الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(4) من قوله تعالى إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين الآية 27 .. إلى قوله تعالى إنه كان فاحشة وساء سبيلا الآية 32
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 2851
مرات الإستماع: 3541

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذا المجلس الثالث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- لي ولكم علماً نافعًا وعملاً صالحاً ونية.

لمَّا نهى الله -تبارك وتعالى- عن التبذير علَّل ذلك بقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27]، (إنّ) هذه تدل على التعليل، كأنه يقول: لا تبذر؛ لأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، كما أنها تدل على التأكيد، فهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، كأنه قال: المبذرون إخوان الشياطين، يعني: أولياء الشياطين، والعرب تقول لكل ملازم سُنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم، فهم أتباعهم وحلفاؤهم كما يتابع الأخ أخاه.

وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الأخوّة أي في حكمهم باعتبار أن المبذر ساعٍ في الإفساد، كما أن الشياطين ساعون في الإفساد، فهذا المبذر مُفسد للمال، أو أنهم كانوا بهذه المثابة إخوان الشياطين؛ لأنهم يفعلون ما يَحْلُو لهم وما تسول به نفوسهم وهذا شأن الشياطين، أو باعتبار المآل والعاقبة أنهم يصيرون إلى حال يُقرنون فيها معهم في الآخرة.

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا، هذا يدل على أن تلك الأخوة صفة راسخة لهم، (كانوا)، عبر بالكون الماضي فهذا يدل على وقوع ذلك وثبوته حتى كأنه من الأوصاف الراسخة المتجذرة فيهم، والمقصود أن التبذير من الأعمال التي يدعو إليها الشياطين.

وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، فهذا الوصف مناسب في هذا الموضع؛ لأنَّ هذا المبذر غير شاكر لنعمة الله عليه، فقابل هذه النعمة -نعمة المال- بالتضييع وإنفاق المال في غير وجهه.

بعد ذلك قال الله : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [سورة الإسراء:28]، يُعلِّمنا الله -تبارك وتعالى- كيف نتصرف حال كون الإنسان غير واجدٍ ما يبذله للقرابات وأصحاب الحاجات وأصحاب الحقوق، ما عنده شيء، ماذا يفعل في هذه الحال؟ هو مأمور بالصلة أن يُعطي، أن يبذل، وهذه حقوق يؤديها لهم، لكن قد لا يكون بيده شيء فماذا يفعل؟ هنا لا يكون سلبيًّا بل مأمور أن يقول لهم القول الميسور.

لمّا أمره بالصلة والإحسان إليهم: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [سورة الإسراء:26]، قال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [سورة الإسراء:28]، ما عندك شيء تعطيهم، فينبغي هنا أن لا تُعرض إعراض المستهين، لكن عند العجز فأنت على رجاء أن يمنحك الله، أن يعطيك، أن يوسع عليك، أن يرزقك فتتوصل بذلك إلى مواساة هؤلاء المستحقين من القرابات وغيرهم، في هذه الحال يبقى القصد ثابتاً قصد الإحسان: ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [سورة الإسراء:28]، ترجوها أن يوسع عليك فتوسع على إخوانك المسلمين.

أيضاً في ضمن هذه الآية حُسن الرجاء وإحسان الظن بالله ، فبعد الضيق والشدة يأتي السعة واليُسر، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:5-6]، فالعسر هنا أعاده مرتين مُعرَّفاً بأل، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فالعسر الأول هو نفس العسر الثاني، لكن جاء اليُسر بعد كل واحد منهما مُنكَّراً "يُسرا"، فاليُسر الأول غير اليُسر الثاني، ولهذا قال النبي ﷺ: لن يغلب عُسر يُسرين[1] العسر واحد، والقاعدة: أن مثل هذا التصرف في الخطاب وفي الكلام بأن يأتي مُكرراً مع التعريف والتنكير، التعريف في الأول والتنكير في الثاني، فيكون المُنكَّر الثاني غير الأول، والمُعرَّف الثاني هو عين الأول.

