إن الله أضرم عليهم الظلة نارًا فاحترقوا، فاجتمعت لهم الصيحة من أعلى، والرجفة من أسفل، وأحرقهم الله، واجتمع لهم ذلك كله، والعياذ بالله تعالى.

قال بعض العلماء: وممن ذكره ابن كثير: أنهم كان لهم كاهنان أحدهما يسمى: سُميرًا والثاني يسمى: عمران بن شداد، وأن رجلًا منهم يقال له: عمر بن جلهاء نظر إلى الأيكة ورأى فيها العذاب، فأطلعه الله عليه، وأنه كان يقول لهم أبياته المعروفة، يقول لهم:

يا قوم إن شعيبًا مرسل فذروا  عنكم سُميرًا وعمران بن شداد
إني أرى غَبْية يا قوم قد طلعت تدعو بصوت على صَمّانة الوادي
وإنكم لن تروا فيها ضحى غد إلا الرقيم يمشي بين أنجاد

والرقيم كلبهم، يقول: في ضحى غد لن يُرى إلا الكلب وحده يمشي؛ لكونهم قد أبادهم الله.

وزعم جماعة من المؤرخين: أن أبْجد وهوّز وحُطِّي وكَلَمُن وسَعْفص وقَرْشت، أنها أسماء ملوك مدين الذين أرسل إليهم شعيب، وأن وقت إهلاكهم كان في ذلك الوقت ملك مدين المسمى كلمن، وأنه لما أهلكه الله قالت ابنته -وبعضهم يقول: أخته- تبكيه:

كَلَمُن قدَّ هد ركني هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الـ حتف نارًا وسط ظُلة
جُعلت نارًا عليهم دارهم كالمُضْمَحِلّة

وعلى كل حال فقد أهلكهم الله ودمرهم بالرجفة والصيحة والإحراق بعذاب يوم الظلة.

وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ [سورة الأعراف:90] أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة هود فقال: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:94] ثم قال تعالى: كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا [سورة الأعراف:92] أي: كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.

يقول الله تعالى: كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا [سورة الأعراف:92] يقال: غنيت بالمكان أي بقيت فيه أو مكثت فيه أو حللت فيه أو نزلت فيه، فهذه المادة "الغَنَى" يعني المكث والحلول بالمكان، تقول: غنينا بأرض كذا، يعني مكثنا فيها، فقوله: كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا [سورة الأعراف:92] يعني أنها صارت خاوية وخالية كأنهم لم ينزلوا فيها، وذلك أنها صارت لا يمشي فيها أحد، ولا يعمر دورها أحد، وأسواقها فارغة بعد أن أهلكهم الله -تبارك وتعالى.

ومن مادة "الغنى" يقال: الغَناء، يعني النفع، فيقال: فلان ليس به غَناء، يعني ليس به نفع، ويقال: فلان لا يغني عنك، والغِنَى هو كثرة العرض، نقول: فلان غَنِيّ، والغِناء -بالمد- هو الطرب الخبيث.

ثم قال تعالى مقابلًا لقيلهم: الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ ۝ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [سورة الأعراف:92-93] أي: فتولى عنهم شعيب بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال مقرعًا لهم وموبخًا: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [سورة الأعراف:93] أي: قد أديت إليكم ما أرسلت به فلا آسف عليكم، وقد كفرتم بما جئتكم به، فلهذا قال: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [سورة الأعراف:93].

هذا الخطاب من شعيب لقومه يشبه خطاب نبي الله صالح لقومه، حيث قال الله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:79].

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الحدود - باب من اعترف على نفسه بالزنا (1695) (ج 3 / ص 1321).

مواد ذات صلة