الإنسان يؤمل ويُحسن الظن بالله -تبارك وتعالى، وهذا الضيق وهذه الحاجة، وهذه الشدة التي تمر به ليس هي نهاية المطاف، بخلاف من ساءت ظنونهم بالله ، فإذا قلَّ ما في يده جزع وانسدت الآفاق في عينه، وساءت ظنونه بربه -تبارك وتعالى، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19-22]، ثم ذكر أوصافهم.

حينما لا يجد الإنسان ما يصل به القرابات وأصحاب الحقوق هو مأمورٌ بأن يقول لهم القول الميسور، بأن يُسمعهم الكلام الذي يحصل به المواساة ويُنبئ عن مشاركة في المشاعر، ويُبين عن رغبة في الخير لهم والإحساس بآلامهم، قل لهم قولاً ميسورًا، أبشروا وأمِّلوا ونحو ذلك من العبارات، كما قال الشاعر:

إلا تكنْ وَرِقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإني ليّن العودِ
لا يعدم السائلون الخيرَ من خُلقي إما نوالي وإما حُسن مردودِي[2]

الوَرِق دراهم الفضة، أي إمّا أن يصلهم مني عطاء وإما أن يجدوا الرد الجيد، ولهذا قال الله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [سورة البقرة:263]، "قول معروف" الكلام الطيب، "ومغفرة" مغفرة لهذا السائل؛ لأنه قد يأتي في وقتٍ غير مناسب في نحر الظهيرة يطرق الباب، قد يأتي بأساليب وإلحاح وطُرق وعبارات وأساليب يُلح عليك حتى تُعطيه فقد يُفضي ذلك بالسامع، أو المسئول إلى حالٍ من الضجر فيخرج عن طوره، ويتكلم بكلمات يجرحه، قد يعطيه ثم يقول: لا تأتِ بعد اليوم، لا أراك بعد اليوم، هذه آخر مرة، آذيتنا، أشغلتنا، لا تقف عند هذا الباب، لا.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ، مغفرة؛ لأن هذا يُلحف في السؤال مثل اللحاف يشتمل على جميع الجسد، ما يترك وسيلة إلا فعلها في الطلب والاستجداء، فهنا قد ينفرط الصبر فيسمع ما يكره، لا، لابد أن تُراعَى مشاعر هذا الإنسان؛ لأنه محتاج ويكفيه ذلَّ السؤال والحاجة، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [سورة الإسراء:28]، لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [سورة البقرة:264]، يمُنّ عليه أو يؤذيه، يقول له: يا أخي، لا تسألنا، لا تأتنا، ونحو ذلك مما قد يقال، فلاحظ هذا الرقي في التعامل مع المحتاجين، مع أصحاب الحاجات، مراعاة المشاعر، ما تُجرَح مشاعرهم، فهذه أخلاق الإسلام، هذه التربية القرآنية، رُقي في البذل، رُقي في الأساليب، رُقي في المشاعر، يسمو هذا الدين بأصحابه ويهذبهم غاية التهذيب.

ثم إن قوله: ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا [سورة الإسراء:28]، يدل على أنه صادق في هذا الاعتذار، بخلاف الذي يعتذر بمعاذير غير حقيقية.

وللبخيلِ على أمواله عِللٌ زُرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ[3]

يعتذر بأعذار، المال غير حاضر، الحقوق كثيرة، علينا مطالبات، ونحو ذلك مما يعتذر به، وهذا فيه تأديب للمؤمنين حال كونهم فاقدين ما يبلغون به إلى فعلِ الخيرات والمواساة والإحسان والصدقة والبذل والمعروف، أنهم يُرجُّون من الله تيسير أسبابه، فيكون الواحد منهم دائماً ينوي الخير، فإن حصّله بذَله فهو مأجور، فإن لم يُحصِّل فإنه يؤجر على نيته، فهذه مرتبة عالية يحتاج العبد أن يتفطن لها، يكون دائماً ينوي الخير، دائماً يعزم على الخير.

ثم وجَّه توجيهاً آخر: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، لاحظ، توجيهات ربانية يعلمه كيف ينفق؟ كيف يبذل؟ كيف يكون ميزانه في هذه النفقات على حال من الاعتدال والتوسط؟ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، لا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك.

الإنسان الذي غُلت يده إلى عنقه، رُبطت يده إلى عنقه لا يستطيع أن يتصرف، مشدودة يده إلى عنقه، لا يستطيع أن يحركها، لا يستطيع أن يبسطها بالنفقة، فصور حال هذا الإنسان وضُرب له المثل، هذا الممتنع من الإنفاق، هذا الإنسان الشحيح الذي لا يؤدي الحقوق التي أوجبها الله عليه في ماله، جعله كالمشدودة يده إلى عنقه، لا يقدر على التصرف بها والأخذ والإعطاء، فهذا عود إلى بيان التبذير والشُّح، وهو معطوف على قوله: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.

كن على حال من التوسط، لا تُخرج جميع ما في يدك تبسطها كل البسط، فهذا الذي بسط يده كل البسط لا يمكن أن يستقر فيها شيء، هذا الذي غُلت يده إلى عنقه فهو ممسك لا يَخرج من يده شيء، لا تُمسك يدك بخلاً عن النفقة في حقوق الله -تبارك وتعالى- إمساكَ المغلولة يده إلى عنقه الذي لا يستطيع بسطها.

النبي ﷺ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ضرب المثل للبخيل والمتصدق: "كمثل رجلين عليهما جُبتان من حديد قد اضطُرت أيديهما إلى ثُديِّهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقةٍ قلصت، وأخذت كل حلقةٍ بمكانها، يقول أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله ﷺ يقول بأصبعه هكذا في جيبه، فلو رأيتَه يوسعها ولا تتوسع[4]، لا تتوسع، يعني: عليه درع، هذه الدرع لاصقة حلقاتها لا تتوسع، تضيق عليه إذا أراد أن ينفق أو يتصدق.

وفي الصحيحين من حديث أسماء -ا: أنفقي هكذا، وهكذا، وهكذا، ولا تُوعي فيُوعي الله عليكِ، ولا تُوكي فيُوكي الله عليكِ[5]، يعني: لا تكن ممسكاً. وعند مسلم من حديث أبي هريرة : إن الله قال لي: أنفق أُنفق عليك[6].

وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة الحديث المشهور: ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفًا[7].

وعند مسلم: ما نقص مال من صدقة[8]، فهذا البذل الذي يبذله الإنسان مخلوف، لا يذهب ولا يضيع لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ينقص به المال بحال من الأحوال، لكن من لا يُحسن الظن بالله ، ولا يرجو عائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة من الله هذا يعتقد أنه مغرم مقطوع من قلبه، كما قال الله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا [سورة التوبة:98]، فهو لا يرجو ثواباً ولا عِوضاً على ذلك من الله .

فهنا: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، (ملوماً) يلوم الإنسان نفسه حيث لا يجد، ما بقي عنده شيء، لو أني أبقيت لحاجاتي، لأولادي، يلومه أهله، يلومه أصحاب الحقوق، لم يُبقِ لهم شيئاً مما يجب عليه نفقتهم، فيلومه هؤلاء جميعاً، فهنا أرشده إلى حال الاعتدال في النفقة، يُعلمنا كيف ننفق، شريعة بهذه المثابة، كيف تنفق المال بحالٍ من الاعتدال والتوسط، خير الأمور الوسط، هذا الذي يسميه البلاغيون بالأمثال الكامنة في القرآن، الكامنة، يعني: هذه الجملة ربما فيها مثل معروف عند الناس، خير الأمور الوسط، وهذا من شواهده من القرآن.

 فَتَقْعُدَ مَلُومًا يعني معيباً، يلحقه اللوم والملامة، قد صار إلى حال من الانقطاع، (محسورًا) ليس عنده شيءٌ ينفقه، حسير، كما يقال للدابة، للراحلة، للبعير أو الناقة التي تنقطع من الكلال من طول السفر فتبرك، يقال: حَرنت الدابة، فلا تنهض، ولا تواصل السير، وإنما تكون باركة في مكانها لا تتزحزح منه، وقد تموت فيه، كما قال الشاعر يصف فلاة تنقطع فيها الرواحل:

بها جِيفُ الحَسْرى فأمّا عظامها فبِيضٌ وأما جلدها فصليبُ [9]

ميتة، عظامها تلوح بيضاء، قد انقطعت في طريقها في هذا السفر بعدما كلّت، فهنا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، ابن كثير -رحمه الله- يقول: "هذا من باب اللف والنشر"[10]، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، لف ونشر مرتب، يعني: النتيجة التي ذكرها بعدها، ما رتب عليها، رتب أمرين: ملوماً محسورًا، ملوماً ترجع للصفة الأولى، ومحسورًا ترجع للصفة الثانية، يسمونه اللف والنشر، يعني: ذكر أو أجمل قضيتين ثم ذكر نتائجهما بعدهما، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، فتكون النتيجة اللوم تُلام، وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، النتيجة هي أن يكون الإنسان منقطعاً حسيراً لا يستطيع أن يُنفق ولا يتصرف في حاجاته ومطالبه وشئونه، فتلحقه الملامة.

ومن كان ذا مالٍ فيبخل بماله على قومه يُستغنَ عنه ويُذْمَمِ[11]

فمتى بسط الإنسان يده فوق طاقته فإنه يكون إلى حالٍ ينقطع فيها ويعجز عن التصرف في مصالحه، ويكون كالحسير، كالدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفاً، وعجزاً كما قال الله : يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4]، أي: كليل أن يرى عيباً.

ثم بعد ذلك ذكر أن بسط الأرزاق إنما يكون من الله -تبارك وتعالى، كما أن تضييق الرزق على بعض الناس إنما هو بتقدير الله .

إِنَّ رَبَّكَ، فذِكْر الرب يتكرر؛ لأن هذا من معاني الربوبية العطاء والمنع والرزق والنفع والضر، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [سورة الإسراء:30]، يوسع الرزق لمن يشاء، ويقدر يعني: يُضيِّق على آخرين.

إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [سورة الإسراء:30]، (خبيرًا) يعلم بواطن الأشياء وخفاياها، (بصيرًا) يعني أن بصره نافذ في خلقه، إذن هذه الآية كالتعليل لما قبلها، فلا الشح يكون سبباً لكثرة المال ولا التبذير يكون سبباً لإغناء الفقراء المدفوع لهم، هذا بالإضافة إلى أن هذه الآية تورث الطمأنينة في نفس الإنسان أن يؤدي الحقوق، وأن يبذل وأن يتصدق وأن ينفق، ثم عليه أن يرضى بما قسم الله -تبارك وتعالى- له من الرزق، فإن هذا بتدبير الله وتقديره وليس بجهد الإنسان أو ضعفه وغبائه أو قلة حيلته أو حرصه، من الناس من يعمل ويكدح فيخرج من بيته قبل طلوع الشمس ولا يرجع إلا بعد غروبها ولا يرجع بشيء.

ومن الناس من تحصل له المكاسب العظيمة بأدنى محاولة، بمكالمة بالهاتف وهو جالس في بيته، بعض الناس ما يخرج من بيته، عمله في بيته في هذا الهاتف، صفقة عقار يكسب منها الملايين -أسهم- وهو جالس، وآخر يذهب وتحت حر الشمس أو يقاسي البرد ويكدح ولربما لا يرجع بشيء، ولربما يرجع بشيء يسير لا يكفي لأولاده، لماذا؟ هل ذاك حصل له المال بسبب ذكائه ودهائه؟ أبداً، قد يكون ذاك الفقير أذكى منه وأحذق منه وأنبه منه.

نحن نرى أناساً يحملون شهادات عليا في الاقتصاد وتنمية الموارد وما إلى ذلك ولكنهم لا يجدون ما يكفيهم ويسد الحاجات من المال، وآخر لا يعرف أن يكتب أو يقرأ بل تجد البعض -نسأل الله أن يبارك للجميع- لا يعرف أن يستعمل آلة صرافة، ولا يستعمل البطاقة، ولربما يأتي عند البطاقة، ويسأل الناس من يمر به يقول: أدخلْ لي هذه البطاقة واسحب لي منها مائة ريال، أنا أريد فقط أن أعرف الرصيد، ويظن أنه لا يعرف الرصيد إلا إذا سحب مائة ريال، ويكون هذا الذي يقال له ذلك يحمل شهادة جامعية ولا يجد عشر معشار ما عند هذا، ويعجز لا يعرف أن يقرأ الرقم -نسأل الله أن يبارك للجميع، لا يعرف أن يقرأ الرقم، هذه أشياء تحصل.

 حدثني بعض من وقف على هذا يقول: طلب مني أحد الأشخاص -الله يبارك له، يقول: ما يعرف يستعمل الآلة ولا يعرف يقرأ، يقول: ما عرفت أقرأ الرقم، رقم كبير، -نسأل الله البركة للجميع، لاحظ هل هذا حصّله بعلمه، حصله بذكائه، بمهاراته، بخبراته؟ أبداً، الرزق من الله ، فيبتلي هذا بالمال، ويبتلي هذا بالفقر، ويُقلب الناس بهذا البلاء.

والله هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2]، فهذه دار البلاء، دار ابتلاء واختبار وامتحان، وعندها الإنسان يرضى، لاسيما إذا نظرت إلى ختم الآية لما قال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ۝ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، هذا الذي ما آتاه المال والغنى ما نسيه، لم يكن ذلك عن غفلة وذهول، الله -تبارك وتعالى- لا يرِد عليه شيء من ذلك، علمه محيط بكل شيء، ولكن الله قدر له هذا، والله عليم حكيم، وإلا فبصره نافذ يعلم حال هذا الإنسان وحاجته وتقلبه في سعي الرزق وما يرجع به، ويعلم حال الآخر، فقد يكون هذا الإنسان لا يُصلحه إلا الفقر فيُفطم عن الدنيا؛ لأنه لو أُعطي فقد يطغيه ويفسده ويذهب دينه، كما قد يُحرَم البعض من الولد؛ لأن هذا هو الخير له، فهو يُبلَّغ بذلك مراتب عالية في الجنة بصبره، أو يكون ذلك صرفاً له عن شيء كبير يناله بسبب هذا الولد لو أنه رُزق به، فلا تظن أن الله -تبارك وتعالى- قد غفل عنك حينما أعطى فلاناً وحرمك، كل ذلك بتقدير دقيق وبعلم وبحكمة.

ثم لما ذكر الإنفاق ونهى عن التبذير وأخبر أنه يبسط لمن يشاء ويضيق على من يشاء، نهى عن قتل الأولاد خشية الفقر، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [سورة الإسراء:31]، لما أوجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل وحفظ أرواحهم، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى، تُحسن إلى الناس، تُحسن إلى المساكين، تُحسن إلى غرباء، أولادك أولى بهذا الإحسان، فنهى عن قتلهم.

وهذه الآية كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تدل على أن الله أرحم بعباده من الوالد بولده[12]، ينهى الآباء عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11]، هنا هذا نهي الآن، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، هناك أوامر قبله، فهذا يمكن أن يكون معطوفاً على قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23]، يعني: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ.

لاحظ، في سورة الأنعام وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [سورة الأنعام:151]، الوصايا المحكمات التي أشرت إليها في أول المجلس، لا تقتلوا أولادكم هناك (من إملاق)، هنا: (خشية إملاق)، في الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ [سورة الأنعام:151] قدم رزق الآباء وَإِيَّاهُمْ [سورة الأنعام:151]، هنا في الإسراء: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، قدم رزق الأولاد، لماذا؟

في سورة الأنعام قتل الأولاد بسبب فقر واقع، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ من فقر، الإملاق هو الفقر، يقال: أملق الرجل أي: افتقر، كأنه لم يبقَ له إلا المَلَقات، وهي الحجارة الصخور الملساء الصماء لم يبقَ له شيء، أملق، فهنا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، من خوف فقر متوقع إذا كثُر الأولاد، فهو يقول لهم: رزقهم يأتي معهم، رزقهم يسوقه الله ، أنتم لا ترزقون أنفسكم، الله -تبارك وتعالى- هو الرزاق، الإنسان لا يرزق نفسه فضلاً عن أن يرزق غيره، أن يرزق أولاده، ومن ثَمّ لا تقتل هؤلاء الأولاد، تظن أن هؤلاء سيكونون عبئًا عليك في النفقة، رزقهم سيأتي معهم.

فقدم رزق الأولاد، هنا خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، تتخوف إذا كثر الأولاد أن تصاب بالفقر، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، هناك في الأنعام أنت فقير فيحصل قتل الأولاد بسبب هذا الفقر (نحن نرزقكم)، طمأنهم نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، هذا وجه التقديم والتأخير في آية الأنعام وآية الإسراء.

إذن نهى الله -تبارك وتعالى- عن قتل الأولاد، الولد يشمل الذكر والأنثى، ما الذي كانت تفعله العرب؟ كانوا يقتلون البنات، يئدون البنت، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۝ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [سورة التكوير:8-9]، المعروف في التاريخ أن العرب كانوا يئدون البنات، لماذا؟ خشية العار، هنا الله -تبارك وتعالى- يذكر غير ذلك، وهو الفقر خشية الفقر، لا منافاة؛ لأن العرب كانوا يقتلون البنت خوفاً من أن تفتقر فتُضطر إلى بيع عرضها.

فهنا قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، هذا الفقر الذي سيؤدي بها إلى بيع العرض؛ لشدة غيرتهم، الغيرة في أصلها صفة محمودة لكنها قد تتحول إلى لونٍ من المبالغة فتكون مذمومة، وأخبار العرب في هذا كثيرة، هذا عقيل بن عُلَّفة المُري خُطبت ابنته الجرباء، فقال:

إني وإنْ سيق إليّ المهرُ ألفٌ وعُبدانٌ وذَودٌ عَشرُ
أحبُّ أصهاري إليّ القبرُ .....................[13]

يقول: أنا وإنْ أُعطيتُ المال وأُغريت بالمهر أفضل مَن أُصاهره القبر.

وإسحاق بن خلف -وقيل غيره- يقول:

إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني فاضتْ لعبرة بنتي عبرتي بدمِ

يقول: أنا أملك مشاعر مُرهفة، يعني: هؤلاء الذين كانوا يقتلون البنات لم تكن قلوبهم قد قُدت من حجارة، لا، عندهم مشاعر وأحاسيس وعندهم حُنو على هؤلاء البنات، لكن كانوا يغالبون هذه المشاعر، انظر ماذا يقول:

إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني فاضتْ لعبرة بنتي عبرتي بدمِ
أحاذر الدهرَ يوماً أن يُلمَّ بها فيهتكَ الستر عن لحمٍ على وَضمِ
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً والموت أكرم نزّال على الحُرمِ
أخشى عليها فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ وكنت أخشى عليها من أذى الكلمِ[14]

يقول: كلمة ما أريد أن تقال لها، أخاف إذا مت أن يجفوها أخوها، أو تنالها فظاظة من عمها، يقول: أنا لا أحتمل هذا.

وآخر عنده بنت اسمها مودة، يقول:

مودةُ تهوى عمْرَ شيخٍ يَسرُّه لها الموتُ قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوةَ الناس بعده ولا خَتَنٌ يُرجَى أودُّ من القبرِ[15]

يقول: أفضل من تُصاهر القبر، فهنا لماذا؟ يقول: يخاف عليها جفوة الناس بعده.

إذن كانوا يدفنون البنات، كانوا يئدون البنات ليس لقسوة متناهية في قلوبهم، فعندهم مشاعر الأبوة، لكن كانوا يغالبونها، انظر إلى الغيرة عند الجاهليين، وهذه غيرة مبالغ فيها مذمومة، لكن الأسف يقابلها تضييع للغيرة عند بعض المسلمين، فتجد البنت تذهب حيث شاءت، وتفعل ما شاءت، وتلبس ما شاءت، تتفنن في التبرج والسفور، تفتن الناس إذا خرجت، تلبس ألبسة تُعري أجزاء من جسدها، والأب لا يحرك ساكناً، أين الغيرة عند هؤلاء؟ تركب وتذهب مع السائق لوحدها حيث شاءت، وبيدها كل الوسائل للتواصل والاتصال، وكل ما تطلبه تُعطَاه، ولربما عملت في مكان مختلط وهو بزعمه أنه يثق بها، هذه ثقة في غير محلها؛ لأنها تتعرض بذلك لكل آسر وكاسر، تتعرض لشياطين، لذئاب لهم دراية وحرفة في الإيقاع بها والتغرير بها، فكيف يقول مثل هذا؟!

والله قال في حق أمهات المؤمنين مع أفضل جيل، جيل الصحابة : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [سورة الأحزاب:53]، ثم يُعلل هذا بأنه أطهر للقلوب، أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، إذا كان هذا في حق هؤلاء فماذا يقال في حق غيرهم؟!

حينما تُجعل المرأة طُعماً للزبائن كما يقال فهي التي في الاستقبال، وهي التي ترد على الاتصالات، وترد بصوت رخيم رقيق إذا سمعه ذو قلبٍ عليلٍ مريضٍ طمع، ولهذا قال الله : فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32]، الطمع يكون بالشيء قريب المنال، الشيء الذي يُرجِّيه الإنسان قريب الحصول، يطمع الذي في قلبه مرض، مرض الميل المحرم إلى النساء، لمّا تُرخم الصوت بهذه الطريقة، تتكسر وتتغنج؛ يطمع فيها أنها قريبةٌ سهلةٌ يمكن أن يتوصل إلى ما يريد، انظر إلى غيرة الجاهليين وتضييع هؤلاء، هذا يقول:

أحبُّ بُنيتي وودت أني دفنت بُنيتي في جوف لحدِ
ومالي بُغضها غرضاً ولكن مخافةَ مِيتتي فتضيع بعدي
مخافةَ أن تصيرَ إلى لئيمٍ فيفضح والدي ويشين جدي
فليت الله أكرمها بقبرٍ وإن كانت أعزَّ الناس عندي
فتُستر عورتي وتكون أجراً إذا قدمتُها وكتمتُ وجدي[16]

وليس ذلك فحسب، بل يقول:

وتُتبَع بعد ذاك بأُمِّ صدقٍ فتؤنس بنتها وأعيش وحدي

يقول: إذا مت لا أريد أن أترك أُنثى بعدي، إلى هذا الحد!، يقول: تموت البنت وتلحقها الأم، أكون آخر من يموت، لا أريد أن أموت قبلها؛ لئلا تهان وتُذل، ويُقسى عليها، أو تُبتز، أو يُنتهك عرضها، يعني: هذا التبرير لهذا التصرف الجاهلي عند العرب، يعني: كما قيل: من الحب ما قتل، الشفقة هذه زادت فصار قتلها بيده، -نسأل الله العافية.

المقصود أن الله ينهى عن قتل الأولاد كما كان بعض العرب يفعلونه في الجاهلية، وما كل العرب كانت تفعل هذا وإنما كما قال المُبرد: "كان ذلك في تميم بن مُر، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل"[17].

 وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، (خشية إملاق): فقر في المستقبل، لاحظ: جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود : قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أيّ، قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، -هذا أكبر ذنب بعد الإشراك بالله ، قلت: ثم أي؟، قال: أن تُزاني بحليلة جارك[18].

ثم قال: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [سورة الإسراء:31]، قراءة الجمهور هكذا "خِطئاً"، وقراءة ابن عامر: "خَطَأً"، وفي قراءة ابن كثير: "خِطاءً "، من خطِئ إذا أجرم، وبعضهم يقول: كل هذا بمعنى واحد، وبعضهم يقول: إن خطئ خِطئاً يقال في العمد نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [سورة العلق:16]، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [سورة القصص:8]، فالعمد يقال له: خاطئ، وما كان بغير عمد يقال: أخطأ.

ثم قال لمّا كان هؤلاء يقتلون البنت خشية الفقر الذي يؤدي إلى بيع العرض: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [سورة الإسراء:32] يكفي أن يكون هذا شعاراً يُعرف به نهايات جميع المزاولات التي تصب في النهاية وتؤدي إلى هذه الفاحشة، الغنج، ترخيم الكلام، تخرج المرأة متزينة متبرجة متعطرة، تخالط الرجال، تحادثهم، تتصنع لهم، كل هذه التصرفات، والتحيل الذي يصدر من الطرفين من الرجال ومن النساء، وما يحصل معه من انجذاب القلب مع الأيام والليالي حتى تتكون العلاقة، ثم بعد ذلك تسقط الكُلفة والحواجز كما يقال، فيؤدي في النهاية إلى الوقوع، إلى السقوط إلى الوَهْدة، هذه التصرفات بمجموعها، كل ذلك يؤدي إلى نتيجة قبيحة: فاحشة وساء سبيلا.

فهنا ساء سبيله سبيلاً في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا الطواعين والعِلل التي لم تكن في أسلافهم إذا انتشرت الفاحشة في قوم، الزنى هذا عربون الفقر، ذهاب الشرف، اختلاط الأنساب، هو سبب التعاسة والضيق وانقباض الصدر والآلام النفسية والجسدية، فهو يحاول ويزاول أمراً لا يزيده إلا تعاسة وشقاءً -نسأل الله العافية.

والأمراض اليوم بأنواعها، الأمراض الجنسية التي أعيت الأطباء إنما سببها انتشار الفاحشة، فكل ما يخدم هذه النهاية البائسة ينبغي أن يُقطع دابره، التبرج والاختلاط والصور الفاتنة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة النور:19] (يحبون) مجرد المحبة فكيف بالعمل؟! واليوم أصبح الإغراء بالفاحشة أقرب من اليد للفم، عبر الصور الفاتنة والمواقع السيئة، كل واحد من الصغار والكبار البنات والأبناء بيده جهاز لربما وهو جالس في المسجد يطالع فيه ما لا يحل، مما يُلهب مشاعره ويحرك غرائزه فتتحول إلى نارٍ تضطرم في جوفه، يبحث عما يطفئها، ولكن هيهات، فإن هذه الغرائز والمشاعر لابد لها من مجاهدات، فكيف إذا أُضرمت وحُركت وأُثيرت؟! والله المستعان.

فيتذكر الإنسان دائماً إذا رأى امرأة متزينة متبرجة متهتكة متغنجة إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا.

  1. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3176)، وقال محققوه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (9538)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (4342).
  2.  انظر: الشعر والشعراء (2/ 868)، والكامل في اللغة والأدب (3/ 117)، والعقد الفريد (1/ 193)، والتذكرة الحمدونية (2/ 386).
  3. انظر: الشعر والشعراء (2/ 767)، وعيون الأخبار (3/ 199)، وديوان المعاني (1/ 154)، وأضواء البيان (7/ 505).
  4. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب جيب القميص من عند الصدر وغيره، برقم (5797).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز، برقم (2591)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء، برقم (1029).
  6. أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، برقم (5352)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى  ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10]، اللهم أعطِ منفق مال خلفًا، برقم (1442)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك، برقم (1010).
  8. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، برقم (2588).
  9. انظر: ضرائر الشعر (ص: 252)، والاختيارين المفضليات والأصمعيات (ص: 652)، وتفسير القرطبي (1/ 190)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 273).
  10. تفسير ابن كثير (5/ 70).
  11. انظر: غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 181).
  12. تفسير ابن كثير (5/ 71).
  13. انظر: العقد الفريد (2/ 64)، وديوان المعاني (2/ 251)، وزهر الآداب وثمر الألباب (2/ 529)، وتفسير القرطبي (10/ 118).
  14. انظر: عيون الأخبار (3/ 107)، وزهر الآداب وثمر الألباب (2/ 529)، والحماسة البصرية (1/ 275)، وموارد الظمآن لدروس الزمان (4/ 234).
  15. انظر: الحماسة البصرية (1/ 273)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 389).
  16. انظر: المحاسن والمساوئ (563)، بواسطة: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (11/ 5545).
  17. تفسير القاسمي (6/ 458).
  18. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [سورة الفرقان:68]، برقم (4761).

مواد ذات صلة